-->

الثلاثاء، 12 فبراير 2013

تبصير كل ذي عينين بحقيقة المنهج المنشود في سلسلة حلقات "بين منهجين"[3]


مع حلقته الثالثة: (الإلزام بأحكام الرجال المختلف فيهم جرحاً وتعديلاً)

قال الكاتب وهو يُناقش مخالفيه: ((ومنشأ الغلط في هذه المسألة راجع عندهم إلى: الخلل في أصلين نوردهما ناقضين لهما بالقول؛ الأصل الأول: ظنهم أنَّ مسائل نقد الرجال لا تأخذ أحكام المسائل الاجتهادية))
قلت: تقدَّم الجواب عن هذه في الحلقة الأولى، وأنَّ الصحيح التفصيل.
ثم قال الكاتب في بيان الأصل الثاني الذي أنشأ الغلط والخلل عند مخالفيه: ((الأصل الثاني: ظنهم أنه يسوغ الإلزام بما ليس في الكتاب والسنة والإجماع من أقوال وأحكام نقدية))
وقال: ((قد تقدم معنا تقرير: أنه لا إلزام شرعاً إلا بنص من كتاب أو سنة أو إجماع معتبر أو بالتزام العبد))
قلتُ: الإلزام معناه أن يوجب أو يُحرِّم أحدٌ على آخر قولاً أو فعلاً أو حكماً أو موقفاً؛ فإنْ خالفه استحق الإنكار، وإنْ قامت عليه الحجة استحق العقوبة؛ ففعل الواجب ملزم، وترك المحرَّم ملزم، وإتباع الحق ونصرة أهله ملزم، ورد الباطل وتزييف أهله ملزم، والتمسك بمذهب السلف وأصولهم ملزم، والحذر والتحذير من السبل الضالة ملزم، والوفاء بالنذور والعقود والشروط والعهود ملزم، وهكذا...
والخلاف المعاصر في مسألة الإلزام هو: هل يُلزَم الناس بغير النص والإجماع؟ وهذا ما قاله الكاتب هنا.
ولكن يُستدرك عليه ابتداءاً: إضافة "الإلزام بالأصل الثابت أو الفهم المستنبط من أدلة الشرع" على الإلزام بالنص والإجماع؛ فهو وإنْ لم يكن نصاً ولا إجماعاً لكنه حجة يجب إتباعها؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 26/ 202-203]: ((وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة: النص، والإجماع، ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية؛ لا بأقوال بعض العلماء؛ فإنَّ أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية لا يحتج بها على الأدلة الشرعية. ومَنْ تربى على مذهب قد تعوَّده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول بحيث يجب الإيمان به وبين ما قاله بعض العلماء ويتعسَّر أو يتعذَّر إقامة الحجة عليه، ومَنْ كان لا يفرق بين هذا وهذا: لم يحسن أن يتكلم في العلم بكلام العلماء، وإنما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم)).
إذن قد يكون الإلزام بغير النص والإجماع!؛ كالأصل الثابت أو القاعدة الصحيحة، وهذا العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ردَّ على الخرقي في مسألة [مَنْ طلق ولم يدر أواحدة طلق أم ثلاثاً؟] في (بدائع الفوائد 3/ 785-786) ثم قال بعد رده: ((وعلى التقديرين؛ فلا حجة لكم في هذه المسألة ولا إلزام؛ فإنها ليست منصوصة ولا متفق عليها، ولا ملزمة أيضاً فإنه بناها على أصله...))، وهذا يعني: أنه لو بناها على أصل صحيح لكانت ملزمة؛ فتأمَّل.
وأقول: كان بداية الخلاف بين الطرفين؛ هو أنَّ الكاتب ومَنْ معه: لا يُلزمون في مسائل النقد (الحكم على المعينين) إلا بالإجماع!!، لأنَّ النص انقطع بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الجرح أو التجريح المفسَّر بالبينات والبراهين أو الأدلة والقرائن لا يرون فيه إلزاماً، وهذا لا يعني أنهم لا يرون تقديم الجرح المفسر على التعديل المجمل، أو لا يقبلون الجرح المفسَّر إلا بشرط الإجماع؛ لا، الإلزام شيء والقبول شيء آخر؛ وإنْ دلَّت بعض عباراتهم أو تعليقاتهم على كلام الأئمة على عدم قبول الجرح المفسَّر أو على نفيه فإنما هي من قبيل سوء التعبير أو قصور في العبارة!.
لكن في مجالس أو مقالات لاحقة صرَّحوا أنَّ الإلزام قد يكون بغير الإجماع؛ فقال شيخ الكاتب في أحد مقالاته: ((واتَّهَمُونا بأنَّنا نرفُضُ (الجرح المُفَسَّر)؛ كحالِ مَنْ هم لمنهج أهل الحديث أعداء، واللهُ -في عالي سماه- عليمٌ بأنَّ هذا القولَ باطلٌ هَباء، فالجرح المُفَسَّرُ -عند كُلِّ ذي نَظَر- مقبولٌ بـ(القناعة)، والجَلاء، وهو لأهل البِدَعِ مِن بِدَعِهِم شِفاء، ولكنَّ شرطَ (الإلزامِ به) أشياء: أهمُّها: الحُجَّةُ العلميَّةُ القويَّةُ (المقنِعَةُ) بالقضاء، وثانيها: الإجماعُ المُعْتَبَرُ مِن الأئمَّةِ والعُلماء، وبغيرِ ذلك -أيُّها المحبُّون- نُسيءُ، أو لنا يُساء، فهل ما نسبوهُ إلينا، وما وضَّحناهُ سواء، لا؛ والذي رفع السماء))
وقال الكاتب في حلقته هذه: ((وهنا يقال: أين الدليل الشرعي من كتاب أو سنة أو إجماع يوجب الإلزام بقبول الجرح المفسر المقنع؟ نعم من اقتنع برجحان أمر عمل له لزوماً شرعياً أو عقلياً -بحسب هذا الأمر- وإلا كان متبعاً للظن المرجوح الموجب للذم شرعاً أو عقلاً -بحسب هذا الأمر-، لكن ليس له أن يلزم غيره, ومن اقتنع بشيء ولم يعمل بمقتضاه كان مذموماً شرعاً أو عقلاً -بحسب هذا الأمر-, لكن عمل المقتنع شيء وإلزام المقتنع لغيره بما هو مقتنع به شيء آخر؛ فتنبه))
وقال: ((وأما إنْ كانت من قبيل المختلف فيه –ولو كانت مفسرة بما يراه البعض أنه مقنع- لا يشرع لمن اقتنع بالجرح المفسر أن يلزم غيره به))
قلتُ: فعندهم أنَّ مسائل الجرح والتعديل أو الحكم على الأعيان قد يكون فيها الإلزام بغير الإجماع!، كالحجة العلمية القوية؛ لكن بشرط أن يقتنع الملزَم لا الملزِم له.
ويبقى الخلاف في قيد (الإقناع) الذي اشترطوه لقبول الحجة العلمية أو الأدلة البينة؛ ما هو حقيقته عندهم؟ وما هو حده؟!
والكل يعلم أنَّ القناعة ليس الناس فيها على مرتبة واحدة، وقد لا يقتنع البعض ولو أتيت له بأقوى الحجج وأبين الأدلة كما قال تعالى: ((وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ))، وقال: ((سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ))، وقال: ((وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، فالإنسان قد يرد الحجج العلمية والأدلة البينة لا لعدم قناعته في الباطن بل لهوى في نفسه أو كبر في قلبه ومكابرة أو جدال ومجادلة قال تعالى: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا))؛ فكيف لنا أن نعرف أنه توقف في قبول الحجج لأنه لم يقتنع بها لضعف دلالتها أو عدم ثبوتها لا لهوى وعناد؟! وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في بيان حكم مناظرة المخالفين [درء التعارض 3/ 374]: ((وقد يُنهى عنها إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله -وهو السوفسطائي!- فإنَّ الأمم كلهم متفقون على أنَّ المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة بينة بنفسها ضرورية وجحدها الخصم كان: سوفسطائياً، ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك، بل إنْ كان فاسد العقل داووه، وإنْ كان عاجزاً عن معرفة الحق - ولا مضرة فيه - تركوه، وإنْ كان مستحقاً للعقاب عاقبوه مع القدرة؛ إما بالتعزير وإما بالقتل، وغالب الخلق لا ينقادون للحق إلا بالقهر!))، وقال [المجموع 12/ 237]: ((فإنَّ مواضع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن إتباع الظن وما تهوى الأنفس!)).
إذن لابد للمسألة من ضابط؛ وأحسن العلامة الشاطبي رحمه الله تعالى حين قال في [الموافقات 5/ 81]: ((وأيضاً: فإنَّ في مسائل الخلاف ضابطاً قرآنياً ينفي إتباع الهوى جملة؛ وهو قوله تعالى: "فإنْ تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان، فوجب ردها إلى الله والرسول، وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة، فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول)).
ولهذا كان الواجب على الرسل هو البيان فحسب؛ قال تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبيِّن لهم"، وفي آية أخرى قال: "حتى يبيّن لهم ما يتقون"، وآيات أخرى كثيرة؛ وليس فيها إلا مجرد البيان، أما إقناع المخاطَبين فلا يوجد في النصوص ما يشير إليه على حد معرفتي، والبيان: هو إخراج الشيء من حيز الإشكال والخفاء إلى حيز الوضوح، فإذا اتضح الحق فلا عبرة بكون المخالف مقتنعاً به أو غير مقتنع!!.
وضابط ما يُلزم به وما لا يُلزم هو: الإيجاب؛ فكل ما وجب فعله أو تركه فهو مُلْزِم، وقد قال أهل الأصول في تعريف (الواجب): هو ما طلب الشارع فعله على وجه الإلزام، وقالوا في (الحرام): هو ما طلب الشارع تركه على وجه الإلزام، فلا إلزام إلا بواجب الفعل أو الترك، وصيغ الإيجاب والتحريم معروفة في كتب الأصول، فكل ما ثبت وجوبه أو تحريمه فهو ملزم، أما ما اختلفت دلالته على الإيجاب أو التحريم بين القبول والرد؛ ولم يسلم أحد القولين من معارضة أو مناقضة فلا إلزام فيه حينئذ.
أما أن نرجع المسألة إلى قناعة النفس فهذا أمر غير منضبط؛ لأننا قد ندرك المعنى الذي من أجله شُرِّعَ حكم الإيجاب أو التحريم وقد لا ندرك، وقد يقبل أحدنا الحق لأدلته وقد يقبله أو يرفضه لهوى في نفسه؛ والله تعالى يقول: ((وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ. وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)).
فالأصل هو: أن تُبيَّن الحجج وأن تُدفع الشبهات؛ فإذا انقطعت حجة المخالف أو صار يُجادل أو يُخاصم بما لا حجة فيه أو في غير محل النزاع أو غير ذلك من أساليب أهل الأهواء المعروفة؛ وردَّ الحق بلا حجة علمية، عرفنا حينها أنَّ ردَّه للحق عن هوى أو مكابرة أو عناد أو جدل أو تعصب، وليست المسألة أنَّ أدلة خصمه لم تقنعه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ))، وقال: ((مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ)).
نعم قد تكون الحدة في ردود البعض وخطاباتهم والشدة في أسلوبهم عند التعامل مع المخالفين تمنع من قبول الحجج منهم؛ وبالتالي من الاقتناع بالحق الذي معهم أو من متابعتهم في أحكامهم النقدية، ولهذا نحن مطالبون جميعاً باللين والرفق والتمسك بالردود العلمية والحوارات الموضوعية البعيدة عن حظوظ النفس والتعصب والغلو والتشنج والعبارات التي لا تليق، والله يهدي مَنْ يشاء إلى قوة الإقناع مع حسن الأسلوب.
وقول الكاتب: ((لكن ثمة فرق بين الإلزام والالتزام, فالإلزام متضمن للقهر والإجبار على الاعتناق وقد يكون مقتنعاً وقد لا يكون مقتنعاً, وأما الالتزام فمعناه الاعتناق، وقد يكون بالقهر وقد يكون بالاقتناع, ونحن شرعاً مأمورون بالبيان والإيضاح لا بالقهر والإجبار))
قلتُ: قولك ((فالإلزام متضمن للقهر والإجبار على الاعتناق))، لأنه لا جبر ولا قهر في قبول الإسلام؛ مع أنه ملزم لجميع الناس لبيان أدلته وظهور حجته لكل ذي عقل، ولهذا قال تعالى: "لا إكراه في الدين"؟!
يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره: ((يخبر تعالى أنه "لا إكراه في الدين" لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأنَّ الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس؛ وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعُرف الرشد من الغي، فالموفَّق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين!، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحاً!، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين، وإنما فيها أنَّ حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده إتباع الحق، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له، وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر))
وقال في موضع آخر: ((هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي، وأنه لكمال براهينه، واتضاح آياته، وكونه هو دين العقل والعلم، ودين الفطرة والحكمة، ودين الصلاح والإصلاح، ودين الحق والرشد، فلكماله وقبول الفطرة له: لا يحتاج إلى الإكراه عليه!؛ لأنَّ الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب، ويتنافى مع الحقيقة والحق، أو لما تخفى براهينه وآياته!، وإلا فمن جاءه هذا الدين، ورده ولم يقبله، فإنه لعناده. فإنه قد تبين الرشد من الغي، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة، إذا رده ولم يقبله!، ولا منافاة بين هذا المعنى، وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد، فإنَّ الله أمر بالقتال ليكون الدين كله لله، ولدفع اعتداء المعتدين على الدين)).
 فأين القهر والإجبار على اعتناق هذا الدين فضلاً عن المسائل المجمع عليها فضلاً عن المسائل الاجتهادية؟!!
فهل يحق لنا أن نقول: لا إلزام بهذا الدين!!!، أو لا إلزام بالمسائل المجمع عليها!!؛ كما تقول: لا إلزام بالمسائل الاجتهادية مطلقاً!؛ استناداً على أنَّ معنى الإلزام كما ذكرت هو الإجبار والقهر!؛ وهما منتفيان فيها جميعاً؟! هل تقول بهذا؟ فما الفرق؟!
ومعنى الإلزام الذي ذكره الكاتب هو الذي يختص بمَنْ له سلطان وقدرة على الناس؛ والذي يترتب عليه الضرب أو الحبس أو الحد أو القتل إلى غير ذلك من أنواع العقوبات!!. وأما الإلزام بالعلم والحجة فليس فيه سوى الأمر بمتابعة الحق والنهي عن سلوك طرق الضلال، فهذا الأمر والنهي هو الإلزام المراد به هنا، ويترتب عليه العقوبة بعد قيام الحجة: بالتبديع أو التضليل أو التحذير أو الهجر، فليس ثمة قهر ولا إجبار على اعتناق قول. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 35/ 395]: ((الشرع المؤول وهو موارد النزاع والاجتهاد بين الأمة؛ فمن أخذ فيما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه؛ ولم تجب على جميع الخلق موافقته إلا بحجة لا مردَّ لها من الكتاب والسنة))، فوجود "الحجة" التي لا مردَّ لها من الكتاب والسنة توجب على جميع الخلق موافقة أحد القولين في مسائل الاجتهاد!؛ وهذا هو الإلزام بالعلم والحجة؛ وهو المقصود هنا.
وقول الكاتب: ((لا إلزام شرعاً في المسائل الاجتهادية؛ بغية إيضاح: أنَّ هذه المسألة من بدهيات العلم، ولا يماري فيها إلا مكابر))
أقول: ليس على إطلاقه؛ فقد قال العلامة الشوكاني في [السيل الجرار 4/ 299]: ((فالحاصل: إنَّ مِن أوجب ما يجب على الإمام ومَنْ له قدره أن يحيى ما أحياه الكتاب والسنة ويميت ما أماتاه، ويدعو الناس إلا ما دعاهم الله ورسوله إليه، وينهاهم عما ينهاهم الله ورسوله عنه، وبهذا تعرف أنَّ "عدم الإلزام في مسائل الخلاف" كما يقول كثير من أهل الفروع هو شعبة من محبة التقليد الذي نشأوا عليه ودبوا ودرجوا فيه، وحنين منهم إلى الإلف المألوف؛ فليكن هذا منك على ذكر))
وتعقَّب رحمه الله تعالى مذهب مَنْ يتوقف في الإنكار في مسائل الخلاف فقال [السيل الجرار 4/ 588-589]: ((هذه المقالة قد صارت أعظم ذريعة إلى سد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما بالمثابة التي عرَّفناك، والمنزلة التي بيَّناها لك، وقد وجب بإيجاب الله عز وجل، وبإيجاب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، الأمر بما هو معروف من معروفات الشرع، والنهي عما هو منكر من منكراته: ومعيار ذلك الكتاب والسنة، فعلى كل مسلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفاً، وينهى عما هو فيهما أو في أحدهما منكراً. وإنْ قال قائل من أهل العلم بما يخالف ذلك، فقوله منكر يجب إنكاره عليه أولاً!، ثم على العامل به ثانياً!. وهذه الشريعة الشريفة التي أُمِرْنا بالأمر بمعروفها، والنهي عن منكرها؛ هي هذه الموجودة في الكتاب والسنة. وأما ما حدث من المذاهب فليست بشرائع مستجدة ولا هي شرائع ناسخة لما جاء به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وإنما هي بدع ابتدعت وحوادث في الإسلام حدثت؛ فما كان فيها موافقاً للشرع الثابت في الكتاب والسنة فقد سبق إليه الكتاب والسنة، وما كان منها مخالفاً للكتاب والسنة فهو رد على قائله مضروب به في وجهه، كما جاءت بذلك الأدلة الصحيحة التي منها "كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد".
فالواجب على من علم بهذه الشريعة ولديه حقيقة من معروفها ومنكرها أن يأمر بما علمه معروفاً وينهى عما علمه منكراً، فالحق لا يتغير حكمه ولا يسقط وجوب العمل به والأمر بفعله والإنكار على من خالفه بمجرد قول قائل أو اجتهاد مجتهد أو ابتداع مبتدع!.
فإنْ قال تارك الواجب أو فاعل المنكر: قد قال بهذا فلان أو ذهب إليه فلان؟ أجاب عليه: بأنًَّ الله لم يأمرنا بإتباع فلان، بل قال لنا في كتابه العزيز: "ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، فإنْ لم يقنع بهذا حاكمه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمرنا الله سبحانه في كتابه بالرد إليهما عند التنازع))
وتقدَّم قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [الفتاوى الكبرى 6/ 92]: ((والصواب الذي عليه الأئمة: أنَّ مسائل الاجتهاد إذا لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً -مثل: حديث صحيح لا معارض من جنسه- فيسوغ له إذا عُدم ذلك فيها الاجتهاد؛ لتعارض الأدلة المتقاربة أو لخفاء الأدلة فيها.
وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعنٌ على مَنْ خالفها من المجتهدين؛ كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها، مثل: كون الحامل المتوفى عنها تعتد بوضع الحمل، وإنَّ الجِماع المجرد عن إنزال يوجب الغسل، وإنَّ ربا الفضل والمتعة حرام، وإنَّ النبيذ حرام، وإنَّ السنة في الركوع الأخذ بالركب، وإنَّ دية الأصابع سواء، وإنَّ يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم ربع دينار، وإنَّ البائع أحق بسلعته إذا أفلس المشتري، وإنَّ المسلم لا يقتل بالكافر، وإنَّ الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وإنَّ التيمم يكفي فيه ضربة واحدة إلى الكوعين، وإنَّ المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً؛ إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى.
وبالجملة: مَنْ بلغه ما في هذا الباب من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها فليس له عند الله عذر بتقليد مَنْ ينهاه عن تقليده ويقول: "لا يحل لك أن تقول ما قلتُ حتى تعلم من أين قلتُ" أو يقول: "إذا صح الحديث فلا تعبأ بقولي")).
قلتُ: فالمسألة متعلقة بكون الأدلة واضحة ولا معارض معتبر لها، وهذا هو اليقين الذي يدل على صحة أحد القولين، أما إذا كانت الأدلة لها معارض أو شبهة أو تحتمل القبول والرد؛ فمثل هذه لا إلزام فيها.
وأما ما نقلته من قول الشيخ الألباني: ((الواجب أن يكون قد اقتنع بأنَّ الحجة قد قامت على الشخص الذي يراد تكفيره أو تفسيقه أو تبديعه))؛ فهذه القناعة محمولة على الأدلة المحتملة في نفسها لا الأدلة الواضحة؛ وإلا فإنَّ الشيخ رحمه الله تعالى هو صاحب كتاب: ((الرد المفحم على مَنْ خالف العلماء وتشدد وتعصَّب وألزم المرأة بستر وجهها وكفيها وأوجب ولم يقتنع بقولهم: إنه سنة ومستحب))، فهو يُنكر عليهم عدم اقتناعهم بقول (بعض العلماء) في مسألة جواز كشف الوجه والكفين مع إنها من المسائل الاجتهادية التي لا تسلم الأدلة فيها من معارضة في نظر البعض، وكذلك هو القائل في مسألة حكم تارك الصلاة: ((فليقنع العلماء إذن من الوجهة النظرية بما عليه جمهور أئمة المسلمين بعدم تكفير تارك الصلاة مع إيمانه بها؛ وقد قدمنا الدليل القاطع على ذلك من السنة الصحيحة فلا عذر لأحد بعد ذلك، "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم")) مع أنَّ أدلة كفر تارك الصلاة قوية إلا أنَّ الشيخ يدعو المكفِّرين إلى الاقتناع بقول غير المكفِّرين، ويرى أنه لا عذر لأحد بعد الدليل القاطع، وهو القائل في مسألة الزيادة في صلاة التراويح [ص44-46]: ((هذا هو موقفنا في المسائل الخلافية بين المسلمين الجهر بالحق بالتي هي أحسن، وعدم تضليل من يخالفنا لشبهة لا لهوى؛ وهذا هو الذي جرينا عليه منذ أن هدانا الله لإتباع السنة وذلك من نحو عشرين سنة، ونتمنى مثل هذا الموقف لأولئك المتسرعين في تضليل المسلمين... فمَنْ لم يقتنع بها لشبهة لا لهوى ولا إتباعاً للآباء والأجداد فليس لأحد عليه من سبيل؛ لاسيما إذا كان لم يلتزمها بعض كبار العلماء كما في هذه المسألة))، ففرق بين عدم الاقتناع لشبهة وبين عدم الاقتناع لهوى أو تقليد، والشيخ رحمه الله تعالى هو الذي يُنكر على غيره تصحيح حديث قد ثبت فيه جرح معتبر مفسَّر؛ مع إنَّ الغير لم يقتنع بالجرح ويستند على تعديل آخرين من أهل الشأن!؛ وانظر كمثال: رد الشيخ الألباني على الكوثري في توثيق فضيل بن مرزوق راوي حديث "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك"، مع أن فضيلاً هذا قد وثقه جماعة وضعفه آخرون؛ حيث قال الألباني في الضعيفة (1/ 82): ((قوله [الكوثري]: "وجرحه غير مفسر"؛ فهذا غير مسلم به, بل هو مفسر في نفس كلام أبي حاتم الذي نقلته, و هو قوله: "يهم كثيراً", و قد اعتمد الحافظ ابن حجر هذا القول فقال في ترجمته: "صدوق يهم", فمن كان يهم في حديثه كثيراً, فلا شك أنه لا يحتج به كما هو مقرر في محله من علم المصطلح))، وانظر كذلك كلامه في (الواقدي) راوي حديث: ((إنما حر جهنم على أمتي كحر الحمام))، ورد الشيخ الألباني على أبي غدة والتهانوي والكوثري؛ وهو رد شديد.
وما نقلتَه عن الشيخ ربيع هو من هذا القبيل أيضاً؛ أي في حال الاحتمال لا الوضوح والبيان، فهو حفظه الله تعالى نقل نقد شيخ الإسلام ابن تيمية للهروي ثم نقل إعذاره له ثم قال: ((ثم بعد ذلك كله يبقى القارئ حراً؛ فإما يقتنع بهذا العذر وإما لا يقتنع؛ فلا إلزام بهذا الإعذار, ولا ذاك النقد))، هذا لأنَّ كلام الهروي في مسألة الفناء وما جرَّ إليه من القول بالاتحاد يحتمل لفظه ما يدَّعيه أهل الاتحاد ويحتمل غير ذلك، لكن لما كانت ألفاظه مجملة ردَّه شيخ الإسلام وانتقده بشدة، ولما كان الهروي إماماً جليلاً معروفاً بنصرته للسنة ومحاربته للبدع اعتذر له شيخ الإسلام بحمل الألفاظ إلى أحسن المعاني، والاعتذار قد يكون بعيداً عن ظاهر اللفظ وقد يكون قريباً، فليس في النقد ولا الإعذار أمر قاطع بل كلاهما محتمل!، فالقارئ حر في قبولهما أو ردهما بحسب قناعته، وإنما الإلزام يكون بالأمور أو الأدلة أو القرائن القاطعة أو عند غلبة الظن فيها؛ لا في حال الاحتمال!.
وهذه المسألة تذكرني بمسألة قريبة منها يحسن بنا أن نلقي نظرة عليها لعلَّنا ننتفع بها هنا؛ ألا وهي هل يلزم أو يشترط في قيام الحجة فهمها؟
بعض المخالفين للدعوة السلفية يشترطون فهم المخاطَبين للحجة لصحة قيامها؛ فلا تقوم عندهم الحجة على المخاطَب حتى يفهمها فهم المهتدي إلى الصراط المستقيم ولا يكفي أن يفهم معنى الكلام المخاطَب به ودلالته، وهذا غلط. 
قال العلامة ابن القيِّم رحمه الله تعالى في [مدارج السالكين 1/ 217-219]: ((حجة الله قامت على العبد بإرسال الرسول وإنزال الكتاب وبلوغ ذلك إليه وتمكنه من العلم به؛ سواء علم أو جهل، فكل من تمكَّن من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه فقصَّر عنه ولم يعرفه: فقد قامت عليه الحجة، والله سبحانه لا يعذب أحداً إلاَّ بعد قيام الحجة عليه)).
وقال رحمه الله تعالى أيضاً في [شفاء العليل ص79]: ((فصل: المرتبة الثانية من مراتب الهداية: هداية الإرشاد والبيان للمكلفين؛ وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق وإتباع الحق!؛ وإنْ كانت شرطاً فيه أو جزء سبب، وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبب؛ بل قد يتخلف عنه المقتضى، إما لعدم كمال السبب، أو لوجود مانع، ولهذا قال تعالى: "وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى"، وقال: "وما كان ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون"، فهداهم هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا، فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولاً بعد أن عرفوا الهدى، فأعرضوا عنه، فأعماهم عنه بعد أن أراهموه؛ وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة فكفرها؛ فإنه يسلبه إياها بعد إن كانت نصيبه وحظه)).
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب رحمه الله تعالى كما في مجموع الفتاوى (3/ 12-13): ((فإنَّ الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية، أو يكون ذلك في مسألة خفية؛ مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يُعرَّف.
أما أصول الدين التي أوضحها الله في كتابه فإنَّ حجَّة الله هي القرآن؛ فمن بلغه فقد بلغته الحجة، لكن أصل الإشكال أنكم لم تفرِّقوا بين قيام الحُجَّة، وفهم الحجَّة!: فإنَّ الكفَّار والمنافقين لم يفهموا حجَّة الله مع قيامها عليهم؛ كما قال تعالى: "أم تحسبُ أنَّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إنْ هم إلاَّ كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً"، وقيام الحجَّة وبلوغها نوعٌ، وفهمهم إيَّاها نوعٌ آخر، وكفَّرهم ببلوغها إيَّاهم وإنْ لم يفهموها نوعٌ آخر، فإنْ أشكل عليكم فنظروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في الخوارج: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم"، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، وقد بلغتهم الحجة؛ ولكن لم يفهموها)).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى في فتاواه (1/ 74): ((إنَّ الذين توقَّفوا في تكفير المعيَّن، في الأشياء التي يخفى دليلها؛ فلا يكفر حتى تقوم الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة.
فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفَر؛ سواءٌ فهِمَ أو قال: لم أفهم!، أو فهم وأنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد. وأما ما عُلِمَ بالضرورة أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلَّم جاء به وخالفه: فهذا يكفر بمجرَّد ذلك، ولا يحتاج إلى تعريف؛ سواءٌ في الأصول أو في الفروع، ما لم يكن حديث عهد بالإسلام))
وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله تعالى في شرح الطحاوية: ((وأما فهم الحجة فإنه لا يُشترط في الأصل!، ومعنى عدم اشتراطه: أننا نقول ليس كلُّ مَنْ كفر كفر عن عناد؛ بل ربما كفر بعد إبلاغه الحجة وإيضاحها له؛ لأنه عنده مانع من هوى أو ضلال منعه من فهم الحجة!، قال جل وعلا: "وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ"، والآيات في هذا المعنى متعددة.
أما ما معنى فهم الحجة؟ يعني: أن يفهم وجه الاحتجاج بقوة هذه الحجة على شبهته، وعنده شبهة بعبادة غير الله، عنده شبهة في استحلاله لما حُرِّم مما أجمع على تحريمه؛ لكن يُبلَّغ بالحجة الواضحة بلسانه ليفهم معنى هذه الحجة، فإن بقي أنه لم يفهم كون هذه الحجة راجحة على حجته فإنَّ هذا لا يشترط- يعني في الأصل-؛ لكن في بعض المسائل جعل عدم فهم الحجة يعني كون الحجة راجحة على ما عنده من الحجج جعل مانعاً من التكفير كما في بعض مسائل الصفات.
يعني أنَّ أهل السنة والجماعة من حيث التقسيم اشترطوا إقامة الحجة، ولم يشترطوا فهم الحجة في الأصل!؛ لكن في مسائل اشترطوا فيها فهم الحجة وهذا الذي يعلمه مَنْ يقيم الحجة؛ وهو العالم الراسخ في علمه الذي يعلم حدود ما أنزل الله جل وعلا على رسوله))
وقال في شرح كشف الشبهات: ((صار إذن الحال مشتمل على أنَّ إقامة الحجة شرط؛ ومعنى إقامة الحجة أن تكون الحجة من الكتاب أو من السنة أو من الدليل العقلي الذي دل عليه القرآن أو السنة، وأنَّ فهم اللسان العربي فهم معنى الحجة بلسان من أقيمت عليه هذا لابد منه!؛ لأنَّ المقصود من إقامة الحجة أن يفهم معاني هذه الكلمات، أن يفهم معنى الحديث، أن يفهم معنى الآية. وأما ما لا يشترط: وهو فهم الحجة، فيراد به أن تكون هذه الحجة أرجح من الشبه التي عنده!؛ لأنَّ ضلال الضالين ليس كله عن عناد!، وإنما بعضه ابتلاء من الله جل وعلا، وبعضه للإعراض، وبعضه لذنوب منهم ونحو ذلك))
قلتُ: ولابد من بيان أمرين في هذا النقطة من بحثنا:
الأولى: صفة قيام الحجة؛ قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في [الإحكام 1/ 67]: ((وكل ما قلناه أنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة فهو ما لم تقم عليه الحجة عليه معذور مأجور، وإنْ كان مخطئاً، وصفة قيام الحجة عليه: أن تبلغه فلا يكون عنده شيءٌ يقاومها، وبالله التوفيق))
الثانية: صفة مَنْ يقيم الحجة؛ قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى في [منهاج الحق والإتباع ص68]: ((الذي يظهر لي -والله أعلم- أنَّها لا تقوم الحجة إلاَّ بمن يُحسِنُ إقامتها، وأما مَنْ لا يحسن إقامتها؛ كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه، ولا ما ذكره العلماء في ذلك؛ فإنه لا تقوم به الحجَّة))
قلتُ: ففرقٌ بين فهم الحجة من حيث فهم معنى الدليل المحتج به؛ وهو الذي يُشترط في قيامها، وبين فهمها من حيث الترجيح والقناعة به وهذا لا يُشترط؛ فقد لا يفقه قلب الإنسان الحق ولو أتيته بكل آية وبرهان أو لا يترجح في قرارة نفسه القول الراجح؛ إما لهوى أو لعقوبة، وليس كل الكفار ردُّوا الحق عن عناد!؛ بل منهم مَنْ استحب العمى على الهدى ومنهم مَنْ استحب الحياة الدنيا وزينتها وآثرها على الآخرة إلى غير ذلك من أسباب الكفر.
 فأصل الحجة هو وضوح الدليل، لا اتضاحه لكل الناس!، وإلا لم يُمكن أن تثبت حجة أو تصدق مع عدم قناعة بعض الناس بما تقتضيه؛ وهذا واقع لا محال.
وأما قول الكاتب: ((إنَّ الله تعالى لم يأمرنا بأن ننقد الذوات والأعيان –مع أنه مطلوب أحياناً للحاجة الشرعية-, بل أمرنا أن ننقد المنكر ونأمر بالمعروف؛ ولهذا كان من الطريقة القرآنية بيان الأخطاء دون التعرض للذوات والأعيان))، واستدل بعدم ذكر القرآن لأسماء المنافقين وإنما اكتفى بذكر أوصافهم وأحوالهم، وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتفي بقوله: ((ما بال أقوام))، ثم مثَّل الكاتب بـ[سيد قطب]!!، ونقل كلام ابن عثيمين رحمه الله تعالى فيه، ثم قال الكاتب: ((فهذا هو موقف الشيخ ابن عثيمين من تجريح سيد قطب؛ هل ترى في جوابه الدعوة للإلزام بحكم فيه, أم نصيحة بترك الاشتغال بشخصه والاهتمام بآثاره وما فيها من حق وباطل)).
قلت: وإذا كان الكاتب لا يرى الإلزام في تجريح سيد قطب!، فهو إذن لا يرى الإلزام بغيره من المجروحين اليوم ولو ظهرت أدلة جرحه ظهوراً بيناً!!، فلا نتعب أنفسنا معه في هذه المسألة إلا أن يشاء الله تعالى أمراً.
ثم ما هي آثار سيد قطب التي تدعونا إلى أن نهتم بها؛ أيها الكاتب؟!
ولماذا نهتم بمعرفة حقه من باطله وقد قال العلماء الكبار كلمتهم فيه؛ وانتهى أمره؟!
أم لابد أن نعرف ما عنده بأنفسنا كما هو منهج المأربي؟
وكيف نسكت عن شخصه؛ وفي هذا العصر أفراد وجماعات تنتمي له ويدعون إلى نهجه ويُعظِّمون كتاباته وشخصيته حتى غرروا كثيراً من الشباب المسلم به؟! ألا تعلم هذا؟!!!
وأين هو قيدك حين قلت: (مع أنه مطلوب أحياناً للحاجة الشرعية) أي: مطلوب تعيين الأشخاص؛ إذا كنت تدعو لترك الكلام في شخص سيد قطب، والانشغال بكلامه لمعرفة حقه من باطله؟!
أما أنَّ طريقة القرآن بيان الأخطاء دون التعرض للذوات والأعيان؛ فهذا لأنَّ القرآن منهج عام للأمة إلى قيام الساعة لهذا كانت أحكامه عامة وليست خاصة في عصر التنزيل؛ وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع هذا فطريقة القرآن المجملة هي كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 15/ 338]: ((فالإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره، وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك، وإلى الجواب عما يعارض به أصحابها من الحجج، وإلى دفع أهوائهم وإرادتهم؛ وذلك يحتاج إلى إرادة جازمة وقدرة على ذلك، وذلك لا يكون إلا بالصبر كما قال تعالى: "والعصر. إنَّ الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"، وأول ذلك أن تذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهى عنها، وبيان ما فيها من الفساد. فإن الإنكار بالقلب واللسان قبل الإنكار باليد؛ وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والفساق والعصاة من أقوالهم وأفعالهم: يذكر ذلك على وجه الذم والبغض لها ولأهلها، وبيان فسادها وضدها والتحذير منها، كما أنَّ فيما يذكره عن أهل العلم والإيمان ومَنْ فيهم من أنبيائه وأوليائه: على وجه المدح والحب وبيان صلاحه ومنفعته والترغيب فيه))
ثم انظر إلى سلف الأمة في كل قرن من القرون؛ وكيف كانوا يحذِّرون من أهل البدع بأعيانهم جهاراً، وهذا أمر معروف مستفيض لا يحتاج في إثباته إلى دليل، ولا يخفى على مثلك!.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 28/ 232-234]: ((وأعداء الدين نوعان: الكفار والمنافقون؛ وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله: "جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم" في آيتين من القرآن. فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعاً تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبدل الدين، كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله. وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سمَّاعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقاً وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى: "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولا وضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم" فلا بد أيضاً من بيان حال هؤلاء؛ بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإنَّ فيهم إيماناً يوجب موالاتهم. وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع؛ وإنْ اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم. بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظآنين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ولم يكن كذلك لوجب بيان حالهم؛ ولهذا وجب بيان حال مَنْ يغلط في الحديث والرواية ومَنْ يغلط في الرأي والفتيا ومَنْ يغلط في الزهد والعبادة، وإنْ كان المخطئ المجتهد مغفوراً له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب وإنْ كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله. ومَنْ عُلم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإنَّ الله غفر له خطاه بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء وغير ذلك. وإن عُلم منه النفاق كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن أبي وذويه، وكما علم المسلمون نفاق الرافضة عبد الله بن سبأ وأمثاله مثل عبد القدوس بن الحجاج ومحمد بن سعيد المصلوب فهذا يُذكر بالنفاق، وإنْ أعلن بالبدعة ولم يُعلم هل كان منافقاً أو مؤمناً مخطئاً؟ ذكر بما يعلم منه، فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصداً بذلك وجه الله تعالى وأن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله؛ فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثماً))
وهذه الطريقة التي ذكرها الكاتب (بيان الأخطاء دون التعرض للذوات والأعيان) هي الطريقة التي يدعوا لها أهل الأهواء المعادين للمنهج السلفي في هذا العصر حتى قال مَنْ تأثر بهم مثل عدنان عرور: ((نصحح ولا نجرِّح))!، وقال المأربي: ((نصحح ولا نهدم))!، وصرَّح هذا الأخير فقال: ((ما نصحح الأخطاء بهدم الأشخاص!؛ رجل عنده خير، وزلَّ زلة أو زلات، نصحح ما عنده ونصححه، ولا نهدمه، ولا نهدم الخير الذي عنده، إذا كان واقفًا أمام العلمانيين، أو المنحلين، أو دعاة الانحلال والتحلل، أو كان واقفاً أمام الصوفية، أو كان واقفًا أمام الروافض، أو كان واقفًا أمام الحزبيين المشوهين للدعوة السلفية، وزلَّ زلات؛ هذا لا نهدمه، ونصحح هذه الأخطاء))
فإذا كان المأربي يقصد كما يزعم في دفاعه عن قاعدته: أهل السنة الذين قد زلُّوا، وليس مقصوده أهل البدع!؛ ومع هذا تكلَّم فيه أهل العلم!، فكيف والكاتب يُمثِّل لقاعدته (بيان الأخطاء دون التعرض للذوات والأعيان) برأس مبتدعة العصر؛ سيد قطب؟!!
 وقال الكاتب: ((لا يُعرف عن أحد من أهل العلم المعتبرين من المتقدمين والمتأخرين أنه قال بمشروعية الإلزام بالأحكام النقدية الغير منصوص عليها أو المجمع عليها, بل المنقول عنهم أنه لا إلزام بالأحكام النقدية إلا للمقلدين؛ فلهم أحكامهم المعروفة))
قلتُ: وهذا تأكيد من الكاتب أنه لا يرى الإلزام في مسائل الجرح إلا بالإجماع، لأنَّ النص قد انقطع فلم يبق إلا الإجماع!!
وأقول: قال شيخك في المسألة الثامنة: (الامتحان بالأشخاص) في حاشية كتابه [منهج السلف الصالح] مؤكِّداً ما تقول ومعلِّقاً على كلمة لشيخ الإسلام [...وما اجتمعت عليه الأمة]: ((وهذا قيد مهم جداً ...ومنه قول الحافظ ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم ص306: "والمنكر الذي يجب إنكاره ما كان مجمعاً عليه؛ فأما المختلف فيه: فمن أصحابنا مَنْ قال لا يجب إنكاره على مَنْ فعله مجتهداً أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً"))
قلتُ: وأنا أكمل كلام الحافظ ابن رجب من حيث انتهى شيخك ليتبين الأمر بوضوح!؛ قال ابن رجب رحمه الله تعالى: ((تقليداً سائغاً؛ واستثنى القاضي في "الأحكام السلطانية": ما ضَعُفَ فيه الخلاف، وإنْ كان ذريعة إلى محظور متفق عليه كربا النقد فالخلاف فيه ضعيف وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة فإنه ذريعة إلى الزنا، وذكر عن إسحاق بن شاقلا أنه ذكر أنَّ المتعة هي الزنا صراحاً؛ عن ابن بطة قال: لا يفسخ نكاح حكم به قاض إنْ كان قد تأوَّل فيه تأويلاً إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة أو طلق ثلاثاً في لفظ واحد وحكم بالمراجعة من غير زوج فحكمه مردود وعليه العقوبة والنكال، والمنصوص عن أحمد: الإنكار على الملاعب بالشطرنج، وتأوَّله القاضي على مَنْ لعب بها بغير اجتهاد أو تقليد سائغ؛ وفيه نظر فإنَّ المنصوص عنه أنه يحد شارب النبيذ المختلف فيه، وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار مع أنه لا يفسق عنده بذلك؛ فدلَّ على أنه ينكر كل مختلف فيه ضَعُفَ الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه ولا يخرج فاعله المتأوِّل من العدالة بذلك؛ والله أعلم. وكذلك نصَّ أحمد على الإنكار على مَنْ لا يتم صلاته ولا يقيم صلبه من الركوع والسجود مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك))، ونقل هذا بحروفه العلامة ابن مفلح في الآداب الشرعية.
قلتُ: فمذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه يُنكر بل ويُعاقب في المسائل المختلف فيها؛ إذا كان الخلاف فيها ضعيفاً لدلالة السنة الصريحة على رجحان أحد القولين.
وقد قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعال في شرح الأربعين حديث: ((لابد أن يكون المنكر منكراً لدى الجميع، فإنْ كان من الأمور الخلافية فإنه لا ينكر على مَنْ يرى أنه ليس بمنكر؛ إلا إذا كان الخلاف ضعيفاً لا قيمة له، فإنه ينكر على الفاعل، وقد قيل: وليس كل خلاف جاء معتبراً.... إلا خلافاً له حظ من النظر)).
وفي جواب مفصَّل للشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله تعالى في شرحه لكشف الشبهات قال فيه: ((الخلاف في المسائل التي فيها دليل ينقسم إلى قسمين: الأول: خلاف ضعيف. والثاني: خلاف قوي.
والخلاف الضعيف هو الذي يكون في مقابلة الدليل؛ يعني قال قياساً مع ظهور الدليل، لاحظ كلمة "ظهور الدليل" يعني دلّ الدليل على المسألة بظهور أو بما هو أعظم من الظهور وهو النص، وقال طائفة من أهل العلم بخلاف ما دل عليه الدليل ظاهراً أو نصاً فهذا لا شك أنَّ هذا الخلاف يكون ضعيفاً.
الثاني: أن يكون الخلاف قوياً بحيث يكون أن تكون الأدلة متعارضة، قد يرجح هذا وقد يرجح هذا، فإنه حينئذ يكون الخلاف قوياً، وإذا كان الخلاف قوياً فإنه "لا إنكار في مسائل الخلاف القوي"، وأما إذا كان الخلاف ضعيفاً فإنه "ينكر في مسائل الخلاف الضعيف".
أطلق بعض أهل العلم قاعدة وهي قولهم: "لا إنكار في مسائل الخلاف" وهذا الإطلاق غلط؛ لأنَّ المسائل الخلافية الصحابة بعضهم أنكر على بعض فيها، والتابعون أنكر بعضهم على بعض فيها، والمسائل الخلافية على التفصيل الذي ذكرته لك:
إذا كان الخلاف في مسألة لم يرد فيها الدليل فهذه تسمى المسائل الاجتهادية؛ هذا الخلاف سائغ، والقسم الثاني أن يكون الخلاف في مسائل فيها الدليل وهي منقسمة إلى خلاف قوي وإلى خلاف ضعيف.
مثلاً من مسائل الخلاف القوي: مسألة "زكاة الحلي" الأدلة فيها مختلفة، وفهم الدليل أيضاً مختلف بين أهل العلم، فهذه نقول الخلاف فيها قوي فلا إنكار، مَنْ زكَّى فقد تبع بعض أهل العلم، ومن لم يزك فقد تبع بعض أهل العلم، فلا حرج في ذلك ولا إنكار في هذه المسألة. كذلك مسألة "قراءة الفاتحة في الصلاة للمأموم"، هل يقرأ المأموم أو لا يقرأ، الخلاف فيها قوي والأدلة متنازع فيها، وكلام الأئمة في من يقول كذا وفي من يقول كذا، والجمهور؛ جمهور الصحابة والتابعين، وقول المحققين كشيخ الإسلام؛ بل كالإمام أحمد وشيخ الإسلام وابن القيم وجماعة أنه يتحمل الإمام عن المأموم، هذا يجعل المسألة فيها خلاف قوي فلا إنكار فيها، كذلك مثلاً بعض المسائل التي يختلف فيها أهل العلم في هذا الزمن: مثل مثلاً مسألة "التصوير بالفيديو"، بعضهم يجعله داخلاً في التصوير فيمنعه، بعضهم لا يجعله داخلاً في التصوير فلا يمنعه؛ فهذا المسألة فيها خلاف قوي، بعضهم يجيز وبعضهم لا يجيز، كذلك يلحق أو من هذه المسألة التي فيها الخلاف القوي بين أهل العلم مسألة التصوير الضوئي؛ لأنَّ بعضهم أباحه، وبعض أهل العلم منعه، وهذا له حجة وهذا له حجة، واختلف فيه علماؤنا المعاصرون، مع أنَّ الصحيح كما هو معلوم أنه لا يجوز ذلك لعموم الأدلة كما هو مبسوط في موضعه، المسائل التي فيها خلاف ضعيف كثيرة.
وهذا نقول فيه لأجل أن ينتبه طالب العلم إلى ما ينكر فيه وما لا ينكر فيه، فمسائل ترى أهل العلم ما ينكرون فيها لأجل الخلاف القوي فيها، أحياناً ينكرون لأجل الخلاف أن يكون خلافاً ضعيفاً. مثل مسألة "كشف المرأة لوجهها" الخلاف فيها ضعيف وبعض أهل العلم يرى أنَّ الخلاف فيها قوي؛ لكن الصحيح أنه ضعيف لأنَّ الحجة التي أدلى بها مَنْ أجاز ذلك ليست بوجيهة إلى آخر المسائل التي فيها الخلاف ضعيف مثل "المعازف"؛ خلاف ابن حزم فيها شاذ وضعيف، كذلك "إباحة النبيذ" وما شابهه مما لا يسكر قليله، هذا معلوم الخلاف فيها لكن الخلاف فيها ضعيف، كذلك "أكل لحم ذي الناب من السباع" خلاف، خالف فيه أهل المدينة مالك ومن معه، غيره من الأئمة، ونقول الخلاف فيه ضعيف لوجود النص الواضح عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ذلك، إلى غير ذلك من المسائل المعروفة)).
وقد قال الحافظ السيوطي في [الأشباه والنظائر 1/ 272]: ((القاعدة الخامسة والثلاثون: لا ينكر المختلف فيه, وإنما ينكر المجمع عليه، ويستثنى صور, ينكر فيها المختلف فيه: إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ, بحيث ينقض؛ ومن ثم وجب الحد على المرتهن بوطئه المرهونة, ولم ينظر لخلاف عطاء. الثانية: أن يترافع فيه الحاكم, فيحكم بعقيدته, ولهذا يحد الحنفي بشرب النبيذ; إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده. الثالثة: أن يكون للمنكِر فيه حق, كالزوج يمنع زوجته من شرب النبيذ, إذا كانت تعتقد إباحته, وكذلك الذمية على الصحيح)).
قلتُ: وما دام أنَّ الاختلاف في الرجال كالاختلاف في المسائل الفقهية كما تقدَّم وكما تدندنون به؛ فكذلك نقول: أنه إذا ضعف الخلاف لدلالة القرائن والبراهين الواضحة على صحة أحد القولين وجب الأخذ بالقول الراجح والإنكار على مَنْ خالفه.
ثم الجرح المفسَّر بالضوابط المعروفة –والتي ذكرها الكاتب في مقاله "ضوابط قبول الجرح المفسر"- ألسنا ملزمين بالأخذ به مقابل التعديل المجمل؟ إنْ قلتَ: غير ملزمين؛ خالفتَ أهل الشأن في ذلك، وقد قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في حاشية كتابه [دفاع عن الحديث النبوي ص21]: ((قلتُ: ولذلك لا ينبغي أن يغتر أحدٌ بما ذهب إليه ابن سيد الناس في مقدمة كتابه (عيون الأثر) من توثيق الواقدي؛ فإنه خالف ما عليه المحققون من الأئمة قديماً وحديثاً، ولمنافاته علم المصطلح على: "وجوب تقديم الجرح المفسر على التعديل"؛ وأي جرح أقوى من الوضع؟، وقد اتهمه به أيضاً الإمام الشافعي الذي يزعم البوطي أنه يقلده، وأبو داود وأبو حاتم، وقال أحمد: كذَّاب)).
فقول أهل الحديث: "وجوب تقديم الجرح المفسر على التعديل" فيه إلزام، لأنَّ الواجب ملزم كما تقدَّم.
فإنْ قلتَ: نعم ملزمون به لكن بالضوابط المشار إليها؛ قلنا لك: إذن المسألة ليست مسألة قناعة!، وإنما مسألة تحقق الضوابط، فإنْ تحققت الضوابط كان الجرح أو التجريح ملزماً به؛ أليس كذلك؟!
وإذا كان الأمر كذلك؛ فيا ترى هل الإلزام بهذا من قبيل النص أو الإجماع؟! واضح أنه ليس من قبيل النص ولا الإجماع، فبطل حصر المسألة بهما!!!.
أما صنيعك في مقالك "ضوابط قبول الجرح المفسر" فهو في غير محل النزاع!، لأنَّ محل النزاع: هل يجب الأخذ بالجرح المفسر مقابل التعديل المجمل أم لا؟ وليس محله: هل يُقدَّم الجرح المفسر على التعديل المجمل مطلقاً؟! فجمعك للضوابط ثم جعل الخلاف فيها هو بعد عن الحقيقة؛ والتي هي: وجوب الأخذ بالجرح المفسر المعتبر مقابل التعديل المجمل، واعتباره من عدمه متعلق بتحقيق الضوابط التي دوَّنها أهل الشأن لا بالقناعة!، أما أنَّ الجرح المفسر لا يجب الأخذ به على إطلاقه فهذا أمر معلوم.
أما قول الكاتب في آخر حلقته هذه: ((وأخيراً: حسبنا أنَّ مَنْ خالف ما قرره أهل العلم في هذه المسألة عاجز حتى الساعة عن الإتيان بنقل صحيح صريح عن واحد من المعتبرين منهم يشهد لما يدعيه من مشروعية الإلزام، بما يغنينا عن الرد المفصَّل على جهالاته وتخرصاته وتشغيباته, فما كل قول يلتفت للرد عليه, بل كثير من الأقوال الباطلة يكون ترك نقضها خير من الاشتغال بتعريتها. فكيف إنْ كانت قد صدرت ممن لا يلتفت إليه أصلاً، بل قد اشتهر بجرأته على الانفراد بإطلاق الأحكام على الأعيان والأوصاف على غير هدى ولا بصيرة))
قلتُ: تقدَّم النقل عن العلامة الشوكاني في السيل الجرار أنه جعل قاعدة "عدم الإلزام في مسائل الخلاف" من مسالك أهل التقليد المذموم، وتقدم النقل عن شيخ الإسلام في كون قاعدة "لا إنكار في مسائل الخلاف" ليس على إطلاقها؛ وأنَّ من مسائل التي اختلف فيها السلف ما ظهر فيها الدليل بلا معارض فلا يسوغ الاختلاف بعدها ولا عذر لأحد في مخالفة الراجح الثابت بالدليل الظاهر من الأقوال بدعوى أنها من مسائل الخلاف، ثم ذكرنا ما نقله العلامة ابن رجب وابن مفلح عن بعض الحنابلة في بيان مذهب الإمام أحمد في الإنكار في مسائل الخلاف؛ وأنه إذا ضعف الخلاف ودلت السنة على أحد الأقوال فإنه ينكر على المخالف؛ وبه قال السيوطي وابن عثيمين وصالح آل الشيخ وغيرهم، وعرفنا أنَّ وجوب الأخذ بالجرح المفسر المعتبر وتقديمه على التعديل المجمل هو مذهب أهل الحديث؛ أفلا يكفي هذا؟!
وفي آخر هذه الحلقة؛ أحب أن أنقل عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى نقلاً مهماً في موضوع الإلزام، وقد نقله غيري كما رأيته لكنهم اقتصروا فيه على بعض المقاطع!؛ فصار بعضهم يتعقَّب بعضاً، مع إني أرى أنَّ المعنى منه لا يكتمل بصورة سليمة إلا بقراءته كاملاً، وهو نقل مطوَّل لكن الحاجة تقتضيه:
وأصل الكلام: أنَّ خصوم شيخ الإسلام طلبوا منه: أن يعتقد نفي الجهة عن الله والتحيز، وأنْ لا يقول أنَّ كلام الله حرف وصوت قائم به بل هو معنى قائم بذاته، وأنه سبحانه لا يشار إليه بالأصابع إشارة حسية، وألا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها.
فأجابهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بجواب مجمل، ثم فصَّل الرد عليهم بمكتوب ذكر فيه وجوهاً عديدة، حتى وصل مسألة الإلزام فقال رحمه الله تعالى [الفتاوى الكبرى 6/ 338-341]:
((الوجه الرابع عشر: ليس لأحد من الناس أن يلزم الناس ويوجب عليهم إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا يحظر عليهم إلا ما حظره الله ورسوله، فمن أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله وحرم ما لم يحرمه الله ورسوله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وهو مضاه لما ذمه الله في كتابه من حال المشركين وأهل الكتاب الذين اتخذوا ديناً لم يأمرهم الله به وحرموا ما لم يحرمه الله عليهم؛ وقد بين ذلك في سورة الأنعام والأعراف وبراءة وغيرهن من السور.
ولهذا كان من شعار أهل البدع إحداثُ قولٍ أو فعلٍ وإلزامُ الناس به وإكراههم عليه والموالاة عليه والمعاداة على تركه؛ كما ابتدعت الخوارج رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه، وابتدعت الرافضة رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه، وابتدعت الجهمية رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه لما كان لهم قوة في دولة الخلفاء الثلاثة الذين امتحن في زمنهم الأئمة لتوافقهم على رأي جهم الذي مبدؤه أنَّ القرآن مخلوق وعاقبوا من لم يوافقهم على ذلك.
ومن المعلوم أنَّ هذا من المنكرات المحرمة بالعلم الضروري من دين المسلمين، فإنَّ العقاب لا يجوز أن يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم، ولا يجوز إكراه أحد إلا على ذلك، والإيجاب والتحريم ليس إلا لله ولرسوله، فمن عاقب على فعل أو ترك بغير أمر الله وشرع ذلك ديناً فقد جعل لله نداً ولرسوله نظيراً بمنزلة المشركين الذين جعلوا لله أنداداً أو بمنزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذاب وهو ممن قيل فيه: "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله".
ولهذا كان أئمة أهل السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد، ولا يكرهون أحداً عليه، ولهذا لما استشار هارون الرشيد مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه قال له: "لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم وإنما جمعتُ علم أهل بلدي" أو كما قال، وقال مالك أيضاً: "إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة"، وقال أبو حنيفة: "هذا رأي فما جاءنا برأي أحسن منه قبلناه"، وقال الشافعي: "إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط"، وقال: "إذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها"، وقال المزني في أول مختصره: "هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبد الله الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء"، وقال الإمام أحمد: "ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم"، قال: "لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا".
فإذا كان هذا قولهم في الأصول العلمية وفروع الدين لا يستجيزون إلزام الناس بمذاهبهم مع استدلالهم عليها بالأدلة الشرعية؛ فكيف بإلزام الناس وإكراههم على أقوال لا توجد في كتاب الله ولا في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تؤثر عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد من أئمة المسلمين.
ولهذا قال الإمام أحمد لابن أبي دؤاد الجهمي الذي كان قاضي القضاة في عهد المعتصم لما دعا الناس إلى التجهم وأن يقولوا القرآن مخلوق وأكرههم عليه بالعقوبة وأمر بعزل مَنْ لم يجبه وقطع رزقه إلى غير ذلك مما فعله في محنته المشهورة فقال له في مناظرته لما طلب منه الخليفة أن يوافقه على أنَّ القرآن مخلوق: "ائتوني بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أجيبكم به"، فقال له ابن أبي دؤاد :"وأنت لا تقول إلا بما في كتاب الله أو سنة رسوله؟!"، فقال له: "هب أنك تأولت تأويلاً فأنت أعلم وما تأولت فكيف تستجيز أن تكره الناس عليه بالحبس والضرب؟".
فبين أنَّ العقوبة لا تجوز إلا على ترك ما أوجبه الله أو فعل ما حرمه الله، فإذا كان القول ليس في كتاب الله وسنة رسوله لم يجب على الناس أن يقولوه؛ لأنَّ الإيجاب إنما يتلقى من الشارع، وإنْ كان القول في نفسه حقاً -أو اعتقد قائله أنه حق- فليس له أن يلزم الناس أن يقولوا ما لم يلزمهم الرسول أن يقولوه لا نصاً ولا استنباطاً.
وإنْ كان كذلك؛ فقول القائل: المطلوب من فلان أن يعتقد كذا وكذا وأن لا يتعرض لكذا وكذا؛ إيجاب عليه لهذا الاعتقاد وتحريم عليه لهذا الفعل، وإذا كانوا لا يرون خروجه من السجن إلا بالموافقة على ذلك فقد استحلوا عقوبته وحبسه حتى يطيعهم في ذلك، فإذا لم يكن ما أمروا به قد أمر الله به ورسوله وما نهوا عنه قد نهى الله عنه ورسوله كانوا بمنزلة من ذكر من الخوارج والروافض والجهمية المشابهين للمشركين والمرتدين.
ومعلوم أنَّ هذا الذي قالوه لا يوجد في كلام الله ورسوله بحال، وهم أيضاً بينوا أنه لا يوجد في كلام الله ورسوله؛ فلو كان هذا موجوداً في كلام الله ورسوله لكان عليهم بيان ذلك لأنَّ العقوبات لا تجوز إلا بعد إقامة الحجة كما قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً"، فإذا لم يقيموا حجة الله التي يعاقب من خالفها -بل لا يوجد ما ذكروه في حجة الله، وقد نهوا عن تبليغ حجة الله ورسوله- كان هذا من أعظم الأمور مماثلة لما ذكر من حال الخوارج المارقين المضاهين للمشركين والمرتدين والمنافقين.
الوجه الخامس عشر: إنَّ القول الذي قالوه إنْ لم يكن حقاً يجب اعتقاده لم يجز الإلزام به، وإنْ كان حقاً يجب اعتقاده فلا بد من بيان دلالته؛ فإنَّ العقوبة لا تجوز قبل إقامة الحجة باتفاق المسلمين؛ فإنْ كان القول مما أظهره الرسول وبينه فقد قامت الحجة ببيان رسوله، وإنْ لم يكن ذلك فلا بد من بيان حجته وإظهارها، التي يجب موافقتها ويحرم مخالفتها؛ ولهذا قال الفقهاء في أهل البغي المتأولين: إنْ ذكروا مظلمة أزالها الإمام، وإنْ ذكروا شبهة بينوها له؛ فإذا لم يبينوا صواب القول أصلاً بل ادعوه دعوى مجردة حوربوا؛ فكيف يجب التزام مثل ذلك القول من غير الرسول؟ وهل يفعل هذا من له عقل أو دين؟
الوجه السادس عشر: إنهم لو بينوا صواب ما ذكروه من القول لم يكن ذلك موجباً لعقوبة تاركه؛ فليس كل مسألة فيها نزاع إذا أقام أحد الفريقين الحجة على صواب قوله مما يسيغ له عقوبة مخالفه، بل عامة المسائل التي تنازعت فيها الأمة لا يجوز لأحد الفريقين المتنازعين أن يعاقب الآخر على ترك إتباع قوله؛ فكيف إذا لم يذكروا حجة أصلاً ولم يظهروا صواب قولهم؟.
الوجه السابع عشر: إنه لو فرض أنَّ هذا القول الذي الزموا به حق وصواب قد ظهرت حجته ووجبت عقوبة تارك التزامه؛ فهدا لم يذكروه إلا في هذا الوقت بعد هذا الطلب والحبس والنداء على الشخص المعين بالمنع من موافقته ونسبته إلى البدعة والضلالة، ومخالفة جميع العلماء والحكام، وخروجه عما كان عليه الصحابة والتابعون، إلى أنواع أخر مما قالوه وفعلوه في حقه من الإيذاء والعقوبة والضرر، زاعمين أنَّ ما صدر عنه من الفتاوى والكتب يتضمن ذلك، فإذا أعرضوا عن ذلك بالكلية ولم يبينوا في كلامه المتقدم شيئاً من الخطأ والضلال الموجب للعقوبة: لم يكن ابتداؤهم بالدعاء إلى مقالة أنشاؤها مبيحاً لما فعلوه قبل ذلك من الظلم والكذب والبهتان والصد عن سبيل الله والتبديل لدين الله، وإنما هذا انتقال من ظلم إلى ظلم؛ ليقرروا بالظلم المتأخر حسن الظلم المتقدم كمن يستجير من الرمضاء بالنار، وهذا يزيدهم إثماً وعذاباً.
فهب أنَّ هذا الشخص وافقهم الآن على ما أنشأه من القول؛ أي شيء في ذلك مما يدل على خطئه وضلاله في أقواله المتقدمة إذا لم تناف هذا القول؟ دع استحقاق العقوبة والكذب والبهتان، فما لم يبينوا أنَّ فيما صدر عنه قبل طلبه وحبسه وإعلام ما ذكروه من أمره ما يوجب ذلك لم ينفعهم هذا، وهم قد عجزوا عن إبداء خطأ أو ضلال فيما صدر عنه من المقال، وهم دائما يستعفون من المحاقة والمناظرة بلفظ أو خط.
وقد قيل لهم مرات متعددة : مَنْ أنكر شيئاً فليكتب ما ينكره بخطه ويذكر حجته ويكتب جوابه، ويعرض الأمران على علماء المشرق والمغرب فأبلسوا وبهتوا، وطلب منهم غير مرة المخاطبة في المحاضرة والمحاقة والمناظرة فظهر منهم من العي في الخطاب والنكوص على الأعقاب والعجز عن الجواب ما قد اشتهر واستفاض بين أهل المدائن والأعراب، ومن قضاتهم الفضلاء من كتب اعتراضاً على الفتيا الحموية وضمنه أنواعاً من الكذب وأموراً لا تتعلق بكلام المعترض عليه وقد كتبت جوابه في مجلدات، ومنهم مَنْ كتب شيئاً ثم خبأه وطواه عن الأبصار وخاف من نشره ظهور العار وخزي أهل الجهل والصغار؛ إذ مدار القوم على أحد أمرين: إما الكذب الصريح، وإما الاعتقاد القبيح؛ فهم لن يخلوا من كذب كذبه بعضهم وافتراه، وظن باطل خاب من تقلده وتلقاه، وهذه حال سائر المبطلين من المشركين وأهل الكتاب الكفار والمنافقين))
قلتُ: خلاصة كلامه رحمه الله تعالى:
أنه ينكر على مَنْ ألزم الناس بأقوال وأفعال محدثة لم ترد في نص ولا إجماع ولا في أصل ثابت أو فهم ظاهر مستنبط منهما ولا في قول لأحد من سلف هذه الأمة!؛ وهذا هو مقصوده من الجواب أصالة، ثم استطرد رحمه الله تعالى في الأمر في مسألة إلزام الناس بالقول الحق أنه لا يكون إلا بعد بيانه بالحجة القاهرة والبينة الظاهرة؛ وهذا في حال المسائل التي ضعف فيها الخلاف لقطعية الأدلة أو لغلبة الظن بصحة أحد القولين، وأما المسائل التي تنازعت فيها الأمة مع قوة الخلاف إما لتعارض الأدلة المتقاربة أو لخفاء الأدلة فلا إلزام فيها؛ وهذه هي أغلب المسائل التي تنازع فيها سلف الأمة، وبهذا يجتمع كلام شيخ الإسلام هذا مع ما تقدَّم من نقل عنه وعن غيره من أهل العلم؛ وهذا هو الحق في موضوع "الإلزام في مسائل الخلاف"، أنها ليس على إطلاقها نفياً ولا إثباتاً، وإنما كما تقدَّم التفصيل.
وهنا لابد أن ننتبه إلى أمر يقع فيه اللبس والالتباس؛ وهو أنه قد يضطر أحدُ أعلام السنة أن يتكلَّم بقول أو يؤصِّل أصلاً لم يقل به أحد من أئمة السلف قبله، هذا مع أنَّ قوله يوافق مقتضى النصوص الشرعية وعقيدة السلف الأوائل؛ وإنما اضطره الرد على أهل الأهواء المعاصرين له أن يؤصِّله أو يقول به، وقد يوجب على غيره أن يقول بقوله وأن يوافقه، وينكر على مَنْ لم يتابعه في قوله؛ فمثل هذا الإلزام من هذا العالم لا يستنكر!، ولا يُقال ألزم الناس بغير نص ولا إجماع ولا أثر عن أحد من سلف الأمة!.  
ومثال هذا: لفظة "القرآن كلام الله غير مخلوق" أو "مَنْ قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومَنْ قال: غير مخلوق فهو مبتدع" أو "الله تعالى فوق عرشه بائن من خلقه"؛ فلفظة "غير مخلوق" في العبارة الأولى ولفظة "بائن من خلقه" في العبارة الثالثة لم تكن موجودة قبل ظهور بدعة خلق القرآن وبدعة الاتحاد والحلول، وإنما قالها أهل العلم رداً على أهل البدع أولئك ودفعاً لتلبيساتهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 12/ 423]: ((ومن المشهور في "كتاب صريح السنة" لمحمد بن جرير الطبري وهو متواتر عنه لما ذكر الكلام في أبواب السنة قال: وأما القول في "ألفاظ العباد بالقرآن" فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا إلا عمن في قوله الشفاء والعفاء وفي إتباعه الرشد والهدى ومَنْ يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى: أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، فإنَّ أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: "اللفظية جهمية" يقول الله: "حتى يسمع كلام الله" ممن يسمع؟!، قال ابن جرير: وسمعت جماعة من أصحابنا -لا أحفظ أسماءهم- يحكون عنه أنه كان يقول: "مَنْ قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومَنْ قال: غير مخلوق فهو مبتدع"، قال ابن جرير: ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله؛ إذ لم يكن لنا إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع، وهو الإمام المتبع)).
قلتُ: في قول الطبري "ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله"؛ أليس فيه إلزام بقول إمام من أئمة السنة في مسألة "اللفظ" بما لم يرد به نص ولا إجماع؟!
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في [مختصر العلو 18-19] ((قلت: ومن هذا العرض يتبين أنَّ هاتين اللفظتين: "ذاته" و "بائن" لم تكونا معروفين في عهد الصحابة رضي الله عنهم. ولكن لما ابتدع الجهم وأتباعه القول بأنَّ الله في كل مكان اقتضى ضرورة البيان أن يتلفظ هؤلاء الأئمة الأعلام بلفظ "بائن" دون أن ينكره أحد منهم، ومثل هذا تماماً قولهم في القرآن الكريم أنه "غير مخلوق" فإنَّ هذه لا تعرفها الصحابة أيضاً، وإنما كانوا يقولون فيه: "كلام الله تبارك وتعالى" لا يزيدون على ذلك، وكان ينبغي الوقوف فيه عند هذا الحد؛ لولا قول جهم وأشياعه من المعتزلة: "إنه مخلوق"، ولكن إذا نطق هؤلاء بالباطل وجب على أهل الحق أن ينطقوا بالحق ولو بتعابير وألفاظ لم تكن معروفة من قبل، وإلى هذه الحقيقة أشار الإمام أحمد رحمه الله تعالى حين سئل عن الواقفة الذين لا يقولون في القرآن إنه مخلوق أو غير مخلوق: هل لهم رخصة أن يقول الرجل: "كلام الله" ثم يسكت؟ قال: ولِمَ يسكت؟! لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا؛ لأي شيء لا يتكلمون؟ سمعه أبو داود منه كما في [مسائله ص263 – 264].
 قلت: والمقصود أنَّ المؤلف رحمه الله تعالى أقر لفظة "بائن" لتتابع أولئك الأئمة عليها دون نكير من أحد منهم، وأنكر اللفظة الأخرى وهي "بذاته" لعدم تواردها في أقوالهم؛ إلا بعض المتأخرين منهم، فأنكر ذلك مبالغة منه في المحافظة على نهج السلف مع أنَّ معناها في نفسه سليم، وليس فيها إثبات ما لم يرد، فكنت أحب له رحمه الله أن لا يتردد في إنكار نسبة القعود إلى الله تعالى وإقعاده محمداً صلى الله عليه وسلم على عرشه ما دام أنه لم يأت به نص ملزم عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه ليس له شاهد في السنة ومعناه ولفظه لم يتوارد على ألسنة الأئمة، وهذا هو الذي يدل عليه بعض كلماته المتقدمة حول هذا الأثر، ولكنه لما رأى كثيراً من علماء الحديث أقروه لم يجرؤ على التزام التصريح بالإنكار، وإنما تارة وتارة، والله تعالى يغفر لنا وله)) انتهى.
قلتُ: فقول الشيخ الألباني "ولكن إذا نطق هؤلاء بالباطل وجب على أهل الحق أن ينطقوا بالحق ولو بتعابير وألفاظ لم تكن معروفة من قبل" أليس فيه إلزام بألفاظ وأقوال ليست في كتاب الله تعالى ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا فيها إجماع ولا أثر لأحد السلف؟!
وهل رخَّص الإمام أحمد فيمَنْ قال: "القرآن كلام الله" وسكت؟ أم ألزمهم بأنْ يقولوا ما لم يرد في نص ولا أثر من قبله بلفظة "غير مخلوق"؛ لأنها هي الفيصل الذي يتميز به أهل السنة والجماعة عن غيرهم في ذلك العصر، وصنَّف رحمه الله تعالى مَنْ سكت وجعلهم من الواقفة؟!
ثم ألم يجعل مَنْ تكلَّم باللفظ نفياً وإثباتاً من أهل البدع؛ فبدَّع بقولٍ لم يجمع عليه؛ بل قال بالإثبات بعض الأئمة، وفصَّل فيه آخرون؟!
كم عالم عَرف الإمام أحمدٌ عنه أنه يقول بأنَّ "لفظي بالقرآن غير مخلوق" فبدَّعه وحذَّر منه؛ أليس في هذا إلزام في الأحكام النقدية بغير النص أو الإجماع؟!!
بل وهذا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يُبدِّع بقول لم يرد به نص ولا إجماع!!؛ وذلك في مسألة دقيقة من مسائل خلق القرآن فيقول [المجموع 12/ 179-180]: ((كما إنَّ القول بأنَّ شيئاً من أصوات الآدميين قديم هو قول باطل؛ وهو قول قاله طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وجمهور هؤلاء ينكرون هذا القول، وكلام الإمام أحمد وجمهور أصحابه في إنكار هذا القول كثير مشهور، ولا ريب أنَّ مَنْ قال: أنَّ أصوات العباد قديمة فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله ...إلى أن قال: وأما التكفير؛ فالصواب: أنه مَنْ اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقصد الحق فاخطأ لم يكفر بل يغفر له خطأه، ومَنْ تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه وقصَّر في طلب الحق وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب؛ ثم قد يكون فاسقاً، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته، فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص؛ فليس كل مخطئ ولا مبتدع ولا جاهل ولا ضال يكون كافراً، بل ولا فاسقاً، بل ولا عاصياً، لاسيما في مثل مسألة القرآن؛ وقد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف المعروفين عند الناس بالعلم والدين، وغالبهم يقصد وجهاً من الحق فيتبعه ويعزب عنه وجه آخر لا يحققه، فيبقى عارفاً ببعض الحق جاهلاً بعضه؛ بل منكراً له)).
هذا آخر ما عندي في هذه المسألة، وقد طال فيها الكلام لأنها أصل الخلاف الدائر في هذا العصر بين المنتسبين للمنهج السلفي، فاقتضى المقام التفصيل والإطالة، والله الموفق.


يتبعه الحلقـــ (4) ــة

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.