الحمد لله والصلاة والسلام
على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد: فبعد
مطالعة في سلسلة حلقات ومقالات لأحد الكتاب العراقيين (وهو عماد طارق المعروف بأبي
العباس) وفقنا الله تعالى وإياه إلى السداد ونصرة الحق، وهي كتابات في مسائل
منهجية وأصول علمية ثار فيها الخلاف بين المعاصرين من المشايخ وطلبة العلم وغيرهم،
فجاء الكاتب المشار إليه وكتب مقالات متعددة يبين فيها سعة الخلاف بين المتنازعين،
حتى أنه صنَّف مخالفيه بكونهم فرقة سمَّاها بـ (فرقة التبديع والإقصاء) أو (غلاة التبديع) أو (غلاة التجريح)!!؛ مع أنه يذم التصنيف
المعاصر كما سنرى إنْ شاء الله تعالى!، وبيَّن -أعانه الله تعالى للرجوع إلى الحق-
أنَّ الخلاف بين الطرفين كبير حتى قال في أحد مقالاته: ((ومشايخنا جلهم يتبنى بطلان
اختيارات هذه الفرقة في كثير من أحكامهم على المعينين ومواقفهم منهم؛ بل وحتى كثير
من قواعدهم))!!، وهذا بالطبع خلاف ما قاله شيخه الذي يدافع عنه علي الحلبي حين
قال في رجائه لمنتداه: ((إخواني الأفاضل: صِلَتِي بفضيلةِ الشيخ ربيع بن هادي
حفظهُ اللـهُ صلةٌ مَضَى عليها ما يزيدُ على الرُّبْعِ قَرْن، وهي صِلَةٌ عاليةٌ
كبيرةٌ؛ لها صُورُها، ووجوهُها، وعُمقُها، وكِبَرُ قَدْرِها، فإنِ اختلفْنا في
مسألةٍ أو مسائلَ وهي ليست مِن الأصولِ والحمدُ لله؛ فإنَّ هذا لنْ يكونَ سبباً في
صَدْعِ أُخُوَّتِنا، وكسرِ مَوَدَّتِنا، فمَن فَرِحَ
بشيءٍ مِن ذلك؛ فلْيَكْسِرْ قَلَمَهُ، ومَن ينتظِر شيئاً مِن ذلك -مِن جهتِي على
الأقلّ!-؛
فليُراجِعْ نفسَه، فالمرجوُّ -رجاءً حارًّا شديداً-: الحِفاظُ على منزلتِه،
ومكانتِه، وسَبْقِهِ، وسُنَّتِهِ، ومحبَّتِهِ؛ مع الحرصِ الشديدِ على ذلك)).
فشيخه يقول: ((فإنِ اختلفْنا
في مسألةٍ أو مسائلَ وهي ليست مِن الأصولِ)) بينما الكاتب قد بيَّن أنَّ الخلاف
كبير وفي أكثر أصول وقواعد الدعوة السلفية؛ بل وفي أساسيات ومفهوم هذه الدعوة المباركة
كما سيأتي من كلامه.
ثم إنَّ الكاتب عفا الله
تعالى عنه قد تجاسر على منزلة الشيخ ربيع حفظه الله تعالى بما لم يسبقه إليه أحد
سوى أهل الأهواء!، ووصفه بأوصاف لا تليق، وعرَّض به كثيراً في مقالاته وأشار إلى
تناقضاته في القول والفعل والحكم كما يزعم!، وتحامل عليه بطريقة غريبة؛ وإنْ زعم
أنه لم يصرِّح باسمه!، وأنَّ هذا من قبيل "ما بال أقوام"!!، وأنه يقدِّر
الشيخ ربيعاً ولا يطعن به لكنَّه لا يُقدِّسه!!!.
لكن طعونات هذا الكاتب في
الشيخ لا تخفى على أصغر طلبة العلم السلفيين فضلاً عمن فوقهم!، فضلاً عن طريقته في
نقل كلام الشيخ من كتبه أو مجالسه المعروفة ثم يلحقه بوصفه بأوصاف السوء وأحكام
الجور، فضلاً عن تعليقات أصحابه على مقالاته التي وضعت النقاط على الحروف وصرَّحوا
بما لم ينكره عليهم، بل وقد صرَّح هو في أحد مقالاته قائلاً: ((لو أحبَّ البازمول أن أزيده من
أقوال العلماء الكبار ومواقفهم من "الشيخ ربيع" وطروحاته لفعلتُ ففي
الجعبة المزيد!!!))، وقال أخيراً في نكاته على مبادرة
الإصلاح الأخيرة: ((إنَّ الخلاف ليس بين شيخنا الحلبي من جهة, وأحمد بازمول من جهة
أخرى!!؛ بل هو خلاف (بين منهجين)؛ فإنْ كان "الشيخ ربيع" قد اكتفى بأن
تمثل مقالات تلميذه أحمد بازمول منهجه وتوجهه؛ فضلاً عن ملاحظاته ومآخذاته على
كتاب شيخنا الحلبي –وله ذلك قطعاً-؛ فكذلك شيخنا الحلبي قد يرتضي أن
تبقى ردودنا نحن (تلامذته) على ما أثاره (البازمول) من شبهات على كتاب شيخنا
ومنهجه؛ لتكون ممثلة لتوجهه ومنهجه –كذلك-؛ لاسيّما وأنَّ
كتابه
(منهج السلف الصالح) هو كتاب تأصيل وتقرير، لا كتاب جدل
وأخذ ورد؛ والشبهة إذا وقعت تعين
ردها ورد طلب مَنْ يُطالب بعدم التعرض لها)).
والغريب أنَّ شيوخه وأصحابه أرادوا
كبح اندفاعه – سياسة! - بقوة السلطان [وهو الإشراف على موقع كل السلفيين]، فقبل ذلك
منهم على مضض منه!؛ كما قال هو في أحد مقالاته: ((وهنا ثمة تنبيه: وهو أنَّ
التعديل الذي جرى على ديباجة الموضوع ليس مني، وإنما من
الأخوة في الإشراف؛ لأنَّ الديباجة تضمنت عبارة لا توافق سياسة المنتدى، لا
أنها خرجت زلة قلم عن غير قناعة مني، فطلب مني بعض الأفاضل تعديلها فأذنتُ له بأن
يعدل "هو" الديباجة بالصيغة التي يراها مناسبة, وإلا فأنا قناعتي في
القوم بحمد الله واحدة لم تتغير, ووالله ما ازددتُ إلا قناعة بهم))، وقال: ((لكنَّ البازمول وشلته معتادون
أنَّ كلَّ حرف يصدر ممن يخالفهم يتعلق بـ"الشيخ ربيع" فإنما يراد به
الطعن بـ"الشيخ ربيع", وكأنَّ المسكين يجهل أنَّ "الشيخ ربيع"
غير معصوم, وأنَّ من يخالف "الشيخ ربيع"
لو أراد أن يطعن فيه فهو غير محتاج لأن يلمِّح فحسبه لأن ينظر في موقع الأثري, أو
ما كتبه الشيخ أبو الحسن المأربي، ليخرج بحصيلة وافرة مما يمكن أن
يستخدم
كمبررات واضحة وصريحة للطعن في "الشيخ ربيع", وليس أحد في منتدانا فوق سلطان
العلم, فمن أخطأ يرد عليه كائنا من كان؛ اعتبر البازمول هذا طعناً أو لا،
فالعبرة
بما يعتبره العقلاء لا بما يعتبره البازمول وشلته، لكنَّ مشرفنا العام "شيخنا
الحلبي حفظه الله ومن معه من إخوانه في الإشراف" حريصون على أن لا يكون هذا
المنتدى ساحة للطعن في العلماء, فهم ينزهونه عن النزول إلى
مستوى
المنتديات التي تنشر للبازمول مقالاته, وإلا .... ؟؟؟؟)).
وإذا
كانت مصادر طعونه في الشيخ ربيع حفظه الله تعالى هي الأكاذيب التي أشاعها عنه
الأفاكون!؛ فلا غرابة أن يظهر الكاتب بهذه الصورة من التحامل على الشيخ!.
ثم لا
أدري ما وجه التهديد بـ((إلا....؟؟؟؟)) بعد هذه الجرأة والطعون والردود،
ماذا في جعبته بعد ذلك؟! نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
وأنا
أستطيع أن أجمع له ولغيره طعوناته في الشيخ ربيع من جميع مقالاته لأبرهن أنَّ
الكاتب متحامل ومندفع وجريء في ذلك الطعن وقد ابتعد عن الموضوعية في ردوده وابتعد
عن الاعتدال في أحكامه!، ولكني قلتُ في نفسي: وما ضرَّ الشيخ ربيع بمثل هذه
الطعونات من مثل هذا الكاتب!!.
ثم إني هنا لستُ بصدد بيان هذا اللمز والتعريض والطعن الذي أكثر منه
هذا الكاتب في ذلك العالم الراسخ حتى طفحت به مقالاته وإنْ سمَّاه هو ومَنْ اغترَّ
به فقالوا: ((هذا ردٌ وليس طعناً))!.
ولكني
أذِّكر الكاتب بالنصيحة السلفية: ((لحوم
العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أعراض منتقصيهم معلومة، ومَنْ وقع فيهم بالثلب:
ابتلاه الله قبل موته بموت القلب))، فلعلَّه يتذكَّر، والذكرى تنفع
المؤمنين، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وباب التوبة مفتوح فبادر
إليه أخي قبل أن يُغلق، ولا يغرك الذين يصفقون لك ولا الذين يدفعونك ولا الذين
يستعملونك فإنهم لن ينفعوك بل سيضروك عاجلاً وآجلاً.
ثم إنَّ الكاتب عفا الله
تعالى عنه لم يكتف بتلك المقالات حتى أنشأ سلسلة من الحلقات لبيان سعة الخلاف بين
منهج الطرفين، وهو بهذا الصنيع يُخالف كذلك نهج مشايخه الذين يدافع عنهم حيث قالوا
في بيانهم الموثَّق في مكة حيث قالوا فيه: ((وأنَّ الأصلَ احتواءُ أيِّ خِلاف
علميٍّ بين السلفيِّين؛ ليستمروا على ما هم عليه من وحدة المنهج والعقيدة، وسلامة
الصدور والقلوب))!!.
فأين هو
من هذا التوجيه؟!
أم أنَّ
هذا التوجيه يعمل مع المأربي وأمثاله ولا يعمل مع الشيخ ربيع وأصحابه؟!
وكذلك
لستُ بصدد الرد المفصَّل على كتاباته ومقالاته!؛ لأنَّ ذلك يحتاج إلى وقت كثير!،
ثم تعقبه بعد ردود وتعليقات ومجادلات!، ولستُ متفرِّغاً لذلك، والأمر قد كُتب فيه
الكثير ولا حاجة لترديد الكلام وإعادته، ولولا أني لم أطلع على أحد ردَّ على
سلسلته المشار إليها لما تعنيتُ هذا الرد أصلاً، وبخاصة وقد رأيتُ البعض من
العراقيين وغيرهم قد اغترَّ بها!!.
وكان هذا
الرد في أول أمره كلمة مختصرة أبين فيها سمات هذه السلسلة من حيث الإجمال!، ثم
رأيتُ أنَّ البعض سيطالبني بالبرهان والبيان المفصَّل، فكان هذا الرد المطوَّل!!،
والله المستعان.
وإنما
السبب في طول الرد أنَّ سلسلة الكاتب تشتمل إلى الآن على أربع عشرة حلقة!، وأغلب
حلقاته مطوَّلة جداً، وأنا مضطر أن أنقل مقاطع من كلامه ثم الحقه بالرد والتعليق،
والرد عليه لابد أن يكون مشتملاً على نقول لأهل العلم، مما اضطرني ذلك إلى الإطالة؛
مع الاعتذار للجميع.
وإنما
كتبتُ هذا الرد لتبصير البعض وتحذيرهم من منهج متولِّد جديد يظهر للمتأمِّل بوضوح
في سلسلة ومقالات هذا الكاتب؛ هذا المنهج الحادث المبني على الأخذ بكل الأقوال
التي هي من اجتهادات العلماء في مسألة ما!، فكل ما صدر عن أحد من أهل العلم من باب
الاجتهاد في مسائل الخلاف المعاصرة يسوغ لمن بعدهم أن يقولوا به ولا يسوغ فيه
الإنكار!!؛ بل ويكون أصلاً علمياً عنده!، ولو قيل اجتهاداً، بل ولو كان قولاً
قديماً، مع إنَّ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يقول في [مجموع 10/ 383]: ((كل واحد من الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويترك
إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وما من الأئمة إلا مَنْ له أقوال وأفعال لا
يتبع عليها؛ مع أنه لا يذم عليها)).
وهذا
المسلك يُذكِّرنا بكلمة قالها العلامة الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات [4/ 142] في حق
مَنْ يبيح التخير من أقوال المجتهدين إذا كان في المسألة قولان؛ حيث قال: ((فإنه إذا
أفتى بالقولين معاً على التخيير؛ فقد أفتى في النازلة بالإباحة وإطلاق العنان؛ وهو
قول ثالث خارج عن القولين، وهذا لا يجوز له))، أي لو أنَّ بعض أهل العلم أفتى في
مسألة بالمنع وأفتى آخر بالجواز، فمن قال: يتخير الإنسان أحد القولين، فإنَّ هذا
قول ثالث في المسألة؛ وهو خارج عن أقوال المجتهدين!!.
ومنهج
التخيير هذا بدوره يؤدي إلى المنهج الواسع الأفيح الذي يراد به إدخال الفرق
والأحزاب المعاصرة في مصطلح السلفية أهل السنة والجماعة!، هذا المنهج الحادث الذي
أصَّله المأربي حيث قال في شريط له: ((الموفَّق مَنْ يقرأ تراجم السلف يتخذ من
طريقة السلف في فهمهم لكلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم منهجاً واسعاً
أفيح يسع الأمة ويسع أهل السنة))، وقد ردَّ مشايخ الكاتب هذا في بيانهم حيث قالوا:
((وأما
دعوى بعض الناس أنَّ منهج أهل السنة "واسع" فهي كلمة باطلة!؛ لما يبنى
عليها من إدخال أهل البدع في السنة،
والتهوين من ضلالاتهم وانحرافاتهم))!!.
وهذا
المنهج المتولِّد يُذكِّرنا كذلك بمسلك خطير كان سلفنا الصالح يذمُّونه ويُحذِّرون
منه، وهو مسلك تتبع رخص العلماء، الذي صار اليوم عند الكثير هو المنهج الوسط وهو
الحنيفية السمحة وهو الفقه المقاصدي وهو التيسر والتخفيف الذي جاء به الإسلام!!؛
كما زعموا؛ حتى
قال أحدهم: ((ما العيب في أن يأخذ الناس بالأيسر في كل مذهب فقهي؟!))،
وزعم بعضهم: أنَّ الاختلاف رحمة في هذه الأمة للتوسع في الأقوال وعدم التحجر على رأي واحد!،
وشنَّع آخر على مَنْ لازم القول الموافق للدليل ونصره ودعا إليه فقال: ((لقد حجَّرت
واسعاً))!.
وإذا كان الأخذ مِن كل مذهب ما هو الأهون فيما يقع من المسائل:
هو المقصود بـ"تتبع الرخص" كما قال العلماء؛ فإنَّ بناء الأصول على كل
ما هو الأهون والأسهل والأرفق والأوسع من كلام أهل العلم من غير متابعة لهم بدافع قوة
الدليل وإنما بدافع الرغبة في إتباع الأيسر أو الأخف أو الأوسع، هو من نفس باب
تتبع الرخص، فكيف إذا أضيف إليه التوسع في عبارات أهل العلم، وتحميل كلامهم ما لا
يحتمل؟، ووضعه في غير مناسبته ولا محله الذي قصدوه؛ فالأمر حينئذ أكبر وأشد.
قال
العلامة الشاطبي في الموافقات [4/ 141-142]: ((حكى الخطابي في مسألة البتع المذكور في الحديث عن
بعض الناس أنه قال: "إنَّ الناس لما اختلفوا في الأشربة وأجمعوا على تحريم خمر
العنب واختلفوا فيما سواه؛ حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه"!، قال:
"وهذا خطأ فاحش؛ وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله
والرسول"، قال: "ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف
ونكاح المتعة؛ لأنَّ الأمة قد اختلفت فيها"، قال: "وليس الاختلاف حجة!، وبيان
السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين" هذا مختصر ما قال. والقائل بهذا
راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له، ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد
أخذ القول وسيلة إلى إتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه!، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً
لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه، ومن هذا أيضاً: جعل بعض الناس
الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال وعدم التحجير على رأي واحد!)).
قلتُ: "حديث البتع" المشار إليه هو
في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
البتع وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه؟ فقال: ((كل شراب أسكر فهو حرام)).
وللعلماء تحذير شديد في بيان خطر مسلك تتبع
الرخص والتخيّر من أقوال المجتهدين:
1- قال الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى: ((من أخذ
بنوادر العلماء خرج من الإسلام)).
2- وقال الإمام سليمان التيمي رحمه الله تعالى:
((لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله)).
3- ونقل الحافظ ابن عبد
البر في بيان العلم وفضله قول سليمان ثم قال بعده: ((هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً)).
4- وقال العلامة ابن مفلح في الآداب الشرعية [1/
209-210]: ((وقد نصَّ الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره: على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء
واجباً أو حراماً ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه!؛ مثل: أن يكون طالباً لشفعة
الجوار فيعتقد أنها حق له، ثم إذا طُلبت منه شفعة الجوار اعتقد أنها ليست ثابتة!، أو
مثل: من يعتقد إذا كان أخاً مع جد أنَّ الإخوة تقاسم الجد، فإذا صار جداً مع أخ اعتقد
أنَّ الجد لا يقاسم الإخوة!، وإذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها كشرب النبيذ
المختلف فيه ولعب الشطرنج وحضور السماع أنَّ هذا ينبغي أن يهجر وينكر عليه، فإذا فعل
ذلك صديقه اعتقد أنَّ ذلك من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر!؛ فمثل هذا ممن يكون في اعتقاده
حل الشيء وحرمته ووجوبه وسقوطه بحسب: هواه!!، وهو مذموم مجروح خارج عن العدالة، وقد
نص أحمد رضي الله عنه وغيره: على أنَّ هذا لا يجوز.
أما إذا تبين له رجحان قول على قول؛ إما بالأدلة
المفصَّلة إنْ كان يعرفها أو يفهمها، وإما بأن يرى أحد الرجلين أعلم بتلك المسألة من
الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا، فهذا يجوز، بل يجب!؛
وقد نص الإمام أحمد على ذلك))
قلتُ: وهذا حال المتلونين في هذا العصر.
5- وروى الحافظ البيهقي بإسناده عن إسماعيل القاضي
أنه قال: ((دخلت على المعتضد بالله، فدفع إليّ كتابًا، فنظرت فيه، فإذا قد جمع له من
الرُّخص من زلل العلماء، وما احتج به كل واحد منهم. فقلت: مصنِّفُ هذا زنديق!. فقال:
ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت؛ ولكن مَنْ أباح المسكر النبيذ لم
يبح المتعة!، ومَنْ أباح المتعة لم يبح المسكر!، وما مَنْ عالم إلا وله زلَّة!!، ومن
أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه!!!؛ فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب))
6- وقال الإمام النووي
رحمه الله تعالى: ((لو جاز إتباع أيّ مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعًا
لهواه!، ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز، وذلك يؤدي إلى الانحلال مَنْ
رِبْقَةِ التكليف))
7- وقال شيخ الإسلام في المجموع [20/ 213-214]:
((أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أنَّ القول الآخر ليس معه ما يدفع
به النص فهذا يجب عليه إتباع النصوص!؛ وإنْ لم يفعل كان متبعاً للظن وما تهوى الأنفس،
وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله، بخلاف مَنْ يقول: قد يكون للقول الآخر حجة راجحة
على هذا النص وأنا لا أعلمها؟ فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: "فاتقوا الله
ما استطعتم" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه
ما استطعتم"، والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلَّك على أنَّ
هذا القول هو الراجح، فعليك أن تتبع ذلك!، ثم إن تبين لك فيما بعد أنَّ للنص معارضاً
راجحاً كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده. وانتقال الإنسان من
قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه، بخلاف إصراره على قول لا حجة معه
عليه وترك القول الذي وضحت حجته!، أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة وإتباع هوى!؛
فهذا مذموم))
وقال في [الفتاوى الكبرى 6/ 92]: ((إنَّ الرجل الجليل
الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا، قد تكون
منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور: لا يجوز أن يتبع فيها!، مع بقاء مكانته
ومنزلته في قلوب المؤمنين؛ واعتبر ذلك بمناظرة الإمام عبد الله بن المبارك قال: "كنا
بالكوفة فناظروني في ذلك يعني "النبيذ المختلف فيه" فقلتُ لهم: تعالوا فليحتج
المحتج منكم عن مَنْ يشاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة، فإنْ لم يتبين
الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه، فاحتجوا، فما جاؤوا عن أحد برخصة إلا جئناهم
بشدة، فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في شدة
النبيذ بشيء يصح عنه إنما يصح عنه أنه لم ينبذ له في الجَرِّ إلا حَذِراً. قال ابن
المبارك: فقلتُ للمحتج عنه في الرخصة؛ يا أحمق عد إنَّ ابن مسعود لو كان ها هنا جالساً
فقال: هو لك حلال، وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة، كان ينبغي
لك أن تحذر أو تجر أو تخشى؟ فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن؛ فالنخعي والشعبي وسمى
عدة معهما كانوا يشربون الحرام؟!! فقلت لهم: عدوا عند الاحتجاج تسمية الرجال؛ فربَّ
رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها؟! فإنْ أبيتم،
فما قولكم في عطاء وطاووس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خياراً،
قلتُ: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يداً بيد؟ فقالوا: حرام، فقال ابن المبارك: إنَّ
هؤلاء رأوه حلالاً؛ فماتوا وهم يأكلون الحرام!!، فبقوا وانقطعت حجتهم. قال ابن المبارك:
ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال: رآني أبي وأنا أنشد الشعر، فقال لي: يا بني لا
تنشد الشعر، فقلت له: يا أبت كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد، فقال لي: أي بني
إنْ أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله!!".
وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء،
فإنه ما من أحد من أعيان الأمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا لهم أقوال وأفعال
خفي عليهم فيها السنة!، وهذا باب واسع لا يحصى، مع أنَّ ذلك لا يغض من أقدارهم، ولا
يسوغ إتباعهم فيها!، كما قال سبحانه: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"،
قال ابن مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم: "ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من
قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال سليمان التيمي: "إنْ أخذت
برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله"، قال ابن عبد البر: هذا إجماع لا أعلم فيه
خلافاً، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله
...)) [وذكر رحمه الله تعالى جملة من الآثار] ثم قال: ((وهذه آثار مشهورة رواها ابن عبد البر وغيره، فإذا
كنا قد حُذِّرنا من "زلة العالم"!، وقيل لنا: أنها أخوف ما يخاف علينا، وأمرنا
مع ذلك أنْ لا يرجع عنه!، فالواجب على مَنْ شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة
ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلد بها، بل يسكت عن ذكرها إلى أن يتيقن صحتها،
وإلا توقف في قبولها!، فما أكثر ما يحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له، وكثير من المسائل
يخرجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعة؛ مع أنَّ ذلك الإمام لو رأى أنها تفضي إلى ذلك
لما إلتزمها!!، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، ومن علم فقه الأئمة وورعهم علم أنهم
لو رأوا هذه الحيل وما أفضت إليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريم ما لم يقطعوا به
أولاً)).
8- وقال العلامة الشاطبي في [الموافقات 4/ 145]:
((تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن إتباع الهوى، فهذا مضاد لذلك
الأصل المتفق عليه. ومضاد أيضاً لقوله تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله
والرسول"، وموضع الخلاف موضع تنازع؛ فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس!، وإنما
يرد إلى الشريعة، وهى تبين الراجح من القولين فيجب إتباعه!؛ لا الموافق للغرض))
ويقول في [الموافقات 4/ 134]: ((فإنَّ ذلك يفضي
إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي؛ وقد حكى ابن حزم الإجماع على أنَّ
ذلك فسق لا يحل. وأيضاً فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها؛ لأنَّ
حاصل الأمر مع القول بالتخيير: أنَّ للمكلف أن يفعل إنْ شاء ويترك إنْ شاء؛ وهو عين
إسقاط التكليف، بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح؛ فإنه متبع للدليل، فلا يكون متبعاً للهوى
ولا مسقطاً للتكليف))
9- وقال العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين
[4/ 222]: ((لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد
نفعه!، فإنَّ تتبع ذلك فسق، وحرم استفتاؤه)).
ويقول كذلك في إعلام الموقعين [1/ 68]: ((الرأي
الباطل أنواع؛ أحدها: الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام
فساده وبطلانه، ولا تحل الفُتْيا به ولا القضاء!، وإنْ وقع فيه مَنْ وقع بنوع تأويل
وتقليد))
فجعل رحمه الله تعالى القول بالرأي المخالف
للنص ولو كان قال به صاحبه بنوع تأويل أو تقليد قول باطل، ولا يحل الإفتاء بذلك
الرأي.
10- ويقول العلامة الألباني رحمه الله تعالى
كما نقله شيخ الكاتب في [منهج السلف الصالح]: ((الآثار السلفية إذا لم تكن متضافرة
متواترة؛ فلا ينبغي أن يؤخذ عن فرد من أفرادها منهج، هذا المنهج خلاف ما هو معلوم
عن السلف أنفسهم)).
11- وفي فتوى اللجنة الدائمة رقم 2171 في 28/ 10/
1398هـ؛ ورد السؤال الآتي:
س: ما الحكم في المسائل الخلافية؛ هل نتبع القول
الأرجح والدليل الأقوى، أو نتبع الأسهل والأيسر، انطلاقاً من مبدأ التيسير لا التعسير؟
الجواب: إذا كان في المسألة دليلٌ شرعي بالتخيير
كان المكلَّف في سعة فله أن يختار الأيسر، انطلاقاً من مبدأ التيسير في الشريعة مثل
الخصال الثلاث في كفارة اليمين: الإطعام والكسوة والعتق، لِما ثبت عن النبيِّ صلى الله
عليه وسلم أنه: ((ما خُيِّرَ بين أمرينِ إلا اختارَ أيسَرَهُمَا ما لَم يكن إثْماً,
فإن كان إثْماً كان أبعدَ الناس منه)).
أمَّا إن كانت مجرَّد أقوالٍ لمجتهدينَ؛ فعليه أن
يتَّبع القول الذي يشهدُ له الدليل أو الأرجح دليلاً إنْ كان عنده معرفة بالأدلة صحة
ودلالة، وإنْ كان لا خبرة له بذلك فعليه أن يسأل أهل العلم الموثوق بهم، لقوله تعالى:
"فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ"، فإنْ اختلفوا
عليه الأخذ بالأحوط له في دينه، وليس له أن يتبع الأسهل من أقوال العلماء فيعمل به؛
فإنَّ تتبع الرخص لا يجوز!، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم)) [اللجنة
الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رحمه الله تعالى].
12- وسئل العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
تعالى؛ فضيلة الشيخ: هل ينكر على المرأة التي تكشف الوجه، أم أنَّ المسألة خلافية،
والمسائل الخلافية لا إنكار فيها؟!
الجواب: ((لو أننا قلنا: المسائل الخلافية لا ينكر
فيها على الإطلاق!، ذهب الدين كلّه حين تتبع الرخص!، لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها
خلاف بين الناس!. نضرب مثلاً: هذا رجلٌ مسَّ امرأة لشهوة، وأكل لحم إبل، ثم قام ليصلي،
فقال: أنا أتبع الإمام أحمد في أن مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء، وأتبع الشافعي في أنَّ
لحم الإبل لا ينقض الوضوء، وسأصلي على هذه الحال، فهل صلاته الآن صحيحة على المذهبين؟
هي غير صحيحة؛ لأنها إن لم تبطل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل بطلت على مذهب الإمام
الشافعي، وإن لم تبطل على مذهب الإمام الشافعي بطلت على مذهب الإمام أحمد، فيضيع دين
الإنسان.
المسائل
الخلافية تنقسم إلى قسمين: قسم مسائل اجتهادية يسوغ فيها الخلاف؛ بمعنى أنَّ الخلاف
ثابت حقاً وله حكم النظر، فهذا لا إنكار فيه على المجتهد، أما عامة الناس فإنهم يلزمون
بما عليه علماء بلدهم!؛ لئلا ينفلت العامة!!، لأننا لو قلنا للعامي: أي قول يمرُّ عليك
لك أن تأخذ به،لم تكن الأمة أمة واحدة، ولهذا قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله:
"العوام على مذهب علمائهم". فمثلاً عندنا هنا في المملكة العربية السعودية
أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها، فنحن نلزم نساءنا بذلك، حتى لو قالت لنا امرأة:
أنا سأتبع المذهب الفلاني وكشف الوجه فيه جائز، قلنا: ليس لك ذلك؛ لأنك عامية ما وصلت
إلى درجة الاجتهاد، وإنما تريدين إتباع هذا المذهب لأنه رخصة، وتتبع الرخص حرام!!.
أما لو ذهب عالم من العلماء الذي أدَّاه اجتهاده
إلى أنَّ المرأة لا حرج عليها في كشف الوجه، ويقول: إنها امرأتي سوف أجعلها تكشف الوجه،
قلنا: لا بأس، لكن لا يجعلها تكشف الوجه في بلاد يسترون الوجوه، يمنع من هذا؛ لأنه
يفسد غيره، ولأن المسألة فيها اتفاق على أنَّ ستر الوجه أولى، فإذا كان ستر الوجه أولى
فنحن إذا ألزمناه بذلك لم نكن ألزمناه بما هو حرام على مذهبه، إنما ألزمناه بالأولى
على مذهبه، ولأمر آخر هو ألا يقلده غيره من أهل هذه البلاد المحافظة، فيحصل من ذلك
تفرق وتفتيت للكلمة. أما إذا ذهب إلى بلاده، فلا نلزمه برأينا، ما دامت المسألة اجتهادية
وتخضع لشيء من النظر في الأدلة والترجيح بينها. القسم الثاني من قسمي الخلاف: لا مساغ
له ولا محل للاجتهاد فيه، فينكر على المخالف فيه؛ لأنه لا عذر له))
وفي لقاء الباب المفتوح سُئل الشيخ عن: الموقف الصحيح للمسلم عند اختلاف
العلماء في مسألة من المسائل الفرعية؟ فكان من ضمن جوابه رحمه الله تعالى أن قال:
((ولكن المحذور: أن تذهب إلى عالم ترضاه في علمه ودينه وتستفتيه، ثم إذا أفتاك بما
لا يوافق هواك ضربت بفتواه عرض الحائط!، ثم ذهبت إلى رجل آخر لعله أيسر؛ فهذا هو الحرام؛
لأنَّ هذا تلاعب بدين الله، وما أكثر الذين يفعلون ذلك!!؛ يستفتي هذا العالم فإذا لم
يوافقه على هواه، قال: أذهب إلى فلان، ذهب إلى فلان فوجد قوله أشد من الأول قال: "كل
هؤلاء ما عندهم علم"!!، فيأتي الثالث والرابع والخامس حتى يصل إلى ما يوافق هواه،
فحينئذ يقول: ألقت عصاها واستقر بها النوى... كما قر عيناً بالإياب المسافر؛ هذا هو
الذي لا يجوز)).
12- وقال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله تعالى في
رده على مَنْ يستدل ببعض النقول عن شيخ الإسلام لمشروعية الموازنة في الحكم على
الأعيان [منهج
أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف ص61]: ((لقد ذهبتم تفتشون في تراث السلف لعلكم تجدون
فيه من كلامهم ومواقفهم ما توقفون به السلفيين الظالمين في نظركم عند حدهم!؛ فلم تجدوا
من كلام ولا مواقف أحد منهم، من الصحابة، من القرن الأول للتاريخ الإسلامي إلى القرن
الثامن، لم تجدوا شيئاً إلا نتفاً من كلام ابن تيمية الذي كانت حياته كلها جهاداً ونضالاً
وهجوماً على أهل البدع؛ فإذا أدرك أنه قد دمَّر معاقلهم، وثلَّ عروشهم أدركته رقة تشبه
رقة أبي بكر على أسرى قريش يوم بدر؛ فيقول كلمات في قوم قد يكونون قريبين إلى السنة
ولهم مع ذلك جهاد يدافعون فيه عن السنة وعن وأهلها؛ فتأخذون تلك النتف وتسمونها: "منهج
أهل السنة والجماعة"!، وتشنون بها الغارة على البقية من المجتهدين من أهل السنة
الذين تكالبت عليهم فرق الضلال والبدع؛ إنَّ هذه النتف التي تجدونها في كلام ابن تيمية
لا يجوز أن نسميها منهج ابن تيمية!، فضلاً عن أن نسميها منهج أهل السنة والجماعة)).
13- وسُئل الشيخ عبد الرحمن البراك في
[شرح أحاديث الفتن والحوادث ص98-99]: متى نطلق على العمل أنَّ المسألة أنها خلافية؛
حيث إذا ناقشنا أحدهم في مسألة، قال: هي مسألة خلافية!، فأصبح مشاكل؟! فأجاب
بقوله: ((مسألة خلافية؛ لا، فيه مسائل إجماع ومسائل خلاف، والخلاف مراتب ودرجات، ولا
صارت خلافية، يعني: هذه يتصور لك إنك تختار، هذا لم يقل أحد من أهل العلم: إنَّ المسائل
الخلافية إنَّ الإنسان فيها مخير!؛ تختار وتشتهي من أقوال العلماء على التشهي!، لا،
طالب العلم عليه أن يتقي الله ويتحرى ما يقتضيه الدليل!، والعامي عليه أن يقلد!، ويتبع
مَنْ يثق بعلمه ودينه وإنْ خالف هواه.
وبعدين ما سبب المسألة
الخلافية؟! هل الشبهات؟! الآن تذرع كثير من أهل الأهواء إلى الوصول إلى مرادهم بقولهم:
هذه مسألة خلافية!، وهذه لو صارت مسألة خلافية: "فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ" يعني: من سلك هذا المسلك يصدق عليه أنه،
يعني: مثل ما قال البعض: "من تتبع الرخص تزندق"، يعني: رخص العلماء، الرخص
التي تكون من بعض العلماء بسبب اجتهادٍ ما من الاجتهادات!؛ العالم هذا مجتهد؛ لكن أنت
لست بمجتهد؛ أنت متبع لهواك!)).
قلت بعد هذه النقول من المتقدمين والمتأخرين: فهناك
فرق بين الاستدلال بكلام أهل العلم في الخلاف، وبين التشهي والتخير من أقوالهم
وتتبع رخصهم، فلابدَّ من التنبه لهذا الفرق.
ومسلك تتبع رخص العلماء مسلك خطير وعواقبه
وخيمة، وقد قيل قديماً: ((مَنْ تتبع الرخص فقد تزندق))، ونُقل عن أحد المتزندقة
أنه قال:
الشافعي من الأئمة قائل.....اللعب بالشطرنج غير
حـرام!
وأبو حنيفة قال وهو مصدق..في كل ما يروي من الأحكام
شرب المثلث والمربع جائز!....فاشرب على أمنٍ من
الآثـام
وأباح مالكٌ الفقاح! تكرماً... في بطن جارية وظهر
غـلام
والحبرُ أحمد حلَّ جلدَ عُميرة!..وبذاك يستغنى عن
الأرحـام
فازنِ ولط واشرب وقامر.. واحتجج في كل مسألة بقول
إمام!
وهناك
مسلك هو أعظم خطراً من تتبع الرخص؛ ألا وهو التلفيق بين أقوال المجتهدين!، فيأتي
أحدهم بقول أحد المجتهدين في جزء من مسألة، ثم يأتي بقول الآخر في جزئها الآخر، ثم
يُزاوج القولين فيخرج منها قول مركب لا يقرُّه أحد المجتهدين!، كمن تزوج امرأة بلا ولي ولا شهود؛ مقلّدًا
الإمام أبا حنيفة في عدم اشتراط الولي، ومقلّدًا الإمام مالكًا في رواية له في عدم
اشتراط الشهادة بذاتها وأنه يكفي إعلان الزواج، فهذا الزواج غير صحيح؛ لأنه لا يجيزه
الإمام أبو حنيفة ولا الإمام مالك على هذه الصورة الملفّقة!؛ لأنه تولّد منه قول آخر
مخالف لرأي هؤلاء العلماء على كيفية لا يصححونها، ولا يصح أيضًا شرعاً؛ لأنه مخالف
للأدلة الصحيحة الواردة في هذه المسألة، وهنا
نتذكر الإسناد الملفَّق الذي وقع فيه الحاكم في المستدرك، وهو معلوم فلا حاجة
للتفصيل.
وهذا
التلفيق رأيته كثيراً في جملة من المقالات في المواقع والمنتديات؛ ومنها بعض
مقالات الكاتب!!.
والفرق
بين التلفيق وبين تتبع الرخص؛ هو أنَّ التلفيق جمع بين أقوال العلماء وتصرف فيها
بقول لا يصححه أحد من المجتهدين، وقد ينتج عن ذلك إحداث قول جديد في المسألة لم يقل
به مجتهد!!، بينما الأخذ بالرُّخص ليس فيه إحداث قول جديد وإنما يأخذ برخصة قالها أحد
العلماء!، وكذلك قد يقع الملفِّق في مخالفة إجماع العلماء؛ بخلاف الآخذ بالرُّخص؛ فإنه
يكون قد أخذ بقول أحد العلماء لهوى في نفسه وليس لإتباع الدليل.
ولا بد أن
نعلم أنَّ الإفتاء برخصة أحد أهل العلم في حال الضرورة أو الحاجة الملحَّة مع صحة
المقصد ومن غير شبهة ولا مفسدة هي علامة على سعة العلم؛ كما قال سفيان الثوري: ((إنَّ العِلمَ عندنا الرُّخصة من ثقة، فأما التشديد
فيحسنه كل أحد)).
ولنشرع الآن في بيان تتبع الرخص والتلفيق بين
أقوال أهل العلم الذي سلكه الكاتب في سلسلته!؛ والذي ظنَّه البعض أنه استدلال
بكلام أهل العلم!!، هذا بالإضافة إلى بيان أنَّ الكاتب يناقش في بعض المسائل في
غير محل النزاع!، ويحمل كلام بعض أهل العلم ما لا يحتمل!، ويضعه في غير موضعه!، مع
التعليق على ما يحتاج إلى تعليق من كلامه إتماماً للفائدة؛ والله الموفِّق.
مع حلقته الأولى: (مبنى
الحكم على الرجال هل هو اجتهادي أو نصي؟)
في هذه الحلقة؛ بدأ الكاتب -وفقني الله تعالى وإياه إلى
السداد- في بيان أنَّ مسألة الحكم على المعينين مبناها على الاجتهاد الذي يحتمل
الرد والقبول حالها كحال المسائل الفقهية؛ وذكر في ذلك نقولاً عن أهل العلم،
واستثنى من ذلك ما ورد به النص عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم على البعض
أنهم من أهل الجنة والإيمان وفي الحكم على البعض الآخر أنهم من أهل النار والنفاق؛
فإنَّ هذا ملزم.
ثم بنى على ذلك أحكام:
مثل قوله: ((لا إلزام بمسائل الاجتهاد, ولا يسوغ إلزام طالب العلم، بل ولا العامي؛ إذا
كان لهم نوع نظر وبحث واستدلال بخلاف ما ترجح عندهم))
قلتُ: وهذه مسألة "الإلزام في مسائل الاجتهاد"
سيفرد لها الكاتب حلقة كاملة وهي الثالثة؛ فيؤجل الكلام فيها هناك.
ولا أدري لِمَ أقحم الكاتب مرتبة "العامي" في
مثل هذه المسألة؟! مع أنَّ الواجب على العامي التقليد وهو مُلزم بقول العالم كما
تقدَّم في بعض النقول في مقدمة هذا التعليق، والكاتب نفسه في حلقته الثالثة قال:
((لا إلزام بالأحكام النقدية إلا للمقلِّدين))!.
وأحب أن أنبِّه القرَّاء الكرام إلى أنَّ الحشد الذي
جمعه الكاتب من أقوال الأئمة والعلماء من كون الكلام على الرجال من مسائل
الاجتهاد!، ليس على إطلاقه، بل يحتاج الأمر إلى تفصيل:
الأول: مبنى الحكم.
الثاني: الحكم نفسه.
أما مبنى الحكم على الرجال فهو ليس من باب الاجتهاد؛ بل
هو من باب النقل والرواية والسماع، مبني على أخبار علماء الجرح والتعديل المعتبرين
الثقات في أحوال الرجال والرواة، ومعلوم أنَّ أخبار الثقات مقبولة، إلا إذا علمنا
بالبينات والقرائن العلمية أنَّ الثقة غلط أو وهم في هذه الرواية بعينها أو هذا
النقل بعينه، فهنا يرد خبر الثقة، وهذا أصل مهم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في
إعلام الموقعين [وانظر الوجه الستين والحادي والستين من وجوه الرد على التقليد]: ((ومن
ذلك: التقليد في قبول الترجمة في الرسالة والتعريف والتعديل والجرح؛ كل هذا من باب
الأخبار التي أمر الله بقبول المخبر بها؛ إذا كان عدلاً صادقاً، وقد أجمع الناس على
قبول خبر الواحد)).
قلتُ:
فذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى أنَّ
الجرح والتعديل من باب الأخبار، وأنَّ قبول خبر الثقة مجمع عليه.
وقال العلامة الصنعاني رحمه الله تعالى في [إرشاد
النقاد]: ((فبسبب هذا الاختلاف حصل
اختلاف الأئمة في التصحيح والتضعيف؛ المتفرعين عن اختلاف ما بلغهم من حال بعض الرواة،
وكل ذلك راجع إلى
الرواية لا إلى الدراية، فهو ناشئ عن اختلاف
الأخبار، فمن صحح أو ضعف فليس عن رأي ولا استنباط كما لا يخفى؛ بل عمل بالرواية، وكل
من المصحح والمضعف مجتهد عامل برواية عدل، فعرفت أنَّ الاختلاف في ذلك ليس مداره على
الرأي!، ولا هو من أدلة أنَّ مسألة التصحيح وضده اجتهاد!!)).
وقال في [توضيح الأفكار]: ((مفاد
قول
المزكي: "فلان عدل" أي: آت بالواجبات تارك للمقبحات محافظ المروءة،
وقوله جرحاً: "هو فاسق" لشربه الخمر مثلاً؛
الكل إخبار عدل يجب قبوله، لقيام الأدلة على العمل بخبر العدل،
وليس
تقليداً له كما سلف للمصنف رحمه الله نظيره في قول العدل هذا الحديث صحيح فإنه
قال: "إنه
خبر عدل وإن قبوله ليس من التقليد"، وإنْ كان ناقض نفسه في محل آخر، وقد
قررنا الصحيح من كلاميه.
والحاصل: أنَّ الدليل قد قام
على قبول خبر العدل؛ إما عن نفسه بأن يخبر بأنه ابن فلان أو أنَّ
هذه داره أو جاريته فهذا لا كلام في قبول خبره عنه بالضرورة الشرعية؛ بل يقبل
خبر الفاسق بذلك؛ بل أبلغ من هذا أنه يجب قبول قول الكافر
لا إله
إلا الله ويحقن دمه وماله ونعامله معاملة أهل الإيمان لأخباره بالتوحيد وإن
كان
معتقداً لخلافه في نفس الأمر كالمنافق، وإنْ كان خبره عن غيره كروايته للأخبار قبل
أيضاً،
وإنْ كان عن صفة غيره بأنه عدل أو فاسق قبل أيضاً؛ إذ الكل خبر عدل، وقبول خبره
ليس
تقليداً له، بل لما قام عليه من الدليل في قبول خبره؛ هذا تقرير كلام أهل الأصول
وغيرهم،
ولنا فيه بحث أشرنا إليه في أوائل حاشية ضوء النهار)).
قلتُ:
مما تقدَّم يتبين لنا أنَّ الحكم على الرجال
والرواة مبناه على النقل والرواية والخبر، وليس هو من باب الرأي والاجتهاد
والاستنباط!.
وأما الحكم نفسه؛ أي تأثير الوصف المتلقى عن
طريق النقل على الرجل - أو الراوي - قبولاً ورداً لروايته، فهذا موضع اجتهاد،
لأنَّ المنقول في صفة الراوي قد يؤثر في روايته وقد لا يؤثر.
ومثال ذلك:
وصف الراوي بالاختلاط، هذا من باب النقل والخبر
عن أئمة الجرح والتعديل المعتبرين الثقات، فيجب أن نقبل أنَّ هذا الرواي مختلط؛ ما
لم يتبين لنا خلاف هذا النقل بالأدلة والقرائن، لكن هل يؤثر اختلاطه في الحكم على
روايته قبولاً ورداً أم لا يؤثر؟ هذا هو موضع الاجتهاد، وهنا نعم يختلف علماء
الجرح والتعديل لأنه من قبيل الاجتهاد، ويكون اختلافهم كاختلاف الفقهاء المجتهدين.
وكذا قد يختلفون في الكلام على الرجال من حيث
ثبوت هذا الوصف أو عدمه جرحاً أو تعديلاً، لكن مبناه على السمع والنقل؛ فهذا يبلغه
ما لم يبلغ الآخر فيقع بينهم الخلاف، أو هذا يسبر مرويات أحد الرواة ويقارنها مع
مرويات الثقات المشهورين ثم يصل إلى نتيجة أنَّ هذا الراوي ثقة، وقد يخالفه آخر
لقرائن وأدلة لم يطلع عليها الأول، وكلاهما عامل بالرواية لا بالاستنباط، أو هذا
له شروط في الراوي أشد أو أخف من شروط الآخر فيقع الاختلاف بينهم، أو اختلافهم في
تنزيل الراوي في أي المراتب من حيث القوة والتعديل أو الضعف والجرح.
قلتُ:
وعلى هذه الصور يتنزل كلام العلماء الذين استدل بهم عماد
طارق على كون الحكم على الرجال اجتهادي.
وأقول:
والتفصيل المتقدِّم في باب الكلام في الرجال نفسه موجود
في القضاء، فمبنى حكم القاضي على السماع، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن
بحجته من بعض، وإنما أنا بشر، أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا
يأخذ منه شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من نار، فليأخذها أو ليتركها)).
وأما حكمه وهو تنزيل المسموع على أصل القضية وبيان
تأثيره فيها أو عدم تأثيره فمبني على الاجتهاد؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم
الحاكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)).
فالقاضي عندما يحكم في مسألة معينة، يسمع كلام الشهود
ويبني الحكم على ذلك، فمبنى حكمه على النقل والسماع، ولا دخل للاجتهاد في ذلك، لكن قد يؤثر كلام الشهود في حكم المسألة وقد لا
يؤثر، وهذا موطن اجتهاده.
وبهذا يتبين لنا:
أنَّ قول عماد طارق في حلقته هذه: ((أما وقد انتفى النص بموت النبي صلى الله عليه وسلم فلم
يبقى سوى الاجتهاد مصدراً في الحكم على الرجال, ولهذا فقد أطبقت كلمة
علماء الأمة في فن النقد على أنَّ مبنى
الحكم على الرجال داخل في باب الاجتهاد))، وكذا قوله: ((فشيخنا – الحلبي - بحمد الله قد بنى كتابه على ما اتفق
عليه أئمة المسلمين في مختلف العصور من أنَّ مبنى الحكم على الرجال
مرده إلى الاجتهاد ومبناه عليه, فهو متبع لأقوال السلف غير مبتدع؛ كما
يزعمه أهل البهت والعدوان))، غلط،
وسببه الإجمال والإطلاق، وقد تقدَّم التفصيل، والله الموفِّق.
أقول:
ثم لو فرضنا جدلاً أنَّ الحكم على الرجال من مسائل
الاجتهاد كما يزعم الكاتب وشيخه؛ فيبقى السؤال: هل في مسائل الاجتهاد إلزام أم لا
إلزام فيها مطلقاً؟
فنحن نقول: ليس كل مسائل الاجتهاد لا إلزام فيها؛ بل إنْ
ظهر فيها الحق وجب إتباعه، ولا ينبغي الاحتجاج بالخلاف في موارد النزاع.
وأنتم تقولون: لا إلزام في المسائل الفقهية المتنازع
فيها ولا في الحكم على المعينين؛ لأنها مسائل اجتهادية.
وتفرَّع على هذا الخلاف: الكلام في قاعدة: ((الجرح
المفسَّر مقدَّم على التعديل المجمل)) هل هي ملزمة؟، وهل يُشترط في قبول الجرح أو
التجريح الإجماع أم لا؟! وهل قاعدة: ((لا ينبغي أن يكون خلافنا في
غيرنا سبباً للاختلاف بيننا)) صحيحة
أم لا؟
وأما ما نقله الكاتب عن شيخه أنه نقل في كتابه [منهج
السلف الصالح] كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى الذي يُشير فيه إلى عدم الإلزام
في موارد الاجتهاد؛ حيث قال رحمه الله تعالى: ((وأما الأقوال والأفعال التي لم يُعلم
قطعاً مخالفتها للكتاب والسنة؛ بل هي من موارد الاجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان: فهذه الأمور قد
تكون قطعية عند بعض من بيَّن الله له الحق فيها، لكنه لا يمكنه أن يلزم
الناس بما بان له ولم يبن لهم))
قلتُ: ما هو حد "البيان" الذي يكون فيه إلزام
الآخر؟! لم تحدده أنت ولا شيخك من قبل، لأنَّ عبارة شيخ الإسلام: ((لا يمكنه أن
يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم))، نفهم منها: إمكانية الإلزام إذا بان الأمر
للآخر، فمتى يبن لكم وأشرطة المجروحين وكتاباتهم بين أيديكم صريحة ليس فيها لبس
تدل على الانحراف والزيغ؟! قولوا لنا: متى؟!
ثم في العبارة إشارة ترد على مَنْ لا يُلزم إلا
بالإجماع، لأنَّ شيخ الإسلام قيد الإلزام بالبيان في مسائل الاجتهاد.
وكذلك الكلام محله فيما لا يُعلم قطعاً أنه مخالف
للشريعة؛ أما ما يُعلم قطعاً مخالفته للشريعة فيُلزم به؛ وهذا حال أكثر المجروحين
اليوم، أنهم يأتون بما نعلم قطعاً مخالفته للشريعة، فلا يتنزَّل كلام شيخ الإسلام
على مثل هؤلاء.
ثم أقول: إنَّ كلام شيخ الإسلام المتقدِّم لو رجعنا إلى
موضعه في المجموع [10/ 378-387] لوجدنا أنَّ شيخ الإسلام عقد فصلاً في حكم مَنْ
يقع في المخالفات الشرعية من أهل التصوف، وما يظهر عليهم من شطحات وأحوال، والكلام
الذي نقله الكاتب وشيخه في حال [مَنْ يسلم له حاله]؛ وله معنيان كما قال شيخ
الإسلام: إما أنه لا يُذم ولا يُلام ولا يأثم لكن مع الإنكار والتخطئة، وإما أنه
يُصوَّب ويُحمد ويؤجر؛ ومع هذا فشيخ الإسلام اشترط في هذا فقال: ((وتسليم
الحال في مثل هذا: إذا عُرف أنه معذور، أو عُرف أنه صادق في طريقه، وإنَّ هذا الأمر
قد يكون اجتهاداً منه؛ فهذه ثلاثة مواضع يسلم إليه فيها حاله، لعدم تمكنه من العلم
وخفاء الحق عليه فيها على وجه يعذر به)) فليس الأمر على إطلاقه إذن!!.
ثم بعد الكلام الذي نقله الكاتب؛ ذكر شيخ الإسلام حكم
الذي [لا يسلم إليه حاله] وهو الذي يُذم ويأثم وذكر له صوراً من حال الصوفية
ومنها: ((أو يُعرف منه أنَّ الحق قد تبين له وأنه متبع لهواه)) ففي هذه الحالة يُلزم بالحق، وهذا يؤكِّد ما تقدَّم.
ثم واصل في ذكر الصور التي يلام فيها أصحابها ويأثمون،
وبعدها ختم الفصل بقوله: ((فهؤلاء ونحوهم ممن يخالف الشريعة ويبين
له الحق فيعرض عنه: يجب الإنكار عليهم بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب،
وكذلك أيضا ينكر على من اتبع الأولين المعذورين في أقوالهم وأفعالهم المخالفة للشرع؛
فإنَّ العذر الذي قام بهم منتف في حقه فلا وجه لمتابعته فيه. ومن اشتبه أمره من أي
القسمين هو؟ توقف فيه، فإنَّ الإمام إنْ يخطئ في العفو خير من أنْ يخطئ في العقوبة؛
لكن لا يتوقف في رد ما خالف الكتاب والسنة، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من عمل عملاً ليس عليه امرنا فهو رد"، فلا يسوغ الخروج عن موجب العموم والإطلاق
في الكتاب والسنة بالشبهات، ولا يسوغ الذم والعقوبة بالشبهات، ولا يسوغ جعل الشيء حقاً
أو باطلاً أو صواباً أو خطأ بالشبهات))
قلتُ: فمَنْ بان له الحق في موارد الاجتهاد وأعرض عنه
يجب الإنكار عليه، ولا يعذره كونه متبعاً في قوله أحد المجتهدين المعذورين، ولا
يُتوقف في رد كل ما خالف الكتاب والسنة من أي كائن كان.
أما قول الكاتب:
((لا إنكار في مسائل
الاجتهاد))
قلتُ: نعم، لا إنكار لمن قلَّد غيره في مسائل
الاجتهاد؛ فقد سُئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 20/ 207]: عمن يقلد بعض العلماء
في مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه أم يجهر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين؟
فأجاب بقوله: ((الحمد لله؛ مسائل الاجتهاد مَنْ
عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يجهر، ومَنْ عمل بأحد القولين لم ينكر
عليه، وإذا كان في المسألة قولان فإنَّ كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل
به، وإلا قلَّد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم))
لكن هذا
ليس على الإطلاق؛ فقد قال شيخ الإسلام [الفتاوى الكبرى 1/ 159]: ((ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان
الحجة وإيضاح المحجة؛ لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد فإنَّ هذا فعل أهل
الجهل والأهواء))
وقال [منهاج السنة 1/ 44]: ((المسألة اجتهادية فلا
تنكر إلا إذا صارت شعاراً لأمر لا يسوغ فتكون دليلاً على ما يجب إنكاره، وإنْ كانت
نفسها يسوغ فيها الاجتهاد)).
ولا يجوز إجماعاً لمن تمسَّك في مسائل الاجتهاد
بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة، ولكن مَنْ
تبين له القول الراجح في مسائل الاجتهاد وجب عليه قبوله وإتباعه؛ قال شيخ الإسلام
رحمه الله تعالى في [الفتاوى الكبرى 1/ 164]: ((إنَّ مثل هذه المسألة أو نحوها من مسائل الاجتهاد؛
لا يجوز لمن تمسَّك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل فهذا خلاف
إجماع المسلمين؛ فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين وليس لمن رجَّح أحد القولين
أن ينكر على صاحب القول الآخر إلا بحجة شرعية، وكذلك تنازعوا في متروك التسمية وفي
ذبائح أهل الكتاب إذا سموا عليها غير الله وفي شحم الثرب والكليتين وذبحهم لذوات الظفر
كالإبل والبط ونحو ذلك مما حرمه الله عليهم وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا ونحو ذلك
من المسائل، وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين؛ فمن صار إلى قولٍ مقلِّدٍ
لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلد لقائله؛ لكن إنْ كان مع
أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت!، ولا يجوز لأحد أن يرجِّح قولاً
على قول بغير دليل، ولا يتعصب لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة؛ بل مَنْ كان
مقلداً لزم حل التقليد فلم يرجح ولم يزيف ولم يصوِّب ولم يخطِّئ، ومن كان عنده من العلم
والبيان ما يقوله سمع ذلك منه؛ فقبل ما تبين أنه حق ورد ما تبين أنه باطل ووقف ما لم
يتبين فيه أحد الأمرين، والله تعالى قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان كما فاوت بينهم
في قوى الأبدان))
وأما مَنْ
يقصد: أنَّ مسائل الخلاف لا إنكار فيها!!؛ فهذه المقولة قد كفانا مؤنة ردها شيخ
الإسلام رحمه الله تعالى في [الفتاوى الكبرى 6/ 92] فقال: ((وقولهم: "مسائل الخلاف لا إنكار فيها"
ليس بصحيح؛ فإنَّ الإنكار إما أن يتوجَّه إلى القول بالحكم، أو العمل. أما الأول: فإذا
كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً، وإنْ لم يكن كذلك فإنه ينكر
بمعنى بيان ضعفه عند مَنْ يقول "المصيب واحد" وهم عامة السلف والفقهاء. وأما
العمل: فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار؛ كما ذكرناه
من حديث شارب النبيذ "المختلف فيه"، وكما يُنقض حكم الحاكم إذا خالف سنة؛
وإنْ كان قد اتبع بعض العلماء!. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد
فيها مساغ: فلا ينكر على مَنْ عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أنَّ القائل يعتقد:
أنَّ مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد!؛ كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، والصواب الذي
عليه الأئمة: أنَّ مسائل الاجتهاد لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل:
حديث صحيح لا معارض من جنسه، فيسوغ له - إدا عُدم ذلك فيها – الاجتهاد لتعارض الأدلة
المتقاربة أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعنٌ على مَنْ خالفها
من المجتهدين؛ كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها،
مثل: كون الحامل المتوفى عنها تعتد بوضع الحمل، وإنَّ الجِماع المجرد عن إنزال يوجب
الغسل، وإنَّ ربا الفضل والمتعة حرام، وإنَّ النبيذ حرام، وإنَّ السنة في الركوع الأخذ
بالركب، وإنَّ دية الأصابع سواء، وإنَّ يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم ربع دينار، وإنَّ
البائع أحق بسلعته إذا أفلس المشتري، وإنَّ المسلم لا يقتل بالكافر، وإنَّ الحاج يلبي
حتى يرمي جمرة العقبة، وإنَّ التيمم يكفي فيه ضربة واحدة إلى الكوعين، وإنَّ المسح
على الخفين جائز حضراً وسفراً؛ إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى.
وبالجملة: مَنْ بلغه ما في هذا الباب من الأحاديث
والآثار التي لا معارض لها فليس له عند الله عذر بتقليد مَنْ ينهاه عن تقليده ويقول:
"لا يحل لك أن تقول ما قلتُ حتى تعلم من أين قلتُ" أو يقول: "إذا صح
الحديث فلا تعبأ بقولي")).
ثم تكلَّم رحمه الله تعالى عن حرمة الحيل ثم
قال: ((لو فرضنا أنَّ الحيل من مسائل الاجتهاد -كما يختاره في بعضها طائفة من أصحابنا
وغيرهم- فإنا إنما بينا الأدلة الدالة على تحريمها كما في سائر مسائل الاجتهاد، فأما
جواز تقليد مَنْ يخالف فيها ويسوِّغ الخلاف فيها وغير ذلك فليس هذا من مواضع الكلام
فيه، وليس الكلام في هذا مما يختص هذا الضرب من المسائل!؛ فلا يحتاج إلى هذا التقرير
أن يجيب عن السؤال بالكلية، وحينئذ: فمن وضح له الحق وجب عليه إتباعه!، ومَنْ لم يتضح
له الحق فحكمه حكم أمثاله في مثل هذه المسائل))
من هذا
النقل؛ تتبين لنا أمور:
الأول: قول القائل "مسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح
على إطلاقه؛ فإذا كان القول يُخالف سنة أو إجماعاً قديماً
وجب إنكاره بالاتفاق، وإنْ لم يكن كذلك فيُنكر بمعنى رده وبيان ضعفه. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع ويسوغ
فيها الاجتهاد فلا إنكار على مَنْ اجتهد فيها أو قلَّد إلا بالحجة والدليل.
الثاني: مسائل
الخلاف أعم من مسائل الاجتهاد؛ فالمسألة قد تكون خلافية ولا تكون اجتهادية، وذلك
حين يظهر فيها القول الراجح ظهوراً بيناً حتى تصير من المسائل القطعية، فيغلط مَنْ
يظن أنَّ كل مسألة خلافية هي اجتهادية!، وأغلط منه مَنْ يجعل مسألة خلافية معينة
من مسائل الاجتهاد حتى لا ينكر عليه أحد!!.
الثالث: مسائل الاجتهاد هي المسائل التي ليس فيها دليل
صحيح السند ظاهر الدلالة، أو يكون فيها دليل لكن له معارض من جنسه.
الرابع: أنَّ هناك مسائل كثيرة اختلف فيها سلف الأمة إلى
قولين، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها بالأدلة التي لا معارض لها؛ فليس لأحد بعد
ذلك العذر في تقليد أصحاب القول المرجوح، وهو ملزم بقبول القول الراجح.
الخامس: في مسائل الاجتهاد؛ مَنْ وضح له الحق وجب عليه
إتباعه، ومَنْ لم يتضح له فحكمه حكم المخطئ في مسائل الاجتهاد.
أما قول الكاتب: ((لا طعن على مَنْ خالف الراجح في مسائل الاجتهاد))
قلتُ: هذا في حق "مَنْ خفي عليه القول
الراجح"، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 33/ 134]:
((ومَنْ قال بالقول المرجوح وخفي عليه القول الراجح كان حسبه أن يكون قوله سائغاً))، وأما إن اتضح له الحق فيجب عليه إتباعه، فإن أصرَّ
على مخالفة الحق صار متبعاً لهواه فيُنكر عليه، وإنْ كانت المخالفة بدعة أو منكرات
فإنَّ صاحبها الذي يدعو لها أو الذي أعلنها أو أظهرها يعاقب عليها وإنْ كان
مجتهداً لكف ضرره على الناس كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 10/ 375-376]:
((وكذلك يعاقب مَنْ دعا إلى
"بدعة" تضر الناس في دينهم وإنْ كان قد يكون معذوراً فيها في نفس الأمر لاجتهاد
أو تقليد، وكذلك يجوز قتال البغاة وهم "الخارجون على
الإمام أو غير الإمام" بتأويل سائغ مع كونهم عدولاً... وكذلك نقيم الحد على مَنْ
شرب "النبيذ المختلف فيه" وإنْ كانوا قوماً صالحين؛ فتدبر كيف عوقب أقوام
في الدنيا على ترك واجب أو فعل محرم بيِّن في الدين أو الدنيا وإنْ كانوا معذورين فيه؛
لدفع ضرر فعلهم في الدنيا))
ثم كثرة
المخالفات بدعوى الاجتهاد قد تؤول إلى وجود أصل فاسد كما قال الكاتب في أحد حلقاته
القادمة تبعاً للإمام الشاطبي: ((مع التنبيه إلى: أنَّ كثرة
الأخطاء في الجزئيات الفرعية في باب "الحكم على المعينين" بدعوى
الاجتهاد السائغ قد تؤول أو تدل عل وجود انحراف في أصل هذا
الموضوع
الذي تكرر الخطأ منه في فروعه))، وفي هذا تقييد لما أطلقه
الكاتب في حلقته الأولى هذه فقال: ((وعدم التبديع بالأمور الاجتهادية هو الحق الذي لا ينبغي المحيص عنه)).
وأما قول الكاتب: ((لا ينسب لله تعالى حكم في مسائل الاجتهاد))
قلتُ: إن قصد حكم في الظاهر فنعم، أما حكم في الباطن فقد
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وهو يبين حكم اختلاف قول العالم الواحد في
المسألة الواحدة [المجموع 29/ 41]: ((وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم
قد يسمى تناقضاً أيضاً؛ لأنَّ التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والإثبات،
فإذا كان في وقت قد قال: إنَّ هذا حرام، وقال في وقت آخر فيه أو في مثله: إنه ليس بحرام،
أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام، فقد تناقض قولاه وهو مصيب في كليهما عند من يقول إنَّ
كل مجتهد مصيب!، وأنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده!!. وأما الجمهور
الذين يقولون: إنَّ لله حكماً في الباطن علمه العالم في إحدى المقالتين ولم يعلمه في
المقالة التي تناقضها، وعدم علمه به مع اجتهاده مغفور له، مع ما يثاب عليه من قصده
للحق واجتهاده في طلبه، ولهذا يشبِّه بعضهم تعارض الاجتهادات من العلماء بالناسخ والمنسوخ
في شرائع الأنبياء مع الفرق بينهما: بأنَّ كل واحد من الناسخ والمنسوخ ثابت بخطاب حكم
الله باطناً وظاهراً؛ بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين، هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله
مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد. وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مذمومون في مناقضاتهم
لأنهم يتكلمون بغير علم ولا حسن قصد لما يجب قصده))
وقال في [المجموع 20/ 27]: ((والصحيح ما قاله أحمد وغيره: أنَّ عليه أن يجتهد،
فالواجب عليه الاجتهاد ولا يجب عليه إصابته في الباطن إذا لم يكن قادراً عليه، وإنما
عليه أن يجتهد فإنْ ترك الاجتهاد أثم، وإذا اجتهد ولم يكن في قدرته أن يعلم الباطن
لم يكن مأموراً به مع العجز، ولكن هو مأمور به وهو حكم الله في حقه بشرط أن يتمكن منه،
ومَنْ قال: إنه حكم الله في الباطن بهذا الاعتبار فقد صدق، وإذا اجتهد فبين الله له
الحق في الباطن فله أجران كما قال تعالى: "ففهمناها سليمان")).
وقبل أن أنهي التعليق على هذه الحلقة؛ أحب أن أبين
مسألتين كان حقاً على الكاتب في حلقته هذه أن يبينهما لئلا يلتبس الأمر على القراء
بين النظرية والتطبيق أو بين التأصيل والواقع؛ وهذه المسألتان هما:
الأولى: ليس كل اجتهاد يكون سائغاً أو مقبولاً؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 29/ 44]:
((فالمجتهد المحض مغفور له ومأجور، وصاحب الهوى المحض مستوجب العذاب، وأما المجتهد
الاجتهاد المركب من شبهة وهوى فهو مسيء)).
فالاجتهاد منه ما يسوغ ومنه ما لا يسوغ؛ قال شيخ الإسلام [المجموع
28/ 234]: ((وإنْ كان المخطئ المجتهد مغفوراً له خطؤه وهو مأجور
على اجتهاده؛ فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب؛ وإنْ كان في ذلك
مخالفة لقوله وعمله. ومَنْ علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم
والتاثيم له، فإنَّ الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته
والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء وغير ذلك))، وقال في قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه مع
امرأة مالك بن نويرة [المنهاج 5/ 520]: ((وبالجملة فنحن لم نعلم أنَّ القضية وقعت على
وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد؛ والطعن بمثل ذلك من قول مَْن يتكلم بلا علم، وهذا مما حرمه
الله ورسوله)).
الثانية:
أنَّ الاجتهاد السائغ الذي لا تهدر مكانة صاحبه له شروط؛ وهي:
أ- أن
يكون الرجل جليلاً له مكانة عند المسلمين وله آثار حسنة، ومعروفاً بالانتصار لأهل
السنة والرد على أهل
البدع.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [الفتاوى
الكبرى 6/ 92 ]: ((إنَّ الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو
من الإسلام وأهله بمكانة عليا، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور؛
لا يجوز أن يتبع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين))
وقال في الهروي وأمثاله [درء التعارض 1/ 283]:
((ثم إنه ما من هؤلاء إلا مَنْ له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد
على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على
من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف؛ لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ
ابتداء عن المعتزلة -وهم فضلاء عقلاء- احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب
ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم
مَنْ يعظِّمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم مَنْ يذمهم لما وقع في كلامهم من
البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها؛ وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء بل مثل هذا وقع لطوائف
من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم
عن السيئات))
ب- أن
يكون اجتهاد العالم أو زلته في دقيق العلم.
قال شيخ الإسلام [المجموع 20/ 166]: ((ولا ريب أنَّ
الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإنْ كان ذلك في المسائل العلمية؛ ولولا ذلك لهلك
أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه
لم يطلب العلم، فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان
مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته،
ولا يؤاخذه بما أخطأ تحقيقاً لقوله: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"))
بينما قال
في [المجموع 42/ 172]: ((مَنْ خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة
خلافاً لا يعذر فيه: فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع)).
ج- أن
يقصد الحق.
د- أن
يستفرغ وسعه في طلب الحق.
ﻫ- أن
يسلك سبيل الحق.
قال شيخ الإسلام في [درء التعارض 1/ 283]: ((ولا
ريب أنَّ من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض
ذلك؛ فالله يغفر له خطأه تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا:
"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"))
وقال [المجموع 20/ 30]: ((والمجتهد المخطئ له أجر؛
لأنَّ قصده الحق، وطلبه بحسب وسعه))
وقال [المجموع 13/ 125]: ((ولم يقل أحد من السلف
والصحابة والتابعين: إنَّ المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم؛ لا في الأصول
ولا في الفروع)).
بينما قال في [المجموع 3/ 317]: ((فمن كان خطؤه
لتفريطه فيما يجب عليه من إتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك
السبل التي نهى عنها، أو لإتباع هواه بغير هدى من الله: فهو الظالم لنفسه؛ وهو من أهل
الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطناً وظاهراً الذي يطلب الحق باجتهاده
كما أمره الله ورسوله فهذا مغفور له خطؤه))
أقول: وأكثر مَنْ يُدَّعى لهم أنهم اجتهدوا وأخطئوا
وأنَّ اجتهادهم سائغ فلا ينكر عليهم ولا يذموا هم في الحقيقة لم يحققوا هذا الشروط
بتمامها، أما مَنْ حقق هذه الشروط فلا ينبغي أن يُذكر على وجه الذم ولا أن تهدر
مكانته في نفوس المسلمين، بل الواجب أن يُعتذر له وإلا لهلك أكثر فضلاء الأمة، لكن
لا يمنع هذا من الإنكار عليه وبيان خطئه أو أخطائه بالحجة والدليل، بل والتحذير
منها؛ فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول في الإمام الهروي رحمه
الله تعالى [منهاج السنة 5/ 359]: ((وأما "الفناء" الذي يذكره صاحب المنازل؛
فهو الفناء في توحيد الربوبية لا في توحيد الإلهية!، وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي
الأسباب والحِكَم كما هو قول القدرية المجبرة كالجهم بن صفوان ومن اتبعه والأشعري وغيره.
وشيخ الإسلام وإنْ كان رحمه الله من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات، وقد صنَّف
كتابه "الفاروق في الفرق بين المثبتة والمعطلة" وصنَّف كتاب "تكفير
الجهمية" وصنَّف كتاب "ذم الكلام وأهله"، وزاد في هذا الباب حتى صار
يوصف بالغلو في الإثبات للصفات؛ لكنه في القدر على رأي الجهمية نفاة الحِكَم والأسباب!، والكلام في الصفات نوع والكلام في القدر نوع))، ويقول فيه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى [مدارج
السالكين 1/ 148]: ((فرحمة الله على أبي إسماعيل فتح للزنادقة باب الكفر والإلحاد فدخلوا منه،
وأقسموا بالله جهد أيمانهم إنه لمنهم وما هو منهم، وغرَّه سراب الفناء، فظن أنه لجة
بحر المعرفة وغاية العارفين، وبالغ في تحقيقه وإثباته فقاده قسراً إلى ما ترى))، ويقول فيه في موضع آخر [المدارج 3/ 394]: ((شيخ الإسلام حبيبنا؛ ولكن الحق أحب إلينا منه، وكان
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "عمله خير من علمه"!، وصدق رحمه الله
فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار، وله
المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق
المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، وقد أخطأ في هذا الباب لفظا ومعنى؛ أما اللفظ فتسميته
فعل الله الذي هو حق وصواب وحكمة ورحمة، وحكمه الذي هو عدل وإحسان، وأمره الذي هو دينه
وشرعه: تلبيساً!!؛ فمعاذ الله ثم معاذ الله من هذه التسمية، ومعاذ الله من الرضى بها
والإقرار عليها والذب عنها والانتصار لها، ونحن نشهد بالله أنَّ هذا تلبيس على شيخ
الإسلام، فالتلبيس وقع عليه ولا نقول وقع منه، ولكنه صادق لُبِّس عليه، ولعلَّ متعصباً
له يقول: أنتم لا تفهمون كلامه؛ فنحن نبين مراده على وجهه إن شاء الله، ثم نتبع ذلك
بما له وعليه...))، والله
تعالى أعلم.
وقال الكاتب: ((ولهذا يعلم من له أدنى نظر في كتب الجرح والتعديل مقدار التفاوت الكبير بين أحكام أئمة هذا الفن في الرجال, حالهم في ذلك حال
اختلاف أئمة الفقه في مسائله))
قلتُ: وإذا كان الأمر كذلك؛ فقد تبين ما هو الواجب على
المسلم في حال اختلاف الأئمة في مسائل الفقه؛ ويتنزَّل عليه حينئذ اختلافهم في
مسائل الحكم على الرجال، وسيأتي مزيد من الإيضاح.
وأما قول الكاتب: ((إنَّ هؤلاء المعاصرين الممتهنين لتصنيف الناس والسلفيين لا يبدِّعون ولا
يجرِّحون بأمر اجتهادي؛ وعدم التبديع بالأمور الاجتهادية هو الحق الذي لا ينبغي
المحيص عنه, لكن الخلاف في هذه الجزئية ليس في سلامة الدعوى فهي حق, وإنما الخلاف في مناقضة الزعم والدعوى للواقع والتطبيق))
أقول:
وإذا كانوا لا يُبدِّعون ولا يُجرِّحون في مسائل
الاجتهاد؛ فأين موضع الخلل؟
يعني: هل تريد منهم أن يسكتوا عن تخطئة المخطئين، وأن
يعرضوا عن نقد المخالفين؟!
أم تريد منهم أن لا ينكرون على مَنْ يرى الحق ولا ينصره،
ويرى الباطل وينصره ويجادل عنه؟!
أليس من الواجب نصرة الحق وكشف الباطل ورده؟
فأين العيب؟
وأين الخلل؟
نعم مَنْ خفي عليه الحق ولم يبصر بعدُ مخالفات مَنْ
يدافع عنهم ويُجادل فليس لأحد عليه حجة؛ ولكن يدعونه إلى النظر إلى تلك المخالفات،
ثم ليتكلَّم بما يقتضيه الواجب على مثله، ومَنْ أقرَّ أنَّ الذين يدافع عنهم
ويُجادل لهم مخالفات وانحرافات ولكن لا تصل بهم إلى الخروج من السلفية أو إلى
تبديعهم؛ فهذا إما أن يكون توقفه فيهم سببه أصل كلي فاسد فيُناقش ويُناصح قبل
الحكم عليه وإلحاقه بهم، وإنْ كان سببه تحقيق المناط فهذا أمره واسع؛ لكن كثرة
التوقف في الحكم على المجروحين أو تعديلهم قد يكون سببها أصل فاسد كذلك!؛ ولكنه
غير ظاهر أو لم يُصرِّح به من قبل، وقد يكون سببها التساهل في التوثيق أو التردد
أو التورع أو رجاء رجوع المخالف إلى الجادة أو لمصلحة دينية أو لمفسدة أكبر من الحكم
عليه أو غير ذلك من الأسباب.
لكن على المتوقِّف في المجروحين أن يكفَّ عن الدفاع
والجدال عنهم أولاً، ويكف الكلام في أهل العلم الذين ينتقدونهم ويجرحونهم بالأدلة
الواضحة ثانياً؛ لأنه لا يملك ما ينقضها إلا حسن الظن أو التورع أو رجاء رجوعهم!،
ثم – إنْ كان له مكانة في نفوس الناس- عليه أن يتتبع أحوال المجروحين – وليس هذا
من تتبع عورات المسلمين الذين ثبتت عدالتهم واستقامتهم ولم يأتِ ما ينقضها؛ فلا
يخلط بين الأمرين - ليكون له موقف في نصرة الحق وأهله ورد الباطل وكشف أهله. والله
تعالى أعلم.
وأما اعتراض الكاتب على ما نقله عن أحد السلفيين الذين
يقبلون أحكام الشيخ ربيع حفظه الله تعالى في بعض الأعيان أنه يقول: ((أنَّ أحكام - أحد هؤلاء المعاصرين الممتهنين لتصنيف
الناس والسلفيين - ليست مبنية على الاجتهاد؛ لأنها قائمة على دراسة مستفيضة لأقوال مَنْ يتم نقدهم من المخالفين)).
أقول:
لا عيب على مَنْ يأخذ بأحكام العالم المعروف بالبصيرة في
الحكم على بعض الأعيان؛ مثل الشيخ ربيع حفظه الله تعالى الذي تعرض به!، فهو من
المتثبتين المعتدلين المستبصرين بالرجال، وقد شهد له بهذا أهل العلم الأكابر؛
وأخذوا أحكامه من قبل في سيد قطب وسلمان وسفر، ومنهم الشيخ الألباني رحمه الله
تعالى الذي قال فيه [في لقائه مع المأربي لما سأله عن قوله في الشيخين ربيع ومقبل
وكلام بعض المنحرفين فيهم]: ((نحن بلا شك نحمد الله عز
وجل أن سخَّر لهذه الدعوة الصالحة القائمة على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف
الصالح دعاةً عديدين في مختلف البلاد الإسلامية؛ يقومون بالفرض الكفائي الذي قلَّ
مَنْ يقوم به في العالم الإسلامي اليوم. ولذلك فالحط على هذين الشيخين الداعيين إلى
الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح ومحاربة الذين يخالفون هذا المنهج الصحيح
هو - كما لا يخفى على الجميع - إنما يصدر من أحد رجلين: إما من جاهل أو صاحب هوى، الجاهل
كما سبق في كلمة لك يمكن هدايته بيسر، لأنه يظن أنه على شيء من العلم، فإذا ما
تبين له العلم الصحيح اهتدى.
ولذلك
فأنا أقول في كثير من المناسبات: أنَّ في بعض الجماعات القائمة اليوم - وهم
منحرفون عن دعوتنا - نرى نحن فيهم إخلاصاً، فأقول: هؤلاء أحب إليَّ من الذين هم
معنا في دعوتنا لكن ليسوا معنا في الإخلاص الذي هو شرط في قبول كل عمل صالح.
أما صاحب
الهوى فليس لنا إليه سبيل إلا أن يهديه الله تبارك وتعالى.
فهؤلاء
الذين ينتقدون الشيخين هما كما ذكرنا: إما جاهل فيُعلَّم، وإما صاحب هوى فيُستعان
بالله شره، ونطلب من الله عز وجل: إما أن يهديه، وإما أن يقصم ظهره.
لكن
بالنسبة للشيخ مقبل؛ أنا ما قرأتُ له كثيراً كما هو الشأن بالنسبة لأخونا الربيع، وربيع
يبدو أنَّ حظه في الكتابة أكثر من الشيخ مقبل، والعكس تماماً، مقبل في الدعوة ومخالفة
الناس ودعوتهم إلى الكتاب والسنة ووعظهم وإرشادهم أكثر من الشيخ الدكتور الربيع.
فأريد أن
أقول: أنَّ الذي رأيته في كتابات الشيخ الدكتور ربيع أنها مفيدة، ولا أذكر أني
رأيتُ له خطأً وخروجاً عن المنهج الذي نحن نلتقي معه ويلتقي معنا فيه.
لكني قلتُ
له أكثر من مرة في مهاتفة جرت بيني وبينه: لو أنه يتلطَّف في استعمال بعض العبارات؛
وبخاصة أنَّ الذي يردُّ عليهم قد يكون ممن انتقل إلى حساب الله تعالى وفضله ورحمته
ومغفرته، ثم هو من ناحية أخرى قد يكون له شوكة ويكون له عصبة ينتمون إليه بالحماس
الجاهلي مش العلمي، فمن أجل هؤلاء ليس من أجل ذاك الذي انتقل إلى رحمة الله عز وجل
أرى التلطف في الرد على هؤلاء الذين خالفوا منهجنا السلفي، أما من الناحية العلمية
فهي فيه - والحمد لله - قوية جداً.
أما
بالنسبة للشيخ مقبل؛ فأهل مكة أدرى بشعابها، والأخبار التي تأتينا منكم أكبر شهادة
في كون الله عز وجل وفَّقه توفيقاً ربما لا نعرف له مثيلاً بالنسبة لبعض الدعاة
الظاهرين اليوم على وجه الأرض، فنسأل الله عز وجل أن يوفِّق المسلمين ليتعرفوا أولاً
على دينهم، وأن يكونوا بعيدين عن إتباع أهوائهم، ولعلَّ في هذا القدر كفاية)).
ويقول رحمه
الله تعالى أيضاً في شريط [الموازنات بدعة العصر]: ((وباختصار أقول: إنَّ حامل
راية الجرح والتعديل اليوم في العصر الحاضر وبحق هو: أخونا الدكتور ربيع، والذين
يردون عليه لا يردون عليه بعلم أبداً، والعلم معه.
وإنْ كنتُ
أقول دائماً وقلتُ هذا الكلام له هاتفياً أكثر من مرة: أنه لو يتلطَّف في أسلوبه
يكون أنفع للجمهور من الناس سواء كانوا معه أو عليه.
أما من
حيث العلم فليس هناك مجال لنقد الرجل إطلاقاً، إلا ما أشرتُ إليه آنفاً من شيء من
الشدة في الأسلوب.
أما أنه
لا يُوازِن: فهذا كلام هزيل جداً لا يقوله إلا أحد رجلين: إما رجل جاهل فينبغي أن
يتعلم، وإلا رجل مغرض، وهذا لا سبيل لنا عليه إلا أن ندعو الله له أن يهديه سواء
الصراط)).
وهذا الشيخ مقبل رحمه الله تعالى يقول في الشيخ ربيع
حفظه الله تعالى في [شريط "الأسئلة السنية
لعلاّمة الديار اليمنية، أسئلة شباب الطائف"]: ((مِن أبصر الناس بالجماعات
وبدخن الجماعات في هذا العصر: الأخ الشيخ ربيع بن هادي حفظه الله، مَنْ قال له
ربيع بن هادي: "إنه حزبي"؛ فسينكشف لكم بعد أيام إنه حزبي، ستذكرون ذلك،
فقط الشخص يكون في بدء أمره متستراً ما يحب أن ينكشف أمره؛ لكن إذا قوي وأصبح له
أتباع، ولا يضره الكلام فيه أظهر ما عنده، فأنا أنصح بقراءة كتبه والاستفادة منها
حفظه الله تعالى)).
وقال في
كتاب ["تحفة القريب والمجيب" في السؤال (135)] لما سئل عن العلماء الذين
يرجع إليهم قال: ((والشيخ ربيع بن هادي المدخلي: فهو آية من آيات الله في معرفة
الحزبيين)).
أقول:
فالمسألة مسألة قناعة عند السلفيين: أنَّ الشيخ ربيعاً
حفظه الله تعالى له بصيرة بأحوال الرجال، وهي منة من الله عز وجل عليه، جعلت
السلفيين يرون أنَّ اختياراته النقدية موافقة للحق في مرات عديدة، كما جعلتهم يرون
اختيارات الشيخ الألباني الحديثية مثلاً موافقة للحق؛ لكن هذا لا يعني استبعاد
الخطأ منهما، كلا، بل لا عصمة لأحد من البشر بعد الأنبياء، وكل يؤخذ من قوله ويرد
إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنا – عن نفسي- بصراحة رأيتُ أنَّ الشيخ ربيعاً المدخلي
حفظه الله تعالى عالم بصير بالرجال والأحزاب، وله رسوخ في مسائل المنهج، وهو منضبط
في الأصول السلفية العلمية، وله صبر وحلم على مَنْ يُخالف المنهج، وله مع
المخالفين نصائح وتواصل وتواصي بالحق، وهو حريص على هذا المنهج من كيد الحزبيين
المتسترين، ولهذا تطمئن نفسي لاختياراته النقدية؛ لكني مع هذا أقرأ له ما يكتبه من
ردود، وأقرأ لمن يرد عليه؛ في كلِّ مَنْ تكلَّم فيه الشيخ ربيع منذ فترة طويلة،
وأنا في كل مرة أزداد يقيناً ببصيرة الشيخ ربيع ورسوخه في هذا المنهج الذي ننتسب
إليه، والحمد لله رب العالمين.
فإنْ قيل لي: ولماذا الشيخ ربيع فقط؟ أليس العلماء
الآخرون راسخين في المنهج مثله؟!
أقول: نعم ولا نكابر أنَّ علماءنا الآخرين لهم رسوخ في
المنهج كذلك، ولكن هو سلطان العلم والحجة الذي لا يُمكن للنفس أن تدفعه إلا
مكابرة، خذ مثلاً: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لماذا كل السلفيين
يرجعون إليه في التأصيلات العلمية وفي مسائل الاعتقاد والإيمان؟ أليس هناك علماء
مثله؟ نعم هناك مَنْ هو مثله أو أكثر منه من المتقدمين عنه، ولكن له طريقة في
الإقناع تطمئن لها النفس؛ وذلك بما آتاه الله تعالى من استقراء لكلام السلف
المتقدمين، وتحرير مواطن الخلاف والإجماع، ونصرة الحق بالآثار والحجج البينة، حتى
صار عندنا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى مرجعاً لا يُمكن الاستغناء عن كلامه.
والشيخ ربيع حفظه الله تعالى
وإنْ كان دون شيخ الإسلام رحمه الله تعالى؛ لكنَّ لكلامه وردوده سلطاناً في نفوسنا
بما آتاه الله تعالى من قوة إقناع ونصرة الحق بالحجج الساطعة والبراهين الواضحة،
وأنا أعرف –لا محال- سيُقال فيَّ كما قيل في غيري: (متعصِّب)، أو يُقال في كلامي:
هذا (تقديس)، لكن هذه كلمة لنصرة رجل من أهل العلم لابد منها، وأسأل الله تعالى أن
يختم لنا وللشيخ ربيع ولجميع السلفيين بالحسنى، ونسأله لنا جميعاً الثبات على نصرة
الحق ورد الباطل حتى الممات.
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.