-->

السبت، 18 مارس 2017

إلزام المنصوح بعدم اعتبار تجريح المجروح


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد: فالمجروح هو الذي جُرِحَ جرحاً مفسَّراً من قبل علماء الجرح والتعديل؛ ولو من عالم واحد عارف بأسباب الجرح، وهذا المجروح لا يُعتمد جرحُه إذا انفرد فضلاً إذا خالف تعديل العلماء الثقات.
ودونكم الأدلة وكلام العلماء:
1- قال تعالى: "إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا"، والجرح والتعديل من باب الأخبار، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين": ((ومن ذلك: التقليد في قبول الترجمة في الرسالة والتعريف، و"التعديل والجرح"؛ كل هذا من باب الأخبار؛ التي أمر الله بقبول المخبر بها إذا كان عدلاً صادقاً، وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد))، إذاً لا يُقبل في الجرح والتعديل إلا قول العدل الثقة، وأما قول المجروح الضعيف فلا.
2- أخرج الإمام أبو داود رحمه الله عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ، وَلاَ زَانٍ وَلاَ زَانِيَةٍ، وَلاَ ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ)) حسنه الألباني في "الإرواء".
الحكم على الرجال بمنزلة الشهادة عليهم، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين": ((إنَّ استدلالكم بهذا من باب المغاليط!، وليس هذا من التقليد المذموم على لسان السلف والخلف في شيء، ونحن لم نرجع إلى أقوال هؤلاء لكونهم أخبروا بها؛ بل لأنَّ الله ورسوله أمر بقبول قولهم وجعله دليلاً على ترتب الأحكام، فاخبارهم بمنزلة الشهادة والإقرار)).
فشهادة الفاسق مردودة وكذلك تجريح المجروح مردود.
3- جملة من كلام العلماء:
قال الإمام ابن حبان في "الثقات" في ترجمة [عكرمة مولى ابن عباس]: ((ومن أمحل المحال: أن يُجرح العدل بكلام المجروح؛ لأنَّ يزيد بن أبي زياد ليس ممن يحتج بنقل حديثه ولا بشيء يقوله)).
قال الحافظ الذهبي رحمه الله في "الميزان": ((وأبو الفتح الأزدي يُسرف في الجرح، وله مصنَّف كبير إلى الغاية في المجروحين، جمع فأوعى، وجرح خلقاً بنفسه لم يسبقه أحدٌ إلى التكلُّم فيهم؛ وهو المتكلَّم فيه)).
وقال الحافظ الذهبي رحمه الله في "الميزان" في جرح قطبة بن العلاء للفضيل بن عياض: ((فمن قطبة؟! وما قطبة حتى يُجرِّح؛ وهو هالك، روى الفضيل رحمه الله ما سمع فكان ماذا؟! فالفضيل من مشايخ الإسلام)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "نزهة النظر": ((وكذا يَنْبَغي أَنْ لا يُقْبَلَ الجَرْحُ والتَّعْديلُ إِلاَّ مِن عدلٍ مُتَيَقِّظٍ)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" في ترجمة [أحمد بن شبيب بن سعيد الحبطي]: ((وقال أبو الفتح الأزدي: "منكر الحديث غير مرضي" ولا عبرة بقول الأزدي؛ لأنه هو ضعيف، فكيف يعتمد في تضعيف الثقات؟!)).
وقال في ترجمة "علي بن أبي هاشم بن طيراخ البغدادي": ((وقال الأزدي: "ضعيف جداً"، قلتُ: قدمتُ غير مرة أنَّ الأزدي لا يعتبر تجريحه لضعفه هو)).
وقال في ترجمة "إسرائيل بن موسى البصري": ((وقال أبو الفتح الأزدي: "فيه لين" والأزدي لا يعتمد إذا انفرد، فكيف إذا خالف؟!)).
وقال أيضاً: ((حماد بن أسامة أبو أسامة الكوفي: أحد الأئمة الأثبات، اتفقوا على توثيقه، وشذَّ الأزدي فذكره في الضعفاء، وحكى عن سفيان بن وكيع قال: "كان أبو أسامة يتتبع كتب الرواة فيأخذها وينسخها فقال لي بن نمير: إن المحسن لأبي أسامة يقول: إنه دفن كتبه ثم إنه تتبع الأحاديث بعد من الناس فنسخها، قال سفيان بن وكيع: أني لأعجب كيف جاز حديثه كان أمره بيناً وكان من أسرق الناس لحديث حميد" انتهى، وسفيان بن وكيع هذا ضعيفٌ لا يعتدَّ به، كما لا يعتدُّ بالناقل عنه: وهو أبو الفتح الأزدي؛ مع أنه ذكر هذا عن ابن وكيع بالإسناد)).
قال الشيخ ربيع حفظه الله في  رسالته "تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف بين واقع المحدثين ومغالطات المتعصبين" في ترجمة [محمد بن راشد المكحولي]: ((وقال ابن خراش: "ضعيف الحديث"، ولا يعتد بقول ابن خراش فهو نفسه مجروح)).
قال الشيخ د. عبد العزيز عبد اللطيف رحمه الله في "ضوابط الجرح والتعديل": ((لا يُلتفت إلى الجرح الصادر من المجروح إلا:
- إذا كان الجارحُ إماماً له عناية بهذا الشأن.
- وقد خلا الراوي المجروح عن التوثيق.
- ولم تظهر قرينة تدل على تحامل الجارح في جرحه)).
قال الشيخ عبد الله البخاري حفظه الله في شرحه هذا الكلام في [شرح "ضوابط الجرح والتعديل"/ الشريط "13"] مبيناً ومعقباً: ((فمن كان ضعيفاً فيهما أو في واحد منهما - [القوة في الدِّين والقوة في العلم]- ضَعفاً مُعِلَّاً: فإنه لا يعتبر به في هذا الباب.
إلا إنه يوجد بعضُ من تُكلِّم به في هذا الباب وضُعِّف لكن عبَّر عنهم الشيخ هنا "إلا إذا كان الجارح إماماً له عناية في هذا الشأن"، يعني عناية بالكلام في الرجال جرحاً وتعديلاً، كونه له عناية ليس بالضرورة أن يعتمد على قوله!، ولهذا ما رتَّب رحمه الله على هذه التقدمة من قوله: وفي الأمثلة من اعتماد الحافظ في الجرح الصادر من الأزدي في عدم توثيق الراوي!.
نقول بارك الله فيكم: إذا ثبت أنَّ هذا المتكلِّم مضعَّفٌ - إما في الأمرين معاً أو في أحدهما كما مرَّ - ضعفاً مُعِلَّلاً: فإنه لا يُعتبر بقوله كما تقدَّم؛ لأنَّ هذه شروطٌ يجب أن تتوفر في المعدِّل والجارح، فكونها تخلَّفت عنه، فكيف نقبل قوله وقد تخلَّفت عنه الشروط التي يجب أن تتوفر فيه؟! ولو كان مشتغلاً بالرجال.
ولكن نقول: قد "نستأنسُ" أو "يُستأنس" بقوله إذا خلا من كلام فيه لأحد من أهل العلم، يُستأنس به لا كما قال المؤلِّف رحمه الله هنا: من أمثلة اعتماد، يُستأنس ولا يعتمد.
وهؤلاء كما قلنا: بعضهم ضعفه كما قلنا "ضعفاً يسيراً"، ضعفه ضعفاً غير مُعِلٍّ، ومنهم الحافظ الإمام محمد بن عثمان بن أبي شيبة رحمه الله، فقد ذكر الذهبي رحمه الله في "ذكر مَنْ يُعتمد قوله في الجرح والتعديل" لما ذكره في الأئمة قال: "وهو مع ضعفه من أئمة هذا الشأن"، فإذاً بعضهم ضعفه يسير فمثله يُمشَّى في جنب قوة دينه، والضعف الذي حصل فيه ضعف من جانب شيء من ضبطه أو شيء مما هو يؤاخذ به وهو يسير غير شديد، وهذا كما قلنا: كمحمد بن عثمان بن أبي شيبة وكعبد الله بن محمد الدينوري الحافظ في آخرين، هذه النقطة الثانية.
النقطة الثالثة: أنَّ الراوي إذا وثَّقه إمام معتبر من الثقات، وخالفه في ذلك التوثيق مَنْ هو متكلَّم فيه: فلا عبرة بقول هذا المخالف...)).
وفي كلام الشيخ عبد الله البخاري حفظه الله فائدة عزيزة، وهي أنَّ الأصل عدم اعتماد تجريح المجروح، لكن من ضُعِّفَ ضعفاً يسيراً غير مُعِلٍّ من جانب ضبطه أو شيء مما يؤخذ عليه وهو يسير غير شديد: يُعتمد جرحه لغيره إنْ كان إماماً من أئمة هذا الشأن وخلا المجروح من توثيق إمام معتبر، وقد يُستأنس بذكر جرحه إن كان دون ذلك.
فإذا عرفنا هذه الفائدة، تبيَّن لنا أنَّ بعض الأمثلة التي ذكرها الحافظ الذهبي رحمه الله في كتابه "ذكر مَنْ يُعتمد قوله في الجرح والتعديل" ممن ضُعِّف ضعفاً يسيراً ومع هذا اعتمد العلماء على جرحه لغيره لا تخرج من هذا الباب، وهذا استثناء من أصل عام، والاستثناء يقوي العموم كما قال أهل الأصول: "الاستثناء معيار العموم"، ولا ينقض الاستثناء الأصل إلا على طريقة المليبارية، فافهم هذا والزم، ولا يهولنَّك تشغيب المخلِّطين المفتونين.
كتبه
أبو معاذ رائد آل طاهر

ليلة الإثنين 20 ربيع الأول لعام 1438 ه

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.