الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَنْ سار على نهجه إلى يوم الدين؛
أما بعد:
ففي
جلسة نافعة جمعتني وبعض إخواني الأفاضل مع الشيخ المجاهد والعلامة الفاضل محمد بن هادي
المدخلي حفظه الله تعالى في بيته المعمور في المدينة النبوية وذلك في يوم الاثنين بتاريخ
7 رجب 1433هـ، وكان مما نفعني به وفقه الله تعالى أن أرشدني إلى الاستفادة من رسالة
مفيدة بين علماء أهل الحديث في الهند وبين أئمة الدعوة في نجد والحجاز حول انتقاداتهم
على أبي الوفاء ثناء الله الهندي في تفسيره، والرسالة قرأها علينا الشيخ محمد وفقه
الله من كتاب [الدرر السنية في الأجوبة النجدية]، ونبَّه زاده الله بصيرة في الدين
أثناء ذلك على بعض الفوائد من هذه الرسالة، فأخبرتُ الشيخ بأني سأفرد هذه الرسالة وما
فيها من عبر وفوائد في مقال مستقل، فنصح بذلك، والله الموفِّق.
وأصل
الرسالة:
أنَّ
علماء الحديث في الهند استنكروا ما في تفسير ثناء الله الهندي من أباطيل وضلالات وأغلاط،
وحدث بينهم وبينه نزاع في ذلك، فرفعوا الأمر إلى الملك عبدالعزيز آل سعود وعلماء نجد
رحمهم الله لينظروا في ذلك.
فبيَّن
هؤلاء العلماء في أول جوابهم أنَّ: ((هذه
المواضع المنقولة من تفسير أبي الوفاء ثناء الله، جمهورها بل كلها خطأ إلا مواضع يسيرة
ننبه عليها إن شاء الله تعالى، وأعظمها وأكبرها: ما يتعلق بصفات الله تعالى...)) ثم ذكروا المواضع المنتقدة وبينوا مخالفتها لما كان عليه
السلف بالأدلة والحجج.
ثم
ختموا جوابهم بقولهم: ((وليعلم:
أنَّا قد تركنا التنبيه على بعض الآيات التي استشهد بها على بعض ما فسَّر به، لوضوح
عدم دلالتها على مراده، وأنا لم ننبه على تلك الغلطات إلا نصحاً لله ولرسوله ولكتابه
وللمسلمين، وأنه ينبغي لإخواننا أهل الحديث الهنديين أن لا يكون قصدهم إلا ذلك، وأن
يدعوا هذا الرجل ويعاملوه باللين، لعل الله أن يمنَّ عليه بالرجوع، فإنْ أصرَّ فلا
أسف عليه، ويصير حكمه حكم أمثاله المصرين على البدع والتحريف لنصوص القرآن، لا
سيما نصوص صفات الله، والله أعلم، وصلى الله على محمد)).
ثم
لما علم علماء الحجاز من طريق علماء الهند أنَّ أبا الوفاء ثناء الله الهندي لم يرجع
عن أغلاطه كتبوا له هذه الرسالة:
((بسم الله الرحمن الرحيم؛ الحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه
على نبيه الأمين وعلى آله وأصحابه والتابعين:
من
محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ ومحمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ إلى
الأخ أبي الوفاء ثناء الله الهندي، منحنا الله وإياه مزيد الدراية، وجنبنا وإياه طرق
الزيغ والغواية، اللهم آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما
بعد: فالحامل على هذا الكتاب، إهداء السلام إلى حضرتكم، ثم تعريفكم أنه قد صار عندنا
من المعلوم رجوعكم بعد أعوام عن الأمور التي أُخِذت عليكم وانتقدت من تفسيركم، فشكرنا
لكم ذلك ودعونا لكم.
لكن
وقفنا أثناء هذا العام في ذي القعدة سنة 1350 هجرية على كتاب أرسله أهل الحديث
من أهل الهند، إلى الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل آل سعود، ذكروا فيه عدم رجوعكم
وإصراركم على تلك الأمور التي انتقدت من تفسيركم، وبطي كتابهم نصوص العبارات التي انتقدت،
وطلبوا الإرشاد إلى الصواب في ذلك.
فلم
يسعنا إلا النطق بالصواب، وبيان الصحيح منها من السقيم، نصحاً للخلق، وقياماً بما تعبدنا
به من بيان الحق، وإرشاداً لكم خصوصاً، رجاء أن ينفعكم الله بذلك، فتتركوا ما سلكتموه من تلك المسالك،
وغير خاف عليكم أنَّ كل ذي دين وإنصاف أبعد شيء عن الأنفة والاستكبار، ومن أحب الناس
إليه مَنْ يعرِّفه عيبه ويوقفه عليه.
وليكن
منكم على بال قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله: "ليس منا إلا راد ومردود
عليه، إلا صاحب هذا القبر" يعني رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولتحضرك قصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين
نهى في خطبته عن المغالاة في مهور النساء، فقالت له امرأة: يا أمير المؤمنين؛ ألم يقل
الله تعالى: "وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً"، فقال رضي الله عنه:
أصابت امرأة وأخطأ عمر.
ولم
يزل أهل العلم يبينون غلطات مَنْ غلط ويردونها، حتى إنَّ بعضهم يرد ذلك ولو بعد توبة
مَنْ حدث عنه؛ خوفاً أن يغتر بتلك المقالة، كما رد موفق الدين ابن قدامة الحنبلي غلطات
أبي الوفاء ابن عقيل بعدما تاب منها.
والذي
نوصيك به وأنفسنا: تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلانية، والتوبة إلى الله
من تلك الورطات، والرجوع إلى الحق بكتابة في ذلك حتى يشتهر ذلك عنك، ويحصل الاتفاق
بينك وبين أهل الحديث من الهند وغيرهم.
ونوصيك
أيضاً: بالإكباب على كتب أهل السنة وتفاسيرهم، كالأمهات الست وغيرها من كتب الحديث،
وتفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي، وغيرها من تفاسير السلف من أهل السنة، الذين لا
تروج عليهم إحداثات المحدِثين، وتأويلات الجاهلين. جعلنا الله وإياك هادين مهتدين،
غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائه، حرباً لأعدائه، نحب بحبه من أحبه، ونعادي بعداوته
من خالف أمره، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)).
الفوائد
المستفادة من هذه الرسالة:
1- التعاون والتواصل بين العلماء في مختلف البلاد لإنكار البدع
والضلالات والتحذير من أهلها وبيان حالهم.
ولا
شك أنَّ هذا من التواصي بالحق ومن التعاون على البر والتقوى ومن القيام بشعيرة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه الشعيرة التي جعل الله خيرية هذه الأمة وصلاحها منوطة
بها.
فأهل
العلم لا تميزهم أقاليم جغرافية ولا تضاريس أرضية، بل تجمعهم الإخوة الإيمانية والعقيدة
السلفية أينما كانوا.
وفي
هذا الرسالة الصادرة من علماء الهند والموجهة إلى علماء نجد إشارة إلى مكانة علماء
نجد، وأنَّ لهم كلمة ومكانة في عموم بلاد المسلمين، وأنَّ العلماء الآخرين يرجعون إليهم
عند الاختلاف والفتن، وليس في هذا انتقاص لعلماء الهند ولا لغيرهم، وإنما تنزيل الناس
منازلهم ومعرفة الفضل لأهله.
فأين
مثل هذا التواصل بين أهل العلم لإنكار البدع في هذا الزمان؟
إنَّ
الناظر إلى أهل البدع ودعاة الباطل والفتن في هذا الزمان يرى أنهم يسعون بكل طريقة
إلى فصل الأمة عن علمائها، وقطع العلاقة بين البلاد الإسلامية وعلماء بلاد الحرمين،
بل والسعي الحثيث إلى إحداث الاختلاف بين أهل العلم في بلاد الحرمين نفسها بنقل الأخبار
الكاذبة لهم وتحريف المواقف وتزيين الباطل وتشويه أهل الحق.
حتى
إننا نلاحظ من بعض أهل العلم - مع بالغ الأسف وشديد الحزن- ممن كانت لهم مواقف مشرِّفة
ضد البدع وأهلها مَنْ أرخى سمعه لهؤلاء وأحسن الظنَّ بهم، وأعرض عن القراءة لأهل العلم
ودعاة الحق والتواصل معهم في معرفة الحق والانتصار له، وصار يصف العلماء والمشايخ وطلبة
العلم المنكرين للبدع والمحذِّرين من أهلها: بالغلو والشدة، وعدم التثبت وعدم الإنصاف،
وأنهم يتصيَّدون الأخطاء ويتتبعون العورات، وأنهم منشغلون في تجريح أهل السنة، وأنهم
لا شغل لهم إلا الردود والتحذير والهجر، وأنهم أحدثوا بين أهل السنة فرقة وفتنة، وأنهم
يدعون الشباب إلى التعصب والتقليد لهم، وأنهم يتبعون بطانة من أهل السوء والكذب، ووصفوا
جهادهم لأهل البدع - الذي شكرهم عليه أهل السنة في كل البلاد - بفتنة التجريح!، والله
المستعان.
نعم
لقد تمكَّن دعاة الباطل هؤلاء من خداع بعض أهل العلم أولئك بطرق ملتوية وأساليب متنوعة
فصوَّروا لهم الحق باطلاً والباطل حقاً، وتمسكنوا أمامهم وتظاهروا بالسنة ونصرتها ومعاداة
البدعة وأهلها، وأهل العلم المشار إليهم لا يعرفون حقيقة حالهم وما هم عليه من ضلال
وقواعد باطلة ونصرة لأهل البدع، فلم يقبلوا كلام أهل العلم فيهم، ولم يُطالعوا ردودهم
المبنية على الأدلة العلمية والمصادر الموثوقة، وجعلوا ذلك من كلام الأقران الذي يطوى
ولا يروى!، ودعوا الشباب إلى عدم الالتفات إلى كلام العلماء في فلان وفلان من أهل الباطل!.
فأين
هذه المقاطعة وهذا الإنكار من مسلك علماء الحديث في الهند وتواصلهم مع علماء نجد؟!
وبعض
الناس يحاول أن يقطع التواصل مع أهل العلم بطرق ملتوية كدعوى أنه لا ينبغي إدخال الفتن
بين فلان وفلان ممن هو خارج البلاد في داخل بلادهم!، وأنَّ الاختلاف الذي يقع في بلد
معين لا يتدخل فيه إلا أهل البلد بدعوى أهل مكة أدرى بشعابها!، وهي كلمة حق يراد بها
باطل، فالاختلاف الخارجي يؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى الاختلاف في الداخل بسبب الأنصار
وبسبب انتشار الكتب والأشرطة وتطور وسائل الاتصال، والارتباط بالعلماء المبني على الحجة
والدليل في وقت الفتن والأزمات واجب شرعي، وربَّ بلد لا يوجد فيه علماء على المنهج
السلفي فالواجب التواصل مع أهل العلم في غير هذا البلد، بل لو كان في بلد معين علماء
سلفيون فهذا لا يمنع من التواصل مع مَنْ هم أعلم منهم، ولا يمنع من مشورتهم والتواصي
معهم؛ كما فعل علماء الحديث في الهند.
2- كون العالم يشتغل بعلم الحديث هذا لا يمنع من الاشتغال بالردود
وبيان حال المنحرفين والتواصل مع العلماء الآخرين في إنكار البدع والتحذير منها، فعلماء
الحديث في الهند لم يشغلهم هذا العلم الشريف من بيان المنحرفين والرد عليهم.
بينما
نجد في هذا الزمان مَنْ انشغل بشرح الحديث وبيان الأسانيد والكلام في الرجال، وينصح
طلبة العلم بعدم الألتفات إلى ردود أهل العلم، وعدم الاستماع إلى أحكامهم في فلان وفلان
من دعاة الباطل، وأنَّ في هذا ضياعاً للوقت وإهداراً للجهود، وأنه يثير الفتنة والفرقة
بين أهل السنة.
فهل
هذا هو حال أهل الحديث قديماً وحديثاً؟
وهل
كان هذا هو موقفهم من الردود على أهل البدع وبيان حالهم؟!
3- أنَّ علماء أهل نجد لما وصلتهم انتقادات علماء الحديث في
الهند لأبي الوفاء ثناء الله الهندي سارعوا إلى قراءتها، ولم يسعهم إلا النطق بالحق
نصحاً للخلق وإرشاداً للمخطئ، فبينوا وأرشدوا ونصحوا.
واليوم
يرسل أهل العلم انتقاداتهم لأهل البدع إلى مَنْ يدافع عنهم وينسبهم إلى السنة ولا يقبل
التحذير منهم وبيان حالهم للناس ويعد ذلك من تجريح أهل السنة لأهل السنة؛ فلا يقرأ
هذه الانتقادات ولا يُطالع هذه الردود، بل يكون مصيرها الحرق أو الإهمال، ثم يصرُّ
على نسبة دعاة الباطل أولئك إلى السنة، ويطالب أهل السنة بالرفق بهم والكف عنهم والانتفاع
منهم، ويصر على نسبة أهل السنة إلى الغلو والتشدد والتجريح والظلم.
فما
أصبر أهل العلم في هذا الزمان على أذى أمثال هؤلاء المدافعين عن أهل البدع؟!
4- أنَّ التوبة من الأغلاط لا تمنع التحذير منها خشية أن يغتر
بها مَنْ لا يدري بتوبة صاحبها.
واليوم
كم من توبة مزعومة موهومة من صاحب بدعة مرواغ ماكر يُراد بها تكميم أفواه أهل السنة
وخداعهم؟!
فنقول
لهؤلاء: لو صدقت توبة مَنْ تدافعون عنهم لما جاز لكم أن تمنعوا أهل السنة من بيان أغلاطهم
والتحذير منها.
فكيف
ونحن نعلم أنَّ توبة مَنْ تدافعون عنهم كاذبة لا حقيقة لها؟!
5- أنَّ الواجب على مَنْ أعلن الباطل ونشره أن يتوب إلى الله
ويكتب كتاباً يحصل فيه اتفاق بينه وبين أهل العلم المنازعين له على مضمونه، ثم يُنشر
هذا الكتاب، حتى يُشتهر عن صاحبه الرجوع والتوبة.
6- أنَّ مَنْ أصر على الباطل ولم يثبت رجوعه إلى الحق فإنه
يلحق بأمثاله من المصرين على البدع.
واليوم
أهل الباطل يزدادون في غيهم وباطلهم ثم لا نجد من بعض الناس ممن يدافع عنهم كلمة ينتصر
بها للحق وأهله، بل لم نجد لهم إلا النصرة والدفاع والتماس المعاذير لأهل البدع ودعاة
الباطل، والطعن والتجريح والتنفير من أهل السنة ودعاة الحق.
هذا
ما أحببتُ تدوينه بإيجاز من فوائد هذه الرسالة، وأسأل الله تعالى أن يبصِّرنا بأهل
البدع وأن يعيننا على التواصل في كشفهم وبيان باطلهم، والله الموفِّق.
[ما في تفسير محمد صديق من بعض عبارات المتكلمين]
قال
الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:
بسم
الله الرحمن الرحيم
من
حمد بن عتيق، إلى الإمام المعظم، والشريف المقدم محمد، الملقب: صديق، زاده الله من
التحقيق، وأجاره في ماله من عذاب الحريق، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد:
وصل إلينا التفسير - تفسيره المسمى "فتح
البيان في مقاصد القرآن" - فرأينا أمراً عجيباً، ما كنا نظن أنَّ الزمان يسمح
بمثله في عصرنا وما قرب منه، لما في التفاسير التي تصل إلينا من التحريف، والخروج عن
طريقة الاستقامة، وحمل كتاب الله على غير مراد الله، وركوب التعاسيف في حمله على المذاهب
الباطلة، وجعله آلة لذلك.
فلما
نظرنا في ذلك التفسير تبين لنا حسن قصد منشئه، وسلامة عقيدته، وبعده عن تعمد مذهب غير
ما عليه السلف الكرام، فعلمنا أنَّ ذلك من قبيل قوله: "وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً"، والحمد لله رب العالمين.
وهذا
التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين وألف، فنظرتُ فيه في هذا
الشهر وفي شوال، فتجهز الناس للحج، ولم أتمكن إلا من مطالعة بعضه، ومع ذلك وقفتُ فيه
على مواضع تحتاج إلى تحقيق، وظننت أنَّ لذلك سببين:
أحدهما:
أنه لم يحصل منكم إمعان نظر في هذا الكتاب بعد تمامه، والغالب على مَنْ صنَّف الكتاب
كثرة ترداده، وإبقاؤه في يده سنين يبديه ويعيده، ويمحو ويثبت، ويبدِّل العبارات، حتى
يغلب على ظنه الصحة، ولعل الأصحاب عاجلوك بتلقيه قبل ذلك.
والثاني:
أنَّ ظاهر الصنيع أنك أحسنتَ الظنَّ ببعض المتكلمين، وأخذتَ من عباراتهم بعضاً بلفظه
وبعضاً بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك لم تمعن النظر فيها، ولهم عبارات مزخرفة تتضمن
الداء العضال، وما دخل عليك من ذلك مغفور إن شاء الله بحسن القصد واعتماد الحق وتحري
الصدق والعدل، وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنَّف في التفسير وغيره، وإذا
نظر السني المنصف في كثير من التفاسير وشروح الحديث وجد ما قلته وما هو أكثر منه.
وقد
سلكتم في هذا التفسير في مواضع منه مسلك أهل التأويل، مع أنه قد وصل إلينا لكم رسالة
في ذم التأويل مختصرة، وهي كافية ومطلعة على أنَّ ما وقع في التفسير صدر من غير تأمل،
وأنه من ذلك القبيل، وكذلك في التفسير من مخالفة أهل التأويل ما يدل على ذلك.
وأنا
اجتريت عليك؛ وإن كان مثلي لا ينبغي له ذلك، لأنه غلب على ظني إصغاؤك إلى التنبيه،
ولأنَّ من أخلاق أئمة الدين قبول التنبيه والمذاكرة، وذم الكبر، وإن كان القائل غير
أهل، ولأنه بلغني عن بعض من اجتمع بك، أنك تحب الاجتماع بأهل العلم، وتحرص على ذلك،
وتقبل العلم ولو ممن هو دونك بكثير، فرجوتُ أنَّ ذلك عنوان التوفيق، جعلك الله كذلك
وخيراً من ذلك.
واعلم
أرشدك الله أنَّ الذي جرينا عليه، أنه إذا وصل إلينا شيء من المصنفات في التفسير، وشرح
الحديث اختبرنا واعتبرنا معتقده في العلو والصفات والأفعال، فوجدنا الغالب على كثير
من المتأخرين أو أكثرهم مذهب الأشاعرة الذي حاصله نفي العلو، وتأويل الآيات في هذا
الباب بالتأويلات الموروثة عن بشر المريسي وأضرابه من أهل البدع والضلال، ومن نظر في
شرح البخاري ومسلم ونحوهما وجد ذلك فيها.
وأما
ما صنَّفوا في الأصول والعقائد، فالأمر فيه ظاهر لذوي الألباب؛ فمن رزقه الله بصيرة
ونوراً، وأمعن النظر فيما قالوه، وعرضه على ما جاء عن الله ورسوله وما عليه أهل السنة
المحضة تبين له المنافاة بينهما، وعرف ذلك كما يعرف الفرق بين الليل والنهار؛ فأعرض
عما قالوه، وأقبل على الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة وأئمتها، ففيه الشفاء والمقنع،
وبعض المصنفين يذكر ما عليه السلف وما عليه المتكلمون ويختاره ويقرره.
فلما
اعتبرنا هذا التفسير؛ وجدناك وافقتهم في ذكر المذهبين، وخالفتهم في اختيار ما عليه
السلف تقرره، وليتك اقتصرت على ذلك، ولم تكبر حجم هذا الكتاب بمذهب أهل البدع، فإنه
لا خير في أكثره.
وقد
يكون لكم من القصد، نظير ما بلغني عن الشوكاني رحمه الله، لما قيل له: لأي شيء تذكر
كلام الزيدية في هذا الشرح؟ قال ما معناه: لا آمن الإعراض عن الكتاب، ورجوتُ أنَّ ذِكرَ
ذلك أدعى إلى قبوله وتلقيه.
وقد
قيَّض الله لكتب أهل السنة المحضة مَنْ يتلقاها ويعتني بها ويظهرها مع ما فيها من الرد
على أهل البدع وعيبهم، وتكفير بعض دعاتهم وغلاتهم، فإنَّ الله ضمن لهذا الدين أن يظهره
على الدين كله.
والمقصود:
أنَّ في هذا التفسير مواضع تحتاج إلى تحقيق، ونذكر لك بعض ذلك:
فمنه:
أني نظرت في الكلام على آيات الاستواء، فرأيتك أطلت الكلام في بعض المواضع، بذكر كلام
المبتدعة النفاة، كما تقدم.
ومنه:
أنَّ في الكلام بعض تعارض، كقولكم في آية يونس: وظاهر الآية يدل على أنه سبحانه إنما
استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض؛ لأن كلمة ثم للتراخي؛ ثم قلتم في سورة الرعد،
وثم هنا لمجرد العطف لا للترتيب، لأن الاستواء عليه غير مرتب على رفع السماوات؛ وكذلك
قلتم في سورة السجدة: وليست ثم للترتيب، بل بمعنى الواو.
فالنظر
في هذا من وجهين؛ أحدهما: أن ظاهره التعارض؛ الثاني: أن القول بأن ثم لمجرد العطف لا
للترتيب في هذه الآيات، إنما يقوله من فسر الاستواء بالقهر والغلبة، وعدم الترتيب ظاهر
على قولهم.
وأما
السلف وأئمة السنة وأهل التحقيق، فقد جعلوا اطراد الآيات في جميع المواضع، دليلا على
ثبوت الترتيب؛ وردوا به على نفاة الاستواء، وأبطلوا به تأويلاتهم، كما هو معروف مقرر
في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره؛ فانظر من أين دخلت عليك هذه العبارات، وقد رأيت
للرازي عبارة في التفسير تفهم ذلك، فلعلك بنيت على قوله. وهذا الرجل وإن كان يلقب بالفخر،
فله كلام في العقائد قد زل فيه زلة عظيمة، وآخر أمره الحيرة؛ نرجو أنه تاب من ذلك،
ومات على السنة، فلا تغتر بأمثال هؤلاء.
قال
شيخ الإسلام رحمه الله: في المحصل، وسائر كتب الكلام المختلف أهلها، مثل كتب الرازي
وأمثاله، وكتب المعتزلة والشيعة والفلاسفة؛ ونحو هؤلاء، لا يوجد فيها ما بعث الله به
رسله، في أصول الدين، بل وجد فيها حق ملبوس بباطل، انتهى من منهاج السنة.
قال:
وقد قال بعض العلماء في المحصل:
محصل
في أصول الدين حاصله ... أصل الضلالات والشرك المبين وما
من
بعد تحصيله جهل بلا دين ... فيه فأكثره وحي الشياطين
وهذا
من أجل كتبه، فكيف تسمح نفس عاقل أن يعتمد على قول مثل هؤلاء ؟ !.
ومن
ذلك أنكم قلتم في سورة يونس أيضا: استوى على العرش، استواء يليق به، وهذه طريقة السلف
المفوضين، وقد تقدس الديان عن المكان، والمعبود عن الحدود، انتهى.
فإن
كان المراد بالتفويض ما يقوله بعض النفاة، وينسبونه إلى السلف؛ وهو أنهم يمرون الألفاظ
ويؤمنون بها، من غير أن يعتقدوا لها معان تليق بالله؛ أو أنهم لا يعرفون معانيها، فهذا
كذب على السلف من النفاة.
وإذا
قال السلف: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا حقيقة الصفة؛ ولو كانوا قد آمنوا باللفظ
المجرد، من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله، لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف
غير معقول؛ وأمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء لا يكون حينئذ معلوما، بل مجهولا
بمنْزلة حروف المعجم.
وأيضا
فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى؛ وإنما يحتاج إلى نفي
علم الكيفية إذا ثبتت الصفات؛ هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولا نشك أن
هذا اعتقادك؛ ولكن المراد: أنه دخل عليك بعض الألفاظ من كلام أهل البدع، لم تتصور مرادهم،
فانتبه لمثل ذلك.
وأما
قول القائل: يتقدس الديان عن المكان، فهذا لم ينطق السلف فيه بنفي ولا إثبات، وهو من
عبارات المتكلمين، ومرادهم به نفي علو الله على خلقه؛ لأن لفظ المكان فيه إجمال يحتمل
الحق والباطل، كلفظ الجهة ونحوه، والكلام في ذلك معروف في كتب شيخ الإسلام وابن القيم،
فارجع إلى ذلك تجده، ولا نطيل به.
وحسب
العبد الاقتصار في هذا الباب على ما ورد في الكتاب والسنة، كما قال الإمام أحمد: لا
يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث.
ومن
ذلك ما ذكرتم، عند قوله تعالى: ((ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ))
[سورة البقرة آية : 29] وقد قيل: إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء، ودحوها متأخر،
وقد ذكر هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جيد يجب المصير إليه.
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.