-->

الخميس، 6 يوليو 2017

المؤاخذة التاسعة على أبي عبد الحق الكردي/ عدم الإلزام بتبديع المختلف فيه (الحلبي نموذجاً!)

قال أبو عبد الحق  في "الجواب الصريح" ص97 في رده على أحد الحلبيين: ((مَنْ لم يبدِّع الخوارج والرافضة والجهمية: فهو المبتدع، أما مَنْ اختلف أهل العلم من السلفيين في تبديعه؛ وكان تبديعه موضع اجتهاد وأخذ ورد: فلا يُبدَّع مَنْ لم يبدِّعه، بل يُبين أمر المبتدع له ويُعلَّم بحاله، وتُذكر له أسباب تجريحه وتفسَّر إنْ دعت الحاجة لذلك، فهذا كان قولي.
وليس القول الذي افتريته عليَّ ونسبته إليَّ يا كذَّاب!، ثم كيف أقول هذا وأنا أعلم أنَّ هناك من أهل العلم مَنْ لم يُبدِّع الحلبي؟!)).
هذه المؤاخذة بينها وبين المؤاخذة السابقة [عدم الإلزام بالتبديع الصادر من عالم منفرد] خصوص وعموم، فكلتاهما متعلق بـ [عدم الإلزام بالتبديع]، لكن المؤاخذة السابقة إذا انفرد عالم بتبديع شخص، والمؤاخذة الحالية إذا اختلف العلماء في شخص.
فالأولى تقتضي عدم الإلزام بتبديع شخص إذا انفرد بتبديعه عالم!، والثاني تقتضي عدم الإلزام بتبديع شخص إذا لم يجمع العلماء على تبديعه!، وكلاهما أصلان باطلان من أصول أهل التمييع.
أما الأصل الأول فقد بينتُ بطلانه في المؤاخذة الثامنة.
وأما الأصل الثاني فهو أشدُّ وأنكى، لأنه يدور حول أصل عدم الإلزام بالجرح المفسَّر إلا إذا كان مجمعاً عليه، وهذا هو منهج أهل التمييع، يقول علي الحلبي في هامش كتابه [منهج السلف الصالح/ الطبعة الثانية ص219]: ((تنبيه آخر: قلتُ في بعض مجالسي: لا "يُلزَمُ" أحدٌ بالأخذ بقول جارح إلا ببينة "مُقنِعَةٍ" وسببٍ واضحٍ، أو بإجماعٍ علميٍّ معتبر)).
وهذا الأصل يستلزم بطلان قاعدة "وجوب قبول الجرح المفسَّر"، فلو كان أبو الحسن المأربي وعلي الحلبي وغيرهم من لفيف التمييع - وآخرهم أبو عبد الحق الكردي - يعتقدون أنَّ الجرح المفسَّر يجب قبوله لما قيدوا الإلزام به بالإجماع، ومعلوم أنَّ الواجب هو اللازم، فالجرح المفسَّر يلزم الآخرين، فكيف يقال بعدها: لا إلزام بالتبديع إلا المجمع عليه، وأما المختلف فيه فلا إلزام فيه؟! هذا ينقض قاعدة وجوب قبول الجرح المفسَّر، وهذه القاعدة مقررة في علم مصطلح الحديث، قال الشيخ الألباني رحمه الله في حاشية كتابه [دفاع عن الحديث النبوي ص21]: ((قلتُ: ولذلك لا ينبغي أن يغتر أحدٌ بما ذهب إليه ابن سيد الناس في مقدمة كتابه "عيون الأثر" من توثيق الواقدي!؛ فإنه خالف ما عليه المحققون من الأئمة قديمًا وحديثًا، ولمنافاته علم المصطلح على: "وجوب تقديم الجرح المفسر على التعديل"؛ وأي جرح أقوى من الوضع؟!، وقد اتهمه به أيضًا الإمام الشافعي الذي يزعم البوطي أنه يقلِّده، وأبو داود وأبو حاتم، وقال أحمد: كذَّاب)).
وكون الرجل يختلف فيه العلماء توثيقاً وتجريحاً هذا لا يعني أنَّ الكلام فيه أصبح غير ملزم، فقد سُئل الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله – الذي يزعم أبو عبد الحق أنه درس عنده! - كما في [شريط الأجوبة الندية على الأسئلة الهولندية]: بعض الناس يردُّ قول الجارح من علماء السنة في بعض المبتدعة بحجة أنَّ هذا المجروح لم يتكلَّم فيه باقي علماء السنة، قائلاً: أين فلان وفلان؟! لماذا لا يتكلَّمون؟! لو كان حقاً لتابعوه، فهل يشترط في الكلام على الشخص و تجريحه أن يكون أكثر علماء السنة أو كلُّهم قد جرحوه؟ لاسيما وأنَّ هذا الجارح قد اطلع على بيِّنة من كلام هذا المبتدع من خلال محاضراته وتآليفه؟
فكان جوابه: ((نعم نعم، المسألة يا إخوان؛ ما قرأ القوم المصطلح، أو أنهم قرؤوه ويلبِّسون، نقول لكم بأعظم من هذا: هب أنَّ أحمد بن حنبل قال: ثقة، ويحيى بن معين قال: كذَّاب، فهل يضر قول يحيى وقد خالفه أحمد بن حنبل؟! نعم، قول يحي جرح مفسر، اطلع على ما لم يطلع عليه أحمد، فماذا؟! فماذا؟ دع عنك لو جرحه يحيى بن معين وحده.
فعلى هذا إذا قام عالم من علماء العصر، وأبرز البراهين على ضلال محمد الغزالي أو يوسف القرضاوي أو منهج الإخوان المفلسين، نقبل ويجب قبوله، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ"، نعم، إذا جاءنا العدل نقبل، كما هو مفهوم الآية، إذا جاءنا العدل نقبل، فأين أنتم من الآية التي تدل على أنه إذا جاءنا العدل بنبأ نقبله، وإذا جاءنا الفاسق بنبأ نتبيَّن؟! فماذا يا إخوان!.
فالمهم القوم ملبِّسون مخالفون لعلمائنا المتقدمين ولعلمائنا المتأخرين، والحمد لله، وإني أحمد الله سبحانه وتعالى، الناس لا يَثقون بك يأيها المهوِّس ولا بكلامك)).
ومن كان عارفاً بكتب الجرح والتعديل يعلم يقيناً أنَّ الكثير من الرواة والأشخاص لم يجمع على جرحهم ومع هذا أخذ العلماء جرحهم المبني على الدليل وقبلوه، فأين هؤلاء من هذه الكتب؟!
وقد كتبتُ مقالة بعنوان [التَّلْخِيصُ المُفْحِمُ في بَيانِ أنَّ حُكَمَ تجْرِيحِ المُبْتَدِعَةِ الصَادِرِ مِنْ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرِينَ بِالأدِلةِ والبَرَاهِينَ أمْرٌ مُلْزِمٌ] بينتُ فيها من ثلاثة وجوه أنَّ جرح المبتدعة أمرٌ ملزم، فليرجع إليها من أراد البسط.
ولا فرق كبير بين من يشترط [الإجماع في قبول التبديع] وبين من يشترط [الإجماع في الإلزام بالتبديع]، فهذا التفريق من سفسطة الحلبي كما بينتُ ذلك في المؤاخذة السابقة، وقد كان الحلبي في أول أمره يشترط الإجماع في قبول التبديع!؛ فلما أنكر عليه السلفيون وذكروا أنَّ الكثير من المجروحين في الرواة مختلف فيهم وإذا لم يُقبل تجريح من جرحهم لكونهم من المختلف فيهم فهذا يؤدي إلى إهدار كلام الأئمة في المجروحين وإتلاف كتب المجروحين لعدم الفائدة منها أو قلتها، حينئذ قال الحلبي: أنا أتكلَّم عن الإلزام في التبديع لا عن قبول التبديع!، وما هو الفرق بينهما؟! كلاهما يراد منه تعطيل باب الجرح والتبديع.
قال الشيخ ربيع حفظه الله في [بيان الجهل والخبال في مقال حسم السجال رد على المسمى بـِ "مختار طيباوي" (الحلقة الأولى)]: ((قادتهم هذه المطامع الدنيوية والضيق بالمنهج السلفي وأهله والأمراض الأخرى إلى وضع أصول فاجرة لمقاومة المنهج السلفي وإسقاط علمائه الذين ينتقدون أهل البدع ويبينون ضلالاتهم وخطر بدعهم.
ومن هذه الأصول التي تحقق أهدافهم "نصحح ولا نهدم أو لا نجرح" و "المنهج الواسع الأفيح" و "إذا حكمت حوكمت" وغيرها.
و "لا يُقبل التبديع إلا إذا أجمع العلماء عليه" وقصدهم أنه إذا اتفق أهل السنة على تبديع شخص ما بالحجج والبراهين وخالفتهم هذه الزمرة أو واحد منهم لا يقبل هذا التبديع الذي خالف فيه هؤلاء أو أحدهم.
لأنَّ أصولهم ولا سيما المنهج الواسع الأفيح يأبى هذا التبديع، وشرعوا في تطبيق هذه الأصول وإسقاط العلماء وأصولهم السلفية.
شرعوا في تطبيق هذه الأصول الباطلة بكل جرأة ووقاحة مع دعاواهم العريضة أنهم هم السلفيون حقاً وأنهم أهل العدل والإنصاف))
 وسئل الشيخ ربيع حفظه الله كما في شريط [المنهج التمييعي وقواعده]: هل يشترط في جرح أهل البدع إجماع أهل العصر، أم يكفي عالم واحد فقط؟
فأجاب بقوله: ((هذه من القواعد المميعة الخبيثة - بارك الله فيكم -، في أي عصر اشترطوا هذا الإجماع؟! وما الدليل على هذا الشرط؟! كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، وإذا جَرَحَ الإمام أحمد بن حنبل أو يحيى بن معـين، جَرَحَ مبتدعاً، أقول: لا بد أن يجمع أئمة السنة في العالم كلهم على أن هذا مبتدع؟!!، إذا قال أحمـد: هذا مبتدع انتهى كل شيء، ولهذا كان إذا قال أحمـد: فلان مبتدع سلَّم الناس له كلهم وركضوا وراءه، وإذا قال ابن معـين: هذا مبتدع ما أحد ينازعه، هم اشترطوا الإجماع؟!، هذا مستحيل في كل الأحكام الشرعية.
إذا جاء شاهدان على فلان أنه قتل، لماذا لا نشترط إجماع الأمة على أنه قتل؟! يعني شهادة اثنين عند القاضي الشرعي على فلان أنه قتل فلاناً، يجب على الحاكم أن يحكم بشرع الله؛ إما الدية وإما القصاص، يجب عليه تنفيذ شرع الله عز وجل، هل يشترط إجماع في مثل هذه القضية؟! وهي أخطر من تبديع المبتدع.
هؤلاء هم المميِّعون وأهل الباطل ودعاة الشر وأهل الصيد في الماء العكر - كما يقال - فلا تسمعوا لهذه الترهات.
فإذا جرح عالم بصير شخصاً - بارك الله فيكم - يجب قبول هذا الجرح، فإذا عارضه عالم عدل متقِن، فحينئذ يدرس ما قاله الطرفان وينظر في هذا الجرح وهذا التعـديل، فإن كان الجرح مفسَّراً مبيَّناً: قُدِّم على التعديل ولو كثر عدد المعدلين.
إذا جاء عالم بجرح مفسَّر، وخالفه عشرون، خمسون عالماً، ما عندهم أدلة، ما عندهم إلا حسن الظن والأخذ بالظاه، وعنده الأدلة على جرح هذا الرجل: فإنه يُقدَّم الجرح؛ لأنَّ الجارح معه حجة، والحجة هي المقدَّمة، وأحياناً تقدم الحجة ولو خالفها ملء أهل الأرض، ملء الأرض خالفه والحجة معه فالحق معه، الجماعة من كان على الحق ولو كان وحده، لو كان إنسان على السنة وخالفه أهل مدينتين ثلاث مبتدعة، الحق معه، ويقدم ما عنده من الحجة والحق على ما عند الآخرين من الأباطيل.
فيجب أن نحترم الحق، وأن نحترم الحجة والبرهان "قـل هاتـوا برهانكم إن كنتم صادقين" "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله"، فالكثرة لا قيمة لها إذا كانت خاليةً من الحجة، فلو كان اجتمع أهل الأرض- إلا عدد قليل - على باطل، وليس معهم حجة فلا قيمة لهم ولا قيمة لمواقفهم، ولو كان الذي يقابلهم شخصاً واحد أو عدداً قليلاً، فالله الله في معرفة الحق والتمسك به وقبول الحق إذا كان يرافقه الحجة)).
وسُئل الشيخ محمد بن هادي حفظه الله كما في شريط [كلمات فيما يجري على الساحة السلفية]: هل يُشترط في التبديع الإجماع؟ وماذا تقول فيمن يقول: إنَّ علياً الحلبي اختلف العلماء فيه ما بين جرح وتعديل؟
فكان جوابه: ((أقول: اشتراط الإجماع في التبديع غير صحيح؛ إذا تكلَّم العالم العارف، وقف على ما يوجب التبديع، توافرت الشروط، قال بذلك وأدلى بالحجة وجب اتباعه، ولا ينبغي أن يُعارض - لا يجوز أن يُعارض - هذا الحكم بكون فلان ما بَدَّع، قد يكون فلان ما بلغه العلم في هذا؛ وقد يكون سمِع لكن ما عنده تصور عن هذه المسألة التي حدثت في هذا الشخص بعينه، فهذا لا يُعترض به على قول من أدلى بالحجة موَضّحة مُبَيّنة.
وهذا الكلام إذا قُلتَ به وقعتَ فيما هو خطير؛ وهو أنَّ كثيراً من أهل الأهواء تجد لهم أتباعاً الآن يُدافعون عنهم، وبدعهم ظاهرة معلومة من الدين ضرورةً؛ فهل تقول بعدم تبديعهم؟! هذا غير صحيح)).
وكثيراً ما نسمع أهل التمييع يقولون: لماذا لا يتكلَّم العالم فلان في فلان؟ لذا أنا أسكتُ عنه كما سكتَ عنه!.
من أجل ذلك نصح الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله العلماء نصيحة مهمة في خاتمة كتابه "الحد الفاصل بين الحق والباطل" فقال:
((ويجب أن يعلم علماؤنا الأفاضل أنَّ لأهل الأهواء والتحزب أساليب رهيبة لاحتواء الشباب والتسلط والسيطرة على عقولهم ولإحباط جهود المناضلين في الساحة عن المنهج السلفي وأهله.
من تلكم الأساليب الماكرة :
استغلال سكوت بعض العلماء عن فلان وفلان ولو كان من أضل الناس، فلو قدَّم الناقدون أقوى الحجج على بدعه وضلاله فيكفي عند هؤلاء المغالطين لهدم جهود المناضلين الناصحين التساؤل أمام الجهلة: فما بال فلان وفلان من العلماء سكتوا عن فلان وفلان؟! ولو كان فلان على ضلال لما سكتوا عن ضلاله!، وهكذا يلبسون على الدهماء؛ بل وكثير من المثقفين.
وغالب الناس لا يعرفون قواعد الشريعة ولا أصولها التي منها: أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين .
ومن أساليبهم: انتزاع التزكيات من بعض العلماء لأناس تُدِينهم مؤلفاتهم ومواقفهم ونشاطهم بالبعد عن المنهج السلفي ومنابذة أهله وموالات خصومه وأمور أخرى.
ومعظم الناس لا يعرفون قواعد الجرح والتعديل، وأنَّ الجرح المفصَّل مقدم على التعديل، لأنَّ المعدِّل يبني على الظاهر وعلى حسن الظن، والجارح يبني على العلم والواقع، كما هو معلوم عند أئمة الجرح والتعديل .
وبهذين الأسلوبين وغيرهما : يحبطون جهود الناصحين ونضال المناضلين بكل سهولة ويحتوون دهماء الناس بل كثير من المثقفين، ويجعلون منهم جنوداً لمحاربة المنهج السلفي وأهله والذب عن أئمة البدع والضلال .
و ما أشد ما يعاني السلفيون من هاتين الثغرتين التي يجب على العلماء سدهما بقوة وحسم لما ترتب عليها من المضار والأخطار)).

وأما ما ذكره أبو عبد الحق الكردي في جوابه الجديد في الفيس بوك:
فقد قال في أوله: ((لم أقل ولن أقول باشتراط الإجماع في التبديع، وإنما أشترطُ الدليل والتفسير للتجريح عند وجود معارض معدِّل من العلماء السلفيين... فهذا صريح قولي، وهو مقدَّم على ما توهَّمه الناقد، ومعلوم أنَّ نسبة القول لقائل بمجرد اللازم نسبة ظنية فلا يُقطع بها، فكيف إذا قابل هذا الظن تصريح بخلافه؟!)).
يا أبا عبد الحق أنت قلتَ: ((أما مَنْ اختلف أهل العلم من السلفيين في تبديعه؛ وكان تبديعه موضع اجتهاد وأخذ ورد: فلا يُبدَّع مَنْ لم يبدِّعه)).
وهذا يعني أنَّ من أجمع العلماء على تبديعه: يُبدَّع من لا يُبدِّعه، ومن اختلف العلماء في تبديعه: فلا يُبدَّع من لا يُبدِّعه، فالقضية متعلقة بالإجماع والاختلاف.
ثم ذكرتَ بعد ذلك: ((فلا يُبدَّع مَنْ لم يُبدِّعه، بل يُبين أمر المبتدع له ويُعلَّم بحاله، وتُذكر له أسباب تجريحه وتفسَّر إنْ دعت الحاجة لذلك، فهذا كان قولي)).
أين تبديعه - في كلامك هذا - إن لم يقبل الجرح المفسَّر؟!
لا يوجد، إذاً كيف تزعم أنك لم تشترط الإجماع في التبديع وإنما اشترطت تفسير الجرح؟!
كفاك تلبيساً وكذباً.
وهل تسمي هذا تصريحاً؟!
هذا تلاعب وتلبيس لا ينخدع به إلا مغفَّل يُقلِّدك أو صاحب هوى مثلك.
وأما قوله في جوابه المنشور: ((نعم إنَّ هذا الجزء من كلامي الذي هو "عدم إلزام الناس بتبديع كل من يبدعهم الشيخ ربيع أو غيره تبديعاً منفرداً" قد يُفهم منه: أنني لا أرى الإلزام بدون إجماع، ولكن هذا ما لم أقصده وما لا أعتقده، وبما أنَّ كلامي هذا يُوهم معنى غير صحيح فأنا أتراجع عن هذه العبارة كي لا يُفهم خطأ ولا يُنسب إليَّ ما لا أعتقده)).
فهذا اعتراف من أبي عبد الحق أنَّ كلامه هذا يوهم معنى فاسداً، فكيف يعيب فهم الناقد في كلامه السابق؟!
وكلامه المنتقد - هذا والذي قبله - لا يوهم معنى فاسداً فحسب، بل هو كلام ظاهر البطلان في منطوقه وليس في مفهومه، فهو لا يرى الإلزام في التبديع في المختلف فيهم ولا يراه أيضاً إذا انفرد به عالم واحد، وهذه قواعد باطلة تتضمن إبطال الإلزام بالجرح إلا المجمع عليه، وهذه أصول ينظِّر لها أبو عبد الحق في كتاباته ويطبقها في مواقفه العملية، فليعلم هذا.

وأما ما ذكره أبو عبد الحق في جوابه المنشور من كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وكلام الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله ثم علَّق بعدهما: ((فما هو حكم الشيخين ابن عثيمين والعباد بسبب معتقدهم هذا عند رائد وأمثاله؟ هل يحذرون منهم كما حذَّروا من عبد اللطيف؟! أم يكيلون بمكيالين؟)).
أقول:
هذه طريقة المميعة في هذا الزمان، كلما ردَّ السلفيون أخطاءهم وبينوا مخالفاتهم بالحجة والبرهان؛ قالوا: فلان قال بمثل قولنا!، أو فلان فعل مثل فعلنا!، فلماذا لا تتعاملون معهم كما تتعاملون معنا؟ أم هو الكيل بمكيالين؟
هذا المتفلسف المميع مختار الطيباوي في مقاله [الاعتراض الرفيع على الشيخ ربيع في مسألة التبديع بدون إقامة الحجة] يقول: ((فكثير من المسائل المنتقدة على الشيوخ المجروحين - زوراً وظلماً - قال بها كبار أئمة السنة!، ولم تكن في زمانهم خاضعة للولاء والبراء، وبالتالي القدح في مَنْ وافقهم على أقوالهم هو قدح في إمامتهم)).
وأبو عبد الحق سلك هذا المسلك في منهجه الجديد.
والجواب عن هذا من وجوه:
أولاً: هذه طريقة المقلِّدة الذين يحتجون بآراء الرجال وأقاويلهم ويتتبعون رخص العلماء وزلاتهم لأنها توافق أهواءهم ولنصرة أخطائهم وترويج باطلهم ورد الحق ودفعه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في [الفتاوى الكبرى 6/ 92]: ((إنَّ الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لا يجوز أن يتبع فيها، مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين.
واعتبر ذلك بمناظرة الإمام عبد الله بن المبارك قال: "كنا بالكوفة فناظروني في ذلك يعني "النبيذ المختلف فيه" فقلتُ لهم: تعالوا فليحتج المحتج منكم عمَّنْ يشاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة، فإنْ لم يتبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه، فاحتجوا، فما جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بشدة.
فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبدالله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه، إنما يصح عنه أنه لم ينبذ له في الجَرِّ إلا حَذِرًا.
قال ابن المبارك: فقلتُ للمحتج عنه في الرخصة؛ يا أحمق عد إنَّ ابن مسعود لو كان ها هنا جالسًا فقال: هو لك حلال، وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة، كان ينبغي لك أن تحذر أو تجر أو تخشى؟
فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن؛ فالنخعي والشعبي وسمَّى عدة معهما كانوا يشربون الحرام؟!
فقلتُ لهم: عدوا عند الاحتجاج تسمية الرجال!؛ فرُبَّ رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها؟!
فإنْ أبيتم، فما قولكم في عطاء وطاووس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟
قالوا: كانوا خياراً.
قلتُ: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يداً بيد؟
فقالوا: حرام.
فقال ابن المبارك: إنَّ هؤلاء رأوه حلالاً؛ فماتوا وهم يأكلون الحرام؟!!
فبقوا وانقطعت حجتهم!
قال ابن المبارك: ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال: رآني أبي وأنا أنشد الشعر، فقال لي: يا بني لا تنشد الشعر، فقلتُ له: يا أبتِ كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد!، فقال لي: اي بني إنْ أخذت بِشَر ما في الحسن وبِشَر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشرُّ كله".
وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء، فإنه ما من أحد من أعيان الأمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا لهم أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة، وهذا باب واسع لا يحصى، مع أنَّ ذلك لا يغض من أقدارهم، ولا يسوغ إتباعهم فيها، كما قال سبحانه: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، قال ابن مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم: "ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال سليمان التيمي: "إنْ أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله"، قال ابن عبد البر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله ... )) [وذكر شيخ الإسلام رحمه الله جملة من الآثار] ثم قال:
((وهذه آثار مشهورة رواها ابن عبد البر وغيره، فإذا كنا قد حُذِّرنا من "زلة العالم"!، وقيل لنا: أنها أخوف ما يخاف علينا، وأمرنا مع ذلك أنْ لا يرجع عنه، فالواجب على مَنْ شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلَّد بها!، بل يسكت عن ذكرها إلى أن يتيقن صحتها، وإلا توقف في قبولها، فما أكثر ما يُحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له، وكثير من المسائل يخرجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعة مع أنَّ ذلك الإمام لو رأى أنها تفضي إلى ذلك لما التزمها، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، ومَنْ علم فقه الأئمة وورعهم علم أنهم لو رأوا هذه الحيل وما أفضت إليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريم ما لم يقطعوا به أولاً)).
وقال رحمه الله في [المجموع 10\ 383- 385] ((فإنَّ كل أحد من الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من الأئمة إلا مَنْ له أقوال وأفعال لا يتبع عليها مع أنه لا يذم عليها))، إلى أن قال: ((فهؤلاء ونحوهم ممن يخالف الشريعة ويبين له الحق فيعرض عنه يجب الإنكار عليهم بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب، وكذلك أيضاً يُنكر على من اتَّبع الأولين المعذورين في أقوالهم وأفعالهم المخالفة للشرع؛ فإنَّ العذر الذي قام بهم منتف في حقه فلا وجه لمتابعته فيه)).
وقال رحمه الله تعالى كما في [المجموع 6/ 71]: ((إذا رأيتَ المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتُفرت لعدم بلوغ الحجة له، فلا يُغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول؛ فلهذا يُبدَّع مَنْ بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك، ولا تبدَّع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأنَّ الموتى يسمعون في قبورهم؛ فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع)).
وقال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله في مقاله [دعاة التغريب ومصطلحهم "التعددية" و"الأحادية" لانتقاء ما يوافق أهواءهم]: ((وأعود إلى الكلام مع المؤيدين لما سموه بـ "التعددية" المنكرين لما سموه بـ"الأحادية" الذين لا يعتبرون المعروف إلا ما أُجمع على أنه معروف، ولا المنكر إلا ما أُجمع على أنه منكر، مع أنَّ تتبع رخص العلماء وانتقاء ما يوافق الأهواء والشهوات منها مما أُجمع على أنه منكر، فقد روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 91) عن سليمان التيمي أنه قال: "إذا أخذتَ برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله"، ثم قال ابن عبد البر: "هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا")).
وقال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله في كتابه [منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف ص61]: ((لقد ذهبتم تفتِّشون في تراث السلف لعلكم تجدون فيه من كلامهم ومواقفهم ما توقفون به السلفيين الظالمين في نظركم عند حدهم!؛ فلم تجدوا من كلام ولا مواقف أحد منهم!، من الصحابة، من القرن الأول للتاريخ الإسلامي إلى القرن الثامن، لم تجدوا شيئاً إلا نتفاً من كلام ابن تيمية الذي كانت حياته كلها جهاداً ونضالاً وهجوماً على أهل البدع؛ فإذا أدرك أنه قد دمَّر معاقلهم، وثلَّ عروشهم أدركته رقة تشبه رقة أبي بكر على أسرى قريش يوم بدر؛ فيقول كلمات في قوم قد يكونون قريبين إلى السنة ولهم مع ذلك جهاد يدافعون فيه عن السنة وعن وأهلها؛ فتأخذون تلك النتف وتسمونها: "منهج أهل السنة والجماعة"!، وتشنون بها الغارة على البقية من المجتهدين من أهل السنة الذين تكالبت عليهم فرق الضلال والبدع؛ إنَّ هذه النتف التي تجدونها في كلام ابن تيمية لا يجوز أن نسميها منهج ابن تيمية!، فضلاً عن أن نسميها منهج أهل السنة والجماعة)).
وأبو عبد الحق في هذه الأيام نشر كتاباً بعنوان [منهج علماء أهل السنة المعاصرين في تقرير العمل بمنهج السلف لمعالجة العوائق] جمع فيه نتفاً من كلام العلماء المعاصرين الذي كان في معالجة [الخلاف الدائر بين أهل السنة أصحاب المنهج الواحد] ثم قام أبو عبد الحق بتنزيله على [الخلاف الدائر بين أهل السنة ومخالفيهم من أهل الأهواء والبدع والمبطلين الزائغين]!، وكذلك نقل كلام العلماء في معالجة [الخلاف الدائر في المسائل الاجتهادية] وقام بتنزيله على [الخلاف الدائر في المسائل المنهجية]!، أو ينقل في كتابه هذا كلام العالم القديم في أشخاص وطوائف وخلافات [لم يتبيَّن له الأمر] في ذلك الوقت ويترك كلام هذا العالم بعد أن [تبيَّن له الأمر]!، أو ينقل كلام هذا العالم في [وقت فتنة الحدادية] وما يناسبها من ذم الشدة والغلظة ويعرض عن كلامه في [وقت فتنة المميعة] وما يناسبها من ذم التمييع والتضييع!، وهذه من أساليب أهل المكر والتلبيس يخدعون بها الناس الذي لا يتابعون الأمور ولا يعرفون مواضع كلام العلماء الذي يحتج فيه الآن أبو عبد الحق، ولعلي أتفرغ إلى كتابه هذا قريباً للردِّ عليه بعون الله وتوفيقه.
ثانياً: من عادة أهل الباطل أنهم يتسترون خلف عالم من علماء الأمة فيفرحون بكلامه الذي يوافق أهواءهم من جهة الإجمال وإن كانوا على خلاف طريقته!، فيحتجون بكلامه ويرفعونه في وجه أهل السنة من باب مدافعة الحق وضرب أهل السنة بعضهم ببعض.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يبين طريقة أهل التأويل في تزيين باطلهم كما في [الصواعق المرسلة 2/ 441 - 443]: ((السبب الثالث: أن يعزو المتأول تأويله وبدعته إلى جليل القدر نبيل الذكر من العقلاء أو من آل البيت النبوي أو مَنْ حصل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق ليحليه بذلك في قلوب الأغمار والجهال!، فإنَّ من شأن الناس تعظيم كلام مَنْ يعظم قدره في نفوسهم، وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه، وكلما كان ذلك القائل أعظم في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتم، حتى إنهم ليقدمونه على كلام الله ورسوله، ويقولون هو أعلم بالله ورسوله منا.
وبهذه الطريق توصل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم حتى أضافوها إلى أهل بيت رسول الله لما علموا أنَّ المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم، فانتموا إليهم وأظهروا من محبتهم وموالاتهم واللهج بذكرهم وذكر مناقبهم ما خيل إلى السامع أنهم أولياؤهم وأولى الناس بهم، ثم نفقوا باطلهم وإفكهم بنسبته إليهم.
فلا إله إلا الله كم من زندقة وإلحاد وبدعة وضلالة قد نفقت في الوجود بنسبتها إليهم وهم براء منها براءة الأنبياء من التجهم والتعطيل وبراءة المسيح من عبادة الصليب والتثليث وبراءة رسول الله من البدع والضلالات؟!.
وإذا تأملتَ هذا السبب رأيته هو الغالب على أكثر النفوس!!، وليس معهم سوى إحسان الظن بالقائل بلا برهان من الله ولا حجة قادتهم إلى ذلك، وهذا ميراث بالتعصيب من الذين عارضوا دين الرسل بما كان عليه الآباء والأسلاف، فإنهم لحسن ظنهم بهم وتعظيمهم لهم آثروا ما كانوا عليه على ما جاءتهم به الرسل، وكانوا أعظم في صدورهم من أن يخالفوهم، ويشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وإنهم كانوا على الباطل، وهذا شأن كل مقلِّد لمن يعظمه فيما خالف فيه الحق إلى يوم القيامة)).
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى كما في [أدب الطلب ومنتهى الأدب ص64]: ((وقد جرت قاعدة أهل البدع في سابق الدهر ولاحقه بأنهم يفرحون بصدور الكلمة الواحدة عن عالم من العلماء، ويبالغون في إشهارها وإذاعتها فيما بينهم، ويجعلونها حجة لبدعتهم!، ويضربون بها وجه من أنكر عليهم!؛ كما تجده في كتب الروافض من الروايات لكلمات وقعت من علماء الإسلام فيما يتعلق بما شجر بين الصحابة، وفي المناقب والمثالب، فإنهم يطيرون عند ذلك فرحاً ويجعلونه من أعظم الذخائر والغنائم)).
وقال الشيخ ربيع حفظه الله في [شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث ص179 - 180]: ((أهل البدع لا يسكتون عن أهل السنة، بل يطعنون فيهم كما هو حال الخوارج الجدد الحدادية!، بل هم الآن من أشدِّ الناس طعناً في أهل السنة، ومن أشدِّهم حرباً على أهل السنة؛ حيث إنَّ علماء مكة وعلماء المدينة وعلماء اليمن وعلماء العالم الإسلامي كلهم - الآن - عندهم مرجئة مبتدعة!، ولا يعترفون إلا بشخص واحد - تقريباً - وهو الشيخ صالح الفوزان فقط!، ليندسوا من ورائه!، وليطعنوا في أهل السنة جميعاً!.
وهم والله بدؤوا بالشيخ الفوزان - وربِّ السماء - وأدينُ اللهَ بأنهم يبغضونه ويحتقرونه!. فعلماء السنة كلهم - الآن - عند هؤلاء المبتدعة مرجئة!.
ومَنْ يكونون هم؟!
ما ندري؛ لهم ثلاثة رؤوس أو أربعة بارزين فقط!.
وهم من أضلِّ خلق الله!، وأكثرهم خيانة وفجوراً!، فكيف بالمخفيين؟!
المخفيون يمكن فيهم باطنية وروافض!، والله أعلم، فما أبقوا لأهل السنة شيئاً، هذا حالهم الآن حرب أهل السنة!)).
وإذا كان الحدادية يتسترون الآن خلف الشيخ صالح الفوزان حفظه الله، فالمميعة يتسترون الآن خلف الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله، والشيخان بريئان من هذين المنهجين، ولكنَّ هؤلاء المبطلين يخادعون الشباب السلفي بهذا التستر، فلا تغترَّ أيها السلفي بهذا.
ثالثاً: من المعلوم عند الجميع أنَّ كلام أهل العلم يحتج له لا يحتج به؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في [المجموع 26/ 202 - 203]: ((وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة: النص، والإجماع، ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية؛ لا بأقوال بعض العلماء؛ فإنَّ أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية لا يحتج بها على الأدلة الشرعية.
ومَنْ تربَّى على مذهب قد تعوَّده واعتقد ما فيه - وهو لا يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء - لا يُفرِّق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول بحيث يجب الإيمان به، وبين ما قاله بعض العلماء ويتعسَّر أو يتعذَّر إقامة الحجة عليه!، ومَنْ كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن أن يتكلم في العلم بكلام العلماء، وإنما هو من المقلِّدة الناقلين لأقوال غيرهم!)).
فعلى فرض أنَّ هذا العالم قال قولاً يوافق ما يقوله فلان من أهل التمييع، فالحجة في الدليل والبرهان لا في قول فلان وفلان، وهذا من أبجديات ما يتعلَّمه السلفي في أول معرفته بالمنهج السلفي المنزَّه من التعصب للأشخاص والتقليد المذموم، لكنَّ لفيف التمييع أصبحوا يتغافلون عن هذه الأبجديات والأساسيات.
وأما قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لا يلزم تبديع من عدَّل المجروح، فهذا حق لا يلزم ذلك على وجه الإطلاق، فقد لا يعلم المعدِّل حال المجروح أو تخفى عليه مخالفاته المنهجية أو يظن أنها زلة لسان أو من غير قصد فيحسن الظنَّ به أو يخشى من تبديعه ضرراً كبيراً أو فتنة عظيمة فهذا لا يلحق بالمجروح، وقد يكون المجروح جُرِحَ بما لا يجرح فكيف يُجرَّح معدِّلُه؟!، وأما من يعرف مخالفاته المنهجية ويعرف إصراره على الباطل ولا يخشى ضرراً ولا فتنة أكبر من تبديعه ومع هذا لا يبدِّعه فهذا يُلحق به ولا كرامة.
وقد ذكرتُ في مقالي [تحذير الخلق من المذبذب بين أهل الباطل وأهل الحق] نصوصاً وآثاراً كثيرة عن أئمة السلف ومشايخ العصر في إلحاق من لا يُبدِّع المبتدع به بعد التعريف بحاله وبيان مخالفاته، وذكرتُ بعضاً منها في المؤاخذة الثامنة.
ويكفي منها:
ما ذكره ابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة": قال عثمان بن إسماعيل السكري سمعتُ أبا داود السجستاني يقول: قلتُ لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلاً من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة، أترك كلامه؟ قال: "لا، أو تُعلِمه أنَّ الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة؛ فإنْ ترك كلامه فكلِّمه، وإلا فألحقه به، قال ابن مسعود رضي الله عنه: المرء بخدنه".
قال الشيخ التويجري رحمه الله في كتابه [القول البليغ ص230]: ((وهذه الرواية عن الإمام أحمد ينبغي تطبيقها على الذين يمدحون التبليغيين، ويجادلون عنهم بالباطل:
- فمن كان منهم عالماً بأنَّ التبليغيين من أهل البدع والضلالات والجهالات، وهو مع هذا يمدحهم، ويجادل عنهم: فإنه يلحق بهم، ويعامل بما يعاملون به؛ من البغض والهجر والتجنُّب.
- ومن كان جاهلاً بهم: فإنه ينبغي إعلامه بأنهم من أهل البدع والضلالات والجهالات، فإنْ لم يترك مدحهم والمجادلة عنهم بعد العلم بهم فإنه يُلحق بهم، ويُعامل بما يُعاملون به)).
وقد سُئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله [صوتية منشورة في الشبكة]: فضيلة الشيخ وفقكم الله؛ الذي لا يُبدِّع المبتدعَ الذي بدَّعه العلماء وبدَّعوا منهجه وحذَّروا منه، الذي لا يُبدِّعه هل يُلحق به؟
فكان جوابه: ((نعم، الذي لا يُبدِّعه يُلحق به، أي أنه ما يرى أنه على بدعة وأنَّ عمله ليس بدعة، وأنَّ الناس مخطئون في الحكم عليه بالبدعة)).
وفي تسجيل صوتي سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: يا شيخ ما قولك في الشيخ عدنان عرعور؟
قال الشيخ ابن عثيمين: "تكلَّم فيه الناس، وأنا يعني لا أعلمُ عنه، لكن تكلَّم فيه بعضُ الناس".
السائل: نعم؛ تكلَّم فيه الشيخ الفوزان، والشيخ الغديان، والشيخ عبد المحسن العبَّاد وغيرُهم، هل يا شيخ تنصح به أم لا؟
الشيخ ابن عثيمين: "هؤلاء العُلماء الثلاثة عندنا ثقات".
السائل مقاطعاً: وحتى الشيخ ربيع تكلَّم فيه.
فواصل الشيخ ابن عثيمين كلامه: "أقول: هؤلاء الثلاثة عندنا ثقات".
السائل: هل لا نسمعُ له يا شيخ؟ نصحونا بعدم السماع لأشرطته.
فقال الشيخ ابن عثيمين: "لو نَصَحنِي هؤلاء لأخذتُ بنصيحتِهم".
فهذا الشيخ ابن عثيمين نفسه رحمه الله يقول: لو نصحني هؤلاء العلماء بترك فلان والتحذير منه لأخذتُ بنصحهم، فإذاً عدم الإلزام الذي ذكره ابن عثيمين فيما سبق عنه ليس على وجه الإطلاق كما صوَّره أبو عبد الحق، وكذلك صوَّره من قبله أهل التمييع الذين احتجُّوا بما احتجَّ به أبو عبد الحق، فأبو عبد الحق لحق بلفيف التمييع متأخراً في الاستدلال والتأصيل، فهو ذنب من أذنابهم.
وأما كلام الشيخ عبد المحسن العبَّاد حفظه الله الذي احتجَّ به أبو عبد الحق في جوابه المنشور؛ هذا الكلام يوجَّه إلى غلاة الحدادية أتباع فالح الحربي الذين بدَّعوا العلماء لأنهم لم يُوافقوهم على هذا التبديع والتجريح المنفلت، وأما علماؤنا كالشيخ ربيع والشيخ عبيد والشيخ محمد بن هادي وغيرهم حفظهم الله فقد بدَّعوا من يستحق التبديع بالبراهين الساطعة والأدلة القاطعة على تأصيلاتهم الباطلة ومخالفاتهم العقدية والمنهجية بعد أن أقاموا عليهم الحجج والبينات من كتاباتهم وصوتياتهم بما لا يمكن دفعه أو تجاهله، فالحجة مع مشايخنا لا مع الشيخ العبَّاد، ومن علم حجة على من لم يعلم.
وقد سُئل الشيخ سليمان الرحيلي حفظه الله [صوتية منشورة في الشبكة]: في مسألة أنَّ بعض العلماء حكم على الأصل، وبعضهم حكم على علمٍ نقل عن الأصل؟ فقاطع الشيخ سليمان السائل قائلاً: ((يعني بكل وضوح شيخنا الشيخ عبد المحسن العباد في حكمه على الرجال مبني على الأصل، الشيخ لا يقرأ، الشيخ لا يقرأ، وإذا أُوتي بشيء أحرقه، فهو يبني في كلامه وثنائه على بعض الأشخاص على الأصل، على المعلوم، فالشيخ جزاه الله خيراً معذور وكذا.
لكن هنا لا نقول الشيخ عبد المحسن قال، وفلان قال، لأنَّ الشيخ عبد المحسن على ما عرفنا من طريقته من سنين يبني على الأصل في العلم، لكنَّ العلماء الذين يتكلَّمون بهذا يتكلَّمون في أمور جديدة ونواقل وأشياء وكلام وعبارات.
يعني هذا السليماني الذي يُسمَّى بأبي الحسن المأربي راح، في أول الأمر كنتُ أقول للناس: لا تتكلموا، لأنَّ كلامه المعروف وطيب وكذا وكذا، ولا أحد يتكلَّم فيه، ودعوا هذا للعلماء يعالجون بعض القضايا، لما بدأ يتكلَّم ويؤصِّل أصول المبتدعة سلك طريق أهل البدع وصار منهم.
فالعالم اذا كان يبني حكمه على الأصل: فنحن نقدِّر العالم وله مكانته وكذا لكن نقول الناقل عن الأصل بعلم مقدَّم على المبقيي على الأصل)).
وأما قول أبي عبد الحق في خاتمة جوابه المنشور في الفيس بوك: ((وكذلك قد بدَّع محمد بن يحيى الذهلي الإمام البخاري بجرح مفسَّر؛ ومع هذا لم يلتزم العلماء بتبديعه إلى يومنا، لأنهم قالوا: هذا الجرح غير ثابت، وخبر هذا الثقة "الذهلي" هنا غير مقبول، فهل هم انحرفوا عن المنهج السلفي؟!)).
هذا كلام رجل يهرف بما لا يعرف!
والجواب عنه من وجهين:
الأول/ أنَّ الأئمة كانوا يُبدِّعون من قال: "لفظي بالقرآن مخلوق"، وهذا جرح مفسَّر يجب قبوله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في[المجموع 12/238]: ((الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ تَبْدِيعُ مَنْ قَالَ: "لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ"، كَمَا جَهَّمُوا مَنْ قَالَ "اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ". وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ أَخَصُّ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِهِ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً كَبِيرَةً مَبْسُوطَةً، وَنَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَبْوَابِ الِاعْتِقَادِ.
وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إذْ ذَاكَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ: بِأَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مُعَارَضَةً لِمَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَاراً شَدِيداً وَبَدَّعَ مَنْ قَالَه، وَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَداً مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ)).
الثاني/ أنَّ الإمام البخاري رحمه الله لم يقل "لفظي بالقرآن مخلوق"، بل هذه فرية افتراها عليه من لم يفقه مذهبه وكلامه أو من أراد إفساد الأمر بينه وبين أصحابه ومنهم الإمام محمد بن يحيى الذهلي رحمه الله؛ الذي روى عنه الإمام البخاري في صحيحه أحاديث كثيرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في [المجموع 12/364-366]: ((وكذلك أيضاً افترى بعض الناس على البخاري الإمام - صاحب الصحيح - أنه كان يقول: "لفظي بالقرآن مخلوق"، وجعلوه من اللفظية، حتى وقع بينه وبين أصحابه مثل محمد بن يحيى الذهلي وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم [فتنة] بسبب ذلك، وكان في القضية أهواء وظنون)).
وعقد الخطيب البغدادي رحمه الله في «تاريخ بغداد» (2/29-32) فصلاً بعنوان [ذكر قصة البخاري مع محمد بن يحيى الذهلي بنيسابور]، قال فيه: ((قال محمد بن يحيى: ألا مَن يختلف إلى مجلسه لا يختلف إلينا، فإنهم كتبوا إلينا من بغداد: أنه تكلَّم في اللفظ ونهيناه فلم ينته، فلا تقربوه ومن يقربه فلا يقربنا)).
ونقل عن الذهلي أيضاً قوله: ((ومن زعم أنَّ لفظي بالقرآن مخلوق فهذا مبتدع لا يجالس ولا يكلَّم، ومن ذهب بعد مجلسنا هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه)).
وقال الخطيب البغدادي أيضاً: ((أَخبرني الحسن بن محمد الأشقر قال: أنبأنا محمد بن أبي بكر قال: نا أَبو صالح خلف بن محمد بن إِسماعيل قال: سمعت أبا عمر وأحمد بن نصر بن إبراهيم النيسابوري المعروف بالخفاف ببخارى يقول: كنا يوماً عند محمد بن إسحاق القيسي ومعنا محمد بن نصر المروزي، فجرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري، فقال محمد ابن نصر: سمعته يقول - يقصد البخاري - : «من زعم أني قلتُ لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذَّاب، فإني لم أقله»، فقلتُ له: يا أبا عبد الله - يقصد ابن نصر -؛ قد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه؟! فقال: « ليس إلا ما أقول وأحكي لك عنه».
قال أبو عمرو الخفاف: فأتيتُ محمد بن إسماعيل، فناظرته في شيء من الأحاديث حتى طابت نفسه، فقلتُ: يا أبا عبد الله، ها هنا أحدٌ يحكى عنك أنك قلتَ هذه المقالة؟ فقال -أي البخاري - : «يا أبا عمرو؛ احفظ ما أقولُ لك: من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والمدينة ومكة والبصرة أني قلتُ "لفظي بالقرآن مخلوق" فهو كذَّاب، فإني لم أقل هذه، إلا أني قلتُ: "أفعال العباد مخلوقة")).
وقال في أول الفصل: ((أَخْبَرَنَا أحمد بن محمد بن غالب، قَالَ: أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، قَالَ: أخبرنا عبد الله بن محمد بن سيار، قَالَ: حَدَّثَنِي محمد بن خشنام، وسمعته يقول: سئل محمد بن إسماعيل بنيسابور عن اللفظ؟ فقال: "حَدَّثَنِي عبيد الله بن سعيد، يعني أبا قدامة، عن يحيى بن سعيد، قَالَ: أعمال العباد كلها مخلوقة.
فمرقوا عليه، قَالَ: فقالوا له بعد ذلك: ترجع عن هذا القول حتى يعودوا إليك؟! قَالَ: "لا أفعل إلا أن تجيئوا بحجة فيما تقولون أقوى من حجتي"، وأعجبني من محمد بن إسماعيل ثباته)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (12/572):: ((وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَرَضِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَالَ عَنِّي أَنِّي قُلْتُ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَذَبَ"، وَتَرَاجِمُهُ فِي آخِرِ صَحِيحِهِ تُبَيِّنُ ذَلِكَ)).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «الفتح» (13/535): ((قُلْتُ: قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ فَقَالَ: "كُلُّ مَنْ نَقَلَ عَنِّي أَنِّي قُلْتُ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيَّ، وَإِنَّمَا قُلْتُ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ"، أَخْرَجَ ذَلِكَ غُنْجَارٌ فِي تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ من تَارِيخ بخارا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ سَمِعَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُمَرَ وَأَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ الْخَفَّافِ أَنَّهُ سَمِعَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ)).
فإذاً العلة دخلت على الإمام الذهلي رحمه الله ممن كتب إليه أنَّ الإمام البخاري رحمه الله كان يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، وهذا خبر مكذوب.
وثمة سبب آخر لعله قوَّى الظنَّ في نفس خصوم البخاري؛ وهو أنَّ الإمام البخاري رحمه الله أنكر ثبوت لفظة "من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي" عن الإمام أحمد رحمه الله، وأثبت عنه رواية: "من قال: القرآن بألفاظنا مخلوق فهو جهمي"، فلعلَّ خصومه ظنوا أنَّ هذا الإنكار دافعه الإقرار بهذه اللفظة، وليس كذلك كما تقدَّم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في [المجموع 12/364-366] وهو ينقل مذهب البخاري: ((وذكر أنَّ كلَّ واحدة من طائفتي "اللفظية المثبتة والنافية" تنتحل أبا عبدالله، وأنَّ أحمد بن حنبل كثيرٌ مما يُنقل عنه كذب، وأنهم لم يفهموا بعض كلامه لدقته وغموضه، وأنَّ الذي قاله وقاله الإمام أحمد هو قول الأئمة والعلماء وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة. ورأيتُ بخطِّ القاضي أبي يعلى رحمه الله على ظهر "كتاب العدة" بخطه قال: نقلتُ من آخر "كتاب الرسالة" للبخاري في أنَّ القراءة غير المقروء، وقال: وقع عندي عن أحمد بن حنبل على اثنين وعشرين وجهاً؛ كلها يخالف بعضها بعضاً، والصحيح عندي أنه قال: ما سمعتُ عالماً يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، قال: وافترق أصحاب أحمد بن حنبل على نحو من خمسين، قال أبو عبدالله البخاري: قال ابن حنبل: "اللفظي" الذي يقول: القرآن بألفاظنا مخلوق)).
فإذا عرفنا هذا كله عرفنا أنَّ مقولة "لفظي بالقرآن مخلوق" لا تثبت نسبتها إلى الإمام البخاري، وهذا الذي أقرَّ به أبو عبد الحق نفسه بقوله: ((هذا الجرح غير ثابت))، فإذا كان الجرح غير ثابت، فلا يُنظر فيه بعد ذلك: هل هو جرح مفسَّر أم لا؟!، فضلاً أن يُقال: هذا جرح مفسَّر ولم يلزم أو يلتزم العلماء به!.
ثم كيف يحتج أبو عبد الحق بمحنة البخاري الذي بدَّعه الذهلي في ضرب أحكام العلماء المعاصرين الذين بدَّعوا الحلبي؟!
فهل مخالفات الحلبي المنهجية غير ثابتة عنه؟!
وهل العلماء اعتمدوا في تبديع الحلبي على ما نُقِلَ إليهم وما كُتِبَ لهم أم على كلام الحلبي في كتبه ودروسه؟!
وكذلك لما تكلَّم مشايخنا في أبي عبد الحق تكلَّموا بعد أن اطلعوا على كلامه، ورأوا المخالفات المنهجية الواضحة فيه.
فأين هذا من محنة البخاري التي يحتجُّ بها أبو عبد الحق الآن؟!
وماذا لو احتجَّ بمحنة البخاري سفر الحوالي وسلمان العودة وعائض القرني وأمثالهم أو من هو أشد منهم وأبعد؟!
ويظهر أنَّ أبا عبد الحق لما أصَّل أنَّ تبديع الرجل المختلف فيه غير ملزم، وضرب مثلاً بـ "علي الحلبي"، كما في كلامه في أول هذه المؤاخذة، دفعه هذا إلى المرحلة الثانية وهي التطبيق العملي لذلك التأصيل: فصرَّح بأنه متراجع عن تبديع الحلبي ونادم.
قال أبو عبد الحق الكردي في [مقطع مصور منشور]: ((يسألونني ماذا تقول في الحلبي؟ هل أنت تراجعتَ عن تبديعك للحلبي؟
ما هذا؟!
هذا الدين الكبير, هذه أركان الإسلام، وأركان الإيمان، ليس فيها الحلبي, هل فهمت؟!
ولو فرضنا أني قلتُ: هو مبتدع أو غير مبتدع, ما الذي يغير في الموضوع؟!
يعني الدخول في دائرة السلفية والخروج منها مرتبط بهذا السؤال؟!
لذا هذه العقلية يجب أن تُترك.
الناس يُمتحنون بأهل الفرق المبتدعة: قدري، جهمي، معتزلي، خوارج، دواعش، تكفيري، وأنت تأتي وتمتحنني بشخص؛ مِن علماء أهل السنة مَن لا يُبدِّعه!.
نعم قبل أن تأخذ النتيجة من امتحانك لي, فأنت أخذتَ النتيجة من غيري, صالح آل الشيخ لا يبدِّعه, إن كنتَ صادقاً قل هو مبتدع, عبد المحسن العباد لا يُبدِّعه, هيَّا أنزل الحكم عليه أولاً؟! وقل: سقط في الامتحان وصار مبتدعاً, لا لا هذا الميزان ليس لهم, هذا فقط لكم (يقصد نفسه), ما هذا إخوتي؟! كفى اتركوا هذه اللعبة!.
فليعلم الجميع ليس دفاعاً عن الحلبي وإنما عن المساكين الذين يُبدَّعون بسبب عدم تبديعهم للحلبي, يُبدِّعون هذه الأمة كلها, يُبدَّعون, لماذا؟ لأنهم لا يُبدِّعون الحلبي, ما هذا؟! الرجل عقيدته الإسلامية كلها كاملة ولكن من الآن فصاعداً ربما يُغير رأيه في الحلبي, فيكون مثل الشيخ عبد المحسن العباد, لماذا تأتي أنت تبُدِّعه وتهجره وتعاديه؟!
ثم يقولون: أستاذ عبد اللطيف أنت كنتَ يوماً تبدِّع الحلبي؟، بدَّعتُه والآن أنا متراجع، نادم، والحمد الله)).
وكلامه هذا اشتمل على أخطاء كثيرة، منها إنكاره مشروعية الامتحان بالشخص إذا كان موثقاً عند أحد من علماء السنة، ومنها إنكاره الإلزام بتبديع الحلبي الذي ظهرت مخالفاته بوضوح، ومنها رده أحكام العلماء في تبديع الحلبي وتبديع من يثني عليه ويدافع عنه بالباطل وينصره في طريقته، ومنها الاحتجاج بقول بعض العلماء واجتهاداتهم والإعراض عن الحجج والبينات التي أقامها علماء آخرون، ومنها انتكاسته الجديدة وتراجعه عن تبديع الحلبي بعد معرفته بأحواله وأوحاله وتأصيلاته ومخالفاته؛ وهذا يدلُّ على التقارب الكبير بينه وبين أهل التمييع قلباً وقالباً، بل يفسِّر لنا سبب سكوت أهل التمييع عنه مدة طويلة من الزمن، ولعلي أتفرغ في الرد على كلام أبي عبد الحق هذا مفصلاً بمعونة الله ومشيئته.
والله الموفِّق


كتبه/ أبو معاذ رائد آل طاهر

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.