-->

الجمعة، 15 مارس 2013

مواقفٌ موحَّدةٌ في مواجهةِ حكوماتٍ متسلِّطةٍ


مواقفٌ موحَّدةٌ في مواجهةِ حكوماتٍ متسلِّطةٍ

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَنْ سار على نهجه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد:
فإنَّ العصمة من الفتن والنجاة من المحن لا تكون إلا بالاعتصام بكتاب ربنا جلَّ في علاه وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه الكرام وسلف الأمة الصالح، وما دام أنَّ الناس اليوم يعيشون في بعض البلاد تحت سطوة الحكومات المتسلِّطة ويسألون عن الموقف الصحيح في التعامل معها، لهذا أحببتُ أن أُذِّكر نفسي وإياهم بهذه المواقف الصادرة من قبل الأنبياء والصحابة والأئمة من سلف الأمة ضد حكومات متسلِّطة - سواء كانت كافرة أو ظالمة - في زمانهم، لتكون هذه المواقف لنا نوراً نستضيء به في هذه الظلمات التي نعيش فيها والله تعالى يقول: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ))، والله الموفِّق.

الموقف الأول: موسى عليه السلام وبنو إسرائيل في مواجهة فرعون وهامان وجنودهما
لقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في كتابه المبين قصة موسى عليه السلام مع فرعون في عدة مواضع، وفيها يتعرَّف القارئ أنَّ فرعون علا في الأرض وأفسد فيها غاية الإفساد حتى ادَّعى لنفسه الربوبية والإلوهية، واستعبد قومه فكانوا يُطيعونه خوفاً من سطوته وتزلفاً إليه، وفرَّق الناس في بلاده إلى طائفتين: الأولى هم الأقباط وهم أنصاره المقرَّبون، والثانية هم بنو إسرائيل، فكان يرفع الطائفة الأولى ويكرمهم، ويذل الطائفة الثانية ويهينهم، حتى بلغ به الأمر أن يذيق هذه الطائفة المستضعفة أشدَّ العذاب؛ فوضعهم في أشقِّ الأعمال وأرذلها، ولما بلغه أنَّ زوال ملكه ودولته سيكون على يد رجل من بني إسرائيل أمر بقتل ذكورهم بعد ولادتهم وترك إناثهم، فعاش بنو إسرائيل في دولته سنوات شديدة من القهر والظلم والعذاب والذل والمهانة، يكفي في وصفه قول ربنا سبحانه في كتابه: ((وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ)).
ثم لما ظهر أمر موسى عليه السلام ودعا بني إسرائيل إلى الهدى فآمنوا به؛ ازداد طغيان فرعون وهامان وجنودهما فشددوا العذاب عليهم كما قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا: اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ. وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ)).
فلما اشتدَّ البلاءُ على بني إسرائيل شكوى ذلك إلى موسى عليه السلام، وهنا موطن الشاهد من هذه القصة، ماذا قال لهم موسى عليه السلام؟ هل أمرهم بالخروج على فرعون وجنوده ومواجهتهم؟ أم أمرهم بالإلتجاء إلى الله عزَّ وجل والصبر على أذاهم وظلمهم؟
قال تعالى: ((قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ، قَالَ: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ. قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. قَالُواْ: أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا، قَالَ: عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)).
فلما استجاب بنو إسرائيل لوصية موسى عليه السلام تحقق وعد الله الذي وعدهم إياه؛ فقال سبحانه في بيان عاقبة الفريقين: ((فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ. وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ، وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ)).
وقد أكَّد سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام أنَّ الابتلاء لابد منه وأنَّ شدته علامة على قرب التمكين في الأرض وهلاك العدو، فقال: ((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)).
كما بيِّن فيها سبحانه أنَّه قد تكفَّل بحفظ عباده المؤمنين المستضعفين الذين يدعون إلى توحيده ويحذِّرون من الشرك به من كيد الكافرين والظالمين، فقال في مؤمن آل فرعون: ((وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ. تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ. لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ. فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ)).

الموقف الثاني: النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مواجهة كفَّار قريش في مكة
لما جاء نبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه بهذه الدعوة المباركة دعوة التوحيد ونبذ الشرك آمن بها في أول الأمر قلةٌ من الناس المستضعفين؛ كما قال تعالى: ((وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ؛ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))، واستبكر عن قبول هذه الدعوة الكثير من أهل قريش بخاصة كبراؤهم ووجهاؤهم وزعماؤهم الذين كانوا يملكون فيهم الإدارة والحكم والرأي، وقد حاول هؤلاء أن يصدوا عن سبيل الله بشتى الطرق من التشويه الإعلامي وتقبيح وجه الحق وعرض عدة عروض دنيوية على النبي صلى الله عليه وسلم ليترك هذه الدعوة ، فلما لم يروا نتيجة في ذلك، بدأوا بالمرحلة الثانية من التصفية الجسدية من تشريد وطرد وحبس وضرب وتعذيب وقتل، حتى اضطر بعض المؤمنين بالهجرة من بلادهم، وبعضهم أخفى إيمانه، وبعضهم لاقى ما لاقاه من الأذى والظلم والعدون، فلما رأى بعض الصحابة ذلك واشتدَّ عليهم البلاء والعذاب والقهر والذل جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا ذلك إليه، فماذا قال لهم؟ هل أمرهم بالخروج على كبرائهم ومواجهتهم؟ أم أمرهم بالصبر وعدم الاستعجال؟    
عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: ((قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)) أخرجه البخاري.
فمواجهة الكافرين له وقته الذي لا ينبغي التعجل فيه، ولا يكون من قبيل ردود الأفعال العاطفية أو الانفعالات الحماسية غير المنضبطة ولا المدروسة، والعلماء يقولون: مَنْ استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وهذا ما أشار إليه الله عزَّ وجلَّ بقوله: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ؛ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقَالُواْ: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، قُلْ: مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً))، ومثله قوله: ((وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً، وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ، وَقِيلَ: اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)).

الموقف الثالث: الصحابة والتابعون في مواجهة ظلم الحجاج بن يوسف الثقفي
بعد موت يزيد بن معاوية في عام 64 تولى الخلافة من بعده ولده معاوية وكان مريضاً ضعيفاً، فنادى في الناس "الصلاة جامعة"، فاجتمع الناس إليه، فقال لهم: "يا أيها الناس؛ إني قد ولِّيتُ أمركم وأنا ضعيف عنه، فإنْ أحببتم تركتها لرجل قوي كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة منكم كما تركها عمر بن الخطاب؛ وليس فيكم من هو صالح لذلك، وقد تركتُ لكم أمركم فولوا عليكم من يصلح لكم"، ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج منه حتى مات بعد أيام قليلة أو أشهر.
توفي ابن يزيد هذا ولم يعهد إلى أحد بعده، فبويع لمروان بن الحكم - وكان نائباً لمعاوية رضي الله عنه في المدينة – خليفة على الشام، وبويع لعبدالله بن الزبير رضي الله عنه خليفة على الحجاز ثم أضاف لها البصرة والعراق ومصر، ولم يكمل مروان في خلافته سنة فمات بعد أن طلب البيعة لولده عبدالملك بن مروان من بعده.
تولَّى الخلافة عبدالملك بن مروان وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة، منها تسع سنين مشاركاً لابن الزبير، وثلاث عشرة سنة مستقلاً وحده، وكانت بينه وبين ابن الزبير رضي الله عنه حروب وفتن كثيرة، وقد عَيِّن عبدالملك الحجَّاج بن يوسف الثقفي لمواجهة ابن الزبير، فكانت الحروب بينهم سجال وحدثت بينهما مقتلة عظيمة، حتى انتهى الأمر بحصار ابن الزبير في البيت الحرام، وبلغ الطغيان بالحجَّاج أن ضرب البيت الحرام بالمنجنيق، ثم تسلَّط على أهلها وقتل منهم مَنْ قتل، ثم ظفر بابن الزبير فصلبه على جذع عند البيت، حتى بقي مدة على ذلك.
وبعد مقتل ابن الزبير رضي الله عنه استقرَّ الأمر في الحجاز إلى الحجاج بن يوسف، فتحرك بعدها إلى السيطرة على البصرة والكوفة، وأذاق الناس ألواناً من العذاب من حبس وضرب وتعذيب وقتل، وظهرت فتنة ابن الأشعث الذي بايعه آلاف من أهل الكوفة والبصرة على خلع الحجاج وقتاله، ومنهم الكثير من الفقهاء والقراء والعباد والأمراء وشيوخ الناس وشبابها، فتمكَّن منهم وقتل منهم الكثير وفرَّ الباقون، وممن فرَّ سعيد بن جبير رحمه الله، واستمر مختفياً من الحجاج قريباً من ثنتي عشرة سنة، لكنَّ الحجَّاج ظفر به بعد ذلك فقتله، وبقى الناس يعيشون تحت سطوة الحجاج وظلمه عشرين سنة كاملة، والفتن تدور بين الحين والآخر، والقتل يشتد ويكثر.
وكان الحجَّاج - عليه من الله ما يستحق - يؤذي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقبح فعاله وفحش لسانه، وكانوا يصبرون على ذلك ولا يأذنون لأحد بالخروج عليه، وكان الحجَّاج يتربَّص بكل مَنْ يتكلَّم فيه أو في خلافة عبدالملك بن مروان أو مَنْ يشارك أو يُحرِّض في الخروج عليهم، فإن ظفر بهم سامهم سوء العذاب.
 قال أيوب السختياني رحمه الله: إنَّ الحجاج أراد قتل الحسن البصري مراراً فعصمه الله منه، وقد ذكر له معه مناظرات؛ على أنَّ الحسن لم يكن ممن يرى الخروج عليه، وكان ينهى أصحاب ابن الأشعث عن ذلك، وإنما خرج معهم مكرهاً، فقد قيل لابن الأشعث: إنْ أحببتَ أن يُقتل الناس حولك كما قُتلوا حول هودج عائشة رضي الله عنها يوم الجمل فأَخرِج الحسن معك، فأَخرجه.
وقال الحسن البصري: إنَّ الحجَّاجَ عذابُ اللهِ، فلا تدفعوا عذابَ اللهِ بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانةِ والتضرعِ فإنه تعالى يقول: "وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ".
وقال الإمام الترمذي رحمه الله: ثنا أبو داود سليمان بن مسلم البلخي ثنا النضر بن شميل عن هشام بن حسان قال: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً فبلغ مائة ألف وعشرين ألفاً.
وذكر الأصمعي: ثنا أبو صم عن عباد بن كثير عن قحدم قال: أطلق سليمان بن عبدالملك - أي لما تولى الخلافة بعد أخيه الوليد وبعد موت الحجاج - في غداة واحدة أحداً وثمانين ألف أسير كانوا في سجن الحجاج، وقيل إنه لبث في سجنه ثمانون ألفاً منهم ثلاثون ألف امرأة، وعرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفاً لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب.
وقال عمر بن عبدالعزيز: لو تخابثت الأمم فجاءت كلُّ أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم.
وقال الرياشي حدثنا عباس الأزرق عن السري بن يحيى قال: مرَّ الحجاج في يوم جمعة فسمع استغاثة، فقال: ما هذا؟ فقيل: أهل السجون يقولون قتلنا الحر!، فقال: قولوا لهم اخسؤوا فيها ولا تكلِّمون!، فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة حتى قصمه الله.
وعن معمر عن ابن طاووس عن أبيه: أنه أُخبر بموت الحجاج مراراً، فلما تحقق وفاته قال: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين".
وروى غير واحد أنَّ الحسن البصري لما بُشِّر بموت الحجاج سجد شكراً لله تعالى، وكان مختفياً فظهر، وقال: اللهم أَمتَّه فأذهِب عنا سنَّته.
وقال حماد بن أبي سليمان: لما أَخبرتُ إبراهيم النخعي بموت الحجاج بكى من الفرح.
ومن أعيان من قتلهم الحجاج: عمران بن عصام الضبعي وكان من علماء أهل البصرة، وكان صالحاً عابداً، أُتي به أسيراً إلى الحجاج فقال له: اشهد على نفسك بالكفر حتى أطلقك، فقال: والله إني ما كفرتُ بالله منذ آمنتُ به، فأمر به فضربت عنقه.  
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية من أحواله أشياء كثيرة غير ما تقدَّم، وقد وصفه بقوله: ((كان جباراً عنيداً مِقداماً على سفك الدماء بأدنى شبهة)).
وقد صدق في الحجاج وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه "مبير" أي مسرف في إهلاك الناس، فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه ما قالته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها والدة ابن الزبير بعد صلب الحجاج له وتركه معلقاً على الجذع، فقال: عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ قال: رَأَيْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ، ثُمَّ نَفَذَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ مَوْقِفُ عَبْدِاللَّهِ وَقَوْلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ فَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ: لَتَأْتِيَنِّي أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ، قَالَ: فَأَبَتْ؛ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي، قَالَ فَقَالَ: أَرُونِي سِبْتَيَّ فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ!، قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، أَنَا وَاللَّهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ، أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا؛ فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ، قَالَ: فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا.
قال الحافظ النووي رحمه الله: ((وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْكَذَّابِ هُنَا الْمُخْتَار بْن أَبِي عُبَيْد، وَبِالْمُبِيرِ الْحَجَّاج بْن يُوسُف)).
ولما اشتدَّ الظلم والأذى في زمان الحجَّاج - وهنا موطن الشاهد - شكى بعض التابعين لأنس بن مالك رضي الله عنه هذا الحال، فماذا قال لهم؟ هل أَذِن لهم في مواجهة الحجَّاج والخروج عليه؟ أم أمرهم بالاحتساب والصبر؟
أخرج البخاري في صحيحه عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجَّاج؟، فقال: ((اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم)) سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.

الموقف الرابع: الإمام أحمد والسلف الصالح في مواجهة محنة ثلاث خلفاء عباسيين
لقد ظهر في زمان الخلفاء (المأمون والمعتصم والواثق) القول بخلق القرآن، وهذا عقيدة كفرية، لأنَّ الأمة أجمعت على أنَّ القرآن كلام الله المنزَّل غير مخلوق، فامتحن هؤلاء الخلفاء وبتحريض من دعاة الجهمية والمعتزلة كبشر المريسي وأحمد بن أبي دؤاد الناسَ بهذا الكفر ما يُقارب العشرين سنة بشتى صور الظلم والأذى، وقد لخَّص ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في [المجموع 12/ 488-489] فقال: ((فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد مَثَلًا قَدْ بَاشَرَ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ دَعَوْهُ إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ وَامْتَحَنُوهُ وَسَائِر عُلَمَاءِ وَقْتِهِ، وَفَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الَّذِينَ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ عَلَى التَّجَهُّمِ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْقَتْلِ وَالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَاتِ وَقَطْعِ الْأَرْزَاقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَتَرْكِ تَخْلِيصِهِمْ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ؛ بِحَيْثُ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ إذْ ذَاكَ مِنْ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ يُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ جهمياً مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ مِثْلِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَيَحْكُمُونَ فِيهِ بِحُكْمِهِمْ فِي الْكَافِرِ فَلَا يُوَلُّونَهُ وِلَايَةً وَلَا يُفْتِكُونَهُ مِنْ عَدُوٍّ وَلَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يَقْبَلُونَ لَهُ شَهَادَةً وَلَا فُتْيَا وَلَا رِوَايَةً، وَيَمْتَحِنُونَ النَّاسَ عِنْدَ الْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالِافْتِكَاكِ مِنْ الْأَسْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَمَنْ أَقَرَّ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ حَكَمُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَمْ يَحْكُمُوا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ كَانَ دَاعِيًا إلَى غَيْرِ التَّجَهُّمِ قَتَلُوهُ أَوْ ضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَغْلَظِ التَّجَهُّمِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ إلَى الْمَقَالَةِ أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهَا، وَإِثَابَةَ قَائِلِهَا وَعُقُوبَةَ تَارِكِهَا أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ إلَيْهَا، وَالْعُقُوبَةَ بِالْقَتْلِ لِقَائِلِهَا أَعْظَمُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِالضَّرْبِ.
ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد دَعَا لِلْخَلِيفَةِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ ضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وحَلَّلَهُم مِمَّا فَعَلُوهُ بِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ؛ وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ، فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَفَّارِ لَا يَجُوزُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُكَفِّرُوا الْمُعَيَّنِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَفَّرَ بِهِ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ؛ فَإمَّا أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فَفِيهِ نَظَرٌ، أَوْ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى التَّفْصِيلِ؛ فَيُقَالُ: مَنْ كَفَّرَهُ بِعَيْنِهِ فَلِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ، وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ بِعَيْنِهِ فَلِانْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، هَذِهِ مَعَ إطْلَاقِ قَوْلِهِ بِالتَّكْفِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالِاعْتِبَارُ)).
ومع هذا الظلم والبلاء من قبل هؤلاء الخلفاء لم يأذن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لأحد من أصحابه أو مَنْ سأله الخروج على هؤلاء الحكام خشية سفك الدماء وما يترتب عليها من فتنة عامة.
قال أبو بكر الخلال رحمه الله في كتابه [السنة 1/131- 134]: ((أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللَّهِ، يَأْمُرُ بِكَفِّ الدِّمَاءِ، وَيُنْكِرُ الْخُرُوجَ إِنْكَارًا شَدِيدًا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ: أَنَّهُمَا كَرِهَا الدَّمَ، يَعْنِي فِي الْفِتْنَةِ.
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّ أَبَا الْحَارِثِ حَدَّثَهُمْ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِاللَّهِ فِي أَمْرٍ كَانَ حَدَثَ بِبَغْدَادَ، وَهَمَّ قَوْمٌ بِالْخُرُوجِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الْخُرُوجِ مَعَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ؟ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ؛ الدِّمَاء!، الدِّمَاء!، لاَ أَرَى ذَلِكَ، وَلاَ آمُرُ بِهِ، الصَّبْرُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْفِتْنَةِ يُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَيُسْتَبَاحُ فِيهَا الأَمْوَالُ، وَيُنْتَهَكُ فِيهَا الْمَحَارِمُ، أَمَا عَلِمْتَ مَا كَانَ النَّاسُ فِيهِ؛ يَعْنِي أَيَّامَ الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: وَالنَّاسُ الْيَوْمَ أَلَيْسَ هُمْ فِي فِتْنَةٍ يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ؟! قَالَ: وَإِنْ كَانَ، فَإِنَّمَا هِيَ فِتْنَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِذَا وَقَعَ السَّيْفُ عَمَّتِ الْفِتْنَةُ!، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، الصَّبْرَ عَلَى هَذَا وَيَسْلَمُ لَكَ دِينُكَ خَيْرٌ لَكَ، وَرَأَيْتُهُ يُنْكِرُ الْخُرُوجَ عَلَى الأَئِمَّةِ، وَقَالَ: الدِّمَاء، لاَ أَرَى ذَلِكَ، وَلاَ آمُرُ بِهِ.
وَأَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ عِيسَى قَالَ: سَمِعْتُ حَنْبَلاً يَقُولُ فِي وِلاَيَةِ الْوَاثِقِ: اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ إِلَى أَبِي عَبْدِاللَّهِ؛ أَبُو بَكْرِ بْنُ عُبَيْدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَطْبَخِيُّ، وَفَضْلُ بْنُ عَاصِمٍ، فَجَاؤُوا إِلَى أَبِي عَبْدِاللَّهِ، فَاسْتَأْذَنْتُ لَهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ، هَذَا الأَمْرُ قَدْ تَفَاقَمَ وَفَشَا - يَعْنُونَ إِظْهَارَهُ لِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَبْدِاللَّهِ: فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: أَنْ نُشَاوِرَكَ فِي أَنَّا لَسْنَا نَرْضَى بِإِمْرَتِهِ وَلاَ سُلْطَانِهِ، فَنَاظَرَهُمْ أَبُو عَبْدِاللَّهِ سَاعَةً، وَقَالَ لَهُمْ: عَلَيْكُمْ بِالنَّكِرَةِ بِقُلُوبِكُمْ، وَلاَ تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وَلاَ تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ وَدِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَعَكُمُ، انْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِكُمْ، وَاصْبِرُوا حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ أَوْ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ، وَدَارَ فِي ذَلِكَ كَلاَمٌ كَثِيرٌ لَمْ أَحْفَظْهُ، وَمَضَوْا. وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي عَبْدِاللَّهِ بَعْدَمَا مَضَوْا، فَقَالَ أَبِي لأَبِي عَبْدِاللَّهِ: نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلاَمَةَ لَنَا وَلأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَمَا أُحِبُّ لأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا، وَقَالَ أَبِي: يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ، هَذَا عِنْدَكَ صَوَابٌ؟ قَالَ: لاَ، هَذَا خِلاَفُ الآثَارِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِالصَّبِرِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ ضَرَبَكَ فَاصْبِرْ، وَإِنْ...، وَإِنْ...، فَاصْبِرْ"، فَأَمَرَ بِالصَّبِرِ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: وَذَكَرَ كَلاَمًا لَمْ أَحْفَظُهْ)).

أقول بعد هذا:
هذه المواقف الواضحة التي تدعو إلى الصبر على أذى الكفار والظالمين وعدم الاستعجال في إتخاذ المواقف في مواجهة الحكام المستبدِّين في وقت الإستضعاف إنْ دلَّت على شيء فإنما تدل على خطأ من يعدُّ الصبرَ على ظلم الحكَّام المعاصرين من الجبن أو الخنوع أو الرضى بالظالم وظلمه أو الإقرار على الذل والاستعباد أو الخوف من الصدع بكلمة الحق ضد سلطان جائر!، فالأمر ليس كذلك، وإنما هو الإتباع والتمسك بما كان عليه الأنبياء والصحابة والعلماء في مثل هذه المواقف، لأننا نعلم أنَّ هؤلاء هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ولا يخيب المقتدي بهم، فهم الأسوة الحسنة لمن جاء من بعدهم.
وقد دلَّت الآيات والأحاديث والآثار الكثيرة على وجوب الصبر على أذى الكفار والمنافقين والظالمين في وقت الاستضعاف، من ذلك:
قوله تعالى: ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ))، وقوله: ((وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ))، وقوله: ((وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ))، وقوله: ((تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ))، وقوله: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ))، وقوله: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا))، وقوله: ((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ))، وقوله: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ))، وقوله: ((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ))، وقوله: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ)).
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً))، وقال: ((إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى عَلَى الْحَوْضِ))، والأثرة: استئثار الحكام بالمناصب والأموال، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِى أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)) فقال الصحابة: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِى عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِى لَكُمْ))، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة الطويل: ((يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ)) فقال حذيفة رضي الله عنه: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ فقال: ((تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ))، أي: اسمع وأطع في المعروف والطاعة لا في الظلم والمنكر ومعصية الله عز وجل، وفي رواية: ((فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ، وَإِلاَّ فَمُتْ عَاضًّا بِجِذْلِ شَجَرَةٍ))، قال حذيفة : قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ((يَخْرُجُ الدَّجَّالُ))، وهذا يدل على عموم هذه الأحاديث إلى قيام الساعة.
وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في [الصارم المسلول 3/681-683]: ((إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة مستضعفاً هو وأصحابه عاجزين عن الجهاد أمرهم الله بكفِّ أيديهم والصبر على أذى المشركين، فلما هاجروا إلى المدينة وصار له دارُ عزًّ ومنعةٍ أمرهم بالجهاد وبالكفِّ عمن سالمهم، وكفِّ يده عنهم لأنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود على كل منافق لنفر عن الإسلام أكثر العرب إذ رأوا أن بعض من دخل فيه يُقتل، وفي مثل هذه الحال نزل قوله: "وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً"، وهذه السورة نزلت بالمدينة بعد الخندق، فأمره الله في تلك الحال أن يترك أذى الكافرين والمنافقين له، فلا يكافئهم عليه لما يتولد في مكافأتهم من الفتنة، ولم يزل الأمر كذلك حتى فتحت مكة ودخلت العرب في دين الله قاطبة، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في غزو الروم، وأنزل الله تبارك وتعالى سورة براءة، وكمل شرائع الدين من الجهاد والحج والأمر بالمعروف، فكان كمال الدين حين نزل قوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" قبل الوفاة بأقل من ثلاثة أشهر، ولما أنزل براءة أمره بنبذ العهود التي كانت للمشركين وقال فيها: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ"، وهذه ناسخة لقوله تعالى: "وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم"، وذلك أنه لم يبق حينئذ للمنافق من يعينه لو أقيم عليه الحد، ولم يبق حول المدينة من الكفار من يتحدث بأنَّ محمد يقتل أصحابه، فأمره الله بجهادهم والإغلاظ عليهم، وقد ذكر أهل العلم أنَّ آية الأحزاب منسوخة بهذه الآية ونحوها، وقال في الأحزاب: "لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا" الآية، فعلم أنهم كانوا يفعلون أشياء إذ ذاك إن لم ينتهوا عنها أقبلوا عليها في المستقبل لما أعز الله دينه ونصر رسوله، فحيث ما كان للمنافق ظهور وتخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه عملنا بآية "وَدَعْ أَذَاهُم"، كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح، وحيث ما حصل القوة والعز خوطبنا بقوله: "جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ")).
وقال رحمه الله في [الصارم المسلول 2/412-414]: ((فلما أتى الله بأمره الذي وعده من ظهور الدين وعز المؤمنين أمر رسوله بالبراءة إلى المعاهدين وبقتال المشركين كافة وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون؛ فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى اللذين أمر الله بهما في أول الأمر، وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية.
وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت أية الصَّغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في أخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام.
فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بأية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)).
فلابد أنَّ نعلم أنَّ الصبر في مثل هذه الأحوال التي تمرُّ فيها الشعوب الإسلامية في مواجهة الحكَّام المعاصرين هو واجب الوقت، فلا ينبغي الخروج عن واجب الوقت ولا استعجال الواجب الذي بعده، فالأمر كلُّه لله، والله عزَّ وجلَّ أمرنا أن نغيِّر أنفسنا وأن ننشغل في إصلاحها عن الكلام في الحكَّام الذي لا يترتب عليه إلا الفتنة والفساد.
ولابد أن نعلم أيضاً أنَّ هؤلاء الحكَّام ما تسلَّطوا على رقابنا إلا بما كسبت أيدينا، والله تعالى يقول: ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ))، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المعروف: ((وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ))، ورحم الله مَنْ قال: ((كما تكونوا يولَّى عليكم))، وهؤلاء الحكَّام ما خرجوا إلا من هذه الشعوب الثائرة، والله تعالى: ((وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا)).
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في [مفتاح دار السعادة 1/253]: ((وتأمَّل حِكمتَهُ تَعَالَى في أنْ جَعَلَ مُلوكَ العبادِ وأُمراءَهم وَوُلاتَهم مِن جِنسِ أعمَالِهم، بلْ كأنَّ أعْمَالهم ظَهرتْ في صُورِ وُلاتِهم ومُلوكِهم؛ فإن استقَامُوا استقَامَتْ مُلوكُهم، وإنْ عَدلُوا عَدَلتْ عليهم، وإن جَارُوا جَارتْ ملوكهم ووُلاتُهم، وإنْ ظهَر فيهم المكرُ والخَديعةُ فوُلاتُهم كذلك، وإنْ مَنعوا حقوقَ اللهِ لديهم وبخَلوا بها منعتْ مُلوكهم ووُلاتُهم ما لَهُم عندهم من الحق وبَخَلوا بها عليهم، وإنْ أخذوا مِمَّن يستضعفونَه ما لا يستحقونَه في مُعَاملتهم أخذتْ منهم الملوكُ ما لا يستحقونه وضَربتْ عليهم المكوسَ والوظائف، وكلَّما يستخرجونَه من الضعيف يستخرِجْهُ الملوكُ منهم بالقوة، فعُمَّالُهم ظَهَرتْ في صُورِ أعمالهم، وليس في الحِكمةِ الإلهية أن يُولَّى عَلى الأشرارِ الفجَّارِ إلا مَنْ يكونُ مِنْ جِنْسهم.
ولما كان الصدرُ الأولُ خِيارَ القُرونِ وأبَرَّها كانتْ وُلاتُهم كذلك، فلمَّا شَابُوا شَابَتْ لهمُ الوُلاة.
فحكمةُ اللهِ تَأْبَى أن يُولِّيَ علينا في مِثلِ هذهِ الأزمانِ مثلَ مُعاويةَ وَعُمَرَ بنَ عبدالعزيز، فضلاً عن مثلِ أبي بكر وعمر، بَلْ وُلاتُنا على قَدْرِنا، ووُلاةُ مَنْ قَبلَنا على قَدرِهم، وكلٌ مِن الأمرَين مُوجِبُ الحِكمة ومُقْتضاها)).
أسأل الله تعالى أن يصلح أمرنا، وأن يغيِّر حالنا وبلادنا، وأن يولِّي علينا خيارنا ويُبعد عنا شرارنا، وأن يثبتنا على الحق والهدى وما كان عليه سلفنا الصالح عند المحن، وأن يجنبنا مضلات الفتن، وأن يعصمنا من شبهات أهل الزيغ واستدلالات أهل الباطل، وأن يقبضنا إليه غير ضالين ولا مضلين ولا مفتونين ولا فاتنين، إنه وليُّ المؤمنين.
كتبه ناصحاً ومشفقاً
أبو معاذ رائد آل طاهر
قبل أذان العشاء من يوم الاثنين 16 من شهر ربيع الأول لعام 1434 هـ
الموافق  28/ 1/ 2013 بالإفرنجي

هناك 3 تعليقات:

  1. سددك ربي وحفظك شيخي المفضال وجعل الله ما تكتب في ميزان حسناتك . محبكم أبوأوس الموصلي

    ردحذف
    الردود
    1. بارك الله بك , اخوك ابو عثمان

      حذف
  2. بارك الله بك

    ردحذف

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.