مع حلقته الرابعة: (التوبة
إلى الله لا إلى الشيخ، وعلى شرط الله لا شرط الشيخ)
في هذه الحلقة؛ ذكر الكاتب وفقه الله تعالى للسداد فضل
التوبة وأنَّ الشارع رغب فيها ويسر أمرها، وأنَّ مَنْ شدد في قبول توبة المخالفين
مثله كمثل الجاهل من بني إسرائيل الذي أغلق باب التوبة في وجه قاتل تسع وتسعين نفساً،
فكان نتيجة تشدده هلاكه، وبين الكاتب أنَّ التوبة مقبولة من الجميع ولا يُستثنى
منها الداعية إلى البدعة.
ثم ذكر شروط قبول التوبة؛ وهي: الإخلاص؛ فيتوب إلى الله
لا إلى غيره، والندم، والإقلاع عن المخالفة، والعزم على عدم العودة للمخالفة، وأن
تكون في وقت تقبل فيه.
ثم تكلَّم عن "توبة أهل البدع"؛ وبين أنَّ ما
فعلوه من البدع في السر فالتوبة منها تكون في السر, وما فعلوه في العلن وجُوهِرَ به من البدع والمعاصي فتمام التوبة
منه أن يظهر العبد
توبته منه ورجوعه عنه. ولا يشترط في بيان
التراجع عن البدعة أن يكون مكتوباً أو بصيغة مقننة، بل يكفي
أن يصرح بلسانه أو قلمه أنه تائب مما كان قد وقع فيه من أخطاء وبدع، أو يستتاب فيعلن توبته ويقر
بأنه كان على خلاف السنة وأنه راجع
إليها؛ من غير حاجة منه إلى بيانه للباطل الذي كان عليه!, بل يكفيه إقراره
بأنه كان على الباطل وإعلانه الرجوع إلى الحق والسنة، بل ولو لم يصرح بتوبته
ورجوعه؛ وإنما قرر خلاف ما كان يتبناه سابقاً فهو دليل على رجوعه!؛ وقد جرت العادة
عند أهل العلم على اعتبار آخر قولي العلماء كدليل على تراجعهم عن القول المتقدم!!,
ومن ذلك أيضاً إذا تعارض قولان من عالم واحد فالعمل على آخر القولين إنْ علم ذلك!!، وذكر أنَّ من كان داعية إلى البدعة فهذا من شرط توبته أن
يبين أن ما كان يدعو إليه بدعة وضلالة وأنَّ الهدى في ضده؛ لا أن يقول أنه كان
مبتدعاً ضالاً.
قلتُ: ولي على ما تقدَّم وقفات:
الأولى: كما أنَّ التشديد في التوبة قد يُغلط فيه
المتشدد، كذلك قد يحسن منه؛ كما شدَّد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في توبة صبيغ؛
وقد ذكر الكاتب القصة مفصَّلة في حلقته هذه؛ والظاهر أنَّ الموقف من التائب من
البدعة يختلف عن التائب من المعصية؛ فلا يُقاس على قاتل المئة!، وقد حسَّن الشيخ الألباني حديث: ((إنَّ الله
احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة))، ولهذا قال عطاء وغيره: ((ما يكاد الله أن يأذن لصاحب
بدعة بتوبة))، وعن الحسن البصري قال: ((أبى الله تبارك وتعالى أن يأذن
لصاحب هوى بتوبته))، وروى ابن وضاح عن أيوب السختياني أنه قال: ((كان رجل (وهو عمرو بن عبيد؛
رأس المعتزلة) يرى رأياً، فرجع عنه، فأتيت محمداً بن سيرين فرحاً بذلك أخبره،
فقلت: أشعرت أنَّ فلاناً ترك رأيه فرجع عنه, فقال ابن سيرين: انظروا إلى ما يتحول؛
إنَّ آخر الحديث أشد عليهم من أوله "يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون فيه"، وفي اعتقاد أهل السنة: ((أنَّ رجلاً قال لأيوب
السختياني: يا أبا بكر إنَّ عمرو بن عبيد قد رجع عن رأيه،
قال: إنه لم يرجع، قال: بلى
يا أبا بكر إنه قد رجع، قال أيوب: إنه لم يرجع ثلاث مرات!؛ أما إنه لم يرجع، أما سمعت
إلى قوله: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يرجع
السهم إلى فوقه"))، وكان أيوب يسمي أهل الأهواء كلهم خوارج ويقول: ((إنَّ الخوارج
اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف))؛ وهذا يعني أنَّ مذهبه هذا مع جميع
المبتدعة وليس مع الخوارج المكفِّرين، وقال سفيان الثوري: ((البدعة
أحب إلى إبليس من المعصية، فالمعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها))،
ثم إنَّ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 20/ 103-104] يقول: ((إنَّ أهلَ البدع شرٌ من أهل
المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال
الخوارج، ونهى عن قتال أئمة الظلم، وقال في الذي يشرب الخمر: "لا تلعنه؛ فإنَّه
يحب الله ورسوله"، وقال في ذي الخويصرة: "يخرج من ضئضئ هذا أقوام؛
يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين -وفي رواية: من الإسلام- كما
يمرق السهم من الرمية، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع
قراءتهم، أينما لقيتموهم: فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم
القيامة"، وقد قُرِّرَت هذه القاعدة بالدلائل الكثيرة مما تقدَّم من القواعد.
ثم إنَّ أهل المعاصي ذنوبهم فعل بعض ما نهوا عنه من سرقة أو زنا أو شرب خمر أو أكل
مال بالباطل، وأهل البدع ذنوبهم ترك ما أُمِروا به من إتباع السنة وجماعة
المؤمنين...)).
فإذا كان
أهلُ البدع شراً من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع؛ لزم منه أن يكون
الموقف من توبتهم أشد من توبة أهل المعاصي الشهوانية؛ أليس كذلك؟ وموقف النبي صلى
الله عليه وسلم من الأمرين يبين ذلك.
والعلامة
ابن القيم رحمه الله تعالى يقول في توبة أهل البدع [المدارج 1/ 374]: ((والقول على الله بلا علم صريح افتراء الكذب عليه،
ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، فذنوب أهل البدع كلها داخلة تحت هذا الجنس؛ فلا
تتحقق التوبة منه إلا بالتوبة من البدع، وأنى بالتوبة منها لمن لم يعلم أنها بدعة أو
يظنها سنة فهو يدعو إليها ويحض عليها؟! فلا تنكشف لهذا ذنوبه التي تجب عليه التوبة
منها إلا بتضلعه من السنة وكثرة إطلاعه عليها ودوام البحث عنها والتفتيش عليها؛ ولا
ترى صاحب بدعة كذلك أبداً!!!. فإنَّ السنة بالذات تمحق البدعة ولا تقوم لها، وإذا طلعت
شمسها في قلب العبد قطعت من قلبه ضباب كل بدعة وأزالت ظلمة كل ضلالة؛ إذ لا سلطان للظلمة
مع سلطان الشمس، ولا يرى العبد الفرق بين السنة والبدعة ويعينه على الخروج من ظلمتها
إلى نور السنة إلا المتابعة والهجرة بقلبه كل وقت إلى الله، بالاستعانة، والإخلاص،
وصدق اللجوء إلى الله، والهجرة إلى رسوله؛ بالحرص على الوصول إلى أقواله وأعماله وهديه
وسنته، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن هاجر إلى غير ذلك
فهو حظه ونصيبه في الدنيا والآخرة؛ والله المستعان)).
فهل ترى
أنَّ هؤلاء السلف قد أغلقوا باب التوبة في وجه أهل البدع، وشدَّدوا عليهم ما
يسَّره الله تعالى لهم؟! أم أنهم أرادوا التحذير من الوقوع في البدع ومن سلوك طرق
أهلها، وأرادوا التشديد في قبول توبة المبتدعة حتى يظهر صدقهم وتحسن سيرتهم ويأمن
الناس من رجوعهم.
الثانية: أنَّ أهل العلم اختلفوا في قبول توبة الزنديق؛
والأكثر على عدم قبولها، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 2/ 483-484]:
((والفقهاء متنازعون في قبول
توبة الزنديق: فأكثرهم لا يقبلها؛ وهو مذهب مالك وأهل المدينة ومذهب أحمد في أشهر الروايتين
عنه وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة ووجه في مذهب الشافعي، والقول الآخر تقبل توبته))، وهذا من حيث الظاهر، لأنه قد يصدق في توبته ويخلص
فيقبلها الله تعالى منه كما قال شيخ الإسلام [المجموع 15/ 408]: ((ولم يقل أحد من الفقهاء: إنَّ الزنديق ونحوه إذا
تاب فيما بينه وبين الله توبة صحيحة لم يتقبلها الله منه))، وقال [المجموع 16/ 30]: ((والفقهاء إذا تنازعوا في قبول توبة مَنْ تكررت ردته
أو قبول توبة الزنديق فذاك إنما هو في الحكم الظاهر؛ لأنه لا يوثق بتوبته، أما إذا
قدر أنه أخلص التوبة لله في الباطن فإنه يدخل في قوله: "يا عبادي الذين أسرفوا
على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنَّ الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم"))، والكاتب لم يستثن الزنديق!
الثالثة: دعوى الكاتب أنه لا يُشترط في قبول توبة
المبتدع أن يذكر تفاصيل ما كان عليه من بدع وضلالات وتراجعه عنها مفصَّلاً كما أنه
لا حاجة للمرتد أن يذكر ما كان عليه من باطل وإنما يكفي رجوعه للإسلام؛ هذه دعوى
لا برهان عليها، وقياس مع الفارق، فقد ذكر الكاتب عن العلامة ابن القيم رحمه الله
تعالى في أثناء كلامه عن حالات أهل الفسق [مدارج السالكين 1/ 363]: ((فتوبة هؤلاء الفسَّاق من جهة الاعتقادات الفاسدة بمحض إتباع
السنة, ولا يكتفى
منهم بذلك أيضاً: حتى يبينوا فساد ما كانوا
عليه من البدعة؛ إذ التوبة من ذنب
هي بفعل ضده، ولهذا شرط الله تعالى في توبة
الكاتمين ما أنزل الله من
البينات والهدى "البيان"، لأنَّ
ذنبهم لما كان بالكتمان كانت توبتهم منه بالبيان
قال الله تعالى: "إنَّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم
اللاعنون. إلا
الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب
عليهم وأنا التواب الرحيم"، وذنب المبتدع
فوق ذنب الكاتم!؛ لأنَّ ذاك كتم الحق وهذا كتمه ودعا إلى خلافه، فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس))، فإذا كان المبتدع أسوأ حالاً من
كاتم الحق؛ فالواجب عليه أن يبين الحق ويبين أنه كان على باطل وضلال، وهذا البيان
إنْ تحقق بمجمل القول فبها ونعمت، وإلا فلابد من تفصيل القول في كل الضلالات التي
كان عليها. وأما الكافر المرتد فليس له أثر كأثر المبتدع، فكيف يقاس هذا على هذا؟!
وقد روى ابن بطة في الإبانة عن الفضيل بن عياض أنه قال: ((آكل مع
يهودي ونصراني ولا آكل مع مبتدع!، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد))، بل ولو قيس المبتدع على المرتد فإنه حينئذ يتعامل معهم
بما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [منهاج السنة 6/ 349]: ((وأهل الردة كان قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة
على أنهم لا يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح، بل يتركون يتبعون أذناب البقر؛ حتى
يرى اللهُ خليفةَ رسولِه والمؤمنين حسنَ إسلامهم))، بل لقد قاس رحمه الله تعالى الموقف من النصيرية وسائر
القرامطة الباطنية –بعد أن كفَّرهم ونقل الاتفاق على تكفيرهم وأنهم أكفر من اليهود
والنصارى- على موقف الصحابة من المرتدين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فقال
[المجموع 35/ 157-158]: ((وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء؛ فمن قبل توبتهم
إذا التزموا شريعة الإسلام أقر أموالهم عليهم، ومن لم يقبلها لم تنقل إلى ورثتهم من
جنسهم؛ فإنَّ مالهم يكون فيئاً لبيت المال، لكن هؤلاء إذا اخذوا فإنهم يظهرون التوبة؛
لأنَّ أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم، وفيهم مَنْ يعرف وفيهم مَنْ قد لا يعرف، فالطريق
في ذلك أن يحتاط في أمرهم؛ فلا يتركون مجتمعين، ولا يمكنون من حمل السلاح، ولا أن يكونوا
من المقاتلة، ويلزمون شرائع الإسلام من الصلوات الخمس وقراءة القرآن، ويترك بينهم مَنْ
يعلمهم دين الإسلام، ويحال بينهم وبين معلمهم؛ فإنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه وسائر
الصحابة لما ظهروا على أهل الردة وجاءوا إليه، قال لهم الصديق: "اختاروا إما الحرب
المجلية وإما السلم المخزية" قالوا: يا خليفة رسول الله؛ هذه الحرب المجلية قد
عرفناها فما السلم المخزية؟ قال: "تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم، وتشهدون أنَّ قتلانا
في الجنة وقتلاكم في النار، ونقسم ما أصبنا من أموالكم وتردون ما أصبتم من أموالنا،
وتنزع منكم الحلقة والسلاح وتمنعون من ركوب الخيل وتتركون تتبعون أذناب الإبل؛ حتى يرى الله
خليفة رسوله والمؤمنين أمراً بعد ردتكم"، فوافقه الصحابة على ذلك إلا في تضمين
قتلى المسلمين؛ فإنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: "هؤلاء قتلوا في سبيل
الله فأجورهم على الله" يعنى: هم شهداء فلا دية لهم، فاتفقوا على قول عمر في ذلك.
وهذا الذي اتفق الصحابة عليه هو مذهب أئمة العلماء، والذي تنازعوا فيه تنازع فيه العلماء؛
فمذهب أكثرهم أنَّ من قتله المرتدون المجتمعون المحاربون لا يضمن كما اتفقوا عليه آخراً
وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى
هو القول الأول. فهذا الذي فعله الصحابة بأولئك المرتدين بعد عودهم إلى الإسلام يفعل
بمن أظهر الإسلام والتهمة ظاهرة فيه؛ فيمنع أن يكون من أهل الخيل والسلاح والدرع التي
تلبسها المقاتلة، ولا يترك في الجند من يكون يهودياً ولا نصرانياً، ويلزمون شرائع الإسلام؛
حتى يظهر ما يفعلونه من خير أو شر، ومن كان من أئمة ضلالهم وأظهر التوبة اخرج عنهم
وسير إلى بلاد المسلمين التي ليس لهم فيها ظهور؛ فإما أن يهديه الله تعالى وإما أن
يموت على نفاقه من غير مضرة للمسلمين)).
الرابعة: دعواه أنه تقبل توبة المبتدع بمجرد رجوعه إلى
الحق ولو لم يصرح بالتوبة والرجوع عما كان عليه من ضلال؛ والاستدلال على ذلك بقبول
توبة أبي الحسن الأشعري والغزالي، هذه دعوى خطيرة واستدلال بعيد!، فأبو الحسن
الأشعري صرَّح بالرجوع إلى مذهب الإمام أحمد بقوله في الإبانة: ((قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك
بكتاب الله ربنا عز وجل وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما روى عن السادة الصحابة
والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن
محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛
لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح
به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيع الزائغين وشك الشاكين؛ فرحمة الله عليه من
إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهم))، والغزالي اختلف فيه أهل العلم كما نقلتَ في حلقتك هذه،
ولا يوجد له تصريح بالرجوع إلى مذهب السلف الصالح، ولا بيان وتحذير لما كان عليه
من الضلال، وأمره إلى الله عز وجل، فلا يُمكن أن يُقاس غيره عليه إلا على طريقة
تتبع الرخص!!
الخامسة: قياسه قبول توبة المبتدع بمجرد رجوعه عما كان
يتبناه سابقاً من غير التصريح بالرجوع والتوبة على: رجوع الأئمة إلى ما غلب على
ظنهم أنه الصواب في المسائل الفقهية وهو القول الجديد لهم من غير تصريح منهم
بالرجوع عن القول القديم!!؛ هذا القياس ظاهر البطلان من كل الوجوه، فكيف يقاس
المبتدع على الإمام السني؟ أم كيف تقاس البدعة على الخطأ الفقهي؟ وكيف يقاس سلوك
سبل الضلال على الاجتهاد السائغ؟
والحقيقة؛ إني أرى أنَّ الكاتب في مقالاته كلها يؤصِّل
للدفاع عن أهل المخالفات -إنْ لم يكونوا من المجروحين والمنحرفين- بذريعة منهج
الاعتدال أو محاربة الغلو والتشديد!، لكنه في حلقته هذه أتى من أجل أولئك
بالعجائب!!، مع إننا مأمورون بمحاربة البدع ومجاهدة المبتدعة، لا بالتسويغ لهم
وإدخالهم في السلفية من غير توبة تامة! ويكفي في رد عجائبه المتقدمة ما قاله ابن
القيم في النقل المتقدم عنه: ((فتوبة هؤلاء
الفسَّاق من جهة الاعتقادات الفاسدة بمحض إتباع السنة, ولا يكتفى منهم بذلك أيضاً حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من
البدعة))، ولو كان الكاتب لا يدري بهذا النقل لقيل يعذر بالجهل!، لكنه هو الذي
نقله!!، فلا تصح توبة المبتدع حتى يبين الضلالات التي كان عليها ويصرح بأنه كان
على ضلال أو قال بقول أهل الباطل ثم يبين الحق والسنة.
وبعد هذه المقدَّمة من الكاتب غير الموفَّقة لحلقته
الرابعة؛ دخل الكاتب في صلب الموضوع بعنوان رئيسي ((مفاهيم خاطئة في التوبة))، وذكر تحت هذا العنوان مواضيع فرعية استنكرها وهي:
التوبة ابتغاء مرضاة الشيخ والامتناع عنها خوفاً من
الشيخ، التوبة بين يدي الشيخ أو من يعتمده الشيخ، كتابة التوبة وتوثيقها، الأمر
بهجران أهل البدع والأهواء –الذين لم يتوبوا- هجراً مطلقاً غير مبني على ضوابط
الهجر المقررة في المنهجية
السلفية هو من جنس صنيع الخوارج في هجر
مخالفيهم من المسلمين هجراً عاماً مطلقاً، شهادة
التائب على نفسه بالضلال حال مواقعته المخالفة، التوبة مما لا يجب التوبة منه شرعاً،
رفض اعتبار التوبة بسبب إصرار التائب على مخالفة أخرى، اشتراط مدة وأحوال لم
يشترطها الشارع لاعتبار التوبة، الأنفة عن التوبة.
قلتُ: والكاتب في هذه المحاور الفرعية قد بالغ في تصوير
الواقع!، ثم تلقَّط كلمات لبعض العلماء في ذم الواقع الذي صوَّره!!، وهذا خروج عن
الاعتدال والموضوعية في الرد؛ وإليكم التفصيل:
- قال الكاتب: ((الترغيب بالتوبة من مخالفة الشيخ طمعاً برضاه وثنائه, والترهيب من البقاء على مخالفة الشيخ خوفاً من قدح الشيخ وذمه ومعاقبته؛
فيكون مقصود التائب إرضاء الشيخ لا إرضاء الله سبحانه, والخوف من الشيخ لا
الخوف من الله سبحانه, وهذا من صور الشرك عياذا بالله))
قلتُ: نسأل الله تعالى أن يطهِّر قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا
جميعاً من الشرك كبيره وصغيره وجليه وخفيه، ما نعلمه وما لا نعلمه، لكن لابد من
التفريق بين طاعة أولي الأمر الذين أمرنا بطاعتهم وسؤالهم وبين العمل من أجل رضاهم!،
فموافقة الحق الذي يأمر به الشيخ ومجانبة الباطل الذي ينهى عنه من طاعة أولي الأمر
وليس من الشرك بالله!، فلا يُخلط بين الأمرين.
-
وقال: ((ومن بدع التوبة اشتراط
البعض لاعتبارها عنده أن تكون بين يدي شيخه, أو بين يدي مَنْ
هو معتمد عند شيخه أو مصادقة من قبل الشيخ, وهذا من بدع المتصوفة
الذين يشترطون لقبول توبة العاصين أن تكون بين يدي الشيوخ))
قلتُ: مرواغة بعض المنحرفين وتلونهم بين الحين والآخر قد
يقتضي مثل ذلك، ولا تكفي أن يتوبوا بين يدي مَنْ يجادل عنهم ويدافع ممن قد تأثر
بهم أو هو موافق لهم بالجملة أو ممن يتساهل في مسائل المنهج ويُهوِّن من مخالفاتهم
أو ممن لا يعرف مراوغاتهم وتقلباتهم ولم يبصر حقائقهم بعد!!.
- وقال الكاتب: ((وللأسف فهذه البدعة الصوفية قد تسربت اليوم إلى أوساط بعض الشباب المنتسبين إلى الدعوة السلفية بذريعة حماية السنة من أهل
البدع والأهواء الذين يخدعون الشباب بإعلان التوبات، وهم في باطنهم على
باطلهم مقيمون، ولهذا تراهم لا يعتبرون لمن يظهر توبته إلا بأن يعتبرها
ويصادق عليها الشيخ؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله))
قلتُ: ألم يدَّعي المجادلون عن سيد قطب أنه تاب في آخر
عمره وصرَّح بالرجوع إلى طريقة السلف في إصلاح العقيدة قبل المطالبة بتحكيم
الشريعة!؛ لماذا لم تقبلوا توبته؟! هل يُقال: أنكم لا تعتبرون توبته مقبولة إلا
بمصادقة مشايخكم؟! أم يُقال وهو الحق: أنَّ مَنْ يزعم توبة سيد قطب من عقيدته
الباطلة؛ إما موافق له أو جاهل بحقيقته أو مجادل عنه!، لأنه وفي آخر كتاباته وهو
يُثني على كتبه الباطلة وينصح بنشرها، ويُحرِّض على مواجهة الحكام وقتل المسؤولين!!.
وكذلك غير سيد قطب من المجروحين في هذا العصر؛ يدَّعي
البعض توبتهم ورجوعهم إلى الجادة، وليس الأمر كذلك.
- وقال الكاتب: ((ومن البدع في هذا الباب: اشتراط كتابة التوبات وإعلان
البراءات, فلا تقبل التوبة عند بعض أهل الغلو والتنطع إلا أن تكون مكتوبة أو
مسجلة صوتياً ومعلنة عبر الانترنيت؛ وهذا من جنس بدع الخوارج الذين
كانوا يشترطون لقبول العبد في أوساطهم أن يعلن براءته مما يرونه هم
معصية, وممن يرونه هم كافراً أو خارجاً عن طريقتهم))
قلتُ: هذه الشروط لو ثبتت عن قائليها فإنما أرادوا بها
المراوغين المتقلبين؛ الذين لا يثبتون على رأي، ويجحدون اليوم ما أقرُّوا به
بالأمس، وليست مع كل تائب من البدع!، فلا ضير -بخاصة- ونحن في سنوات خدَّاعة.
ثم قد يُعامل تائب من ذنب بما لا يُعامل به تائب آخر؛
وبخاصة لمن اشتُرطَ في توبته (الإصلاح)، فإنه يكف عن أذاه بالتوبة؛ لكن هذا الكف
معلَّق على تمام توبته، وتمام توبته بإصلاح ما أفسد؛ فإن أصلح ما أفسده من قبل وجب
الإعراض عن أذاه، وإنْ لم يصلح ما أفسده، أو أصلح بعضاً وترك بعضاً فيبقى الأذى
موجوداً؛ ثم ليس لهذا الأذى صفة محدودة في الشرع ولا قدر معين!، فلا يُنكر ما قد
يجتهد به بعض أهل العلم في توبة بعض أهل البدع، وإنما حصول المقصود هو الغاية، قال
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيمن يأتي الفاحشة والأمر بإيذائه [المجموع 15/ 300-303]: ((فالمذنب لا يزال يُؤذى ويُنهى ويُوعظ ويُوبَّخ ويُغلَّظ
له في الكلام إلى أن يتوب ويطيع الله؛ وأدنى ذلك هجره، فلا يُكلَّم بالكلام الطيب كما
هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى ظهرت توبتهم وصلاحهم،
وهذه آية محكمة لا نسخ فيها؛ فمن أتى الفاحشة من الرجال والنساء فإنه يجب إيذاؤه بالكلام
الزاجر له عن المعصية إلى أن يتوب، وليس ذلك محدوداً بقدر ولا صفة إلا ما يكون زاجراً
له داعياً إلى حصول المقصود؛ وهو توبته وصلاحه، وقد علَّقه تعالى على هذين الأمرين
التوبة والإصلاح فإذا لم يوجدا فلا يجوز أن يكون الأمر بالإعراض موجوداً؛ فيؤذى، والآية
دلت على وجوب الإعراض عن الأذى في حق من تاب وأصلح، فأما من تاب بترك فعل الفاحشة ولم
يصلح؛ فقد تنازع الفقهاء هل يشترط في قبول التوبة صلاح العمل على قولين في مذهب أحمد
وغيره، وهذه تشبه قوله تعالى: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم -إلى قوله تعالى- فإنْ تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم"،
فأمر بقتالهم ثم علق تخلية سبيلهم على التوبة والعمل الصالح وهو إقام الصلاة وإيتاء
الزكاة مع أنهم إذا تكلموا بالشهادتين وجب الكف عنهم، ثم إنْ صلوا وزكوا وإلا عوقبوا
بعد ذلك على ترك الفعل؛ لأنَّ الشارع في التوبة شرع الكف عن أذاه ويكون الأمر فيه موقوفاً
على التمام!، وكذلك التائب من الفاحشة يشرع الكف عن أذاه إلى أن يصلح فإن أصلح وجب
الإعراض عن أذاه، وإن لم يصلح لم يجب الكف عن أذاه بل يجوز أو يجب أذاه،
وهذه الآية مما يستدل بها
على التعزير بالأذى؛ والأذى وإنْ كان يستعمل كثيراً في الكلام في مرتكب الفاحشة فليس
هو مختصاً به...إلى أن قال: وقوله تعالى: "فإنْ تابا وأصلحا" هل
يكون من توبته اعترافه بالذنب فإذا ثبت الذنب بإقراره فجحد إقراره وكذب الشهود على
إقراره أو ثبت بشهادة شهود هل يعد بذلك تائباً؟ فيه نزاع؛ فذكر الإمام أحمد: أنه لا
توبة لمن جحد!، وإنما التوبة لمن أقر وتاب؛ واستدل بقصة على بن أبى طالب أنه أتى بجماعة
ممن شهد عليهم بالزندقة فاعترف منهم ناس فتابوا فقبل توبتهم وجحد منهم جماعة فقتلهم...إلى أن قال: فإذا ظهر من العبد الذنب فلابد من ظهور
التوبة، ومع الجحود لا تظهر التوبة!؛ فإنَّ الجاحد يزعم أنه غير مذنب، ولهذا كان السلف
يستعملون ذلك فيمن أظهر بدعة أو فجوراً، فإنَّ هذا أظهر حال الضالين وهذا أظهر حال
المغضوب عليهم؛ ومِن أذاه: منعه -مع القدرة- من الإمامة والحكم والفتيا والرواية والشهادة،
وأما بدون القدرة فليفعل المقدور عليه))
قلتُ: فقد بيَّن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
أنَّ من جحد ما ظهر منه من المخالفات، ولكنه قَبِلَ التوبة؛ بأنَّ توبته لا تقبل
ولا يُكف عنه الأذى عند الإمام أحمد ومَنْ وافقه وذلك لسوء طويته، وما أكثر هذا
الصنف اليوم؟!!، وإذا كان كلام شيخ الإسلام المتقدم فيمن اشتُرط في تمام توبته
(الإصلاح) فكيف بمَنْ اشتُرط في توبته (الإصلاح والبيان) وهو الكاتم للحق؟! بل كيف
بمَنْ كان أسوأ حالاً من الكاتم وهو المبتدع الذي كتم الحق أو ألبسه بالباطل ودعا
إلى خلافه كما قال ابن القيم؟!!
وهذا الشيخ ابن باز رحمه الله
تعالى قال في رده على عبد الرحمن عبد الخالق في [مجموع الرسائل والمقالات]: ((فالواجب
عليكم الرجوع عن هذا الكلام، وإعلان ذلك في الصحف المحلية في الكويت والسعودية،
وفي مؤلَّف خاص يتضمن رجوعكم عن كل ما أخطأتم فيه))، أليس في هذا
اشتراط لكتابة التوبة وإعلانها؟!
- وقال الكاتب: ((بل إنَّ من أقبح الأمثلة المتعلقة بهذه المخالفة؛ اشتراط بعض المشايخ المحسوبين على الدعوة السلفية لقبول توبة (زيد من الناس)
أن يكون هو مَنْ يكتب صيغة التوبة ويقوم التائب بالتوقيع عليها. ومن أقبح
صيغ التوبات التي كتبها بعض المشايخ على لسان غيرهم مطالبين إياهم بالتوقيع عليها ما اشتمل إقرار التائبين على
أنفسهم أنهم كانوا ضالين مضلين ... إلخ, واعتبار من يرفض التوقيع على مثل
هكذا توبات معانداً مستكبراً))
قلتُ: التعليق كما تقدم؛ أنه لو صح فإنَّ محله في
المتلونين المراوغين.
- وقال الكاتب وهو يذم مخالفيه بأنَّ من صفاتهم: ((الأمر بهجران أهل البدع والأهواء –الذين لم يتوبوا- هجراً مطلقاً غير مبني على ضوابط الهجر
المقررة في المنهجية السلفية هو من جنس صنيع الخوارج في هجر مخالفيهم من
المسلمين هجراً عاماً مطلقاً))
قلتُ: سيأتي الكلام في مسألة هجر أهل البدع، فلا نتعجل.
- وقال الكاتب: ((ومن أقبح صور تعالم بعض المنتسبين إلى السلفية زعمهم أنَّ شيخ الإسلام الذي بين أنَّ لهجر المبتدع شروطاً وضوابط ونسب هذا الاختيار
إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة المسلمين قد اشترط ما لم يشترطه السلف!,
وبالتالي لا اعتبار للشروط التي بينها ولا للضوابط التي قررها, لأنه
قد قال بما لم يقل به السلف!!!))
قلتُ: أين النقل المصدَّق عنهم؟!
-وقال
الكاتب: ((رفض بعض الغلاة
المنتسبين إلى الدعوة السلفية التعاطي مع التائب من البدعة، الكاتب لتوبته، المعلن لها، من غير رد منه على ما كان
منه في السابق، وشهادته على نفسه بالضلال, ولا يكتفى بمجرد كتابته للتوبة
وإعلانه لها؟؟!!))
قلتُ: كتابة التوبة وإعلانها إنما المقصود به أن يعرف
الناس أنَّ هذا التائب كان في ضلال لئلا يغتروا بقوله القديم، فكان ينبغي عليه أن
يُسارع هو في التحذير من ضلالاته القديمة وأن يردَّ عليها بالحق ويقر بأنه كان على
ضلال، وليس في ذلك انتقاص؛ فهذا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يقول عن نفسه
[المجموع 6/ 258]: ((ولكن هذه المسألة [الأفعال الاختيارية أو حلول الحوادث] ومسألة الزيارة
وغيرهما حدث المتأخرين فيها شبه؛ وأنا وغيري كنا على مذهب الآباء في ذلك!، نقول في
الأصلين بقول أهل البدع!!، فلما تبين لنا ما جاء به الرسول دار الأمر بين أن نتبع ما
أنزل الله أو نتبع ما وجدنا عليه آباءنا؛ فكان الواجب هو إتباع الرسول وأن لا نكون
ممن قيل فيه: "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه
آباءنا"، وقد قال تعالى: "قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم))، وقال في [اقتضاء الصراط المستقيم ص429]: ((وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة
مساجد مكة وما حولها؛ وكنتُ قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج في أول عمري لبعض الشيوخ
جمعته من كلام العلماء، ثم تبين لي أنَّ هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها
في الشريعة!!، وأنَّ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يفعلوا شيئاً من ذلك،
وأنَّ أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك)).
وهذا أبو الفداء علي بن عقيل
البغدادي؛ قال العلامة ابن رجب الحنبلي في بيان توبته: ((أنَّ أصحابنا كانوا ينقمون على ابن
عقيل تردده على ابن الوليد وابن التبان شيخي المعتزلة، وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر
منه في بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة، وتأول لبعض
الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله. ففي سنة إحدى وستين ـ بعد الأربعمائة ـ اطلعوا له على
كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة، والترحم على
الحلاج وغير ذلك، ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه فاختفى، ثم التجأ إلى دار
السلطان، ولم يزل أمره في تخبيط إلى سنة خمس وستين،
فحضر في أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، فاصطلحوا، ولم يحضر الشريف أبو جعفر لأنه كان عاتباً على
ولاة الأمر بسبب إنكار منكر؛ فمضى ابن عقيل إلى بيت
الشريف وصالحه.
وكتب بخطه: يقول علي بن عقيل
بن محمد: إني أبرأ إلى الله
تعالى من مذهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحُّم على أسلافهم،
والتكثر بأخلاقهم، وما كنتُ علقته
ووجد بخطي من مذاهبهم وضلالتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته، ولا تحل كتابته، ولا قراءته، ولا اعتقاده.
وإني علقت مسألة الليل في جملة ذلك، وإن قوماً
قالوا: هو أجساد سود؛ وقلت: الصحيح ما سمعته من الشيخ أبو علي، وأنه قال: هو عدم ولا يسمى جسماً ولا شيئاً أصلاً،
واعتقدت أنا ذلك، وأنا تائب إلى الله تعالى منهم؛
واعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الدين والزهد والكرامات، ونصرتُ ذلك في جزء عملته، وأنا تائب إلى الله تعالى منه،
وأنه قُتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك وأخطأ
هو، ومع ذلك فإني أستغفر الله تعالى وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة والمبتدعة وغير ذلك،
والترحُّم عليهم، فإن ذلك كله حرام، ولا يحل لمسلم فعله،
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام".
وقد كان الشريف أبو جعفر ومن كان معه من الشيوخ والأتباع
سادتي وإخواني -حرسهم الله تعالى- مصيبين في الإنكار عليّ، لما شاهدوه بخطي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى
منها، وأتحقق أني كنت مخطئاً غير مصيب. ومتى
حفظ علي ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار، فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك، وأشهدتُ الله وملائكته وأولي
العلم على ذلك غير مجبر، ولا مكره، وباطني وظاهري -يعلم
الله تعالى- في ذلك سواء، "ومَنْ عاد فينتقم الله منه واللهُ عزيز ذو انتقام" وكُتِب يوم الأربعاء عاشر
محرم سنة خمس وستين وأربعمائة، وكانت كتابته قبل
حضوره الديوان بيوم، فلما حضر شهد عليه جماعة كثيرة من الشهود والعلماء))
قلتُ: فهذه كتابة التوبة
وإعلانها ونشرها وقد تضمن الإشهاد على نفسه بأنه كان متبعاً لمذهب المعتزلة
معتقداً لضلالاتهم، ثم تضمن الرد على ما كان يعتقده مفصلاً؛ فهل عاب عليه أحد؟!
وهل كان هذا منه تعنتاً وتنطعاً وغلواً؟!.
ثم انظر إلى ما قاله العلامة
ابن قدامة الحنبلي في رسالته [تحريم النظر في كتب الكلام] بعد موت ابن عقيل عندما
وجد له كتاباً سماه "النصيحة" اشتمل على الضلال والزندقة: ((أما بعد:
فإنني وقفتُ على فضيحة ابن عقيل التي سماها "نصيحة" وتأملتُ ما اشتملت
عليه من البدع القبيحة والشناعة على سالكي الطريق الواضحة الصحيحة, فوجدتها فضيحة
لقائلها, قد هَتَكَ الله تعالى بها سِتْره وأبدا بها عورته؛ ولولا أنه قد تاب إلى الله منها وتَنَصَّل ورجع عنها
واستغفر الله تعالى من جميع ما تكلم به من البدع أو
كتبه بخطه أو صنفه أو نسب إليه, لعددناه في جملة الزنادقة وألحقناه بالمبتدعة المارقة، ولكنه لما تاب وأناب
وجب أن تحمل منه هذه البدعة والضلالة على أنها كانت قبل توبته في حال بدعته وزندقته, ثم قد عاد بعد
توبته إلى نصر السنة والرد على من قال بمقالته
الأولى بأحسن كلام وأبلغ نظام, وأجاب على الشبه التي ذُكِرَت بأحسن جواب, وكلامه
في ذلك كثير في كتب كبار وصغار
وأجزاء مفردة, وعندنا من ذلك كثير, فلعل إحسانه يمحو إساءته وتوبته تمحو بدعته, فإنَّ الله تعالى يقبل التوبة عن
عباده ويعفو عن السيئات))
قلتُ: وتأمل أول كلامه؛ كيف
أنه أنكر على ابن عقيل حتى بعد توبته!!.
وقد قال العلامة ابن القيم في
توبة المبتدع الداعي لبدعته [عدة الصابرين ص55-56]: ((فإنْ قيل: فكيف التوبة من هذا المتولِّد وليس من
فعله؟ والإنسان إنما يتوب عما يتعلق باختياره قبل التوبة منه: بالندم عليه وعدم إجابة
دواعيه وموجباته وحبس النفس عن ذلك، فإن كان المتولِّد متعلقاً بالغير فتوبته مع ذلك
برفعه عن الغير بحسب الإمكان؛ ولهذا كان من توبة الداعي إلى البدعة: أن يبين أنَّ ما
كان يدعو إليه بدعة وضلالة، وأنَّ الهدى في ضده؛ كما شرط تعالى في توبة أهل الكتاب
الذين كان ذنبهم كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى ليضلوا الناس بذلك أن يصلحوا
العمل في نفوسهم ويبينوا للناس ما كانوا يكتمونهم إياه))
قلتُ: فتمام توبة المبتدع أن
يبين أنَّ ما كان يدعو إليه أو يقول به بدعة وضلالة!!، ولا يكفي الإقرار بالحق
والرجوع عن الباطل.
-وقال الكاتب في
بيان صفات مخالفيه: ((المطالبة
بالتوبة من القول بما كان من قبيل الاجتهاد السائغ, وهذا من التنطع والغلو الذي بدأ يدب في أوساط بعض الشباب السلفي))
قلتُ: انتهينا معك من الكلام عن الإنكار في مسائل
الخلاف، وعرفنا أنك تطلق عدم الإنكار فيها، وهذه هي نقطة الخلاف، وأما المسائل
التي تتقارب فيها أدلة المختلفين أو يخفى فيها الدليل؛ فمن اجتهد فيها من أهل
الاجتهاد وتحرى فيها الحق وسلك طريقه لكنه أخطأ في تحقيق المناط، فمثل هذا لا يقول
فيه عالم قط: أنه لابد له من توبة!، بل هو مأجور، وقد قلتَ في حلقتك السابعة: ((ولهذا
أنكر الشيخ ربيع على مَنْ زعم أن الشيخ ربيع يخرج السلفيين من السلفية بمسائل اجتهادية أو فرعية؛ فقال في كتاب النصر العزيز
على الرد الوجيز
: "هات مسألة واحدة من مسائل الاجتهاد أخرجنا بها سلفياً واحداً في
مشارق
الأرض ومغاربها وعلى امتداد تاريخ الإسلام؟،
بل هات مسائل كثيرة اجتهادية وغير اجتهادية فيما تسميه بالفروع أخرجنا بها سلفياً
واحداً؟ فهذا مالك ناقشه الشافعي والليث في مسائل كثيرة وهو عندنا من عظماء أئمة السنة، وهذا الشافعي يخالف الإمام أحمد في مسائل كثيرة
الصواب فيها مع
أحمد، وأحمد له مسائل مرجوحة وهو عندنا إمام
أهل السنة بعده إلى اليوم، ولابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب وابن باز
والألباني مسائل نخالفهم فيها، وابن عثيمين والفوزان وهم عندنا من أئمة الإسلام")).
-وقال الكاتب: ((رفض بعض الغلاة المنتسبين إلى السلفية قبول توبة من وقع في جملة أخطاء حتى يتوب منها جميعاً؛ فعلقوا اعتبارهم لتوبته من بعض
الأخطاء على توبته من سائرها))
قلتُ: الكاتب يعمم؛ بينما محل النزاع في مَنْ ابتدع
وانحرف عن سبيل السلف في جملة من المسائل؛ هل يكفي منه أن يتوب من بعضها؟ أم لابد
من التوبة منها جميعها؟ هذه نقطة النزاع، أما المعاصي الشهوانية فلا يُشترط في صحة
التوبة من أحدها أن يتوب من كل المعاصي التي من غير جنسها، أما التي من جنسها
فيشترط، وقد نقلتَ أنتَ في حلقتك هذه مقولة ابن القيم في [المدارج 1/ 275]: ((وأما
التوبة من ذنب مع
مباشرة آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه
فتصح؛ كما إذا تاب من الربا ولم
يتب من شرب الخمر مثلاً، فإنَّ توبته من
الربا صحيحة، وأما إذا تاب من ربا الفضل ولم يتب من ربا النسيئة وأصر عليه أو
العكس، أو تاب من تناول
الحشيشة وأصر على شرب الخمر أو بالعكس: فهذا
لا تصح توبته)).
فإذا لم تصح توبته من نوع من أنواع الربا لأنه لم يتب من
جميع أنواعه؛ فكيف تصح توبته من بعض البدع؟!
-وقال الكاتب: ((رفض اعتبار توبة من عرف بتكراره للوقوع في نفس المخالفة بدعوى: (التلاعب، والتوبة
السياسية), وهذا الرفض يشبه مذهب الخوارج المكفرين بالذنب والمعتزلة المخلدين في النار بالكبيرة))
قلتُ: الكاتب في كثير من كتاباته يشبِّه مخالفيه
بالخوارج، والذي يظهر لي أنه لم يحرر مذهب الخوارج جيداً، أو أنَّ داء الغلو الذي
يحذِّر منه في كتاباته قد أصابه بمقتل!؛ وإلا ما علاقة مَنْ يرفض توبة رجل ابتدع
بدعة وأقر ببدعته ثم تراه يكرر الوقوع في نفس البدعة بين الحين والآخر بمذهب
الخوارج؟! وكلام ابن القيم الذي استدللت به هو فيمن وقع في معصية شهوانية ثم يتكرر
الوقوع منه فيها، وليس فيمن يعترف ببدعته ثم يُعاودها، أو فيمن يؤصِّل أصلاً
فاسداً ثم يقر بفساده ثم يرجع إليه، فهذا تلون وتقلب وهذه مراوغة وتذبذب، لا ينبغي
أن ينخدع بها المسلم، وإلا فلماذا لم تقبلوا تراجعات عائض القرني؟! ألا يُمكن أن
يقال لك ما قلته أنت لغيرك في حلقتك هذه: ((فالعبد المتلاعب في توبته إنما يحاسبه الله على قصده في التوبة, ونحن نقبل توبته في الظاهر))!!، بل لماذا اشترط عمر رضي الله عنه ومَنْ وافقه من
السلف على هجر المبتدع بعد توبته سنة؟! أليس من أجل ملاحظة حسن توبته؟ فالأمر
يختلف بين البدعة وبين المعصية؛ وهذا الذي لم يلاحظه الكاتب –شعر أو لم يشعر- في
حلقته هذه!، وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [28\214-215] ونقله الكاتب في حلقته هذه: عن مسلم بدرت منه
معصية في حال صباه توجب مهاجرته ومجانبته؛ فقالت طائفة منهم: يستغفر الله، ويصفح عنه،
ويتجاوز عن كل ما كان منه. وقالت طائفة أخرى: لا تجوز أخوته ولا مصاحبته. فأي الطائفتين
أحق بالحق؟
فأجاب بقوله: ((لا ريب أنَّ مَنْ تاب إلى الله توبة
نصوحاً تاب الله عليه كما قال تعالى: "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن
السيئات ويعلم ما تفعلون" وقال تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
لا تقنطوا من رحمة الله إنَّ الله يغفر الذنوب جميعاً" أي لمن تاب. وإذا كان كذلك
وتاب الرجل فإن عمل عملاً صالحا سنة من الزمان ولم ينقض التوبة: فانه يقبل منه ذلك
ويجالس ويكلم، وأما إذا تاب ولم تمض عليه سنة؛ فللعلماء فيه قولان مشهوران: منهم مَنْ
يقول في الحال يجالس وتقبل شهادته، ومنهم مَنْ يقول لابد من مضى سنة كما فعل عمر بن
الخطاب بصبيغ بن عسل، وهذه من مسائل لاجتهاد فمن رأى أن تقبل توبة هذا التائب
ويجالس في الحال قبل اختباره فقد أخذ بقول سائغ، ومن رأى أنه يؤخر مدة حتى يعمل صالحاً
ويظهر صدق توبته فقد أخذ بقول سائغ؛ وكلا القولين ليس من المنكرات))
وأما قول الكاتب: ((ومَنْ استدل بقصة عمر مع صبيغ بن عسل فقد افترى على عمر رضي الله عنه؛
فليس في القصة أنه أجَّله لمدة محدودة لا عام ولا أقل ولا أكثر))، قلتُ: فهل افترى شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وجماعة
من سلف الأمة على عمر رضي الله عنه حين استدلوا بهذه القصة؟!! والله المستعان.
-وقال الكاتب: ((رفض بعض الغلاة في قبول توبة المظهر لتراجعه بذريعة أنه:لم تنقض عليه سنة، ولم يظهر الندم على ما فعل، ولم يظهر العزم الأكيد على
أن لا يعود، وردها في حق البعض الآخر بدعوى أنها جاءت (في وقت
يُشَكُّ فيه في صدق تراجعه، الذي لم يبيِّن سببه، ولم يُظْهِرْ فيه ندمه على
مخالفته وعناده)، وهذا تقوِّل على معنى التوبة ومعنى الإصلاح))
قلتُ: وصف قائل هذه الكلمات بالغلو لا يقبل منك!، لأنَّ
الثقة قد تقوم عنده القرائن التي يعرف بها عدم صدق فلان في توبته، فلا يُقال له
أنت غال في قبول التوبة!، بل يُقال هو مجتهد قد يصيب في ظنه وقد يُخطئ، فكيف بعالم
يُوصف من قبل عالم آخر لا خلاف في جلالته ورسوخه: بأنه يُخرج الحزبيين
بالمناقيش؟!!، وإلا ما تقول في رفضك أنت ومشايخك لتوبة سيد قطب؛ وهو الحق، بينما
يقبلها غيرك وهو سلفي عندك وعند مشايخك؟ هل يحق له أن يقول فيك وفيهم: أنتم من أهل
الغلو؟!
ثم هذا الإمام الطبري الذي نقلتَ عنه في حلقتك السابعة أنه
يقول: ((فكذلك الحق فيمن أحداث ذنبًا خالف به أمر الله ورسوله فيما لا شبهة فيه ولا تأويل، أو ركب معصية على علم أنها معصية لله أن يُهجر
غضبًا لله
ورسوله، ولا يُكلم حتى يتوب، وتعلم توبته
علمًا ظاهرًا كما قال في قصة
الثلاثة الذين خلفوا))، فلم يكتفي بالتوبة،
وإنما أن تُعلم علماً ظاهراً!.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 24\174-175]:
((وكذلك أمر عمر رضي الله عنه المسلمين بهجر صبيغ بن عسل التميمي لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب إلى أن مضى عليه حول؛
وتبين صدقه في
التوبة، فأمر المسلمين بمراجعته))، فعمر رضي
الله عنه لم يقبل مراجعته حتى تبين له ولهم صدقه في توبته.
- وقال الكاتب: ((وعجبي من بعض الغلاة الذين يأخذون الناس بظواهرهم الموجبة للطعن من غير التفات إلى حسن مقاصدهم، فإن طالبتهم باعتبار مفصَّل
الحال قالوا: "لم نؤمر أن ننقب عما في القلوب", ثم هم في باب قبول توبة
الراجع الآيب لا يعتبرون لمجرد الظاهر؛ بل يتكلفون البحث عما في القلوب, فالقوم
حقيقة متعنتون في إثبات التعديل, ومتساهلون تمام التساهل في تجريح الخلق))
قلتُ: يُقال لك مثل هذا الكلام في رفضك ومشايخك لتوبة
سيد قطب؛ وجوابك جوابنا!.
- وقال الكاتب: ((وكذلك قد يكون قصد المطالِبين بإعلان غيرهم
التوبة: محض التنقص للتائب والازدراء عليه والاستصغار لشأنه، في مقابل إثبات العلو والشرف والرفعة للمطالِبينَ على حساب إذلال
التائب؛ بما يكون حائلاً دون تحقيق المقصود انتصاراً للنفس؛ فالمقصود إنْ
كان مجرد رجوع العبد عن الخطأ لم يكن من داع إلى مثل هكذا ممارسات وسلوكيات
التي يفهم منها الإصرار على إذلال وقهر التائب المتراجع أو المتبرأ منه,
بدلاً من الفرح به والستر عليه وتحريضه على الرجوع بالحسنى))
قلتُ: أليس في هذا تنقيب عما في قلوب المطالِبين؛ بأنهم
يقصدون الانتقاص من التائب في مقابل العلو والرفعة لهم؟!! وهذه الممارسات
والسلوكيات التي فهمتَ منها أنهم يقصدون قهر المتراجع؛ أليست هي قرائن قامت في
نفسك الأمارة أم هي ظنون سيئة؟! فلماذا الكيل بمكيالين؟ نسأل الله تعالى العدل في
القول والعمل والحكم.
يتبعه الحلقـــ (5) ــة
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.