-->

الثلاثاء، 12 فبراير 2013

تبصير كل ذي عينين بحقيقة المنهج المنشود في سلسلة حلقات "بين منهجين"[10]


مع حلقته العاشرة: (المشاركة في الانتخابات النيابية ونحوها)

ذكر الكاتب في هذه الحلقة مجموعة فتاوى لأهل العلم المعاصرين:
منهم مَنْ يوجب المشاركة في الانتخابات!، ومنهم مَنْ يُجيزها بقيود وشروط، ومنهم مَنْ يمنعها.
وفيها أنَّ منهم مَنْ يجيز الدخول في البرلمان والترشيح له!، ومنهم مَنْ لا يجيز ذلك، ومنهم مَنْ يرى أنه موضع اجتهاد.
وفيها كذلك مَنْ لا يجيز إلا اختيار الإسلاميين فقط، ومنهم مَنْ ينصح باختيار الرئيس والحزب الحاكم، ومنهم مَنْ ينصح في حال وجود حزب يخشى من ضرره إذا فاز أن يصوَّت ضده، ومنهم مَنْ يجيز اختيار الكافر على المسلم إذا كان أقل شراً، ومنهم مَنْ يرى أنَّ الأمر يعود للناخب.
ومنهم مَنْ يرى جواز الدخول في العمل السياسي لتحصيل المصلحة وتقليل الشر وحتى في حال تغلب الكافر على بلاد المسلمين بل قد يتعيَّن ذلك كما يزعم الكاتب!، ومنهم مَنْ لا ينصح بذلك، ومنهم مَنْ يحذِّر منه.
ومنهم مَنْ يرى جواز الانتخابات بقصد تغيير نظام الحكم وعلى الناخبين إعانة المرشحين للفوز بالانتخابات!، ومنهم مَنْ يرى أنها تجوز لتقليل الشر ولا ينصح طلبة العلم بالمشاركة فيها وأنهم يكتفون بالتوجيه العام نحو الأصلح للدين والدنيا وأن لا ينشغلوا عن دعوتهم وتعلمهم وتعليمهم بذلك الأمر.
وبعد أن نقل الكاتب تلك الفتاوى قال:
((وخلاصة ما تقدم: أنَّ كلمة أهل العلم المعتبرين من السلفيين المعاصرين تكاد تتفق على أنَّ المشاركة في الانتخابات النيابية تجوز عند الحاجة بشرط انتخاب الأصلح))
قلتُ: وهذا الخلاصة مجملة، وإنما وقع الخلاف في الصور المتقدِّمة، لكن انتهاج الكاتب لمنهج التلفيق بين الفتاوى وتتبع رخص العلماء هو الذي جعله يختار هذا القول المجمل!؛ وكأنَّ كلمة العلماء الذين نقل أقوالهم متفقة في تفاصيل المسألة!، فلفظة (المشاركة) مثلاً تعم الانتخاب والترشيح والمساعدة فيهما والعمل السياسي وولاية المناصب الحكومية!!، ولفظة (الحاجة) تشمل من أجل تغيير نظام الحكم أو استجلاب الخير أو تقليل الشر!!، ولفظة (الأصلح) تشمل الإسلاميين وغيرهم!!.
وأنا ليس لي تعليق على مسألة التصويت في الانتخابات، وإنْ كنتُ أرى أنَّ القول بالوجوب بعيد عن الصواب، وأبعد منه القول بالوجوب على "الجميع" كما ذهب إليه شيخ الكاتب في كتابه "نازلة العراق"!!، وأنَّ أقرب الآراء من حيث التأصيل هو: القول بالجواز لتقليل الشر ويكون التصويت للإسلاميين الأقرب منهم للمنهج الحق ولا يشارك طلبة العلم والدعاة في التصويت فيها وإنما يكتفون بالتوجيه العام نحو الانتخابات من غير تعيين قائمة ولا مرشَّح ولا يدخلون في دعايات الانتخابات، وأقرب الآراء من حيث الواقع هو: القول بالمنع؛ لعدم رجحان مصلحتها على مفاسدها، وليس فيها تخفيف الشر، ولا تحكيم للشرع؛ كما هو ملاحظ في واقع الحكومات المنتخبة بهذه الطريقة الغربية!!.
لكن أريد أن أقف مع الكاتب وقفة عند قوله: ((جواز أن يبتدئ المسلم بترشيح نفسه لاستلام المناصب المؤثرة في سياسة المجتمع وقيادته نحو الأصلح أو الأقل ضرراً وشراً, ودليل ذلك طلب يوسف عليه السلام من حاكم مصر الكافر أن يكون وزيراً في حكومته لقدرته على تحصيل النفع للناس, كما في قوله: "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ"))
قلت: هذا تصريح بيِّن منه على جواز المشاركة بالعمل السياسي!؛ مع أنه يعلم يقيناً أنَّ المشاركة في العملية السياسية لا يُمكن أن تحصل في هذا العصر إلا مع مخالفات شرعية ومسالك حزبية!، ولقد دخل في هذه العملية مَنْ كان يؤمَّل عليه فإذا به بعد فترة ليست بالطويلة أحرق نفسه ولم ينفع غيره!!.
ثم إنَّ الكاتب لم يفصِّل لنا: هل يُشارك المسلم بالعمل السياسي ضمن حزب منظَّم أم جهد مستقل؟!! لأننا جميعاً نعلم أنَّ هذه المشاركة تستلزم تنظيم حزب وإنشاء هيكلية حزبية للوصول إلى المناصب الحكومية!؛ وهذا هو الغالب، وقد لا تستلزم وإنما يكون المشارك مستقلاً؛ وهذا لا يكون له أثر ملحوظ في القرار السياسي!، وإنما القرارات للكتل الحزبية السياسية الكبيرة.
وإذا تذكَّرنا أنَّ الكاتب يرى مشروعية التحزب إذا اجتمع أصحابه على البر والتقوى!، وعلمنا أنَّ الحكم بما أنزل الله وتحصيل المصالح وتقليل الشر في الحكومات المعاصرة من البر والتقوى؛ فهذا يعني أنَّ الكاتب يرى مشروعية المشاركة بالعملية السياسية بمكوَّن حزبي وتنظيم سياسي!!؛ وهذه مخالفة كبرى في أصل كلي من أصول الدعوة السلفية؛ فليتنبَّه لها ولا يغفل.
وأما استدلاله بقصة نبي الله يوسف عليه السلام؛ فبعيد عن واقع الحكومات المعاصرة والنظم الديمقراطية الحاكمة، وحتى لا أطيل في ردِّ هذه الشبهة أحيل الكاتب والقراء على مقال كتبته قبل فترة بعنوان [كلمة حول حكم الانتخابات القادمة] في شبكة سحاب، ومختصر ذلك الجواب من وجوه:
- أنَّ المَلِك هو الذي طلب نبي الله يوسف عليه السلام ليوليه إحدى الولايات التي في حكومته، فلما رأى يوسف عليه السلام أنَّ ذلك متعين عليه طلب منه أن يجعله على خزائن الأرض.
- أنَّ قبول يوسف عليه السلام لطلب المَلك كان بوحي من الله تعالى إليه وليس باجتهاده.
- أنَّ يوسف عليه السلام كان يحكم فيهم بالعدل بقدر ما يستطيع، ولم يكن يحكم فيهم بدين الملك!، بل بدين الله، وهذا لا يُمكن أن يتحقق اليوم.
- أنَّ دخول يوسف عليه السلام في الحكومة الكافرة هو من شرع مَنْ قبلنا، فلو حصل ذلك من سعيه وطلبه لما جاز لنا أن نحتج به؛ لأنه قد ورد في شرعنا النهي عن طلب الإمارة أو السعي في تحصيل الولاية.
وقلتُ في آخر الرد: ((وخلاصة الجواب: أنه لا يحق لأحد يحرص على الولاية والإمارة أن يستدل بفعل يوسف عليه السلام لأنه في غير محل النزاع، أما مَنْ جاءته الولاية من غير مسألة ولا حرص ولا إرادة لها، ومن غير تحزب ولا مخالفات شرعية، ورأى من نفسه أنه يُمكن أن يُقلل الشر أو أن ينفع الآخرين فليجتهد بقدر ما يُمكن، والله تعالى يعينه ويوفقه))
وأما استدلاله بكلام خمسة من أهل العلم على جواز الترشيح؛ فليس في موضعه!، وإليكم تفصيله:
1- قال الكاتب: ((قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (20\56-57): "ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة؛ فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب؛ فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوباً تارة واستجاباً أخرى, ومن هذا الباب: تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفاراً كما قال تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به} الآية, وقال تعالى عنه: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} الآية, ومعلوم أنه مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته؛ ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكون يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله، فإنَّ القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله {فاتقوا الله ما استطعتم}".
فما عدَّ شيخ الإسلام تولي الولايات في ظل كلا الحكومتين محرماً بإطلاق؛ بل أجازه وفق ضوابط معينة, بل هو يقول في مجموع الفتاوى (28\68) عن مكانة يوسف من فرعون مصر: "وكذلك يوسف كان نائباً لفرعون مصر، وهو وقومه مشركون، وفعل من العدل والخير ما قدر عليه، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان"))
قلتُ: محل النزاع في الترشيح؛ لا في تولي الولايات، والفرق أنَّ الترشيح فيه طلب لتولي الإمارة، بل وحرص عليها من خلال الدعايات الانتخابية!، وهذا محرَّم بالنص، أما أن يُطلب لتولي الإمارة من غير حرص منه فهذه التي تحتاج إلى ضوابط لإجازتها، ثم فرق بين حكومة لا تحكم إلا بدستور وضعي في كل الوزارات والمؤسسات والدوائر، وبين حكومة كافرة لكن تبيح للمشارك فيها أن يحكم بما يدين الله به، ونبي الله يوسف عليه السلام تولى منصبه في حكومة من النوع الثاني، وأما اليوم فلا يُمكن أن يُباح له الحكم إلا بقانون الدولة الوضعي، وحال الداخل في هذه الحكومات أسوأ من حال هرقل مع قومه حين عرض عليهم الحكم بالإسلام فرفضوا فداهنهم رجاء رضاهم وخشية سخطهم؛ مع أنه الملك نفسه وليس نائباً أو محافظاً أو مسؤولاً في الدولة!!
2- وقال الكاتب: ((وقد أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية أنه يجوز للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر والسلطان الكافر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه فيصلح منه ما شاء, كما قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية:(9\215)  ما نصه: "قال بعض أهل العلم في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر والسلطان الكافر؛ بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء, وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك، وقال قوم إنَّ هذا كان ليوسف خاصة وهذا جائز, والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه؛ والله أعلم"))
قلتُ: انظر إلى الشرط: ((بشرط: أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه؛ فيصلح منه ما شاء, وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك))، فبالله عليك: هل الداخل في العملية السياسية في الحكومات المعاصرة اليوم التي تحكم بالقوانين الوضعية؛ يُفوَّض إليه العمل بما يراه الأصلح أم يعمل بحسب القانون والدستور؟!!! بل ويحلف على التزام هذا الدستور وتطبيقه!!
3- وقال الكاتب: ((بل قد نصَّ الشنقيطي على أنه إذا تغلب الكافر على بلاد المسلمين فتولى بعضهم ولايات في ظل حكومة الاحتلال جاز ذلك؛ فقال في رحلته إلى بيت الله الحرام (105): "إنَّ المؤمنين إذا تغلب عليهم الكافر باحتلال بلدهم إذا أمكن الانضمام إلى سلطان إسلامي وجب عليهم ذلك ولم يجز لهم موالاة الكافر وأحرى توليتهم, لأنَّ موالاة المسلمين للكفار مع القدرة على موالاة المسلمين تتضمن الفتنة والفساد الكبير بنص القران العظيم وهو قوله تعالى: {إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}, وقد قال الله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم إنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين}. وأما إنَّ المسلمين الذين تغلب عليهم الكفار لا صريخ لهم من المسلمين يستنقذهم بضمهم إليه, فموالاتهم للكفار بالظاهر دون الباطن لدفع ضررههم جائزة لنص القران العظيم وهو قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة}, وكذلك توليتهم بعض المسلمين على بعض في الجاري على أصل مذهب مالك ومن وافقه: من أنَّ شرع من قبلنا شرع لنا إن ثبت بشرعنا إلا لدليل يقتضي النسخ؛ وإيضاح ذلك: أنَّ نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام طلب التولية من ملك مصر وانعقدت له منه وهو كافر كما قال تعالى حكاية عنه: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}، فلو كانت التولية من يد الكافر المتغلب حرام غير منعقدة لما طلبها هذا النبي الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم من يد الكافر، ولما انعقدت له منه, ويوسف من الرسل الذين ذكرهم الله في سورة الأنعام بقوله: {ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف} الآية, وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالإقتداء بهم حيث قال له بعد ذكرهم عليه وعليهم صلاته وسلامه: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}، وأمرُ نبينا صلى الله عليه وسلم بالإقتداء بهم أمرٌ لنا؛ لأنَّ الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم يتناول الأمة من جهة الحكم، لأنه قدوتهم إلا ما ثبتت فيه الخاصية بالدليل على ما ذهب إليه أكثر المالكية، وهو ظاهر قول الإمام مالك"))
قلتُ: كلام الشنقيطي رحمه الله تعالى حول وجوب انضمام المسلمين إلى سلطان إسلامي في حال الاحتلال من قبل الكفار، فإنْ لم يوجد مَنْ يضمهم إليه جاز لهم مولاة الكفار ظاهراً لا باطناً. فإنْ طلب منهم الكفار أن يتولوا مناصب في حكومتهم جاز لهم قياساً على فعل يوسف عليه السلام، وهذا في غير محل النزاع، لأنَّ محله أن يتقدم هو في طلب المناصب؛ وهذا هو حقيقة الترشيح!!
وأنبِّه إلى أنَّ الشنقيطي قصد بطلب يوسف عليه السلام الولاية في مصر؛ نوع الولاية وهي خزائن الأرض، لا أنه طلب الولاية من حيث الأصل.
4- وقال الكاتب: ((بل قد ألمح العلامة السعدي إلى تعين هذا التولي بقصد إصلاح الموجود أو الدفع عن الإسلام والمسلمين بحسب القدرة والإمكان؛ فقال في تفسير قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}, فقال الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي فيه فوائدها كما في تفسيره (2/ 289): "ومنها: أنَّ الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة وقد يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئاً منها. وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم وأهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه. وأنَّ هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك. لأنَّ الإصلاح مطلوب حسب القدرة والإمكان.
فعلى هذا؛ لو سعى المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية، يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية؛ لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عَمَلَةً وخَدَماً لهم.
نعم إنْ أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام؛ فهو المتعين. ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة، والله أعلم"))
قلتُ: الخطاب عام؛ فهو موجَّه لجميع المسلمين الذين وقعوا تحت احتلال الكفار، إن تمكنوا أن تكون الدولة لهم وهم الذين يحكمون فهو المتعين، وإنْ لم يتمكنوا من ذلك فعليهم أن يسعوا في جعلها جمهورية لحفظ حقوق الأفراد والشعوب الدينية والدنيوية.
لكن السؤال: كيف لهم أن يفعلوا ذلك؟!
يعني هذا الواجب هو كواجب السعي في إعادة الخلافة الراشدة، أو على الأقل السعي على إيجاد الحكومة التي تُحفظ فيها الحقوق، فهذا واجب في أصل إنشاء الحكومات لا من حيث المشاركة فيها على ما هي عليه اليوم!، ثم لو تمكَّن المسلمون من إيجاد تلك الحكومة العادلة فلا يلزم منه جواز السعي والحرص على تولي المناصب فيها؛ لأنه منهي عنه بالنص؛ وهو ما أخرجه البخاري ومسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: ((لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أُوتيتها عن مسألة وكِّلت إليها، وإنْ أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها))، وفيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال: أحدهما يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله وقال الآخر مثل ذلك. فقال: ((إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه)) وفي رواية قال: ((لا نستعمل على عملنا مَنْ أراد))، فكيف بمَنْ يقوم بالدعايات الانتخابية ويصرف لها الأموال والأوقات والجهود والطاقات للحصول عليها؟!، وقد أنذر صلى الله عليه وسلم من مثل هذا الحال الذي نراه اليوم في وقت الانتخابات فقال: ((إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة)) رواه البخاري.
5- وقال الكاتب: ((ولهذا فقد أوجبت اللحنة الدائمة مساعدة الحزب الذي يُعرف منه أنه سيحكم بالشريعة الإسلامية في الانتخابات التشريعية كما جاء في فتواها المرقمة (14676) جواباً عن السؤال التالي؛ سؤال: كما تعلمون عندنا في الجزائر ما يسمى بـ(الانتخابات التشريعية)، هناك أحزاب تدعو إلى الحكم الإسلامي، وهناك أخرى لا تريد الحكم الإسلامي؛ فما حكم الناخب على غير الحكم الإسلامي مع أنه يصلي؟
الجواب: "يجب على المسلمين في البلاد التي لا تحكم الشريعة الإسلامية، أن يبذلوا جهدهم وما يستطيعونه في الحكم بالشريعة الإسلامية، وأن يقوموا بالتكاتف يداً واحدة في مساعدة الحزب الذي يعرف منه أنه سيحكم بالشريعة الإسلامية")) 
قلتُ: واضح كيف أنَّ الكاتب يتلقط أقوال أهل العلم ليستدل بها على ما يقول!!، فإنَّ كلمة "مساعدة الحزب" مجملة، ومحل النزاع في "الترشيح" و"العمل السياسي"!.
لكن يبقى قول الكاتب قبل هذه المسألة؛ فإنه قال: ((فمن دخل في هذه المجالس بقصد الاستقلال بالتشريع كان له نصيب من وصف الطاغوتية وحرم اختياره وانتخابه، وأما من دخل فيها بقصد تحكيم الشريعة وتقليل الشر أو دفعه؛ فهذا قد أحسن, وللمسلمين اختياره وتقديمه؛ كما أفتت بذلك اللجنة الدائمة للإفتاء والدعوة والإرشاد جواباً على السؤال التالي في مجموع فتاواها  (23\406)سؤال: هل يجوز التصويت في الانتخابات والترشيح لها؟ مع العلم أنَّ بلادنا تحكم بغير ما انزل الله؟ الجواب: "لا يجوز لمسلم أن يرشح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك حكومة تحكم بغير ما أنزل الله, وتعمل بغير شريعة الإسلام, فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه أو غيره ممن يعملون في هذه الحكومة؛ إلا إذا كان من يرشح نفسه من المسلمين أو من ينتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم؛ على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية. وبالله التوفيق , وصلى الله على نبينا محمد وأله وصحبه وسلم". اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء. 
عبد الله بن قعود (عضو) .. عبد الله بن غديان (عضو) ... عبد الرزاق عفيفي (نائب الرئيس) ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز (الرئيس)))
قلتُ: استثناء اللجنة من تحريم الترشيح بقولهم: ((إلا إذا كان مَنْ يرشح نفسه من المسلمين أو من يُنتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم؛ على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية)).
هذا الاستثناء من حيث الواقع بعيد جداً، ومع هذا لا يُمكن تغيير الحكم من خلال وسيلة غير شرعية، لأنَّ الغاية لا تبرر الوسيلة!!، وكيف يسعون لتحويل الحكم أو النظام إلى العمل بشريعة الإسلام وهم لم يمتثلوا حكم الإسلام في النهي عن طلب الإمارة والحرص على تولي المناصب؟!
ثم ليست هذه هي الطريقة التي سلكها صلى الله عليه وسلم للوصول إلى تحكيم الشريعة في البلاد!، ودعوة المسلمين إلى الدخول في السياسة المعاصرة وما يترتب عليها من مخاطر وعواقب غلط بيِّن.
وقد قال الشيخ الألباني في فتوى انتخابات الجزائر: ((لا ننصح أحداً من إخواننا المسلمين أن يرشِّح نفسه ليكون نائباً في برلمان لا يحكم بما أنزل الله؛ وإنْ كان قد نصَّ في دستوره "دين الدولة: الإسلام"!!؛ فإنَّ هذا النص قد ثبت عملياً أنه وضع لتخدير أعضاء النواب الطيبي القلوب!!، ذلك لأنه لا يستطيع أن يغيِّر شيئاً من مواد الدستور المخالفة للإسلام؛ كما ثبت عملياً في بعض البلاد التي في دستورها النص المذكور. هذا إنْ لم يتورط مع الزمن أن يُقر بعض الأحكام المخالفة للإسلام بدعوى أنَّ الوقت لم يحن بعدُ لتغييرها كما رأينا في بعض البلاد!؛ يُغَيرِّ النائب زيّه الإسلامي، ويتزيّا بالزي الغربي مسايرة منه لسائر النواب!، فدخل البرلمان ليُصْلِح غيره فأفسد نفسه!، وأوَّل الغيث قطرٌ ثم ينهمر!!. لذلك فنحن لا ننصح أحداً أن يرشح نفسه)).
وفصَّل رحمه الله تعالى ذلك أكثر فقال كما في سلسلة الهدى والنور شريط رقم (660) وقد نقلها الكاتب في حلقته هذه: ((كل من الانتخابات يدور حول قاعدة غير إسلامية، بل هي قاعدة يهودية صهيونية: الغاية تبرر الوسيلة؛ أنا أفصِّل بين أن يرشِّح المسلم نفسه في مجلس من مجالس البلديات, وبين أن يختار هو من يُظَن أنَّ شره في ذلك المجلس أقل من غيره، يجب التفريق حتى في الانتخابات الكبرى. وأنا كتبتُ في هذا إلى جماعة الإنقاذ في الجزائر فقد أرسلوا إلي سؤالاً عن الانتخابات؟، فبينت لهم بشيء من التفصيل ما ذكرتُ آنفاً من أنّ هذه الانتخابات والبرلمانات ليست إسلامية، وأنني لا أنصح مسلماً أن يرشِّح نفسه ليكون نائباً في هذا البرلمان لأنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً أبداً للإسلام، بل سيجرفه التيار كما يقع في كل الحكومات القائمة اليوم في البلاد العربية؛ ولكن مع ذلك قلتُ: إذا كان هناك مسلمون - وهذا موجود مع الأسف في كل بلاد الإسلام - يرشحون أنفسهم ليدخلوا البرلمان بزعم تقليل الشر!؛ فنحن لا نستطيع أن نصدهم عن ترشيح أنفسهم صداً؛ لأننا لا نملك إلا النصح والبيان والبلاغ، فإذا كان هو واقعياً سيرشح نفسه للانتخابات الكبرى أو الصغرى -على حد تعبيرك-؛ فيرشح مسلم نفسه ويرشح نصراني أو شيوعي أو نحو ذلك؛ فإذا ما أمكننا أن نصد المسلم من أن يرشح نفسه سواء للانتخاب الصغير أو الكبير فنحن نختاره, لماذا؟ لأنّ هناك قاعدة إسلامية على أساسها نحن نقول ما قلنا: إذا وقع المسلم بين شرّين، اختار أقلهما شرّاً، لا شك أنَّ وجود رئيس بلدية مسلم هو بلا شك أقل شراً -ولا أقول خير!- من وجود رئيس بلدية كافر أو ملحد، لكن هذا الرئيس يحرق نفسه وهو لا يدري؛ لأنه لما يرشح نفسه بدعوى أنه يريد أن يقلل الشر -وقد يفعل- ولكنه لا يدري بأنه يحترق من ناحية أخرى؛ فيكون مثله كمثل العالم الذي لا يعمل بعلمه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "مثل العالم الذي لا يعمل بعلمه كمثل المصباح يحرق نفسه ويضيء غيره". لهذا نحن نفرق بين أن نَنتخِب وبين أن نُنتخَب؛ لا نرشح أنفسنا لنُنتخَب لأننا سنحترق, أما مَنْ أبى إلا أن يحرق نفسه قليلاً أو كثيراً ويرشح نفسه في هذه الانتخابات أو تلك، فنحن من باب دفع الشر الأكبر بالشر الأصغر نختار هذا المسلم على ذاك الكافر أو على ذاك الملحد.
السائل: يا شيخنا أفهم من هذا الكلام أنه بالنسبة للبرلمان أو بالنسبة للانتخابات البلدية إذا ترشح مسلم فالتصويت عليه جائز؟
الشيخ: نعم؛ لكن من باب "دفع الشر الأكبر بالشر الأصغر"، ليس لأنه "خير"))
قلتُ: وقد قال الكاتب في حلقته هذه: ((ورحم الله إمامنا الألباني الذي لما وردته أسئلة جبهة الإنقاذ الجزائرية جمع للإجابة عليها بعضاً من أقوى طلبته وداولهم على مدى ساعات طوال في الأسئلة والواقع الجزائري, وما هو الواجب الذي ينبغي أن يكون في مثل ذاك الواقع, حتى خرجت تلك الأجوبة البديعة المتلألئة, كما حدثنا بذلك شيخنا مشهور حفظه الله؛ والذي كان أحد الحضور حينها)).
قلتُ: فهل تغير الموقف من فتوى الألباني هذه الآن؟!
وبخاصة أنَّ الكاتب يجيز الترشيح ويقول: ((فالمشارك في العملية الانتخابية قد يؤذي نفسه بأن يحملها من الفتن والمخالفات ما لا يكون معذوراً بمواقعته شرعاً, لكنه بدخوله في هذه المجالس سوف يدفع بعض الشر, أو يستجلب بعض المصالح))، وهذا على خطى قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة"!!
ثم إنَّ الكاتب يُحاول – تلميحاً لا تصريحاً! - أن يوقف العمل بفتوى الشيخ الألباني في المنع من الترشيح بدعوى أنها خاصة في بلد!!؛ كمثل قوله: ((إنَّ مسائل الانتخابات النيابية في البلدان الإسلامية هي من قضايا الأعيان التي تحتاج كل واقعة منها إلى فتوى خاصة لاختلاف الظروف والأحوال والبلدان بله الأزمنة؛ لأنَّ قضايا الأعيان لا عموم لها))، وقوله: ((إنَّ الفتوى بالجواز أو المنع من المشاركة في الانتخابات إنما قول اجتهادي قائم على نظر وترجيح المفتي؛ لكن هذا النظر قابل للأخذ والرد, لأنه محتمل للصواب والخطأ؛ ومن الخطأ البين أن يجعل هذا الاجتهاد بمثابة النصوص الشرعية الصالحة لكل زمان ومكان, كيف والمجتهد بشر يخطئ ويصيب, والوقائع والأحوال تتغير بتغير الزمان والمكان؛ فمن أفتى بالمنع المطلق من المشاركة في الانتخابات التشريعية لجزمه برجحان المفاسد على المصالح في سائر صور الانتخابات فقد أنزل اجتهاده منزلة نصوص الشرع, وتكلف علم ما لا طاقة له به))

قلتُ: وهذه محاولة فاشلة؛ بل مَنْ رجع إلى فتوى الألباني في انتخابات الجزائر وهي مكتوبة بخط يده في كتاب "مدارك النظر"، ورجع إلى المجالس التي تكلَّم فيها الشيخ رحمه الله تعالى في أشرطة "سلسلة الهدى والنور" وهي كثيرة؛ عَلِمَ يقيناً أنَّ الشيخ يؤصِّل في مسألة الانتخابات والترشيح، وليس مجرد فتوى في نازلة!، والله الموفِّق.


يتبعه الحلقـــ (11) ــة

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.