-->

الثلاثاء، 12 فبراير 2013

تبصير كل ذي عينين بحقيقة المنهج المنشود في سلسلة حلقات "بين منهجين"[5]


مع حلقته الخامسة: (اعتبار مفصل الأحوال والأقوال قبل الحكم علىأصحابها)

ذكر الكاتب في مقدمته لحلقته هذه أنَّ هناك تقريرات خاطئة:
من ذلك: ((إهمال اعتبار مفصل الأحوال والأقوال للمعروفين بالاستقامة والاعتدال, والتشبث ببعض أقوالهم المجملة أو الخاطئة عند الإطلاق, ونسبتهم بسببها إلى مذاهب أهل الزيغ والانحراف؛ وهم أبعد ما يكونون عن مثلها))
قلتُ: كلامه مجمل!، وقد يستغله البعض في إدخال مَنْ يرى الكاتب أنهم من المبتدعة في قاعدة المجمل والمفصل؛ بدعوى استقامتهم واعتدالهم!!
وقال: ((وعلى الضد منه: تشبث أهل الأهواء بعبارات وأقوال مجملة محتملة للحق بدرت من بعض أهل الزيغ والانحراف بغية دفع التهمة عنهم ونسبتهم زوراً وتدليساً إلى أهل السنة والجماعة))
قلتُ: كنسبة البعض سيد قطب إلى أهل السنة والجماعة بل من أئمتهم وأعلامهم!!، لكونه ذكر بعض العبارات المجملة في كتابه (معالم في الطريق) وفي مقالات (لماذا أعدموني؟) في وجوب البدء بتصحيح عقائد الناس قبل كل شيء، مع أنه لا يعرف من العقيدة إلا توحيد الحاكمية، ولا يعرف عن التوحيد إلا الثورة الشاملة على حكام الأرض!!.
وقال الكاتب: ((لا ينسب لمن أجمل في قول أو بدر منه فعل مجمل محتمل لأكثر من معنى من غير مرجح لأحدهما أحد المعاني -بله المذاهب- إلا بقرينة موجبة مرجحة مبينة لمرادهم ومقاصدهم))
قلتُ: قيد ((مجمل محتمل لأكثر من معنى من غير مرجّح)) معتبر، لكن هل حقاً أنَّ المجروحين الذين تنازع فيهم الناس اليوم تكلَّموا بعبارات مجملة محتملة لأكثر من معنى من غير مرجّح؟ أم عباراتهم كانت صريحة جازمة لا تقبل الاحتمال ولا الشك إلا في أذهان المتعصبين لهم أو المتأثرين بهم أو المتساهلين فيهم؟!
وقال الكاتب: ((لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة, ومن أجمل في موطن الحاجة للبيان مع القدرة عليه وانتفاء موانعه يكون ملوماً, ومن استمرأ الإجمال واعتاده في مواطن يتطلبها التفصيل عُدَّ إجماله في هذا الموضع داخل في باب كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب ومن باب كتمان شهادة العبد من الله, بل قد يكون مظنة إرادة المعنى المخالف للحق))
قلتُ: بل ولا ينبغي تأخير البيان عن "وقت الخطاب" في كلام غير المعصوم، وإنما له أن يؤخِّر الخطاب نفسه لمصلحة راجحة، وحقاً يُلام مَنْ أجمل في مواطن تحتاج إلى التفصيل، ومن حقنا أن نعترض عليه، وقد يُنسب إلى البدعة!، وإذا استمرأ واعتاد الإجمال صار في زمرة الذين يكتمون الحق، وقد ينكشف حاله بعد حين فيعرف الناس أنه أراد بعباراته المجملة الماضية معنى باطلاً؛ وقد رأى الناس أمثال هؤلاء في واقعنا المعاصر!!.
ثم شرع الكاتب في ذكر الأدلة على اعتبار مفصل الأقوال والأحوال قبل الحكم على أصحابها بالانحراف والضلال، من الكتاب والسنة وفعل الصحابة وأقوال العلماء، وردَّ على ما استدل به مخالفوه.
وأقول: مسألة "حمل المجمل على المبين في كلام غير المعصوم" قد استغلها (بعض الناس) في الدفاع عن أهل البدع فأُثير الكلام فيها بين قابل لها ورافض، واستدل كل منهما بأدلة وأقوال أهل العلم، وهي مسألة مذكورة في كتب أصول الفقه فيما يخص أدلة الكتاب والسنة؛ لأنَّ كلام الشارع لا يُمكن أن يقع فيه الاختلاف أو الخطأ قال تعالى: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً))، فإذا رأى أحدنا في ظاهر الأمر أنَّ بين دليلين صحيحين تعارضاً أو تناقضاً في دلالاتهما؛ وكان أحدهما مجملاً والأخر مبيناً؛ فيجب حمل المجمل على المبين لدفع ذلك الاختلاف في أدلة الكتاب والسنة، أما كلام البشر غير المعصومين فقد يقع في كلامهم الخطأ أو الاختلاف!؛ فإيجاب حمل كلامهم المجمل على المبين ينبئ باستبعاد أن يقع الخطأ والاختلاف في كلامهم!!؛ وليس الأمر كذلك!، فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [الفتاوى الكبرى 4/ 26]: ((وقد ثبت أنَّ التناقض واقع من كل عالم غير النبيين عليهم السلام)).
والذي يظهر لي – والله تعالى أعلم - أنَّ للمسألة جهتين؛ نظر كلٌّ من الطرفين المختلفين إلى أحد الجهتين ثم أصدر حكمه في القاعدة قبولاً أو ردَّاً؛ وهاتان الجهتان هما:
الأولى: من جهة وجوب مراعاة الألفاظ وضبطها بالمشروع؛ فإنَّ القول بقاعدة حمل المجمل على المبين في كلام الناس سيهوِّن من هذا الأمر، لأنَّ المتكلِّم سوف يتكلَّم بغير مراعاة لألفاظه، ثم لو بدر منه غلط أو انحراف قال: لي تفصيل في غير هذا الموضع!، أو قال المدافعون عنه: لم يقصد به ذلك لأنَّ له كلاماً آخر خلاف هذا!!، مع أنَّ الحال أنه مفرِّط في عدم ضبط عباراته، ملام على عدم مراعاة الألفاظ المأثورة، ثم أنَّ الواجب عليه أن لا يُجمل بما قد يفهم منه البعض معنى باطلاً أو يُستغل في غير ما أراده المتكلِّم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [درء تعارض العقل والنقل 1/ 145]: ((فطريقة السلف والأئمة: أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية؛ فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومَنْ تكلَّم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه، ومَنْ تكلَّم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً، وقالوا: إنما قابل بدعة ببدعة ورد باطلاً بباطل))
وقال في موضع آخر [المجموع 20/ 540]: ((فإنَّ مَنْ خاطب بلفظ عام يتناول حقاً وباطلاً ولم يبين مراده توجَّه الاعتراض عليه)). وقد نقل الشيخ ربيع حفظه الله تعالى هذين النقلين عن شيخ الإسلام في ردِّه المسمَّى [ملحق بإبطال مزاعم أبي الحسن في المجمل والمفصل].
وقال شيخ الإسلام كذلك [المجموع 8/ 294]: ((الواجب إطلاق العبارات الحسنة وهي المأثورة التي جاءت بها النصوص، والتفصيل في العبارات المجملة المشتبهة))، فمَنْ قصَّر في هذا فقد قصَّر قي واجب؛ وهو الملوم.
وقال في [الرد على البكري 2/ 702-703]: ((بل الواجب أن يعبر عن المعنى باللفظ الذي يدل عليه؛ فإن كان اللفظ نصاً أو ظاهراً حصل المقصود، وإنْ كان اللفظ يحتمل معنيين أحدهما صحيح و الآخر فاسد تبين المراد، وإن كان اللفظ يفهم منه معنى فاسد لم يطلق إلا مع بيان ما يزيل المحذور، وإنْ كان اللفظ يوهم بعض المستمعين معنى فاسداً لم يخاطب بذلك اللفظ إذا علم أنه يوهم معنى فاسداً؛ لأنَّ المقصود بالكلام البيان والإفهام، وأما إذا كان اللفظ دالاً على المراد وجهل بعض الناس معناه من غير تفريط من المتكلم: فالدرك على المستمع لا على المتكلم)).
وقال في [المجموع 12/ 251-252]: ((فهذه المواضع يجب أن تفسَّر الألفاظ المجملة بالألفاظ المفسَّرة المبينة، وكل لفظ يحتمل حقاً وباطلاً فلا يُطلق إلا مبيناً به المراد الحق دون الباطل، فقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من وجهة اشتراك الأسماء، وكثير من نزاع الناس في هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة التي يفهم منها هذا معنى يثبته ويفهم منها الآخر معنى ينفيه، ثم النفاة يجمعون بين حق وباطل، والمثبتة يجمعون بين حق وباطل)).
وقال في [درء التعارض 1/ 42]: ((ولهذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات؛ وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق ولا قصور أو تقصير في بيان الحق، ولكن لأنَّ تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل؛ فيمنع من كلا الإطلاقين، بخلاف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل، ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب إتباعه فيثبتون ما أثبته الله ورسوله وينفون ما نفاه الله ورسوله، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعاً من إطلاقها نفياً وإثباتاً، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل، فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفي باطله، بخلاف كلام الله ورسوله فإنه حق يجب قبوله وإنْ لم يفهم معناه، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه))
وقال [درء التعارض 1/ 149]: ((والمقصود هنا: أنَّ الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة لما فيه من لبس الحق بالباطل؛ مع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بينت معانيها، فإنَّ ما كان مأثوراً حصلت له الألفة وما كان معروفاً حصلت به المعرفة؛ كما يُروى عن مالك رحمه الله أنه قال: "إذا قلَّ العلم ظهر الجفاء وإذا قلَّت الآثار كثرت الأهواء".
فإذا لم يكن اللفظ منقولاً ولا معناه معقولاً ظهر الجفاء والأهواء، ولهذا تجد قوماً كثيرين يحبون قوماً ويبغضون قوماً لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها؛ بل يوالون على إطلاقها أو يعادون من غير أن تكون منقولة نقلاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة، ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها ولا يعرفون لازمها ومقتضاها، وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة وجعلها مذاهب يُدعى إليها ويوالي ويعادى عليها))
قلتُ: ولابد أن نعلم أنَّ استعمال الألفاظ المجملة التي تشتمل على الحق والباطل مسلك من مسالك المبتدعة ليغرِّروا الناس وليلبسوا عليهم دينهم!؛ ومثلهم المداهنون الذين يختارون الألفاظ المجملة والأجوبة السياسية المحتملة!، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [درء التعارض 1/ 120-121]: ((الذين يعارضون الكتاب والسنة بما يسمونه عقليات من الكلاميات والفلسفيات ونحو ذلك؛ إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة مجملة تحتمل معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه لفظاً ومعنى يوجب تناولها لحق وباطل؛ فبما فيها من الحق يقبل ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وهذا منشأ ضلال من ضلَّ من الأمم قبلنا، وهو منشأ البدع، فإنَّ البدعة لو كانت باطلاً محضاً لظهرت وبانت وما قبلت، ولو كانت حقاً محضاً لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة؛ فإنَّ السنة لا تناقض حقاً محضاً لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل)) إلى أن قال: ((والمقصود هنا قوله: يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس هو الذي يتضمن الألفاظ المتشابهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة، وتلك الألفاظ تكون موجودة مستعملة في الكتاب والسنة وكلام الناس لكن بمعان أخر غير المعاني التي قصدوها هم بها، فيقصدون هم بها معاني أخر فيحصل الاشتباه والإجمال))
قلتُ: فمثل هذا الصنف من الناس لا يفترض أن نصحح كلامهم وندافع عنهم بقاعدة "وجوب حمل المجمل على المفصل في كلام غير المعصوم"، وإلا صرنا من المجادلين عنهم المشتركين معهم في التلبيس.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في [الصواعق المرسلة 3/ 927]: ((قال تعالى: "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون"، فنهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه؛ ولبسه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر، ومنه التلبيس وهو التدليس والغش الذي يكون باطنه خلاف ظاهره، فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق وتكلم بلفظ له معنيان معنى صحيح ومعنى باطل، فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ومراده الباطل فهذا من الإجمال في اللفظ.
وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان؛ هو حق من أحدهما وباطل من الآخر، فيوهم إرادة الوجه الصحيح ويكون مراده الباطل. فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة؛ ولاسيما إذا صادفت أذهاناً مخبطة، فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب، فسل مثبِّت القلوب أن يثبِّت قلبك على دينه، وأن لا يوقعك في هذه الظلمات))
وقال في [شفاء العليل ص136]: ((أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل فيطلقها مَنْ يريد حقها، فينكرها مَنْ يريد باطلها، فيرد عليه مَنْ يريد حقها؛ وهذا باب إذا تأمله الذكي الفطن رأى منه عجائب، وخلصه من ورطات تورط فيها أكثر الطوائف))
أما الجهة الثانية: فهي جهة مؤاخذة المتكلِّم بلفظ مجمل يحتمل الباطل تكلَّم به على غير ما عرف من عادته وسيرته ومقصده، فالإنسان قد يُغلق عليه قصده أو يضيق عليه حاله في المجادلات والمخاصمات والخطابات العامة فيتلفظ بما يحتمل الباطل، أو قد يتوسَّع في التعبير حتى يشتمل كلامه حقاً وباطلاً، أو قد يتلفظ باللفظ الذي قد يُستعمل في الحق وقد يُستعمل في الباطل وهو لا يريد إلا الأول يُعرف ذلك من عادته في الخطاب أو من أصل مذهبه أو من أصحابه الذين يعتنون بمذهبه، أو قد يتقصَّد الإجمال وهو قادر على البيان إذا كان في التعمية على المخاطَب مصلحة راجحة، أو قد يتلفظ بالمجمل مكتفياً بما عُرف من كلامه المفصَّل في مواضع أخر؛ فالعالم قد ينشط في حال فيفصِّل المسألة بما لا يلتبس فيها فهم السامعين، وقد يكسل ويتعجَّل الكلام بلفظ مختصر ويكتفي بما فصَّله في حال نشاطه؛ بسبب هذه الأمور وغيرها نظر القائلين بقاعدة حمل المجمل على المبين إلى وجوب مراعاة ما عُرف من عادة المتكلِّم وسيرته ومقصده، من باب قوله تعالى: ((لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ))، ومثله دفاع معاذ بن جبل عن كعب بن مالك رضي الله عنهما؛ كما جاء في الصحيحين من قصة تخلَّف كعب بن مالك وصاحباه في غزوة تبوك وفيه: ((ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوكًا، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: "ما فعل كعب بن مالك؟" قال: رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطفيه!، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [الرد على البكري 2/ 623]: ((واللفظ الذي توهم فيه نفي الصلاحية غايته أن يكون محتملاً لذلك، ومعلوم أنَّ مفسر كلام المتكلم يقضي على مجمله، وصريحه يقدم على كنايته، ومتى صدر لفظ صريح في معنى ولفظ مجمل نقيض ذلك المعنى أو غير نقيضه لم يحمل على نقيضه جزماً حتى يترتب عليه الكفر إلا من فرط الجهل والظلم)).
وقال في [الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح 4/ 44] في بيان أسباب ضلال النصارى: ((وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم ومن جهة ترجمة أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فإنه يجب أن يُفسَّر كلام المتكلِّم بعضه ببعض، ويُؤْخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتُعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلّم به، وتُعرف المعاني التي عُرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عُرف عُرفُه وعادتُه في معانيه وألفاظه؛ كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده. وأما إذا استُعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وتُرِك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحُمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عُرف أنه يريده بذلك اللفظ، بجعل كلامه متناقضًا، وترك حمله على ما يناسب سير كلامه؛ كان ذلك تحريفًا لكلامه عن موضعه، وتبديلاً لمقاصده، وكذبًا عليه، فهذا أصل مَنْ ضلَّ في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم))
وقال في [الصارم المسلول 1/ 287]: ((وأخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسَّروا به كلامهم وما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبيحة))
وقال في [المجموع 31/ 114]: ((ومن أعظم التقصير نسبة الغلط إلى متكلِّم مع إمكان تصحيح كلامه وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس)).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في [إعلام الموقعين 1/ 218]: ((وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله؛ كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه، ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله، وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه؛ لما لا يوجد في كلامه صريحاً، وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة، وهذا أمر يعم أهل الحق والباطل لا يمكن دفعه، فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة، والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة))
وقال في [مدارج السالكين 3/ 520-521]: ((والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه))
وقال في [الصواعق المرسلة 2/ 503]: ((وإنْ كان المتكلِّم قد قصَّر في بيانه وخاطب السامع بألفاظ مجملة تحتمل عدة معان ولم يتبين له ما أراده منها؛ فإنْ كان عاجزاً أتى السامع من عجزه لا من قصده، وإنْ كان قادراً عليه ولم يفعله حيث ينبغي فعله أتى السامع من سوء قصده، وقد يحسن ذلك من المتكلِّم إذا كان في التعمية على المخاطب مصلحة راجحة؛ فيتكلَّم بالمجمل ليجعل لنفسه سبيلاً إلى تفسيره بما يتخلَّص به، أو ليوهم السامع أنه أراد ما يخاف إفهامه إياه، أو لغير ذلك من الأسباب التي يحسن معها التعريض والكناية والخطاب بضد البيان وهذا من خاصة العقل))
قلتُ: فهذه جهتان لمسألة "حمل المجمل على المفصَّل في كلام غير المعصوم"، فمَنْ قصر نظره على الجهة الأولى حكم ببطلان هذه القاعدة، ومَنْ قصر نظره إلى الجهة الثانية قال بوجوب الأخذ بها، والذي ينظر إلى الجهتين يرى أنَّ تقعيدها على الإطلاق غلط، وأنَّ مذهب الرجل لا يؤخذ من لفظة تكلَّم بها تحتمل الحق والباطل؛ وإنما من أصل مذهبه وعادته في الخطاب وعرفه وسيرته وأصحابه، لكن هذا لا يمنع من ردِّه والإنكار عليه؛ لأنه قصَّر في البيان واستعمل الألفاظ المجملة المشتبهة التي كان أئمة السلف يُنكرون استعمالها، وألبس الحق بالباطل وأوهم السامعين وأوقعهم في الاشتباه، فهو قد خالف منهج السلف من هذه الجهة فاستحق الإنكار، وإذا كان اللفظ المجمل مبتدعاً فقد يُنسب بعد النصيحة والبيان إلى البدعة.
أما مَنْ قال بوجوب الأخذ بها فعليه أن يراعي في ذلك أموراً:
الأول: أن يكون مجمل المتكلِّم محتملاً للحق والباطل ولم يترجح من سياق كلامه أو من حاله أحدهما، فإنْ كان كلامه صريحاً في المعنى الباطل أو ظاهراً فلا يُقبل الحمل.
الثاني: أن يكون مبين كلامه أو مفصله أو مفسره صريحاً لا يحتمل إلا معنى الحق.
الثالث: أن يُعرف من سيرته وعادته في الخطاب أو من أصل مذهبه وأصحابه الذين يعتنون بمذهبه أنه لا يقول بالمعنى الباطل.
الرابع: ينبغي عليهم الإنكار على مَنْ يستعمل الألفاظ المجملة المشتبهة؛ وقد قال الكاتب في مقاله [ضوابط قبول الجرح المفسر]: ((إنَّ الإجمال في الجمل، وإطلاق الألفاظ، وعدم الإلمام بمواقع الخطاب وتفاصيله وضوابطه؛ يفضي إلى اللبس والخطأ, بل ورد الحق بالباطل, وما ذاك إلا بسبب تشتت الأذهان، وعدم وقوفها على حقيقة المراد منها)).
الخامس: أن يُحمل كلام مَنْ عرُف بالاستقامة ونصرة السنة ورد البدعة، لا أن يحمل مَنْ عُرف بالبدعة أو التذبذب بين السنة والبدعة.   
وأقول: قد اتفق قديماً أهل العلم في بيانهم الموثَّق في مكة في القول بهذه المسألة؛ وهذا نصُّه: ((ما تكرر ذكره من مسألة "المجمل والمفصل" وما يتعلق بها؛ الحق فيه ما يأتي: مسألة "المجمل والمفصل" مسألة بهذا الاصطلاح لا تبحث إلا في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. بحث هذه المسألة في كلام العلماء يسمى إطلاقات العلماء كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. الإطلاق المغلوط الذي يوضحه ويبينه كلامٌ آخر للقائل نفسه يعامل كالآتي:
أ - تخطئة هذا الإطلاق بحسبه بدعةً أو غلطاً.
ب - قبول ذلك البيان.
ج - عدم الحكم على هذا المُطْلِق الغالِط حكماً عينياً بأنه "مبتدع" إلا إذا كان مبتدعاً أصلاً أو صاحب هوى.
د - وأما طالب العلم السلفي المعروف بسلفيته ومنهجه إذا واقع شيئاً من ذلك؛ فإننا نخطئه في إطلاقه، ونجعل صوابه المبين هو الغالب، مع نصيحته وتذكيره وبيان الحق له؛ إلا إذا ظهرت معاندته وانكشف إصراره.
ﻫ- لا يجوز اتخاذ هذه المسألة "إطلاقات العلماء" ذريعةً لتمشية كلام المبتدعة المشهورين كأمثال سيد قطب وغيره)) انتهى كلامهم، والله تعالى أعلم.


يتبعه الحلقـــ (6) ــة

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.