إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل
فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده
ورسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ أما بعد:
فمن المسائل الفقهية التي اختلف فيها النَّاس قديماً وحديثاً: مسألة صيام
يوم السبت في غير الفرض، وأصل الخلاف ومداره حديث: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما
افترض الله عليكم؛ فإنْ لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه))، قال
الإمام أبو جعفر الطحاوي (ت321ﻫ) في شرح معاني الآثار
[2 /80-81]: ((فذهب قوم إلى هذا الحديث فكرهوا صوم يوم
السبت تطوعاً، وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بصومه بأساً))، ثم أسند رحمه
الله تعالى بسنده إلى الزهري (ت124ﻫ) فقال: ((سئل الزهري عن صوم
يوم السبت؟! فقال: لا بأس به، فقيل له: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كراهته، فقال: ذلك حديث
حمصي، فلم يعدَّه الزهري حديثاً يُقال به، وضعفه))، وهذا مما يؤكد وجود الخلاف في
هذه المسألة، وأنَّه خلاف قديم بين أهل العلم، وأنَّ مداره الحديث الآنف الذكر.
وقال ابن رشد في [بداية المجتهد 2 /132 مؤسسة ناصر للثقافة]: ((وأما يوم
السبت؛ فالسبب في اختلافهم فيه: اختلافهم في تصحيح ما روي عنه أنه عليه الصلاة
والسلام قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" خرَّجه أبو
داود))، وممن أقرَّ بهذا الخلاف من العلماء المعاصرين الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
تعالى فقد قال في الشرح الممتع [6/ 465 مؤسسة آسام للنشر]: ((وأما السبت؛ فقيل:
إنه كالأربعاء والثلاثاء يباح، وقيل: إنه لا يجوز إلا في الفريضة، وقيل: إنه يجوز
لكن بدون إفراد)).
أقـوال الناس في صيام السبت
اختلف أهل العلم في صيام يوم السبت إلى قولين:
القول الأول: عدم مشروعية صيام
يوم السبت إلا في الفرض؛ كرمضان، وقضائه، وكفَّارة الصيام، والنَّذر، وغير ذلك من
الفروض.
القول الثاني: مشروعية صيامه في
غير الفرض؛ أي: في صيام النَّافلة؛ كصيام يوم وإفطار يوم، وصيام عرفة، وصيام
تاسوعاء أو عاشوراء، وصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر أو صيام الأيام البيض، وصيام ست
من شوال، وصيام العشر الأوائل من ذي الحجة، وصيام أكثر شعبان، وصيام شهر الله
المحرَّم وغير ذلك. وقد انقسم أصحاب هذا القول إلى قسمين:
القسم الأول: القائلون بمشروعية
صيامه منفرداً.
القسم الثاني: القائلون بمشروعية
صيامه مقترِناً مجتمعاً بغيره لا منفرداً.
عرض أدلــة المختلفين
أدلة القول الأول:
استدلَّ أصحاب القول الأول بحديث النبيِّ صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض الله عليكم؛
فإنْ لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه)) أخرجه الإمام أحمد والدارمي
وأصحاب السنن وغيرهم.
المستفاد من فقه الحديث:
1- النهي عن صيام يوم السبت في غير الفرض؛ وهذا بمنطوقه كما هو ظاهر.
2- الأمر بإفطار من صام يوم السبت في غير الفرض ولو بأدنى مأكول كما ذُكِرَ
في الحديث؛ وهذا أيضاً بمنطوقه؛ قال الحافظ العراقي: ((هذا من المبالغة في النهي
عن صومه؛ لأنَّ قشر شجر العنب جاف لا رطوبة فيه ألبتة بخلاف غيره من الأشجار))
نقله عنه المناوي في فيض القدير [6/ 408].
3- أنَّ النهي عن صيامه يفيد التحريم لأنه مطلق، كما
أنَّ الأمر بإفطاره يفيد الوجوب للعلة ذاتها.
4- يجوز صيام يوم السبت في حالة واحدة لا غير وهي:
إذا كان الصيام فرضاً.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في حاشيته على سنن أبي داود
[7 /50-51]: ((قوله في الحديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض
عليكم" دليل على: المنع من صومه في غير الفرض مفرداً أو مضافاً!!؛ لأنَّ
الاستثناء دليل التناول، وهو يقتضي: أنَّ النهي عنه يتناول كل صور صومه إلا صورة
الفرض، ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد؛ لقال: "لا تصوموا يوم السبت إلا أن
تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده" كما قال في الجمعة!!، فلما خصَّ الصورة
المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قابلها))؛ وابن القيم إذ يؤصِّل
هذا الفهم الدقيق الظاهر من النص فإنَّه يذهب إلى جواز صيام يوم السبت في غير
الفرض؛ ويعلل ذلك فيقول [المصدر السابق]: ((وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما
تقدم من الأحاديث وغيرها؛ كقوله في يوم الجمعة "إلا أن تصوموا يوماً قبله أو
يوماً بعده" فدلَّ على أنَّ الحديث غير محفوظ وأنه شاذ!!)).
5- " إلا فيما افترض الله
عليكم " ((يحتمل أن يراد: ما فُرِضَ بأصل الشرع
كرمضان لا بالتزام كنذر، ويحتمل العموم))؛ قاله المناوي في [فيض القدير 6 /408]؛
والظاهر: أنَّه لا فرق؛ لأنَّ كلاً منهما قد فرضه الله على العبد إما ابتداءً وإما
جزاءً؛ ولهذا يدخل في هذا الاستثناء: صيام رمضان، وقضاء الفوائت، وصوم الكفَّارة،
والمعتمر الذي لم يجد الهدي، والنَّذر وغير ذلك.
أدلة القول الثاني:
استدلَّ القائلون بمشروعية صيام يوم السبت في غير الفرض بأدلة عامَّة
وخاصة، وإليك عرض هذه الأدلة، ودلالتها على ذلك.
الأدلة الخاصة:
الدليل الأول: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ((كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصوم من الشهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء
والأربعاء والخميس)) رواه الترمذي.
الدليل الثاني: عن عبد الله بن محمد بن عمر بن
علي عن أبيه أنَّ كريباً مولى بن عباس أخبره أنَّ ابن عباس وناساً من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوني إلى أم سلمة أسألها عن الأيام التي كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم أكثر لها صياماً؟ قالت: يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم
فأخبرتهم؛ وكأنهم أنكروا ذلك، فقاموا بأجمعهم إليها، فقالوا: إنا بعثنا إليك هذا
في كذا وكذا وذكر أنك قلت كذا وكذا، فقالت: صدق إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد!!، كان يقول: ((إنهما يوما عيد
للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن
حبان وصححه والحاكم والبيهقي. قال الحاكم: إسناده صحيح، ووافقه الذهبي.
الدليل الثالث: عن عبيد الأعرج قال:
حدثتني جدتي أنها دخلت على رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو يتغدى، وذلك يوم السبت، فقال لها: ((تعالي فكلي)) فقالت: إني
صائمة، فقال: ((أصمت أمس؟)) قالت: لا، قال: ((كلي فإنَّ صيام يوم السبت لا لك ولا
عليك)) رواه أحمد والهيثمي.
وعن عبيد بن حنين مولى خارجة: أنَّ
المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن صيام يوم السبت حدثته: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: ((لا لك ولا
عليك)) رواه أحمد.
الدليل الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه
وسلم يقول: ((لا يصومنَّ أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده)) متفق عليه،
وعن أمِّ المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه
وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة؛ فقال: ((أصمت أمس؟))، قالت: لا، قال:
((تريدين أن تصومي غداً؟))، قالت: لا، قال: ((فأفطري)).
وفي هذين الحديثين دليل على جواز صيام يوم السبت مع يوم الجمعة؛ لأنَّ
اليوم الذي بعد يوم الجمعة هو يوم السبت؛ ولا يشك في ذلك أحد، فقول النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم: ((أو بعده)) في الحديث الأول، و((تريدين أن تصومي غداً؟))
في الحديث الثاني: يَدلّ على جواز صوم السبت.
الأدلة العامة:
وبعد هذه الأدلة الخاصة المصرِّحة بجواز صيام
يوم السبت؛ هناك أدلة أخرى تدلّ على ذلك ولكنها عامة؛ وإليك بيانها:
1- استحباب صيام يوم وإفطار يوم: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله
عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود
عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام
سدسه، ويصوم يوماً ويفطر يوماً)) متفق عليه.
2- صيام يوم عرفة، وصيام يوم العاشر أو التاسع من المحرَّم: عن أبي قتادة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية
ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية)) رواه مسلم وغيره.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال حين صام رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه؛ قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود
والنصارى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان العام المقبل إن شاء
الله صمنا اليوم التاسع)) قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله
عليه وسلم. رواه مسلم.
3- استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ أو صيام
الأيام البيض: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة
أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام. متفق عليه. وعن أبي ذر قال:
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض؛ ثلاث عشرة
وأربع عشرة وخمس عشرة. رواه النسائي وغيره وصححه الألباني.
4- صيام ست من شوال: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: أنَّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر))
رواه مسلم.
5- صيام العشر الأوائل من ذي الحجة: عن هنيدة بن خالد عن
امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يصوم تسعاً من ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر
وخميسين. رواه الإمام أحمد والنَّسائي وصححه الشيخ الألباني، وفي رواية عند
النسائي: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم العشر، وثلاثة أيام من كل شهر؛
الإثنين والخميس)) وصححها الألباني بلفظ "الخميسين".
6- صيام أكثر شهر شعبان: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، فما رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في
شعبان. متفق عليه.
دلالة هذه الأحاديث:
قال المجيزون لصيام يوم السبت: فهذه الأحاديث تدلّ على استحباب صيام هذه
الأيام؛ ولا بدّ أن يقع فيها يوم السبت؛ فلماذا لم يستثن النبي صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم منها يوم السبت؟ بمعنى آخر: أنَّ يوم السبت لا بد أن يوافق صيام
يوم وإفطار يوم، أو يوم عرفة أو عاشوراء أو تاسوعاء، أو يوافق صيام ست من شوال، أو
العشر الأوائل من ذي الحجة، أو شهر شعبان؛ ولا شكَّ في ذلك؛ فلماذا لم يستثن النبي
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من تلك الأيام المستحب صيامها صيام يوم السبت؟
لماذا لم يرد عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنَّه قال بعد أن ذكر تلك الأيام
المستحبة: ((إلا إذا كان يوم السبت؛ فلا تصوموه))؛ والقاعدة الأصولية معروفة:
"لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة"؛ فالوقت وقت بيان؛ فلماذا لم يبين
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ذلك لأمته؟!، فدلَّ هذا على جواز صوم يوم
السبت إذا وافق هذه الأيام لعدم ورود عن الشرع الاستثناء فيه.
جـواب أصحاب القول الثاني عن حديث النهي
عن صيام السبت
بعد أن استدل المجيزون لصيام يوم السبت في غير الفرض بأدلتهم على ذلك؛
أجابوا عن حديث: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)) بأجوبة؛ وقد
انقسموا إلى صنفين:
الأول: الطاعنون في صحة الحديث.
فمنهم من قال: أنَّه كذب وهو ما ذكره أبو داود عن الإمام مالك، ومنهم من
قال: أنَّه مضطرب وهو قول الإمام النَّسائي وتبعه الحافظ ابن حجر، ومنهم من قال:
أنَّه شاذ غير محفوظ وهو قول بعض أصحاب الإمام أحمد وأشار إلى ذلك شيخ الإسلام
وتلميذه ابن القيم، ومنهم من ضعفه وهو ما فسَّر به الطحاوي كلام الزهري في [شرح
معاني الآثار 2 /81].
الثاني: المصححون للحديث: وهم أصناف:
1 - منهم من ذهب إلى أنَّه منسوخ؛ كأبي داود في سننه.
2 - ومنهم من ذهب إلى التأويل؛ وهم قسمان:
أ – من قال: أنَّ النهي عن قصد صيام السبت بعينه بدليل الأدلة العامة
المتقدمة.
ب – من قال: أنَّ النهي عن إفراده بالصوم بدليل الأدلة الخاصة المتقدمة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في حاشيته على سنن أبي داود [7 /50
-51]: ((وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من الأحاديث وغيرها: كقوله في يوم
الجمعة "إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده" فدلَّ على أنَّ الحديث
غير محفوظ وأنه شاذ؛ وقد قال أبو داود: قال مالك: هذا كذب، وذكر بإسناده عن الزهري
أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت يقول: هذا حديث حمصي، وعن الأوزاعي
قال: ما زلت كاتماً له حتى رأيته انتشر؛ يعني حديث ابن بسر هذا، وقالت طائفة منهم
أبو داود: هذا حديث منسوخ، وقالت طائفة وهم أكثر أصحاب أحمد: محكم، وأخذوا به في
كراهية إفراده بالصوم وأخذوا بسائر الأحاديث في صومه مع ما يليه ...، قالوا:
وإسناده صحيح، ورواته غير مجروحين ولا متهمين؛ وذلك يوجب العمل به، وسائر الأحاديث
ليس فيها ما يعارضه لأنها تدل على صومه مضافاً؛ فيحمل النهي على صومه مفرداً كما
ثبت في يوم الجمعة، ونظير هذا الحكم أيضاً: كراهية إفراد رجب بالصوم وعدم كراهيته
موصولاً بما قبله أو بعده، ونظيره أيضاً: ما حمل الإمام أحمد عليه حديث العلاء بن
عبدالرحمن عن أبيه عن أبى هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان أنه النهي عن
ابتداء الصوم فيه وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول فلا يكره ....
وعلى هذا: فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم "لا تصوموا يوم
السبت" أي: لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض؛ فإنَّ الرجل يقصد صومه بعينه؛
بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت
فإنه يصومه وحده، وأيضاً: فقصده بعينه في الفرض لا يكره بخلاف قصده بعينه في النفل
فإنه يكره.
ولا تزول الكراهه: إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة؛ فالمزيل للكراهة في
الفرض: مجرد كونه فرضاً لا المقارنة بينه وبين غيره، وأما في النفل فالمزيل
للكراهة: ضم غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك.
قالوا وأما قولكم: انَّ الاستثناء دليل التناول إلى آخره؛ فلا ريب أنَّ
الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي، فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده
أخرجت بالدليل الذي تقدم فكلا الصورتين مخرج، أما الفرض: فبالمخرج المتصل، وأما
صومه مضافاً: فبالمخرج المنفصل، فبقيت صورة الإفراد: واللفظ متناول لها ولا مخرج
لها من عمومه فيتعين حمله عليها))، وانظر كلام شيخ الإسلام في الإقتضاء ص 263-264.
وقال أبو العلا المباركفوري في تحفة الأحوذي [3 /373]: ((قلت: قد جُمع بين
هذه الأحاديث؛ بأنَّ النهي متوجه إلى الافراد، والصوم باعتبار انضمام ما قبله أو
ما بعده؛ ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم قد أذن لمن صام الجمعة أن يصوم يوم السبت
بعدها، والجمع مهما أمكن أولى من النسخ، وأما علة الاضطراب فيمكن أن تدفع بما ذكره
الحافظ في التلخيص، وأما قول مالك: إنَّ هذا الحديث كذب فلم يتبين لي وجه كذبه،
والله تعالى أعلم)).
ج - ومنهم من احتج بأنَّ مشروعية صيام السبت إذا ضمَّ إليه يوم آخر أو إذا
وافق عادة هو قول العلماء عامة أو قول أكثرهم.
د – ومنهم من ذهب إلى القياس؛ وهم قسمان:
1 – من قال: أنَّ صيام النوافل المؤكدة والصوم المعتاد يدخلان في لفظة
"إلا في ما افترض عليكم":
قال العظيم آبادي في عون المعبود [7 /48-49] ناقلاً عما نقله الطيبي عن
جماعة أنَّهم قالوا: ((وما افترض يتناول: المكتوب والمنذور وقضاء الفوائت وصوم
الكفارة، وفي معناه: ما وافق سنة مؤكدة؛ كعرفة وعاشوراء، أو وافق ورداً، وزاد ابن
الملك: وعشر ذي الحجة أو في خير الصيام صيام داود؛ فإنَّ المنهى عنه: شدة الاهتمام
والعناية به حتى كأنه يراه واجباً كما تفعله اليهود، قلت – أي صاحب عون المعبود -:
فعلى هذا يكون النهي للتحريم، وأما هذا الوجه: فهو للتنزيه بمجرد المشابهة، قال
الطيبي: واتفق الجمهور على أنَّ هذا النهي والنهي عن إفراد الجمعة نهي تنزيه لا
تحريم)).
2 – من قال: النهي عن الصيام في يوم منهي عن صيامه مثل السبت كالنهي عن
الصلاة في وقت منهي عن الصلاة فيه:
فكما هو معلوم أنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: ((لا صلاة
بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر
حتى تغيب الشمس))؛ وقد أجاز أهل العلم في هذين الوقتين: صلاة ذات الأسباب؛
كتحية المسجد، وصلاة الجنازة، وصلاة الإستسقاء، وصلاة الكسوف، وصلاة العيد، وقضاء
الفوائت من الفرائض والسنن، وسنة الوضوء، وغير ذلك؛ وفسروا النهي عن الصلاة في
هذين الوقتين بالنهي عن التنفل المطلق غير المقيد بسبب؛ فكذلك: النهي عن الصيام في
يوم السبت يُحمل على التنفل المطلق؛ أما إذا وافق صيام يوم حثَّ الشرع عليه فيجوز
صومه؛ لأننا بهذا لم نكن نقصد صيام السبت بعينه وإنما لموافقته صياماً معتاداً أو
مؤكداً بالشرع.
وبهذا أيضاً: نخرج من الإلزام بقاعدة "الحاضر مُقدَّم على
المبيح" عند التعارض، ونؤكِّد الأصل المتفق عليه "أنَّ الشريعة جاءت
بالجمع بين المتشابهات، والتفريق بين المختلفات".
وبهذا تنتهي أدلة من أجاز صيام يوم السبت في غير الفرض، وكيفية استدلالهم
بها، وجوابهم عن حديث النهي عن صيام السبت في غير الفرض؛ وقد ذكرنا – قبل ذلك -
دليل مَنْ يقول: بعدم مشروعية ذلك في أول هذا الرسالة، والفقه المستفاد منه.
وها نحن نذكر جواب أصحاب القول الأول - القائلين: بعدم مشروعية صيام يوم
السبت في غير الفرض - عن أدلة أصحاب القول الثاني، وما اعترضوا به أو أجابوا عن
دليلهم.
رد أصحاب القول الأول ما أجاب به أصحاب
القول الثاني عن حديث النهي عن صيام يوم السبت
أولاً: ردهم على الطاعنين في صحة الحديث:
حديث: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض
الله عليكم؛ فإنْ لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه)).
- أخرجه الإمام أحمد والدَّارمي وأصحاب السنن
وغيرهم من طريق: ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبدالله بن بسر رضي الله تعالى
عنه عن أخته الصَّمَّاء رضي الله تعالى عنها به.
- وأخرجه ابن ماجه والضياء المقدسي وعبد بن
حميد من نفس الطريق لكن عن عبدالله بن بسر دون ذكر أخته.
- وأخرجه أحمد والضياء المقدسي عنه من طريق
آخر: عن الوليد بن مسلم عن يحيى بن حسَّان.
- كما أخرجه الإمام أحمد من طريق: لقمان بن
عامر عن خالد بن معدان عن عبدالله بن بسر عن أخته به؛ وهناك طرق أخرى للحديث.
فالحديث قد ثبت من طريقين عن عبدالله بن بسر
وعنه عن أخته الصماء، ولكلِّ طريق طريقان أو أكثر؛ والطريق الأول: ثور بن يزيد وهو
"ثقة ثبت" كما قال الحافظ في التقريب واحتج به البخاري، عن خالد بن
معدان وهو "ثقة عابد" كما قال الحافظ في التقريب واحتج به الشيخان؛ وكفى
بهذا الطريق قوَّة وصحة؛ ولقد أثبت الشيخ الألباني صحة هذا الحديث بما لا يدع شك
فيه؛ فانظره في كتابه الإرواء [4 /118-125] حديث (960).
والحديث قد حسَّنه الترمذي وصححه الحاكم على
شرط البخاري وأقرَّه الذهبي ووافقه الألباني، وصححه ابن الموطأ كما في التلخيص،
وقالت طائفة من أصحاب الإمام أحمد: ((وإسناده صحيح؛ ورواته لا مجروحين ولا متهمين؛
وذلك يوجب العمل به)) كما قاله ابن القيم في الحاشية [7 /50].
فالحديث إذاً صحيح لا ريب في ذلك؛ أما تكذيب
الإمام مالك له، فقد قال ابن القيم رحمـه الله تعالى في الحاشيـة [7 /53]: ((قال عبد
الحق: ولعلّ مالكاً إنما جعله كذباً من أجل رواية ثور بن يزيد الكلاعي؛ فإنه كان
يُرمى بالقدر؛ ولكنه كان ثقة فيما يروي؛ قاله يحيى وغيره؛ وروى عنه الجلة مثل:
يحيى بن سعيد القطان وابن المبارك والثوري وغيرهم))، ولهذا تعقب النووي كلام
الإمام مالك فقال: ((لا يُقبل هذا منه؛ فقد صححه الأئمة)) كما نقله عنه ابن الملقن
في خلاصة البدر المنير [1 /337].
فيبقى الكلام في الشذوذ أو الاضطراب:
قال ابن حجر في تلخيص الحبير [2 /216]: ((حديث:
"لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" أحمد وأصحاب السنن وابن
حبان والحاكم والطبراني والبيهقي من حديث عبد الله بن بسر عن أخته الصماء، وصححه
ابن الموطأ، وروى الحاكم عن الزهري: أنه كان إذا ذكر له الحديث قال: هذا حديث
حمصي، وعن الأوزاعي قال: ما زلت له كاتماً حتى رأيته قد اشتهر، وقال أبو داود في
السنن قال مالك: هذا الحديث كذب، قال الحاكم: وله معارض بإسناد صحيح، ثم روى عن
كريب أنَّ ناساً من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعثوه إلى أم سلمة أسألها
عن الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لها صياماً؟ فقالت: يوم
السبت والأحد، فرجعت إليهم فقاموا بأجمعهم إليها فسألوها، فقالت: صدق؛ وكان يقول:
"إنهما يوما عيد للمشركين، فأنا أريد أن أخالفهم" ورواه النسائي
والبيهقي وابن حبان، وروى الترمذي من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والإثنين ومن الشهر
الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس.
تنبيه: قد أُعلَّ حديث الصماء بالمعارضة
المذكورة، وأُعلَّ أيضاً باضطراب؛ فقيل: هكذا، وقيل: عن عبد الله بن بسر وليس فيه
عن أخته الصماء، وهذه رواية ابن حبان؛ وليست بعلة قادحة؛ فإنه أيضاً صحابي، وقيل:
عنه عن أبيه بسر، وقيل: عنه عن الصماء عن عائشة؛ قال النسائي: هذا حديث مضطرب.
قلت: ويحتمل أن يكون ثم عبد الله عن أبيه، وعن
أخته، وعند أخته بواسطة؛ وهذه طريقة من صححه ورجح عبد الحق الرواية الأولى، وتبع
في ذلك الدارقطني؛ لكن: هذا التلون في الحديث الواحد بالإسناد الواحد مع اتحاد
المخرج يوهن راويه، وينبئ بقلة ضبطه إلا أن يكون من الحفَّاظ المكثرين المعروفين
بجمع طرق الحديث فلا يكون ذلك دالاً على قلة ضبطه؛ وليس الأمر هنا كذا؛ بل اختلف
فيه أيضاً على الراوي عن عبد الله بن بسر أيضاً)).
فالشذوذ المشار إليه في كلام أهل العلم سببه
عندهم كما هو ظاهر كلام الحافظ: أنَّ حديث ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض
عليكم)) يُعارضه حديث كريب وأنَّه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان أكثر ما يصوم
من الأيام السبت والأحد وحديث عائشة وأنَّه كان يصوم من الشهر السبت والأحد
والإثنين، كذلك يُعارض حديث جويرية؛ قال العظيم آبادي في عون المعبود [7 /50]:
((وقد طعن في هذا الحديث جماعة من الأئمة مالك بن أنس وابن شهاب الزهري والأوزاعي
والنسائي، فلا تغتر بتحسين الترمذي وتصحيح الحاكم، وإن ثبت تحسينه: فلا يعارض حديث
جويرية بنت الحارث الذي اتفق عليه الشيخان))،
أما الإضطراب فسببه عندهم: اختلاف مخرج الحديث؛
هل هو عبدالله بن بسر أم أبوه أم أُخته الصمَّاء، والاختلاف على الراوي عنه.
فيقال لهم: أما علة الشذوذ فتكون قادحة في حجية
الحديث إذا كان المعارض إسناده صحيح كما قيل؛ رواته أولى بالقبول من رواة المخالِف
له، وكانت المخالفة بينهما متعارضة؛ لا يمكن الجمع بينها.
فقد نقل السيوطي في تدريب الراوي [1 /235] عن
الحافظ ابن حجر أنّه قال: ((وعرف من هذا التقرير: أنَّ الشاذ: ما رواه المقبول
مخالفاً لمن هو أولى منه؛ قال: وهذا هو المعتمد في حد الشاذ بحسب الاصطلاح))، وقال
العراقي في فتح المغيث [1 /196] في شرحه نُظم "وذو الشذوذ ما يُخالف الثقة
.... فيه الملأ فالشافعي حققه" قال: (( "الملأ" أي: الجماعة الثقات
من النَّاس بحيث لا يُمكن الجمع بينهما))؛ وسيأتي الكلام عن الأدلة المعارِضة
لحديث النهي عن صيام يوم السبت في غير الفرض، وبيان حقيقة تلك المعارضة؛ وهل يُمكن
الجمع بينهما أم لا؟.
أما علة الاضطراب؛ فقد ذكر الحافظ أنَّ سببها
يعود إلى الاختلاف في:
أ – مَخرَج الحديث؛ هل هو عبد الله بن بسر أم
أبوه أم أخته الصمَّاء؛ وجميعهم من الصحابة؛ قال المزي في تهذيب الكمال [35 /218]:
((قال أبو زرعة الدمشقي: قال لي دحيم: أهل بيت أربعة صحبوا النبي صلى الله عليه
وسلم: بسر، وابناه: عبد الله، وعطية،
وابنته أختهما الصماء))، فلا ضير لأنَّ الصحابة كلهم عدول كما هو معلوم، ولهذا
((روى البخاري عن الحميدي قال: إذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من الصحابة فهو
حجة وإن لم يسمّ ذلك الرجل، قال الأثرم: قلت: لأحمد بن حنبل إذا قال رجل من
التابعين: حدثني رجل من الصحابة ولم يسمِّه فالحديث صحيح؟ قال: نعم)) انظر [تدريب
الراوي 1 /197].
ب – الراوي عن عبد الله بن بسر؛ فقد رواه عنه
خالد بن معدان؛ وقد أُختلِف عنه: فرواه عنه ثور بن يزيد، ورواه عنه الفضيل بن
فضالة أنَّ عبد الله بن بسر حدثه أنَّه سمع أباه بسراً يقول: فذكر الحديث، وقال
خالد بن معدان: وقال عبد الله بن بسر: إن شككتم فسلوا أُختي، قال الفضيل بن فضالة:
فمشى إليها خالد بن معدان، فسألها عما ذكر عبد الله، فحدثته ذلك، أخرجه الطبراني
في [المعجم الكبير 1 /59 /2].
قال الشيخ الألباني في [الإرواء 4/ 121-122] بعد
أن ذكر ما سبق: ((قلت: لا قيمة تُذكر لهذه المخالَفة؛ لأنَّ الفضيل بن فضالة لا
يُقرَن في الثقة والضبط بثور بن يزيد؛ لأنَّه ليس بالمشهور، حتى أنَّه لم يُوثقه
أحد من المعروفين غير ابن حبَّان؛ وهو معروف بالتساهل في التوثيق))، ثم قال: ((ثم
وجدت لثور بن يزيد متابعاً جيداً؛ فقال الإمـام أحمد (6 /368-369): ثنا الحكم بن
نافع قال: ثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن الوليد الزبيدي عن لقمان بن عامر عن
خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أُخته الصماء به، قلت: وهذا إسناد جيد رجاله
كلهم ثقات؛ فإنَّ إسماعيل بن عياش ثقة في روايته عن الشاميين وهذه منها.
فهذا يؤيد الوجه الأول تأييداً قوياً، ويبطل
إعلال الحديث بالاضطراب إبطالاً بيناً؛ لأنَّه لو سلَّمنا أنَّه اضطراب معل للحديث
فهذا الطريق لا مدخل للاضطراب فيه، والحمد لله على توفيقه، وحفظه لحديث نبيه صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم)).
قال السيوطي في التدريب [1 /262]: ((المضطرب: هو
الذي يُروى على أوجه مختلفة متقاربة؛ فإن رجحت إحدى
الروايتين بحفظ راويها أو كثرة صحبته المروي عنه ذلك: فالحكم للراجحة، ولا يكون
مضطرباً)).
فالحديث صحيح سالم من الشذوذ والاضطراب على
قواعد أهل الحديث؛ فلا حجة لمن ضعَّفه أو كذَّبه أو أعلَّه بالشذوذ أو الاضطراب.
ثانياً: ردهم على جواب المصححين للحديث؛ وهم قسمان:
1 - منهم من ذهب إلى أنَّه منسوخ:
قال ابن حجر في التلخيص [2 /216-217]: ((وادَّعى
أبو داود: أنَّ هذا منسوخ؛ ولا يتبين وجه النسخ فيه؛ قلت: يمكن أن يكون أخذه من
كونه صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة
أهل الكتاب في أول الأمر، ثم في آخر أمره قال: خالفوهم؛ فالنهي عن صوم يوم السبت
يوافق الحالة الأولى، وصيامه إياه يوافق الحالة الثانية؛ وهذه صورة النسخ، والله
أعلم)).
وذكر في الفتح [10 /362] ناسخَه فقال: ((وصرح أبو داود بأنه منسوخ؛ وناسخه:
حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت والأحد، يتحرى ذلك،
ويقول: "أنهما يوما عيد الكفار، وأنا أحب أن أخالفهم" وفي لفظ: ما مات
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان أكثر صيامه السبت والأحد؛ أخرجه أحمد
والنسائي، وأشار بقوله: "يوما عيد" إلى أنَّ يوم السبت عيد اليهود
والأحد عيد النصارى، وأيام العيد لا تصام، فخالفهم بصيامه؛ ويستفاد من هذا: أنَّ
الذي قاله بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيداً؛ بل الأولى في
المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه، وأما السبت والأحد: فالأولى أن يصاما معاً وفرادى امتثالاً لعموم
الأمر بمخالفة أهل الكتاب)).
لكنَّ ابن رشد يرى في بداية المجتهد [1 /227] أنَّ ناسخَه غير ذلك إذ يقول:
((قالوا: والحديث منسوخ؛ نسخه: حديث جويرية بنت الحارث: أنَّ النبي عليه الصلاة
والسلام دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: "صمت أمس؟" فقالت: لا،
فقال: "تريدين أن تصومي غداً؟"، قالت: لا، قال: "فأفطري")).
فيقال لهم: سواء كان ادَّعاء نسخه بحديث أم سلمة كما أشار الحافظ أو بحديث
جويرية كما أشار ابن رشد؛ فإنَّ دعوى النسخ لا تقبل إلا بشرطين:
أ – عدم إمكانية الجمع بين الدليلين؛ قال ابن قدامة المقدسي في المغني [1/ 122]:
((من شروط النسخ: تعذر الجمع)).
ب - معرفة التاريخ؛ لمعرفة المتقدِّم والمتأخِر؛ ليكـون الأول: منسوخ،
والثاني: ناسخ، قال الآمـدي في الإحكـام [3 /126] وهو يُعدد شروط النسخ: ((وأن يكون
الدليل الدال على إرتفاع الحكم شرعياً متراخياً عن الخطاب المنسوخ حكمه)) أي
متأخِراً.
قال الغزالي في
المستصفى وهو يتكلم عن تعارض الأدلة: ((فإذا تعارض فيها دليلان: فأما أن يستحيل
الجمع أو يُمكن؛ فإن امتنع الجمع لكونهما متناقضين كقوله مثلاً: من بدل دينه
فاقتلوه، من بدل دينه فلا تقتلوه، لا يصح نكاح بغير ولي، يصح نكاح بغير ولي، فمثل
هذا: لا بد أن يكون أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً، فإن أشكل التاريخ: فيطلب الحكم
من دليل آخر)).
قال النووي [شرح صحيح مسلم 6 /124] في مَنْ زَعِمَ أنَّ ركعتي سنَّة المغرب
القبلية منسوخة: ((وأما من زعم النسخ: فهو مجازف; لأنَّ النسخ لا يصار إليه إلا
إذا عجزنا عن التأويل والجمع بين الأحاديث، وعلمنا التاريخ, وليس هنا شيء من ذلك،
والله أعلم)) .
وفي مسألتنا هذه لا
يُمكن معرفة التاريخ؛ فكيف نتعرَّف إلى النَّاسخ من المنسوخ؛ هذا مع إمكانية الجمع
بين الأدلة الصحيحة منها؛ كما سيأتي بيانه.
2 – ومن المصححين للحديث مَنْ ذهب إلى التأويل؛ وهم قسمان:
أ – من قال: النهي عن قصد صيام السبت بعينه بدليل الأدلة العامة المتقدمة.
ب – من قال: النهي عن إفراده بالصوم بدليل الأدلة الخاصة المتقدمة.
وها نحن نشرع في الكلام عن تلك الأدلة التي
استدل بها المجيزون لصيام السبت في غير الفرض؛ ونوضح حقيقتها:
جـواب أصحاب القول الأول عن أدلة أصحاب
القول الثاني
أ – جوابهم عن الأدلة الخاصة:
استدل أصحاب القول الثاني بأربعة أحاديث مصرِّحة بمشروعية صيام السبت في
غير الفرض؛ وإليك بيانها:
الأول: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصوم من الشهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء
والأربعاء والخميس)) أخرجه الترمذي في جامعه قال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو أحمد ومعاوية بن هشام قالا حدثنا سفيان عن منصور
عن خيثمة عن عائشة به؛ وقال – أي الترمذي -: ((هذا حديث حسن؛ وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث عن سفيان: ولم
يرفعه!!)).
والحديث له علتان:
1- الوقف: فقد قال الحافظ في الفتح [4 /227]:
"وروي موقوفاً؛ وهو أشبه".
ولعلَّ قوله: "وهو أشبه"؛ لأنَّ مَنْ رفعه
هو أبو أحمد: محمد بن عبدالله بن الزبير الأسدي؛ ثقة ثبت قد يُخطىء في حديث
الثوري؛ وقد رواهُ عن سفيان الثوري!!، ومعاوية بن هشام القصَّار؛ صدوق له أوهام!!،
أما مَنْ أوقفه فهو عبد الرحمن بن مهدي: وهو ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث؛
فهو أحفظ منهما.
2- الإرسال: فالحديث من رواية خيثمة عن عائشة؛ وقد
قال الحافظ في [تقريب التهذيب 1 /197]: "خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة بفتح
المهملة وسكون الموحدة الجعفي الكوفي: ثقة وكان يُرسِل؛ من الثالثة مات بعد سنة
ثمانين"
وقال في [تهذيب التهذيب 3 /154]: " وقال عبد الله
بن أحمد عن أبيه: لم يسمع خيثمة من ابن مسعود؛ وكذا قال أبو حاتم، وقال أبو زرعة:
خيثمة عن عمر مرسل، وقال ابن القطان: ينظر في سماعه من عائشة رضي الله
عنها!!".
وقد روى عنه الجماعة عن غير عائشة، وروى عن عائشة عند
أبي داود والترمذي وابن ماجه كما قاله المزي في [تهذيب الكمال 8 /371]، وقال أبو
داود في سننه [2 /241] تحت حديث (2128) وهو من رواية خيثمة عن عائشة: "خيثمة
لم يسمع من عائشة!!".
فالحديث لا يصح مرفوعاً لأنَّ عبد الرحمن بن مهدي وهو
أثبت وأحفظ لم يرفعه، ولا يصح موقوفاً لأنَّ خيثمة وإن كان ثقة لكنه لم يسمع من
عائشة.
الثاني: حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما
كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، كان يقول: ((إنهما يوما عيد للمشركين، وأنا
أريد أن أخالفهم)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وصححه
والحاكم والبيهقي. قال الحاكم: إسناده صحيح، ووافقه الذهبي؛ والحديث من رواية
عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن كريب به. وله علتان كذلك:
1- جهالة حال محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب؛ وقد ترجم له ابن أبي حاتم
ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقال فيه ابن القطَّان: لا يُعرف حاله؛ وضعَّف له
بسبب ذلك حديثاً موافقة لتضعيف عبدالحق الأشبيلي لذلك الحديث؛ لكنَّه قال في
حديثنا هذا: فأرى حديثه حسناً وانظر زاد المعاد [2 /79]، ووثقه ابن حبَّان. وقال الذهبي
في
الميزان: "أحد الأشراف بالمدينة.. وكان يشبه بجده الإمام علي بن أبي طالب رضي
الله عنه،
ما علمت به بأساً، ولا رأيت لهم فيه كلاماً، وقد روى له أصحاب السنن الأربعة، فمما
استنكر له حديث ابن جريج عنه عن عباس بن عبيدالله بن عباس عن عمه الفضل قال زار
النبي صلى الله عليه وسلم عباساً في بادية لنا ولنا كليبة وحماره الحديث، أخرجه
النسائي وأورده عبدالحق في أحكامه الوسطى وقال:
إسناده ضعيف، وقال ابن القطان: هو كما ذكر ضعيف؛ فلا يعرف حال محمد بن عمر". وقال
في الكاشف: ثقة، وقال الحافظ في التقريب: صدوق.
أقول: لا تعارض بين قول الذهبي
فيه: "فمما استنكر له" وبين قوله: "ثقة"، فتفرد الثقة في رواية لم يوافقه أو يروها غيره قد تكون علة
يُستنكر بها الحديث وإن لم يخالفه غيره ممن هو مثله أو فوقه؛ وهذا إذا كان الثقة
شيخاً من الشيوخ - لا يُقبل تفرده - ولم يكن إماماً حافظاً.
قال الحافظ ابن حجر معلِّقاً على كلام ابن الصلاح: "وإطلاق الحكم على التفرد
بالرد أو النكارة والشذوذ موجود في كلام كثيرٍ من أهل الحديث" : ((قلت:
وهذا مما ينبغي التيقظ له، فقد أطلق الإمام أحمد والنسائي وغير واحد من النقاد لفظ
المنكرِ على مجرد التفرد؛ لكن حيث لا يكون المتفرد في وزن من يحكم لحديثه
بالصحة بغير عاضد يعضده - ثم قال - وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه ما نصه: "وعلامة
المنكر في حديث المحدثٍ إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ
والرضى خالفت روايتُه روايتهَم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من
حديثه كذلك كان مهجورَ الحديث غير مقبولهِ ولا مستعمله")).
ولهذا قال الذهبي في هذا الحديث:
"منكر، ورواته ثقات" كما نقله المناوي في [فيض القدير 5 /168]، والحسيني في [البيان
والتعريف 2 /154].
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد [2 /78-79 الأرنؤوط]: ((وفي
صحة هذا الحديث نظر؛ فإنه من رواية محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: وقد استنكر
بعض حديثه)).
أما قول ابن حجر:
"صدوق" فهو العدل الذي لا محيص عنه، لكن من كانت هذه مرتبته وهذا حاله
يُعتبر حديثه بموافقة الضابطين؛ فقد يكون غير ضابط، قال السيوطي:
(("صدوق أو محله الصدق أو لا بأس
به" زاد العراقي: "أو مأمون أو خيار أو ليس به بأس" قال ابن أبي
حاتم: مَنْ قيل فيه ذلك هو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية، قال
ابن الصلاح: وهو كما قال لأنَّ هذه العبارة لا تشعر بالضبط فيعتبر حديثه
بموافقة الضابطين على ما تقدم في أوائل هذا النوع(( [تدريب
الراوي 1 /292 بتحقيق وتعليق د. أحمد عمر هاشم].
فهو إما صدوق لا يُعتبر حديثه إلا
بموافقة الضابطين؛ وهي معدومة!!، أو هو ثقة قد استنكر بعض حديثه؛ فكيف نأمن لحديثه
هذا وقد تفرد به!!. أقول: ولهذا قال فيه ابن القطان: لا يُعرف حاله.
2- وابنه عبد الله؛ قال
الحافظ فيه [تهذيب التهذيب 6/16]: ((ولقبه دافن ...، ذكره بن حبان في الثقات، وقال
يعقوب بن شيبة عن ابن المديني: هو وسط، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث، توفي في
خلافة أبي جعفر))، وذكره ابن حبان في الثقات وقال:
يخطئ ويخالف، وقال الذهبي في الكاشف:
ثقة، وقال الحافظ: مقبول ((يعني عند المتابعة وإلا فليِّن الحديث كما نصَّ عليه
في المقدمة، ولم يُتابع في هذا الحديث: فهو لين)) قاله الألباني في الضعيفة
[3/220].
وقد حسَّنَ الشيخ الألباني هذا الحديث في تعليقه على صحيح ابن خزيمة وفي
صحيح الجامع، وضعفه في الإرواء (1405ﻫ) [4/125] تحت حديث (960) وقال: "لأنَّ فيه مَنْ لا يُعرف
حاله، كما بينته في الأحاديث الضعيفة بعد الألف" وعلَّق هنا فقال (هامش1 وفي
الأصل: 3، وهو خطأ مطبعي): " وقد حسَّنته في تعليقي على صحيح ابن خزيمة
(2168) ولعله أقرب؛ فيعاد النظـر"، وبعد أن ذكـر الشيخ رحمـه الله تعالى في
الضعيفـة (1408ﻫ ) [3 /219-220] حديث (1099) العلتين السابقتين قال:
"ولم أكن قد تنبهتُ لهذه العلة – يقصد الثانية – في تعليقي على صحيح ابن
خزيمة فحسنتُ ثمة إسناده، والصواب: ما أعتمدته هنا، والله أعلم"؛ أي تضعيف
الحديث، وقال رحمه الله تعالى في الإستدراكات على الصحيحة (1415ﻫ) في نهاية [2 /735] برقم (16- 980) على هذا الحديث -
وإن ذكره رحمه الله تعالى بالمعنى -: "لا يصح من قبل إسناده، وقد توليتُ بيان
ذلك في الضعيفة برقم (1099) من المجلد الثالث؛ فليراجعه من شاء الوقوف على
الحقيقة" وبهذا يكون ما استقرَّ عليه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى حول
الحكم على هذا الحديث: هو تضعيفه إياه.
أقول: هذا
هو حال عبد الله بن محمد بن عمر بن علي وأبيه، وقد تفردا بهذه الرواية، فكيف يُحتج
بها، هذا إذا لم يخالفا أحداً أو رواية غيرهما، فكيف وقد خالفا الثقات الضابطين
الذين رووا حديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ..." ولا
يُمكن الجمع بين الروايتين، فعند ذلك يترجح لدينا أنَّ هذا الحديث مما استنكرا
فيه؛ لتفردهما ومخالفتهما للثقات. والله أعلم.
الثالث: حديث عبيد الأعرج قال: حدثتني
جدتي أنها دخلت على رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو يتغدى، وذلك يوم السبت، فقال لها: ((تعالي فكلي)) فقالت: إني صائمة،
فقال: ((أصمت أمس)) قالت: لا، قال: ((كلي فإنَّ صيام يوم السبت لا لك ولا عليك))
رواه أحمد من طريق ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن عبيد
الأعرج، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد [3/198] وقال: "فيه ابن لهيعة؛
وفيه كلام".
ومن نفس الطريق لكن عن عبيد بن حنين مولى
خارجة: أنَّ المرأة التي سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم السبت حدثته: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: ((لا لك ولا
عليك)) رواه أحمد، والطريق
الأول رواه عن ابن لهيعة: يحيى ابن اسحاق، والطريق الثاني رواه عنه: حسن بن موسى.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد [3 /198] عن عمير بن
جبير بدلاً من عبيد بن حنين وقال: "وعمير هذا لم أعرفه"؛ وهذا خطأ نشأ
عن تصحيف؛ قال الحافظ في [تعجيل المنفعة ص321]: ((عمير بن
جبير مولى خارجة عن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم السبت، وعنه
موسى بن وردان: لا يُعرف؛ قاله ابن شيخنا، واستدركه شيخنا الهيثمي على الحسيني،
وكذا قال في مجمع الزوائد: عمير بن جبير هذا لا أعرفه؛ وهو خطأ نشأ عن تصحيف، ونص
الحديث في المسند حدثنا حسن بن موسى ثنا بن لهيعة ثنا موسى بن وردان أخبرني عبيد
بن حنين مولى خارجة أنَّ المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم عن صوم يوم السبت
حدثته أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال
لها: " لا لك ولا عليك" وعبيد بن حنين بالمهملة ونونين مصغر مذكور في
التهذيب)).
فالحديث ورد في مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى من طريق ابن لهيعة عن
موسى بن وردان؛ عن عبيد الأعرج تارة، وعن عبيد بن حنين أخرى؛ وهذا الحديث رواته لا يخلو أحدهم من كلام:
1 - ابن لهيعة:
قال الحافظ في تهذيب التهذيب [5 /330]: ((قلت: قال الحاكم: استشهد به مسلم
في موضعين، وقال البخاري: تركه يحيى بن سعيد، وقال ابن مهدي: لا أحمل عنه شيئاً،
وقال ابن خزيمة في صحيحه: وابن لهيعة لست ممن أخرج حديثه في هذا الكتاب إذا
انفرد وإنما أخرجته لأنَّ معه جابر بن إسماعيل، وقال عبد الغني بن سعيد
الأزدي: إذا روى العبادلة عن بن لهيعة فهو صحيح؛ ابن المبارك وابن وهب والمقري،
وذكر الساجي وغيره مثله، وحكى ابن عبد البر: أنَّ الذي في الموطأ عن مالك عن
الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في العربان هو ابن لهيعة، ويقال: ابن
وهب حدثه به عنه، وقال يحيى بن حسان: رأيت مع قوم جزءاً سمعوه من ابن لهيعة، فنظرت
فإذا ليس هو من حديثه، فجئت إليه، فقال: ما أصنع يجيئوني بكتاب، فيقولون: هذا من
حديثك فأحدثهم، وقال ابن قتيبة: كان يقرأ عليه ما ليس من حديثه؛ يعني فضعف بسبب
ذلك، وحكى الساجي عن أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة من الثقات إلا أنه إذا
لقن شيئاً حدث به، وقال ابن المديني: قال لي بشر بن السري: لو رأيت ابن لهيعة
لم تحمل عنه، وقال عبد الكريم بن عبد الرحمن النسائي عن أبيه: ليس بثقة، وقال بن
معين: كان ضعيفاً لا يحتج بحديثه؛ كان من شاء يقول له: حدثنا، وقال بن خرش: كان
يكتب حديثه؛ احرقت كتبه: فكان من جاء بشيء قرأه عليه حتى لو وضع أحد حديثاً وجاء
به إليه قرأه عليه، قال الخطيب: فمن ثم الغرماء المناكير في روايته لتساهله، وقال
ابن شاهين قال أحمد بن صالح: ابن لهيعة ثقة وما روى عنه من الأحاديث فيها تخليط
يطرح ذلك التخليط، وقال مسعود عن الحاكم: لم يقصد الكذب وإنما حدث من حفظه بعد
احتراق كتبه فأخطأ، وقال الجوزجاني: لا يوقف على حديثه ولا ينبغي أن يحتج به ولا
يغتر بروايته، وقال بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن الإفريقي وابن لهيعة أيهما
أحب إليك؟ فقال: جميعاً ضعيفان؛ وابن لهيعة أمره مضطرب يكتب حديثه على الاعتبار،
قال عبد الرحمن: قلت لأبي: إذا كان من يروي عن ابن لهيعة مثل بن المبارك فابن
لهيعة يحتج به؟ قال: لا، قال أبو زرعة: كان لا يضبط، وقال بن عدي: حديثه كأنه
نسيان وهو من يكتب حديثه، وقال محمد بن سعد: كان ضعيفاً ومن سمع منه في أول
أمره أحسن حالاً في روايته ممن سمع منه بآخره، وقال مسلم في الكنى: تركه ابن
مهدي ويحيى بن سعيد ووكيع، وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، وقال ابن حبان:
سبرت أخباره فرأيته يدلس عن أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم، ثم كان لا يبالي
ما دفع إليه قرأه سواء كان من حديثه أو لم يكن؛ فوجب التنكب عن رواية المتقدمين
عنه قبل احتراق كتبه لما فيها من الأخبار المدلسة عن المتروكين، ووجب ترك الاحتجاج
برواية المتأخرين بعد احتراق كتبه لما فيها مما ليس من حديثه، وقال أبو جعفر الطبري
في تهذيب الآثار: اختلط عقله في آخر عمره انتهى)).
فهل مَنْ كان هذا حاله يُحتج بحديثه إذا انفرد، ولم يرو عنه أحد
العبادلة؟!.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله
تعالى في الفتح: ((وإذا تقرر ذلك: فابن لهيعة لا يحتج به إذا انفرد؛
فكيف إذا خالف؟))
بل إنَّ ما يدل على اختلاطه في هذا الحديث أيضاً: أنَّ حسن بن موسى – وهو
ثقة من رجال الشيخين - الذي روى عنه الطريق الأول ذكر فيه أنَّ المرأة سألت الرسول
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الصيام، أما في الطريق الثاني الذي رواه عنه
يحيى بن اسحق – وهو صدوق من رجال مسلم – ذكر أنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم دعاها للغداء دون سؤالها عن الصيام!! قال الشيخ الألباني بعد أن ذكر ذلك:
((وذلك بلا شك من تخاليط ابن لهيعة وسوء حفظه)) الصحيحة/1 .
2 - موسى بن وردان القرشي العامري أبو عمر المصري القاص، مولى عبد الله بن
سعد بن أبى سرح؛ قال فيه الحافظ في تهذيب التهذيب [10 /335]: ((قال محمد بن عوف عن
أحمد: لا أعلم إلا خيراً، وقال الدوري عن يحيى بن معين: كان يقص بمصر وهو صالح،
وقال عثمان الدارمي عن يحيى: ليس بالقوي، وقال بن أبي خيثمة عن يحيى: كان قاصاً
بمصر ضعيف الحديث، وقال العجلي: مصري تابعي ثقة، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، وقال
في موضع آخر: ليس بالمتين يكتب حديثه، وقال الآجري عن أبي داود: ثقة أصله مدني،
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو الأسود عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان وكان قاصاً
لا بأس به، وذكره أيضاً في ثقات التابعين من أهل مصر، وقال الدارقطني: لا بأس به
...، وقال أبو بكر البزار: مدني صالح روى عنه محمد بن أبي حميد أحاديث منكرة وأما
هو فلا بأس به، وقال ابن حبان: كثر خطأه حتى كان يروي المناكير عن المشاهير))،
ومرتبته عند الحافظ كما في التقريب [1/554] أنَّه: ((صدوق ربما أخطأ)).
3 – عبيد بن حنين؛ قال عنه الحافظ في تهذيب التهذيب [7/58]: ((روى عنه
الستة، عبيد بن حنين المدني أبو عبد الله مولى آل زيد بن الخطاب ويقال مولى بني
زريق ...، قال بن سعد: كان ثقة وليس بكثير الحديث، وقال
أبو حاتم: صالح الحديث، ذكره بن حبان في الثقات))، قال الألباني: ((قلت: وهو ثقة
من رجال الشيخين)).
4 – عبيد الأعرج لم أجد له ترجمة؛ فلعلّه عبيد بن
حنين نفسه، وبهذا يكون الحديث له طريق واحد عن المرأة الصحابية؛ والله أعلم.
ولهذا الكلام في الرواة: قال شيخ الإسلام في
[الإقتضاء ص264] عن هذا الحديث :((وهذا وإن كان إسناده ضعيفاً؛ لكن تدل
عليه سائر الأحاديث))، وقال ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود (7/51): ((وهذا
وإن كان في إسناده من لا يحتج به إذا انفرد؛ لكن يدل عليه ما تقدم من
الأحاديث))، وذكر الشيـخ الألباني في الصحيحـة [1 /445] أنَّ هذا الحديث بطريقَيه
المذكورَين آنفاً معلول؛ وعلته سوء حفظ ابن لهيعة؛ لكنَّه رجع فصححه في الموضع
السابق نفسه، لكونه وجد ما يشهد له عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه موقوفاً
عند النسائي تحت باب: [النهي عن صيام يوم السبت، وذكر اختلاف الناقلين لخبر عبد
الله بن بسر فيه] من طريق معاوية بن يحيى أبو مطيع قال: حدثني أرطأة قال: سمعت أبا
عامر قال: سمعت ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم السبت؟ فقال:
سلوا عبد الله بن بسر، فسئل، فقال: ((صيام السبت: لا لك ولا عليك)) [السنن الكبرى
2 /145].
فنقول: الحديث لو صحَّ – وأنَّى له ذلك – فلا يدلّ
على ما ذهبوا إليه؛ لأنَّ لفظة ((لا لكِ ولا عليكِ)) لا تعني الجواز؛ ولهذا وضع
الإمام النَّسائي هذا الأثر الموقوف تحت باب: ((النهي عن صيام يوم السبت))!!، مع
أنَّه ذكر بعده مباشرة باب: ((الرخصة في صيام يوم السبت)).
ثم إنَّ لفظه يشابه لفظ حديث: ((مَنْ صام الدهر: فلا
صام ولا أفطر)) رواه أحمد وغيره وصححه الألباني؛ مع أنَّ صيام الدهر منهيٌ عنه
بنصِّ قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ((لا صام من صام الأبد، لا صام من صام
الأبد، لا صام من صام الأبد)) رواه مسلم.
الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: ((لا يَصومنَّ أحدُكم يومَ الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده)) متفق عليه، وعن
أمِّ المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم
دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة؛ فقال: ((أصمت أمس؟))، قالت: لا، قال: ((تريدين أن
تصومي غداً؟))، قالت: لا، قال: ((فأفطري)).
فهذا هو الحديث الوحيد الذي يصح من الأدلة الخاصة التي استدل بها المجيزون
لصيام يوم السبت في غير الفرض؛ وليس فيه حجة لمن أجاز صيام السبت مفرداً كما هو
ظاهر؛ بل هو دليل لمن أجاز صيامه مقترناً بغيره؛ وهو جمعٌ بين حديث النهي عن صيام
يوم السبت وحديث جويرية وأبي هريرة هذا؛ والعمل بالدليلين خير من إهمال أحدهما؛
ولكن حقيقة هذا الجمع - لمن تأمَّل فيه - نقضٌ للإستثناء الوارد في حديث النهي عن
صيام يوم السبت ألا وهو "إلا فيما افترض عليكم" وقد قال شيخ الإسلام في
[الإقتضاء ص263]: ((ولا يقال: يحمل النهي على إفراده: لأنَّ لفظه "لا تصوموا
يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" والاستثناء دليل التناول، وهذا يقتضي
أنَّ الحديث يعم صومه على كل وجه؛ وإلا لو أريد إفراده: لما دخل الصوم المفروض
ليستثنى فإنه لا إفراد فيه، فاستثناؤه دليل على دخول غيره، بخلاف يوم الجمعة فإنه
بين أنه إنما نهى عن إفراده، وعلى هذا: فيكون الحديث إما شاذاً غير محفوظ،
وإما منسوخا؛ً وهذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه))؛ وقد سبق أن نقلنا كلام
تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ص2 ما يدلّ على مثل هذا الكلام إن لم يكن
نصّه.
وقد نقل الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في [تمام المِنَّة ص406] كلام ابن
القيم المشار إليه ثم زاد عليه بقوله: ((قلت: وأيضاً لو كانت صورة الاقتران غير
منهيٌ عنها: لكان استثناؤها في الحديث أولى من استثناء الفرض؛ لأنَّ شبهة شمول
الحديث له أبعد من شموله لصورة الاقتران؛ فإذا استثنى الفرض وحده: دلَّ على عدم
استثناء غيره كما لا يخفى)).
فمَنْ قال: بأنَّ يوم السبت إذا ضُمَّ إليه يوماً قبله أو يوماً بعده
ارتفعت عنه صورة النهي بدليل حديث جويرية وحديث أبي هريرة، يُقال له: أنت بهذا
الجمع الوهمي نقضت دلالة الاستثناء "إلا فيما افترض عليكم"!!، ويقال له:
لقد ساويت في الحكم بين صيام يوم السبت وصيام يوم الجمعة مع اختلاف ألفاظهما!!؛
ففي يوم السبت قال: " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" وفي
يوم الجمعة قال: " لا يَصومنَّ أحدُكم يومَ الجمعة إلا يوماً قبله أو
بعده"؛ فلو كان جمعك هو المراد من كلام النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
فما المانع أن يقول: " لا تصوموا يوم السبت إلا يوماً قبله أو بعده" وهو
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد أُتي جوامع الكَلِم.
ويُقال له: ((ومَنْ جمع بين ما فرَّقت السنة بينه:
فقد ضاهى قول الذين قالوا "إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا"))
[المجموع 21 /557].
فإن قال قائل: كما أنَّ الاستثناء في صيام يوم الجمعة قد استثني منه الصيام
المعتاد لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ((لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من
بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه
أحدكم)) رواه مسلم؛ قال النووي [شرح صحيح مسلم 8 /19]: ((يكره إفراد يوم الجمعة
بالصوم إلا أن يوافق عادة له: فإن وصله يوم قبله أو بعده, أو وافق عادة له
بأن نذر أن يصوم يوم شفاء مريضه أبداً, فوافق يوم الجمعة لم يكره))، وقال الحافظ
في [الفتح4 /234]: ((ويؤخذ من الاستثناء: جوازه لمن صام قبله أو بعده، أو اتفق
وقوعه في أيام له عادة بصومها؛ كمن يصوم أيام البيض أو من له عادة بصوم يوم
معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة؛ ويؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يوم قدوم زيد مثلاً
أو يوم شفاء فلان)).
فيوم الجمعة يجوز صومه بحالتين: الأولى: أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده،
والثانية: أن يصومه مفرداً إذا كان من الصيام المعتاد؛ كعرفة، وعاشوراء، وصيام يوم
وإفطار يوم (كمن: فطر الخميس ثم صام الجمعة ثم فطر السبت)؛ فكذلك الاستثناء الوارد
في حديث النهي عن صيام السبت قد استثني منه الحالتان السابقتان؛ الجمع مع غيره،
والصيام المعتاد للأحاديث الواردة في جواز صوم السبت ومنها حديث جويرية وحديث أبي
هريرة.
قال شيخ الإسلام في [الاقتضاء ص264-265]: ((وعلى هذا؛ فيكون قوله: "لا
تصوموا يوم السبت" أي: لا تقصدوا صيامه بعينه إلا في الفرض فإنَّ الرجل يقصد
صومه بعينه؛ بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا
يوم السبت فإنه يصومه وحده، وأيضاً فقصده بعينه في الفرض لا يكره بخلاف قصده بعينه
في النفل فإنه يكره، ولا تزول الكراهة: إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة،
فالمزيل للكراهة في الفرض: مجرد كونه فرضاً لا للمقارنة بينه وبين غيره، وأما في
النفل فالمزيل للكراهة: ضم غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك، قد يقال:
الاستثناء أخرج بعض صور الرخصة وأخرج الباقي بالدليل)) وتبعه تلميذه ابن القيم
فقال في التهذيب [7 /51] وقد سبق نقله: ((وأما في النفل: فالمزيل للكراهة ضم غيره
إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك، قالوا: وأما قولكم "إنَّ الاستثناء دليل
التناول إلى آخره" فلا ريب أنَّ الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي،
فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده: أخرجت بالدليل الذي تقدم؛ فكلا الصورتين
مخرج؛ أما الفرض: فبالمخرج المتصل، وأما صومه مضافاً: فبالمخرج المنفصل؛ فبقيت
صورة الإفراد: واللفظ متناول لها، ولا مخرج لها من عمومه: فيتعين حمله عليها)).
نقول: هذا الكلام مبنيٌ على مسألتين:
الأولى: مسألة الاستثناء الوارد في قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
((ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) هل
هو نفسه الاستثناء الوارد في قوله: ((لا يَصومنَّ أحدُكم يومَ الجمعة إلا يوماً
قبله أو بعده))؟ أم هو غيره؛ فيكون استثناء آخر في صيام يوم الجمعة؟
الثانية: الأحاديث (المُخرِج المنفصل كما عبَّر عنها ابن القيم) التي
استثنت صورتي الإضافة والصيام المعتاد من النهي عن صيام يوم السبت في غير الفرض؟
أما المسألة الأولى: فإننا لو نظرنا في الروايات الأخرى التي وردت في
الاستثناء من النهي عن صيام يوم الجمعة: لعلمنا أنَّ الاستثناء في جميعها واحد وهو
((إلا يوماً قبله أو يوماً بعده))؛ وإليك هذه الروايات؛ وقد أخرجها الإمام أحمد في
مسنده:
- عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا الدرداء:
((لا تختص ليلة الجمعة بقيام دون الليالي ولا يوم الجمعة بصيام دون الأيام)).
- وعن إياد بن لقيط قال: سمعت ليلى امرأة بشير تقول: إنَّ بشيراً سأل النبي
صلى الله عليه وسلم؛ أصوم يوم الجمعة ولا أكلم ذلك اليوم أحداً؟ فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: ((لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها أو في شهر، وأما أن لا
تكلم أحداً: فلعمري لأن تكلم بمعروف وتنهى عن منكر خير من أن تسكت)).
- وعن زياد الحارثي قال: سمعت أبا هريرة قال له رجل: أنت الذي تنهى الناس
عن صوم يوم الجمعة؟ قال: فقال: ((ها ورب هذه الكعبة ها ورب هذه الكعبة ثلاثاً؛ لقد
سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يصوم أحدكم يوم الجمعة وحده إلا في
أيام معه))، وفي رواية: ((لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا في أيام يصومه فيها))،
وفي أخرى: ((ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة إلا أن يكون في
أيام)).
- وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرد يوم الجمعة
بصوم.
- وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن صوم يوم الجمعة
إلا صوماً متتابعاً.
وقد ذكر الحافظ في الفتح [4 /233-234] بعض هذه الروايات؛ ولكنه توصل إلى ما
سبق ذكره عنه، وقد تعقبه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في الصحيحة [2 /732-733]
معلِّقاً على كلامه ذاك بقوله: ((لا يخفى على الفقيه البصير أنَّ الاستثناء
المذكور فيه مخالفتان:
الأولى: الإعراض عن الروايات المفسِّرة والمقيِّدة بجواز صيامه مقروناً
بيوم قبله أو بعده.
والأخرى: النهي المطلق عن إفراد صوم يوم الجمعة.
ومن المعلوم: أنَّ المطلق يجري على إطلاقه ما لم يأت ما يقيده؛ فإذا قُيد
بقيد لم يجز تعدّيه، ولا يصلح تقييد النهي هنا بما جاء من الفضل في صوم يوم معيَّن
كعرفة أو عاشوراء أو أيام البيض؛ لمخالفته: الحاظر مقدَّم على المبيح ...
[ثم ذكر رحمه الله تعالى السبب الداعي لهذا الاستدراك، وما حصل معه من نقاش
حول جواز إفراد صيام الجمعة إذا وافق صيام عرفة ثم قال:] وتواردت عليَّ الأسئلة من
كل البلاد، وبخاصة من بعض طلاب الجزائر، فكنت أجيبهم بخلاصة ما تقدَّم، فراجعني في
ذلك بعضهم بكلام الحافظ؛ ففصلت له القول تفصيلاً على هذا النحو، وذكَّرته ببعض
الروايات التي ذكرها الحافظ نفسه؛ وأحدها: " .. يوم الجمعة وحده، إلا في أيام
معه"، وفي شاهد له بلفظ: "إلا في أيام هو أحدها"؛ فالجواز الذي
ذكره الحافظ يخالِف القاعدة والقيد المذكورين)).
وأصل هذا الخلاف بين الحافظ وبين الألباني الاستثناء الوارد في حديث:
" ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه
أحدكم" ما هو المراد به؟ هل المراد: إلا أن يكون يوم الجمعة مع صوم يصومه
أحدكم؛ كما هو مراد الألباني، أم المراد به: إلا أن يكون يوم الجمعة وافق صوم
اعتاده أحدكم؛ كما هو مراد الحافظ.
والظاهر: أنَّ ما ذهب إليه الشيخ الألباني هو الصواب؛ لِما ذكره من
مخالفتين في استثناء الحافظ، والله أعلم.
أما المسألة الثانية: فإنَّ الأحاديث (أو المُخرِج المنفصل كما عبَّر عنها
ابن القيم) التي استثنت صورتي الإضافة والصيام المعتاد من النهي عن صيام يوم السبت
في غير الفرض: هي كما قلنا أدلة عامة وأدلة خاصة؛ فأما العامة فسيأتي الكلام
عليها، وأما الخاصة؛ فهي إما أن تكون أدلة ضعيفة وقد سبق بيان ذلك، وإما صحيحة؛
وهي حديث جويرية وحديث أبي هريرة في النهي عن صيام يوم الجمعة مفرداً؛ هذه هي
خلاصة الأدلة التي تعارض حديث النهي عن صيام السبت في غير الفرض.
أما التعارض بين حديث جويرية رضي الله تعالى عنها وبين حديث النهي عن صيام
يوم السبت في غير الفرض:
فيمكن أن يقال: أنَّ حديث جويرية في مَنْ صام الجمعة ولم يصم الخميس من غير
أن يعلم أنَّ يوم الجمعة لا يجوز صومه إلا إذا ضمَّ إليه يوماً قبله أو يوماً
بعده؛ فيكون صيام يوم السبت في حقه فرضاً للخروج من ذلك النهي؛ وهذا ما توصل إليه
الشيخ الألباني وذكره في الاستدراكات على الصحيحة [2 /774 استدراك رقم (16- 980)]
حيث قال: ((لا تعارض والحمد لله؛ وذلك بأن نقول: مَنْ صام يوم الجمعة دون الخميس
فعليه أن يصوم السبت، وهذا فرض عليه لينجو من إثم مخالفته الإفراد ليوم الجمعة،
فهو في هذه الحالة داخل في عموم قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في حديث
السبت: "إلا فيما افترض عليكم"؛ ولكن: هذا إنما هو لمن صام الجمعة وهو
غافل عن النهي عن إفراده، ولم يكن صام الخميس معه كما ذكرنا، أما مَنْ كان على علم
بالنهي: فليس له أن يصومه، لأنه في هذه الحالة يصوم ما لا يجب أو يفرض عليه، فلا
يدخل – والحالة هذه - تحت العموم المذكور)).
فإن قال قائل: فحديث أبي هريرة: " لا يَصومنَّ أحدُكم يومَ الجمعة إلا
يوماً قبله أو بعده" عام؛ في مَنْ علم ومَنْ لم يعلم؟
يقال له: يُحمل على المفهوم من حديث جويرية السابق؛ أي مَنْ أراد صيام يوم
الجمعة فعليه أن يصوم يوماً قبله، فإن صام الجمعة ولم يصم يوماً قبله لعدم علمه
بالنهي عن صيام الجمعة مفرداً: كان صيام السبت فرضاً في حقه؛ هذا هو الطريق الذي
تجتمع به الأدلة؛ أو يُقال: أنَّ حديث أبي هريرة عام؛ حيث ذكر جواز صيام الجمعة
إذا ضمّ إليه يوم قبله وهو الخميس أو يوم بعده وهو السبت، وحديث النهي عن صيام يوم
السبت في غير الفرض خاص؛ أي خصص جواز صيام الجمعة إذا ضمّ إليه يوم قبله، أما
اليوم الذي بعده وهو السبت فيبقى منهيٌ عنه؛ وهذا - على التحقيق - جمع بين الأدلة
وليس ترجيحاً؛ قال الشوكاني في إرشاد الفحول: ((وأما المرجحات
باعتبار المتن فهي أنواع؛ النوع الأول: أن يقدم الخاص على العام؛ كذا قيل!!، ولا
يخفاك أن تقديم الخاص على العام بمعنى العمل به فيما تناوله، والعمل بالعام فيما
بقي ليس من باب الترجيح؛ بل من باب الجمع؛ وهو مقدّم على الترجيح)).
فإن لم ترضَ بهذين الجمعيين: فاعلم أنَّ الأدلة متعارضة؛ وحينئذ لا بدَّ لك
من التسليم لقواعد الترجيح: كقاعدة "المنطوق مقدَّم على المفهوم" وانظر
[نيل الأوطار 1/277]؛ فحديث جويرية وأبي هريرة مسوق أصالة في حكم صوم يوم الجمعة؛
أي في متى يشرع صومه؟ فكان قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ((إلا يوماً قبله
أو بعده))، أما جواز صوم يوم السبت من هذين الحديثين فيؤخذ تبعاً من قوله ((أو
بعده))، أما لو نظرنا إلى حديث النهي عن صيام يوم السبت: علمنا أنَّ الحديث مسوق
أصالة في حكم صوم السبت؛ متى يشرع صومه؟ فكان قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
((إلا فيما افترض عليكم))؛ والمسوق أصالة مقدَّم على المسوق تبعاً.
وللتوضيح: نضرب مثالاً – لعلنا نتفق فيه – لنفهم هذه القاعدة:
قال صلى الله عليه وسلم: ((أما إنه ليس في النوم تفريط؛ إنما التفريط على
مَنْ لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك: فليصلها حين ينتبه
لها)) رواه مسلم وغيره. هذا الحديث يُفهم منه: أنَّ وقت صلاة الفجر ينتهي إلى زوال
الشمس (وقت صلاة الظهر)!!؛ وهذا خلاف الإجماع والنص الوارد في حديث عبد
الله بن عمرو: ((وقت صلاة الفجر: ما
لم يطلع قرن الشمس الأول)) رواه مسلم وغيره، وأنَّ صلاة العشاء إلى وقت الفجر
الأول!!؛ وهذا خلاف النص الوارد في الحديث السابق: ((ووقت صلاة العشاء: إلى نصف
الليل))، ولهذا نقدِّم حديث عبد الله بن عمرو على الحديث الأول؛ لأنَّه مسوق
أصالةً في تحديد أوقات الصلوات الخمس، أما الحديث الثاني فمسوق أصالةً في بيان ما
يُقبل وما لا يقبل من الأعذار في التأخر عن الصلاة في وقتها، ويُفهم منه تبعاً ما
ذكرناه آنفاً، لكن المسوق أصالة مقدَّم عند التعارض على المسوق تبعاً.
فنقول: حديث جويرية وأبي هريرة يدل بدلالة المفهوم، أما حديث النهي عن صوم
السبت في غير الفرض فيدل بدلالة المنطوق؛ وقد قال الشوكاني في إرشاد الفحول ص178:
((فالمنطوق:
ما دلََّ عليه اللفظ في محل النطق، أي: يكون حكماً للمذكور وحالاً من أحواله، والمفهوم:
ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، أي: يكون حكماً لغير المذكور وحالاً من أحواله،
والحاصل: أنَّ الألفاظ قوالب للمعاني المستفاد منها؛ فتارة تستفاد منها من جهة
النطق تصريحاً، وتارة من جهته تلويحاً، فالأول: المنطوق، والثاني: المفهوم))، ثم
قال رحمه الله تعالى في المسألة الثالثة: ((شروط القول بمفهوم المخالفة: الأول: أن
لا يعارضه ما هو أرجح منه، من منطوق أو مفهوم موافقة ...، الشرط الخامس: أن
يذكر مستقلاً، فلو ذكر على وجه التبعية لشيء آخر، فلا مفهوم له، كقوله
تعالى: {وَلاَ تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ}،
فإنَّ قوله تعالى: {فِي الْمَسَـاجِدِ} لا مفهوم
له، لأنَّ المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقاً))؛ وهذان الشرطان لا يتحققان في الحكم
المفهوم من حديث جويرية وأبي هريرة؛ كما أوضحنا ذلك.
ثم حديث جويرية وأبي
هريرة يدل على جواز السبت؛ وهذا واضح من التخيير بين صيام يوم قبل الجمعة أو
بعدها؛ وحديث: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)) يدل على النهي من
صيام السبت، بل وفي الطرف الثاني من حديث
النهي ألا وهو ((فإنْ لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة: فليمضغه)) الأمر
بإفطار يوم السبت، والمبالغة فيه كما هو ظاهر؛ وقد ذكر الشوكاني في إرشاده وهو
يعدد المرجحات عند تعارض الأدلة: ((النوع التاسع عشر: أنه يُقدَّم النهي
على الإِباحة، النوع العشرون: أنه يُقدَّم الأمر على الإِباحة))؛ وعندنا هنا: أمرٌ
ونهيٌ، فيتقدمان على الإباحة.
فإن قلت: ولماذا لا
نجمع بينهما فنقول: النهي عن صيام يوم السبت تطوعاً إذا كان مفرداً، وجوازه إذا
كان مجتمعاً بغيره؛ لحديث جويرية وأبي هريرة؟!
قلنا: أنَّ من شروط
الجمع أن يكون بوجه مقبول؛ قال الشوكاني في إرشاده: ((ومن شروط الترجيح التي لا بد
من اعتبارها: أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول، فإن أمكن ذلك: تعين
المصير إليه ولم يجز المصير إلى الترجيح))؛ وهذا الوجه من الجمع غير مقبول؛ لأنه
يعود على حديث النهي عن صيام يوم السبت في غير الفرض بالنقض؛ وقد تقدم ما يؤكِّد
ذلك من كلام شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم؛ فارجع إليه وتأمَّل فيه.
نوضح ذلك فنقول: أنَّ
حديث:((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)) يدلّ على النهي عن صيام السبت
في جميع صوره إلا صورة الفرض؛ فإذا قلت: يجوز صومه تطوعاً إذا ضمّ له يوم آخر،
فأنت بهذا التجويز قد نقضت صورة الاستثناء؛ وهي الفرض، ولا ينفعك آنذاك أن تضمّ
إليه يوماً آخر.
وقولك ذاك يُحتَمل لو
كان النهي بلا استثناء؛ أي: ((لا تصوموا يوم السبت)) أو بغير ذلك الاستثناء؛ مثل:
((لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوماً قبله أو بعده)) أو مثل: ((إلا أن يكون
في صوم يصومه أحدكم)) كما جاء في صيام يوم الجمعة؛ أما وقد ورد بهذا الاستثناء
((إلا فيما افترض عليكم))؛ فالمتعين أن يُحمل التجويز على صورة الفرض لا غير.
وبهذا التفصيل – وإن
كان فيه إطالة وشيء من التكرار؛ لكن المقام يحتاج إلى ذلك؛ لاختلاف المخاطَبين –
ينتهي الكلام حول الأدلة الخاصة التي استدل بها المجيزون لصيام السبت في غير
الفرض؛ وها نحن نشرع بالكلام حول جواب أصحاب القول الأول عن استدلال أصحاب القول
الثاني بالأدلة العامة:
ب - جوابهم عن الأدلة العامة:
استدل أصحاب القول الثاني؛ أي المجيزون لصيام يوم السبت في غير الفرض بأدلة
عامة تدل على استحباب صيام أيام محددة؛ مثل صيام عرفة، وصيام عاشوراء، وصيام يوم
وإفطار يوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ست من شوال، وصيام العشر الأوائل
من ذي الحجة، وصيام أكثر شعبان، وصيام شهر الله المحرَّم؛ فقالوا: قد حثَّ الشرع
بالأدلة الصحيحة على استحباب هذه الأيام، ولابدَّ أن يكون فيها يوم السبت أو توافق
يوم السبت، ولم يرد في أدلتها استثناء يوم السبت؛ فهذا دليل على جواز صومها ولو
وافقت يوم السبت؛ لأنَّ القاعدة تنص على أنَّه: "لا يجوز تأخير البيان عن وقت
الحاجة"، ولم يبين لنا النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فدلَّ ذلك على
جوازه؟
قال أصحاب القول الأول: الجواب من أربعة وجوه:
الأول: أنَّ الاستثناء (أو التخصيص) نوعان: متصل، ومنفصل؛ كما لا يخفى،
ومثال على ذلك أنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال في قطع يد السارق:
" لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً " أخرجه الشيخان، فليس كل مَنْ سرق
تقطع يده؛ بل الأمر مقدَّر بهذا القدر من المال؛ وهذا التخصيص من نوع المتصل، لكن
مقدار الحد الذي يُقطع منه: لم يُذكر في هذا الحديث وإنَّما ذُكر بدليل خارج عن
هذا النص ألا وهو فعله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أو فعل أصحابه وإقراره؛
فإنهم كانوا يقطعون يد السارق من عند المفصل (الكف) كما هو معروف في كتب الحديث؛
فهذا التخصيص من نوع المنفصل.
فهل يقول قائل: أنا لا أتقيد بهذا الحديث وبهذا الإقرار لأنَّ الله تعالى
يقول: "والسارق والسارق فاقطعوا أيديهما" فكل مَنْ سرق يجب أن تقطع يده
كلها من الكتف؛ لأنَّه لو كان هناك مقدار للمال الذي تُقطع به اليد، ومقدار للحد
الذي تُقطع منه لبينه الله تعالى!!.
نقول: لا يقول بهذا قائل إلا مَن جهل ذلك الحديث وذلك الإقرار، أو لم يثبتا
عنده!!.
فنقول: وكذلك الاستثناء من صيام يوم السبت وإن لم يرد ذكره في تلك الأيام
المستحب صيامها، لكنه ذُكر في دليل خارج عنها ألا وهو ((لا تصوموا يوم السبت إلا
فيما افترض عليكم)).
فإن قال: فلماذا لم تقبلوا الاستثناء في النهي عن صيام يوم السبت بـ
(الاجتماع مع غيره) أو (الصيام المعتاد) مع ورودها في أدلة منفصلة؟
قلنا: نحن رفضنا ذلك الاستثناء لا لأنَّه ورد بدليل منفصل ولا نقبل إلا
المتصل؛ بل لأنَّ الاستثناء الذي ادعيتموه هو مجرد رأي وليس نصاً من كلام الشرع،
ولقد تكلَّمنا عن تلك الأدلة المنفصلة التي أوردتموها بما لا نحتاج إلى إعادته.
الوجه الثاني: نقول لكم: أيهما أبلغ بياناً وأجمع كلاماً؛ أن يذكر النبي
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مع كل حديث ورد في استحباب تلك الأيام عبارة:
"إلا إذا كان يوم السبت فلا تصوموا" والأحاديث كثيرة كما لا يخفى، أم أن
يقول: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" هكذا؛ فتصبح قاعدة
عامة تبين: أنَّ صيام النوافل مشروع في كل أيام السنة إلا في يوم السبت؛ لاشكَّ
أنَّ الثاني أبلغ بياناً، فكيف بمن أُوتي جوامع الكَلِم؟!، ثم أنَّ هناك يومي
العيد وأيام التشريق كذلك منهيٌ عن صيامها، يوضحه:
الوجه الثالث: قد ورد عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنَّه نهى عن صوم
يوم الفطر والنحر، كما أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرج عن
عائشة وعن ابن عمر رضي الله عنهم قالا: لم يرخِّص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن
لم يجد الهدي، قال ابن قدامة المقدسي في [المغني 3 /51]: ((أجمع أهل العلم على أنَّ
صوم العيدين منهي عنه، محرَّم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة ...، وأما
صومهما عن النذر المعين: ففيه خلاف))؛ فلو وافق الاثنين أو الخميس أو الأيام البيض
أو صيام يوم وإفطار يوم في يوم العيد؛ فهل تجوِّزون صيام هذه الأيام لأنَّها لم
يرد فيها استثناء يوم العيد؟! إن قلتم: نعم؛ خالفتم إجماع أهل العلم، وإن قلتم: لا
نصومها إذا وافقت يوم العيد؛ قلنا لكم: وكذلك لا تصام إذا وافقت يوم السبت؛ وبنفس
جوابكم وعذركم نجيب ونعتذر.
فإن قلتم: الأمر يختلف؛ لأنَّ يومي العيد مجمعٌ على حرمة صيامهما، أما
السبت فمختلف فيه.
قلنا لكم: إنَّ هذا خروج عن موضوع المشابهة؛ لأنَّه سواء كان ذلك اليوم
المنهي عن صيامه قد ثبت النهي عنه بالنَّص أو بالإجماع؛ نقول: إذا وافق صيام مستحب
فهل يُصام فيه أم لا؟ فإن قلتم: لا يُصام إذا كان مجمع عليه؛ قلنا لكم: ما علاقة
الإجماع - وهو مبنيٌ على الحديث - في حرمة صيامه؟!.
ثم اعلموا أنَّ هذا الأمر يجر إلى أمر أعظم منه ألا وهو: عدم العمل بدلالة
النص إلا إذا اجتمع أهل العلم على القول به!!، وهذا يعني تعطيل العمل بالكثير من
النصوص لعدم الإجماع عليها!!؛ ذلك لأنَّكم فرقتم في الحكم بين حالتين متشابهتين لا
لشيء إلا لكون إحداهما مجمعٌ عليها والأخرى مختلف فيها!!.
وقد ذكر شيخ
الإسلام رحمه الله تعالى في إبطال مثل هذا الكلام وجوهاً عديدة في نهاية كتابه رفع
الملام، ومن ذلك قوله: ((الثاني: أنَّ كون حكم الفعل مجمعاً عليه أو مختلفاً فيه
أمور خارجة عن الفعل وصفاته، وإنما هي أمور إضافية بحسب ما عرض لبعض العلماء من
عدم العلم))، ثم قال في الوجه الثالث: ((فلو كانت الصورة المرادة هي ما أجمعوا
عليه فقط؛ لكان العلم بالمراد موقوفاً على الإجماع فلا يصح الاحتجاج به قبل
الإجماع، فلا يكون مستنداً للإجماع، لأنَّ مستند الإجماع يجب أن يكون متقدِّماً
عليه فيمتنع تأخره عنه، فإنه يفضي إلى الدور الباطل؛ فإنَّ أهل الإجماع حينئذ لا
يمكنهم الاستدلال بالحديث على صورة حتى يعلموا أنها مرادة، ولا يعلمون أنها مرادة
حتى يجتمعوا!!، فصار الاستدلال موقوفاً على الإجماع قبله، والإجماع موقوفاً على
استدلالٍ قبله!!؛ إذا كان الحديث هو مستندهم، فيكون الشيء موقوفاً على نفسه!!،
فيمتنع وجوده، ولا يكون حجة في محل الخلاف لأنه لم يرد، وهذا تعطيل للحديث عن
الدلالة على الحكم في محل الوفاق والخلاف، وذلك مستلزم أن لا يكون شيء من النصوص
التي فيها تغليظ للفعل أفادنا تحريم ذلك الفعل: وهذا باطل قطعاً))
وقال
في الوجه الرابع: ((وإذن يبطل الاحتجاج بحديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمجرد خلاف واحد من المجتهدين!!؛ فيكون قول الواحد مبطلاً
لكلام رسول الله وموافقته محققة لقول رسول الله!!، وإذا كان ذلك الواحد قد أخطأ
صار خطؤه مبطلا لكلام رسول الله!!؛ وهذا كله باطل بالضرورة، فإنه إن قيل: لا يحتج
به إلا بعد العلم بالإجماع صارت دلالة النصوص موقوفة على الإجماع، وهو خلاف الإجماع،
وحينئذ فلا يبقى للنصوص دلالة فإنَّ المعتبر إنما هو الإجماع، والنصُّ عديم
التأثير، وإنْ قيل: يحتج به إذ لا يعلم وجود الخلاف؛ فيكون قول واحد من الأمة
مبطلاً لدلالة النص وهذا أيضاً خلاف الإجماع، وبطلانه معلوم بالاضطرار من دين
الإسلام)).
هذا
ولولا الإطالة في النقل لنقلتُ كلامه بطوله فانظر إن شئت ما دوَّنه رحمه الله
تعالى في بيان ذلك [المجموع 20/ 269- 279].
قلتُ: وهكذا – على ما ذكرناه - كان فقه الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ فعن
زياد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: رجلٌ نذر أن يصوم يوماً
– قال: أظنه قال الاثنين - فوافق ذلك يوم عيد؟ فقال ابن عمر: أمر الله بوفاء النذر
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم. رواه البخاري؛ وانتبه إلى أنَّ
هذا الرجل الذي جاء ليسأل ابن عمر نذر أن يصوم يوماً فوافق يوم العيد؛ ومسألة
النَّذر المعيَّن مختلفٌ فيها كما ذكر ابن قدامة فيما سبق عنه؛ ومع هذا أجابه بما
فَهِمَ منه السائل المنع من صومه، فلا عبرة بالخلاف مع النصِّ الثابت الصريح وإلا
في تلك الإلزامات التي ذكرها شيخ الإسلام آنفاً.
الوجه الرابع: أنَّ هذه الأدلة الدالة على استحباب تلك الأيام عامة؛ بمعنى:
أنَّها على مدار أيام السنة؛ السبت والأحد إلى آخر أيام الأسبوع؛ وحديث: ((لا
تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)) خاص في حكم صيام يوم السبت؛ فيكون الجمع:
أنَّ هذه الأيام يشرع صيامها على مدار أيام السنة أو السنين إلا في أوقات النهي؛
ومنها يوم السبت.
وبهذا تنتهي أجوبة أصحاب القول الأول عن أدلة أصحاب القول الثاني العامة
والخاصة؛ والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله، وها نحن نُكمل ما
اعترض به المصححون للحديث من أصحاب القول الثاني:
ج - ومنهم من احتج بأنه قول العلماء عامة أو قول أكثرهم.
فيقال لهم: أما ادعاء الإجماع على مشروعية صيام السبت في غير الفرض بصورتيه
التي ذكرها أهل العلم؛ أي: إذا ضمَّ إليه يوماً آخر، أو إذا لم يقصد صومه بعينه؛
فهذا الإجماع مردود بقول الطحاوي: ((فذهب قوم إلى هذا
الحديث: فكرهوا صوم يوم السبت تطوعاً، وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بصومه
بأساً)) وقد تم نقله في مقدمة هذه الرسالة.
وقد بَيَّن هؤلاء القوم المشار إليهم الحافظ بدر الدين العيني في كتابه
[نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار 8 /433] فقال: ((قال أبو
جعفر رحمه الله: "فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَكَرِهُوا صَوْمَ
يَوْمِ السَّبْتِ تَطَوُّعًا"، أراد بالقوم هؤلاء: مجاهداً وطاوس بن كيسان
وإبراهيم [أي: النخعي] وخالد بن معدان [وهو راوي حديث الصماء]، فإنهم كرهوا صوم
يوم السبت تطوعاً، واحتجّوا في ذلك بالحديث المذكور)).
قلتُ:
فكراهة الصوم عند هؤلاء لكونه صوماً تطوعاً، والكراهة هنا محمولة على
التحريم لزوماً، لأنه لو كان قصد الطحاوي الكراهة التنزيهية لما قال بعدها في
الأحاديث المخالفة لحديث الصماء: ((فَفِي هَذِهِ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي
هَذَا إِبَاحَةُ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ تَطَوُّعًا))، ومعلوم أنَّ الكراهة لا
تعارض الإباحة.
وحمل لفظ "الكراهة" في
كلام السلف المتقدِّمين إلى كراهة التنزيه لا التحريم غلط؛ أشار إليه الإمام ابن
القيم في [إعلام الموقعين 1/39-43] بقوله: ((قد غلط كثير من المتأخرين من أتباع
الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك؛ حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ "التحريم"
وأطلقوا لفظ "الكراهة" فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة
الكراهة، ثم سهل عليهم لفظ "الكراهة" وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم
على التنزيه!!، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى، وهذا كثير جداً في
تصرفاتهم، فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة.
وقد قال الإمام أحمد في الجمع
بين
الأختين بملك اليمين أكرهه ولا أقول هو حرام ومذهبه تحريمه، وإنما تورع عن
إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان، وقال
أبو القاسم الخرقي فيما نقله عن أبي عبد الله: ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب
والفضة ومذهبه أنه لا يجوز – ثم ذكر رحمه الله تعالى على ذلك أمثلة من فقه الأئمة
الأربعة - ثم قال:
وأطلق لفظ "الكراهة"
لأنَّ الحرام يكرهه الله ورسوله، وقد قال تعالى عقيب ذكر ما حرمه من المحرمات من
عند قوله: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه إلى قوله ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما
إلى قوله ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق إلى قوله ولا تقربوا الزنا إلى قوله ولا
تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى قوله ولا تقربوا مال اليتيم إلى قوله
ولا تقف ما ليس لك به علم إلى آخر الآيات ثم قال: "كل ذلك كان سيئه عند ربك
مكروهاً" وفي الصحيح: "إنَّ الله عز وجل كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال
وإضاعة المال".
فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في
معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله، أما المتأخرون فقد اصطلحوا على
الكراهة تخصيص بما ليس بمحرم وتركه أرجح من فعله، ثم حمل من حمل منهم كلام
الأئمة على الاصطلاح الحادث فغلط في ذلك، وأقبح غلطاً منه من حمل لفظ
"الكراهة" أو لفظ "لا ينبغي" في كلام الله ورسوله على المعنى
الاصطلاحي الحادث، وقد اطرد في كلام الله ورسوله استعمال "لا ينبغي" في
المحظور شرعاً أو قدراً في المستحيل الممتنع ...)).
وظاهر الحديث يدل على التحريم
وبخاصة قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإنْ لم يجد أحدكم إلا
لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه)) فهل يُقال مثل هذا في المكروه كراهة تنزيه؟!.
كما نقلنا كذلك قول أحد العلماء المعاصرين وهو الشيخ ابن عثيمين وأنَّه
قال: ((وأما السبت؛ فقيل: إنه كالأربعاء والثلاثاء يباح، وقيل: إنه لا يجوز إلا في
الفريضة، وقيل: إنه يجوز لكن بدون إفراد)).
فقول الطحاوي: ((فكرهوا صوم يوم السبت تطوعاً))، وقول العثيمين: ((لا يجوز
إلا في الفريضة)) يدلَّ على أنَّ هذا القول – عدم مشروعية الصيام في غير الفرض –
من أقوال المختلفين؛ فكيف يُدَّعى ذاك الإجماع؟!.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله
تعالى [إعلام الموقعين 1 /30] في وصف الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ((ولم يكن يقدم
على الحديث الصحيح عملاً ولا رأياً ولا قياساً ولا قول صاحب ولا عدم علمه
بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعاً ويقدمونه على الحديث الصحيح؛ وقد
كذَّب أحمد من ادعى هذا الإجماع ولم يسوغ تقديمه على الحديث الثابت، وكذلك الشافعي
أيضاً نص في رسالته الجديدة على: أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع،
ولفظه: "ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعاً" وقال عبد الله بن أحمد بن
حنبل سمعت أبي يقول" ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو
كاذب، لعل الناس اختلفوا ما يدريه ولم ينته إليه، فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا،
هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغني ذلك
هذا لفظه.
ونصوص رسول الله صلى الله عليه
وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدِّموا عليها توهم إجماع
مضمونه عدم العلم بالمخالف، ولو ساغ لتعطلت النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفاً
في حكم مسألة أن يقدِّم جهله بالمخالف على النصوص؛ فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد
والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده)).
فإنْ قال قائل: فمَنْ من هؤلاء ذهب إلى عدم مشروعية الصيام في غير الفرض؟!
قلنا: الجهل بالقائل لا يُغيِّر من المسألة شيئاً بعد أن ثبت الخلاف فيها،
فليس معرفة القائل هو الأصل أو المراد وإنَّما معرفة أنَّ المسألة من مسائل الخلاف
هو المراد، وقد ثبت ذلك؛ وللعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى كلمة قيمة يجب أن
تستقرَّ في النفس ولا تغيب عن الذهن ألا وهي قوله في كتاب [الروح 264]: ((فصل؛
والفرق بين تجريد متابعة المعصوم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها: أنَّ تجريد
المتابعة أنْ لا تقدم على ما جاء به قول أحد ولا رأيه كائناً من كان، بل تنظر في
صحة الحديث أولاً، فإذا صح لك نظرت في معناه ثانياً؛ فإذا تبين لك: لم تعدل عنه
ولو خالفك مَنْ بين المشرق والمغرب.
ومعاذ الله أن تتفق الأمة على مخالفة ما جاء به نبيها صلى الله عليه وسلم؛ بل
لا بدَّ أن يكون في الأمة مَنْ قال به ولو لم تعلمه، فلا تجعل جهلك بالقائل به حجة
على الله ورسوله؛ بل اذهبْ إلى النص ولا تضعف، وأعلم أنه قد قال به قائل قطعاً
ولكن لم يصل إليك.
هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في
حفظ الدين وضبطه؛ فهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة، ولكن لا يوجب هذا إهدار
النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة أنه أعلم بها منك؛ فإن كان كذلك فمن
ذهب إلى النص أعلم به منك فهلا وافقته إن كنت صادقاً.
فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم
يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم؛ بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك، فمتبعهم حقاً
مَنْ امتثل ما أوْصَوا به، لا مَنْ خالفهم، فخلافهم في القول الذي جاء النص بخلافه
أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من: تقديم النص على
أقوالهم.
ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كلَّ ما قال وبين الاستعانة بفهمه
والاستضاءة بنور علمه؛ فالأول: يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب لدليله من الكتاب
والسنة؛ بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به ولذلك سمى تقليداً، بخلاف
ما استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه،
فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن
الاستدلال بغيره، فمن استدل بالنجم على القبلة؛ فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله
بالنجم معنى، قال الشافعي: أجمع الناس على أنَّ من استبانت له سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد)).
وقال في [الصلاة وحكم تاركها ص115]: ((وقد أنكر الأئمة كالإمام أحمد
والشافعي وغيرهما دعوى هذه الإجماعات التي حاصلها عدم العلم بالخلاف، لا العلم
بعدم الخلاف فإنَّ هذا مما لا سبيل إليه إلا فيما علم بالضرورة أنَّ الرسول جاء
به!!.
وأما ما قامت الأدلة الشرعية عليه فلا يجوز لأحد أن ينفي حكمه لعدم علمه
بمن قال به؛ فإنَّ الدليل يجب اتباع مدلوله، وعدم العلم بمن قال به لا يصح أن
يكون معارضاً بوجه ما؛ فهذا طريق جميع الأئمة المقتدى بهم)).
بل لعلَّ الجهل بالقائلين بالخلاف خير للباحث من حيث التجرد للحق ودفع
الهوى الخفي من التعصب للقائل دون الحق؛ كما قال العلامة السعدي في المناظرات
الفقهية: ((ومن فوائد ذلك: أنَّ الأقوال التي يراد المقابلة بينها ومعرفة راجحها من
مرجوحها أن يقطع الناظرُ والـمُناظرُ النظرَ عن القائلين؛ فإنه ربما كان ذكر
القائل مغتراً عن مخالفته، وتوجب له من الهيبة أن يكفَّ عن قول ينافي ما قاله)).
أما أنَّ ما ذهب إليه المجيزون لصيام السبت في غير الفرض هو قول أكثر أهل
العلم أو جمهورهم؛ فيقال لهم: نعم هو كذلك؛ لكن الكثرة لا تدل على الصواب وليست
مقياساً لمعرفة الحق كما هو معلوم من أدلة الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح؛ ولا
أظننا نحتاج إلى ذكر ذلك، لكن أُعجبت بكلمة لابن حزم تناسب هذا المقام؛ وهي قوله
في [الإحكام 2 /186-187] لما أورد قول الخصم: "وقالوا: نرجِّح أحد الخبرين بأن
يكون يميل إليه الأكثر من الناس" فردَّ عليه بقوله: ((ولأنَّ كثرة القائلين
بالقول لا تُصَحِّح ما لم يكن صحيحاً قبل أن يقولوا به، وقلة القائلين بالقول لا
تُبطِل ما كان حقاً قبل أن يقول به أحد؛ وقد بينا هذا جداً في باب: "إبطال
قول من رجح الخبر بعمل أهل المدينة" في آخر هذا الباب، وأيضاً: فإنَّ القول
قد يكثر القائلون به بعد أن كانوا قليلاً، ويقلّون بعد أن كانوا كثيراً؛ فقد كان
جميع أهل الأندلس على مذهب الأوزاعي رحمه الله ثم رجعوا إلى مذهب مالك، وقد كان
جمهور أهل إفريقية ومصر على مذهب أبي حنيفة وكذلك أهل العراق ثم غلب على إفريقية
مذهب مالك وعلى مصر والعراق مذهب الشافعي؛ فيلزم على هذا: أنَّ القول إذا كثر
قائلوه صار حقاً وإذا قلوا كما ذكرنا عاد باطلاً؛ وهذا هو الهذيان نفسه)).
د – ومنهم من ذهب إلى القياس؛ وهم قسمان:
1 – من قال: أنَّ صيام النوافل المؤكدة والصوم المعتاد يدخلان في لفظة
"إلا في ما افترض عليكم".
2 – من قال: النهي عن الصيام في يوم منهي عن صيامه مثل السبت كالنهي عن
الصلاة في وقت منهي عن الصلاة فيه؛ فكما أنّه تجوز صلاة ذات الأسباب في وقت النهي؛
كذلك يجوز صيام النوافل المؤكدة والمعتادة في الأيام التي نهى الشرع عن صيامها.
فيقال لهم:
أ – أنَّ هذا اجتهاد في مقابل النَّص؛ وأهل العلم يقولون: " لا اجتهاد
في مورد النَّص".
ب – أنَّ دخول صيام النَّافلة المعتاد والمؤكَّد في اصطلاح
"الفرض" غريب، ويُعارض قول النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن ربِّ
العزة: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إلي عبدي بشيء أحب إلي
مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ...)) وهو في صحيح
البخاري؛ فالتسوية بين الفرض والنَّافلة مردودة بهذا الحديث.
ج – أما قياس صيام النَّافلة في يوم السبت وهو يوم منهي عن صيامه على صلاة
ذات الأسباب بعد صلاتي العصر والصبح وهما وقتان منهيٌ عن الصلاة فيهما.
فيقال: هذا قياس في العبادات؛ وأول مَنْ يردَّه المخالِف؛ نوضح ذلك فنقول:
هل يصح قياس صيام النَّافلة في يوم العيد وهو يوم منهيٌ عن صيامه على صلاة ذات
الأسباب في أوقات النهي؟! فإن قلت: نعم يصح؛ فقد قلت قولاً لم يسبقك فيه أحد
وخالفت إجماع أهل العلم وقد تقدَّم نقله، وإن قلت: لا يصح؛ قلنا لك: كذلك لا يصح
في يوم السبت؛ لعدم الفرق بينهما، والشريعة جاءت بالجمع بين المتشابهات، والتفريق
بين المختلفات، فإن قلت: بل هناك فرقٌ؛ فصيام العيد مجمعٌ على حرمته وصيام السبت مختلفٌ
فيه؛ قلنا لك: تقدَّم الجواب عن ذلك في الوجه الثالث من وجوه الرد على الأدلة
العامة، فلا نعيد؛ ثم أليس مسألة صلاة ذات الأسباب في أوقات النهي من المسائل التي
اشتدَّ فيها الخلاف بين أهل العلم فكيف – على رأيكم الآنف الذكر – يُقاس عليها؟!.
ويقال: اعلموا أنَّ مَنْ أجاز الصلاة المقيَّدة بسبب في أوقات النهي من أهل
العلم إنَّما قال ذلك بعد أن ورد في الشرع ما يدل على ذلك؛ كقضاء سنَّة الظهر بعد
العصر؛ قال النووي: ((واحتج الشافعي وموافقوه: بأنه ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه
وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر؛ وهذا صريح في قضاء السنة الفائتة, فالحاضرة أولى,
والفريضة المقضية أولى, وكذا الجنازة))؛ فالأدلة المعارضة لهذا النَّهي العام منها
ما هو مخصص له، ومنها ما بينه وبينها عموم وخصوص؛ وهي أدلة صحيحة السند قوية
الدلالة؛ فمن أهل العلم من ذهب إلى جواز الصلاة مطلقاً وأدَّعى النسخ، ومنهم من
ذهب إلى المنع مطلقاً وأدَّعى الخصوصية، ومنهم مَنْ ذهب إلى الجمع فقال: إذا كانت
الصلاة لها سبب مثل قضاء الفوائت من الفرائض والسنن أو صلاة العيد أو صلاة الجنازة
أو صلاة الكسوف أو الاستسقاء أو تحية المسجد أو غير ذلك جاز أن تُصلَّى في تلك
الأوقات المنهي عنها، وإن لم يكن لها سبب كالتنفل المطلق فلا يجوز؛ وهذا جمع لا
بدَّ منه لتعارض الأدلة؛ وهو جمعٌ بوجه مقبول.
أما الأدلة المتعارِضة في صيام السبت: فقد فصَّلنا القول فيها؛ وبيَّنا
أنَّ منها ما هو ضعيف فلا يُحتجُّ به، ومنها ما هو صحيح لكنه عام؛ وحديث النهي عن
صيام السبت في غير الفرض خاص، وحمل العام على الخاص متعين، وقد ذكرنا وجوه الرد
على تلك الأحاديث، فلا نحتاج إلى إعادته.
وبعد؛ فقد انتهى عرض أدلة المختلفين في هذه المسألة، ودلالتها على ما ذهبوا
إليه من أقوال، ومناقشتها؛ وتبيَّن لي:
أنَّ أرجح الأقوال: هو القول بعدم مشروعية صيام يوم السبت في النوافل
كلِّها سواء ضُمَّ إليه يوم آخر، أو وافق صوماً معتاداً كعرفة أو عاشوراء أو ست من
شوال أو الأيَّام البيض إلى غير ذلك من صيام النَّافلة، وأنَّه يشرع صيام السبت في
كلِّ ما فُرِضَ علينا كرمضان أو صوم الكفَّارة أو صوم القضاء أو النَّذر إلى غير
ذلك من صور صيام الفرض، والله تعالى أعلم.
هذا ما تيسَّر لي جمعه في هذه المسألة الخلافية، والتي ينبغي أن لا تثير
فرقة ولا تناحراً بين المنتسبين للدعوة من طلاب العلم، ولا مانع من الحوار العلمي
الموضوعي فيها وفي غيرها من المسائل الخلافية مع بقاء الألفة والأخوة؛ قال شيخ
الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 24 /172]: ((وقد كان العلماء من الصحابة
والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله:
"فإنْ تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إنْ كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر
ذلك خير وأحسن تأويلاً"، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة،
وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة
الدين، نعم مَنْ خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة
خلافاً لا يُعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع)).
فإن وفِّقت فيها للصواب فمنَّة من الله جلَّ في علاه، وإن أخطأتُ فيها فمن
نفسي ومن تزيين الشيطان؛ والله تعالى بريءٌ منه، ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم بريءٌ منه.
سبحانك اللهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.