-->

الثلاثاء، 25 أبريل 2017

المؤاخذة الثامنة على أبي عبد الحق الكردي/ عدم الإلزام بتبديع كل مَنْ يتفرد الشيخ ربيع أو غيره بتبديعهم (الحلبي نموذجاً)

قال أبو عبد الحق الكردي في رسالته [الجواب الصريح ص54]: ((نعم تمسَّكتُ بغرز الشيخ السحيمي في تبديعه لأبي الحسن، وبغرزه في عدم إلزام الناس تبديع كل مَنْ يُبدِّعهم الشيخ ربيع أو غيره تبديعاً منفرداً!، ونحن في العراق ما ألزمنا الناس بتبديع الحلبي وما هجرناهم لعدم تبديعهم له؛ وإنما هم هجرونا)).
وكلامه هذا عليه وقفات:

الأولى/ التفريق بين (قبول التبديع) و (الإلزام بالتبديع) سفسطة حلبية المراد منها تسويغ الخلاف في "مسائل التبديع" على قاعدته المعروفة [لا نجعل خلافنا في غيرنا سبباً للخلاف فيما بيننا] وعلى أصليه المشهورين [لا يقنعني] و [لا يلزمني]، لكن على طريقة اللف والدوران، فمثلاً يقول الحلبي في هامش كتابه [منهج السلف الصالح/ الطبعة الثانية ص219]: ((تنبيه آخر: قلتُ في بعض مجالسي: لا "يُلزَمُ" أحدٌ بالأخذ بقول جارح إلا ببينة "مُقنِعَةٍ" وسببٍ واضحٍ أو بإجماعٍ علميٍّ معتبر، ففهما البعض - ولا أدري كيف؟ - على أصل الجرح، وأنه لابدَّ له من إجماع!!.
وفرقٌ بين "قوله" أو "قبوله" وبين "الإلزام به" كبير كثير - كما لا يخفى-!!. فمن "قبله" - مقتنعًا به - فنعمَّا هو، ومن لم يقبله لعدم قناعته الشرعية العلمية لا يُلزم به، وإلا فكيف يُلزِمُ المختلفان في "واحدٍ" غيرهما؟!، وما دليل كل في هذا الإلزام؟!، وما موقف "الملزَم"؟!.
ثم إنَّ "الإلزام" المنفي - ها هنا- هو ما يترتب عليه تبديع وتجديع وتشنيع!، أمّا "الإلزام" بمعنى: الانتصار والتأييد وجمع الأدلة لنصرة قولٍ ما: فهذا مقبول غير مرذول، وقد قال الإمام الذهبي في [السير 11/ 82]: "وإذا اتفقوا على تعديلٍ أو تجريحٍ فتمسَّك به"، وقال شيخ الإسلام في [منهاج السنة النبوية: 3/ 98]: "والحق: أنَّ أهل السنة لم يتفقوا قط على خطأ"، والكلام كله حول "أهل السنة" وفيهم, لا المبتدعة وذويهم!، فلا تتجنَّ!!)).
يعني الحلبي يفرِّق بين (قبول الجرح من شخص إذا اقتنع) وبين (وجوب قبول الجرح على الآخرين إذا لم يقتنعوا/ الإلزام بالجرح)، كما قال في هامش كتابه: ((وهذا الكلام الجليل يُبيِّن حكم أمرين مهمين: الأول: لزوم بيان أسباب الجرح من قبل الجارح. الثاني: أنَّ هذا اللزوم ليس ذا صلة حتماً بوجوب قبول جرحه!؛ فقد لا يقتنع به فيُردُّ!))، وقال: ((وهل -ثمّة- ما هو أبينُ تفسيراً للجرح من كلمة "كذاب"؟؟!! فأين قَبوله فضلاً عن الإلزام به؟؟!!، نعم؛ هكذا سار السلف على هذا المنهج البديع لا كما زعم الشيخ ربيع!)).
وأبو عبد الحق يقول: أنه متمسك بغرز السحيمي في [تبديع] المأربي وبغرزه في [عدم الإلزام بالتبديع] المنفرد.
فلا فرق بين سفسطة علي الحلبي وسفسطة أبي عبد الحق الكردي.

الثانية/ [عدم الإلزام بالتبديع المنفرد الصادر من عارف بأسباب الجرح] تأصيل باطل؛ لأنَّ أهل العلم لم يشترطوا (العدد) في قبول الجرح والإلزام به.
قال الحافظ ابن الصلاح رحمه الله في [مقدمة ابن الصلاح ص98 - 99]: ((اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَثْبُتُ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ أَوْ لَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إِلَّا بِاثْنَيْنِ كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي الشَّهَادَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ - وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ -: أَنَّهُ يَثْبُتُ بِوَاحِدٍ، لِأَنَّ الْعَدَدَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي جَرْحِ رَاوِيهِ وَتَعْدِيلِهِ؛ بِخِلَافِ الشَّهَادَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ)).
وقال أيضاً في [المقدمة ص99]: ((إِذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ جَرْحٌ وَتَعْدِيلٌ: فَالْجَرْحُ مُقَدَّمٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَدِّلَ يُخْبِرُ عَمَّا ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ، وَالْجَارِحَ يُخْبِرُ عَنْ بَاطِنٍ خَفِيَ عَلَى الْمُعَدِّلِ، فَإِنْ كَانَ عَدَدُ الْمُعَدِّلِينَ أَكْثَرَ فَقَدْ قِيلَ التَّعْدِيلُ أَوْلَى، وَالصَّحِيحُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْجَرْحَ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ)).
وقال الحافظ السخاوي رحمه الله في [فتح المغيث 2/ 191]: ((إنْ كان المعدِّلون أكثر عدداً فهو - أي التعديل - معتبر حكاه الخطيب عن طائفة وصاحب المحصول؛ لأنَّ الكثرة يقوي الظنَّ، والعمل بأقوى الظنين واجب كما في تعارض الحديثين.
قال الخطيب: وهذا خطأ وبُعد ممن توهَّمه؛ لأنَّ المعدِّلين وإنْ كثروا ما لبثوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك وقالوا: نشهد أنَّ هذا لم يقع منه لخرجوا بذلك عن أن يكونوا أهل تعديل أو جرح؛ لأنها شهادة باطلة على نفي ما يصح ويجوز وقوعه، وإنْ لم يعلموه فثبت ما ذكرناه.
وإنَّ تقديم الجرح إنما هو لتمضية زيادة خفيت على المعدِّل، وذلك موجود مع زيادة عدد المعدِّل ونقصه ومساواته، فلو جرحه واحد وعدَّله مائة: قُدِّم الواحد لذلك)).
وسُئل الشيخ ربيع حفظه الله كما في محاضرة مفرغة بعنوان [أسئلة وأجوبة مهمة في علوم الحديث]: هل يكفي نقل كلام الأئمة في الجرح المفسر؟
فكان جوابه: ((كيف لا يكفي؟! إذا نقل الأئمة الجرح المفسَّر لا نقبل؟!، ولو إمام واحد نقل الجرح المفسر يكفينا, وتقدَّم لكم: أنه لو جرح واحد بجارح معتبر، وجاء من يعارضه ويزكي هذا المجروح: أنه يسقط ويسقط كلامه)).
وقال حفظه الله في رسالة معنونة بـ [أسئلة علمية موجهة إلى فالح]: ((فإذا بَيَّنَ العالمُ الناقدُ المعتبرُ حجتَه أو حججَه المعتبرة: فحينئذ يُقدَّم الجرح على التعديل ولو خالفه عشرات المعدِّلين، ولو تمادى أحدٌ في تعديله بعد قيام الحجة سقط)).

الثالثة/ عدم إلزام أبي عبد الحق الشباب السلفي في العراق بتبديع الحلبي وعدم هجر من لم يقبل تبديعه كان من أقوى الأسباب في ضياع الكثير من الشباب في أحضان الحلبية، ويتحمَّل ذلك أبو عبد الحق، ومع هذا هو يتبجَّح بين الحين والآخر أنه أول من ردَّ على الحلبي!.
فأبو عبد الحق خالف منهج السلف في هاتين القضيتين:
الأولى: عدم الإلزام بتبديع من يستحق التبديع كعلي الحلبي ومشهور حسن وأمثالهم.
الثانية: عدم هجر من يتعصَّب لهؤلاء المبتدعة - مع قيام الحجة وبيان المحجة -، ولا يقبل الكلام فيهم ولو صدر من كبار العلماء العارفين بأسباب الجرح والتعديل.
وهذه من موافقة أبي عبد الحق لأهل التمييع في طريقتهم في مسائل الهجر والتبديع.

ومسألة الإلزام بتبديع المبتدعة وهجرهم كتبتُ فيها مقالاً مدعَّماً بالأدلة الشرعية والآثار السلفية بعنوان [تحذير الخلق من المذبذب بين أهل الباطل وأهل الحق]، فليراجعه من أحبَّ البيان والتفصيل.
ومن ذلك ما جاء في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى: قال الخلال أخبرنا المروذي: أنَّ أبا عبدالله [الإمام أحمد بن حنبل] ذكر حارثاً المحاسبي فقال: "حارث أصل البلية - يعني حوادث كلام جهم - ما الآفة إلا حارث، عامة مَنْ صحبه انتهك إلا ابن العلاف؛ فإنه مات مستوراً!، حذِّروا عن حارث أشدَّ التحذير" قلتُ: إنَّ قوماً يختلفون إليه؟ قال: ((نتقدَّم إليهم؛ لعلَّهم لا يعرفون بدعته، فإنْ قبلوا وإلا هجروا، ليس للحارث توبة، يُشهد عليه ويجحد، إنما التوبة لمن اعترف)).
وقال الإمام البربهاري رحمه الله في [شرح السنة ص121]: ((وإذا رأيتَ الرّجلَ يَجلسُ مع رجلٍ من أهلِ الأهواءِ فَحَذِّرْهُ وعَرِّفْهُ؛ فإنْ جَلَسَ معه بعدما عَلِمَ فاتّقِهِ، فإنَّه صاحبُ هوى)).
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله في "الإبانة الكبرى": ((ولا تشاور أحداً من أهل البدع في دينك ولا ترافقه في سفرك، وإن أمكنك أن لا تقربه في جوارك. ومن السنة مجانبة كل من اعتقد شيئاً مما ذكرناه وهجرانه والمقت له، وهجران مَنْ والاه ونصره وذبَّ عنه وصاحبه وإن كان الفاعل لذلك يظهر السنة)).
ونقل الشيخ حمود التويجري رحمه الله في كتابه [القول البليغ ص230] ما ذكره ابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة": قال عثمان بن إسماعيل السكري سمعتُ أبا داود السجستاني يقول: قلتُ لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلاً من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة، أترك كلامه؟ قال: "لا، أو تُعلِمه أنَّ الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة؛ فإنْ ترك كلامه فكلِّمه، وإلا فألحقه به، قال ابن مسعود رضي الله عنه: المرء بخدنه"، ثم قال الشيخ التويجري معلِّقاً: ((وهذه الرواية عن الإمام أحمد ينبغي تطبيقها على الذين يمدحون التبليغيين، ويجادلون عنهم بالباطل:
- فمن كان منهم عالماً بأنَّ التبليغيين من أهل البدع والضلالات والجهالات، وهو مع هذا يمدحهم، ويجادل عنهم: فإنه يلحق بهم، ويعامل بما يعاملون به؛ من البغض والهجر والتجنُّب.
- ومن كان جاهلاً بهم: فإنه ينبغي إعلامه بأنهم من أهل البدع والضلالات والجهالات، فإنْ لم يترك مدحهم والمجادلة عنهم بعد العلم بهم فإنه يُلحق بهم، ويُعامل بما يُعاملون به)).
وقال الشيخ أحمد النجمي رحمه الله في [حواره مع علي الحلبي]: ((وبالجملة فإنَّ الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح: أنَّ من آوى أهل البدع أو جالسهم أو آكلهم وشاربهم أو سافر معهم مختاراً فإنَّه يلحق بهم؛ لاسيما إذا نُصح وأصرَّ على ما هو عليه؛ حتى ولو زعم أنَّه إنَّما جالسهم ليناصحهم!)).
وقال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله في مقدمة كتابه [منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف]: ((ويجوز - بل يجب - الكلام في أهل البدع، والتحذير منهم ومن بدعهم أفراداً وجماعات، الماضون منهم والحاضرون؛ من الخوارج والروافض والجهمية والمرجئة والكرامية وأهل الكلام الذين جرهم علم الكلام إلى عقائد فاسدة مثل: تعطيل صفات الله أو بعضها، فهؤلاء يجب التحذير منهم ومن كتبهم وطرقهم الضالة، وما أكثرها.
وكذلك مَنْ سار على نهجهم من الفرق المعاصرة ممن باين أهل التوحيد والسنة ونابذهم وجانب مناهجهم، بل حاربها ونفر عنها وعن أهلها.
ويلحق بهم: مَنْ يناصرهم ويدافع عنهم ويذكر محاسنهم ويشيد بها، ويشيد بشخصياتهم وزعمائهم، وقد يفضِّل مناهجهم على منهج أهل التوحيد والسنة والجماعة)).
وسُئل حفظه الله في [تسجيل بصوته]: ما حكم الذي لا يزال يدافع عن أبي الحسن المأربي أو يقول هو متوقف؛ مع العلم أنه قرأ ردود العلماء على هذا الرجل، فهل نهجره ونحذِّر منه؟ جزاكم الله خيراً.
فأجاب الشيخ: ((أمهلوهم، أمهلوهم أياماً أخرى؛ فإن وقَفوا مع الحق ونصروه، ووقفوا ضد الباطل وأهانوه؛ فهم إخوانكم، وإن تمادوا؛ فلا نشكُّ أبداً ولا نتردد أنهم أصحاب أهواء فحينئذٍ يُهجَرون ولا كرامة.
فمَنْ وقَفَ مع أبي الحسن إلى هذا التاريخ: لا شك أنه على باطل وإنْ جاء بالمراوغات والحِيَل!، ولكن يُعذَر مرة أخرى ويُمهَل لمدة أسبوع أسبوعين، فإنْ تاب وأناب وسار مع علماء السلف وعلماء المنهج السلفي في نصرة الحق الذي وقفوا إلى جانبه فهو منا وأخونا، ومَن أبى إلا إتباع الشيطان فحينئذٍ يُهجَر)).
فهذه النقول العلمية تؤكِّد صحة قاعدة إلحاق من يجالس المبتدعة أو يماشيهم أو يجادل عنهم بهم إذا عرف حالهم، بينما أبو عبد الحق الآن يقرر أنه لا يُلزم الناس بالتبديع ولا يُطالبون بالهجر!!.
وأبو عبد الحق لا يجهل مثل هذه الآثار التي ذكرتُها سلفاً، بل بدَّع بهماً الكلاري لأنه يجالس المبتدعة، وجاء في وريقات منشورات بعنوان [الانحرافات المنهجية لدى بهمن الكلاري] أرسلها لي قديماً أبو عبد الحق نفسه: ((هل هذه الانحرافات كافية لتبديع الإنسان بسببها؟ الجواب/ والله إنَّ بعضها يكفي لتبديع المرء به فضلاً عن اجتماعها كلها، وهذا منهج السلف كما حكى البغوي رحمه الله الإجماع على هجر المبتدعة فقال: "وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على: معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم" شرح السنة 1/227، ولم يكن السلف يفرِّقون بين المبتدع وبين من يجالسهم ويكرمهم، وفيه آثار كثيرة...))، وذكروا الآثار التي تدل على إلحاق الرجل بأهل البدع إذا جالسهم وماشاهم ولو كان على سبيل المناصحة والبيان.
وهذا يدلُّ على أنَّ أبا عبد الحق تغيَّر عما كان في الماضي وتنكَّب طريق العلماء واتخذ طريق الزائغين المذبذبين.

ولما عرضتُ هذه المؤاخذة على الشيخ ربيع والمشايخ الآخرين طالبوا أبا عبد الحق بالرجوع عنها، فكتب مقالاً في سحاب بعنوان [تراجع وبيان] قال فيه: ((أتراجع عن قولي في كتابي [الجواب الصريح] الذي كتبته وقته في الرد على المميعين والذب عن مشايخنا السلفيين: "عدم الزام الناس بتبديع كل من يبدعهم الشيخ ربيع أو غيره تبديعاً منفرداً"، لأنه قد يُفهم منه: أنني اشترط الإجماع للتبديع؛ وهذا ما لا أقصده ولا أعتقده، وقد بينتُ ذلك التراجع مراراً، وأنا أعتقد أنَّ الجرح المفسر من عالم واحد عارف بأسباب الجرح يلزم الجميع قبوله بدون اشتراط اجماع)).
أما شرط الإجماع فكلامك نعم محتمل، وأما شرط العدد فكلامك ظاهر وليس محتملاً، فليست المشكلة في الفهم وإنما في منطوق كلامك: بعدم إلزام الناس بتبديع كل من يبدعهم الشيخ ربيع أو غيره من العارفين بأسباب الجرح تبديعاً منفرداً.

وقول أبي عبد الحق: ((وأنا أعتقد أنَّ الجرح المفسر من عالم واحد عارف بأسباب الجرح يلزم الجميع قبوله))، بل والجرح المجمل يقبل إذا صدر من عارف بأسباب الجرح إن لم يُعارضه معدِّل.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله كما في [اختصار علوم الحديث ص11]: ((أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن، فينبغي أن يُؤخذ مسلَّماً من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم واطلاعهم واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصافهم بالإنصاف والديانة والخبرة والنصح)).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة [لسان الميزان 1/ 16]: ((إذا اختلف العلماء في جرح رجل وتعديله؛ فالصواب التفصيل:
- فإنْ كان الجرح والحالة هذه مفسَّراً: قُبِل، وإلا عُمل بالتعديل.
- فأما مَنْ جُهِلَ ولم يعلم فيه سوى قول إمام من أئمة الحديث أنه ضعيف أو متروك ونحو ذلك: فإنَّ القول قوله، ولا نطالبه بتفسير ذلك.
فوجه قولهم: "إنَّ الجرح لا يقبل إلا مفسَّراً" هو فيمن اخْتُلِفَ في توثيقه وتجريحه)).
وقال الحافظ العراقي رحمه الله في [التقييد والإيضاح ص141]: ((ومما يدفع هذا السؤال رأساً أو يكون جواباً عنه: أنَّ الجمهور إنما يوجبون البيان في جرح من ليس عالماً بأسباب الجرح والتعديل، وأما العالم بأسبابهما فيقبلون جرحه من غير تفسير)).
قال الشيخ ربيع حفظه الله معلِّقاً على كلام الحافظ العراقي كما في [منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف]: ((فأنت ترى أنهم لا يشترطون في الجارح أن يذكر الجوانب المشرقة في المجروح، وأنَّ "العالم" بأسباب الجرح والتعديل يؤخذ كلامه مسلَّماً عند جمهور العلماء، ويجب الكشف عن جرح "غير العالم" بأسباب الجرح والتعديل، ولا يتهمون أحداً بأنه ظالم إذا اقتصر على الجوانب المظلمة)).
وقال الشيخ ربيع حفظه الله في أحد أجوبته في نصيحة [الحث على المودة والائتلاف والتحذير من الفرقة والاختلاف]: ((يعني إنسان لا يتمكَّن وقف على كلام للبخاري لمسلم لأبي داود:  "فلان كذاب"، "فلان سيء الحفظ"، "فلان واه"، "فلان متروك"، فلان كذا، ما وجد أحدٌ يعارضه: يقبل كلامه، لأنَّ هذا خبر، يقبله لأنه خبرٌ من الأخبار، ماهو فتوى، يقبله لأنه خبر من الأخبار، وقبول أخبار الثقات أمر ضروري لابدَّ منه.
لكن إذا كان طالب علم ووجد من يخالف هذا الرجل الذي جرحه وجد إماماً آخر قد خالفه وزكَّاه: فحينئذٍ لابدَّ من تفسير هذا الجرح، لا يُسلَّم لهذا الجارح طالما هناك عالم آخر يعارضه في هذا التجريح، فإذا لم يعارضه أحد يُقبل، وإذا عارضه فلابدَّ من بيان أسباب الجرح، بارك الله فيكم، والأمر موجود في كتب المصطلح وكتب علوم الحديث، هذا شيء معروف عند طلاب العلم، فراجعوه بارك الله فيكم في مقدمة ابن الصلاح، وراجعوا فتح المغيث وراجعوا تدريب الراوي، وراجعوا كتب هذا الشأن، علوم الحديث وعلوم الجرح والتعديل)).
وكذلك لا عبرة بتعديل المعترض على هذا الجرح إن كان جاهلاً أو صاحب هوى، قال الشيخ ربيع حفظه الله في [نصيحة أخوية إلى فالح الحربي]: ((نعم إذا كان الجارح من العلماء الأمناء العارفين بأسباب الجرح والتعديل والمعترض جاهل أو صاحب هوى: فلا عبرة باعتراضه)).

ولكي لا يقول جاهل: إنكم تقررون بهذا ما يقرره فالح الحربي، فأذكر من كلام الشيخ ربيع حفظه الله ما يُبيِّن فيه حقيقة الخلاف مع فالح وحتى لا يلتبس الأمر على بعض الشباب:
قال الشيخ ربيع حفظه الله في رده [النهج الثابت الرشيد في إبطال دَعَاوَى فالح]: ((إنَّ فالحًا يوجب التقليد الأعمى على السائلين وغير السائلين من طلبة العلم وممن هو فوق مرتبة طلبة العلم، وإذا جرح الناس بهواه، وطولب ببيان أسباب الجرح يقول: لا يُسأل عن أسباب الجرح!، ويهدم القاعدة التي تنص على أنه: عند تعارض الجرح والتعديل فلا بدَّ من بيان السبب)).
وقال في [نصيحة أخوية إلى فالح الحربي]: ((وهل يوافقك هؤلاء العلماء أنَّ قاعدة "بيان أسباب الجرح عند تعارض الجرح والتعديل أو عند الحاجة إلى بيان الأسباب" أنها قاعدة باطلة؟ وهل يوافقونك على أنَّ من قال بهذه القاعدة قد أضلَّ الناس بها؟!)).
ففالح الحربي لا يرى أنه مطالب بذكر أسباب الجرح والتبديع في أشخاص تزكيهم أعمالهم وهم مشتهرون بالسلفية ويعدِّلهم علماء أعلم منه بهذا العلم بمفاوز، فيرى وجوب تقليده في أحكامه في هؤلاء الأشخاص، وسبب هذا التأصيل الباطل هو أنَّ فالحاً يفرِّق بين (باب الرواية) و (باب البدعة) من جهة ذكر الأسباب، فهو يرى أنَّ العالم في الجرح والتعديل مطالب بذكر أسباب جرحه للرواي وأما العالم في مسائل المنهج فغير مطالب بذكر أسباب تبديعه للشخص، وهذا تفريق لم يسبقه به عالم من علماء الأمة، ومعلوم أنَّ البدعة سبب من أسباب جرح الرواة كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في نزهة النظر.

وقد يقول قائل: إذا تراجع أبو عبد الحق عن هذه المخالفة فلماذا تصرون على إدانته بها؟! أليست هذه من سمات الحدادية؟!
أما تراجعات أبي عبد الحق فهي تلاعبات وليست تراجعات!، وهي حبر على ورق كما يقال!، وهي من باب الضحك على الذقون!، وقد ذكرتُ فيما سبق من مؤاخذات عليه أنه يتراجع أحياناً تراجعاً غير صحيح ثم يعود وينقضه من جديد!، والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين، وكذلك هذه المؤاخذة تراجع عن تراجعه عنها!، ودونكم البيان:
في جلسة مسجَّلة - بعد تراجعه المزعوم - جمعت أبا عبد الحق مع المدعو "عبد الجليل" من محافظة دهوك؛ وهو حلبي مميع جلد بل صرَّح في الجلسة أنَّ حسن البنا والأشاعرة من أهل السنة وجادل عن ذلك بحماسة وعزم!.
ومما جاء في هذه الجلسة؛ قال عبد الجليل: ((والله الشباب لا يكلِّمون مَنْ لا يبدِّع علي الحلبي، لا يُكلِّموه، ويرونه مبتدعاً ولا يُسلِّمون عليه ويبغضونه ويسمونه مبتدعاً مميعاً)).
فقال أبو عبد الحق: ((أنا عن نفسي لستُ هكذا))!.
قال عبد الجليل: ((أنا لا أتكلَّم عن نفسي وعن نفسك!، أنا أتكلَّم عن الشباب، الآن أنت لست هكذا، وأنا الحمد لله لستُ هكذا، هل نتفق على إلقاء محاضرة وتصويرها أو تسجيلها بالصوت، أنت تقول: أنا والشيخ عبد الجليل مختلفين على أشخاص، على بعض الأشخاص: هذا الشخص يُبدِّعه بعض العلماء، وهذا الشخص نفسه لا يُبدِّعه بعض العلماء، فأنا على رأي من يبدِّعه، وملا جليل على رأي من لا يبدِّعه، ونحن الحمد لله إخوة متحابين!، ونحثكم على هذا الشيء: أن لا تبدِّعوا بعضكم بعضاً، لا تهجروا بعضكم بعضاً، لا تبغضوا بعضكم بعضاً بسبب هذا الفعل؛ هذا يكون الكلام مسجل صوتي أو مرئي)).
فقال أبو عبد الحق: ((طيب، وأزيدُ على ما ذكرتَ فأقول: أما فلان وفلان وفلان لا شكَّ أنهم انحرفوا وخالفوا المنهج السلفي؛ ولكنَّ الذي لا يُبدِّعهم ولكن يُخطئهم ولا يشجِّع الناسَ إلى التعلق بهم هذا لا نبدِّعه ولا نهجره)).
قال عبد الجليل: ((لا تقل لا نبدِّعه ولا نهجره؛ قل: لا تبدِّعوه أيها الشباب)).
فأيده أبو عبد الحق قائلاً: ((خلاص هذا ممكن)).
وكلام هذا الحلبي المميع (عبد الجليل) لا يستغرب منه لأنه مبنيٌ على قاعدة شيخه الحلبي [لا نجعل خلافنا في غيرنا سبباً للخلاف فيما بيننا]، لكننا نستغرب من تأييد أبي عبد الحق لكلام هذا المميع واتفاقه معه على عدم الإلزام بالتبديع والهجر.
فأين تراجعه إذاً؟!
 ألم أقل لكم: حبرٌ على ورق!!

وأما جوابه الجديد المنشور في الفيس بوك:
فقول أبي عبد الحق: ((وأنا لم أُعلِّق قبول حكم العالم بالإجماع والانفراد، وإنما علَّقتُه بكونه أصاب الحكم أم أخطأ)).
أما الإجماع فلم أنسبه إليك، لكنك تحاول إبعاد ذهن القارئ عن أصل المؤاخذة!، أو تحاول أن تصوِّر الناقد أنه يكذب عليك أو يبالغ في نقدك!، والله حسيبك.
وأما الانفراد، فهذا منطوق كلامك: "عدم إلزام الناس تبديع كل مَنْ يُبدِّعهم الشيخ ربيع أو غيره تبديعاً منفرداً"، فلماذا الكذب؟!
وأين تعليقك قبول الحكم بكونه أصاب أو أخطأ؟
لا يوجد إلا في مخيلتك!

وقول أبي عبد الحق: ((ولم أقصد بالاجتهادية أنها غير ملزمة وإن قامت على الدليل)).
يظهر أنَّ أبا عبد الحق اختلط في أجوبته من كثرة مؤاخذاته وتلاعباته على قول القائل:
يهزُّ عليَّ الرمحَ ظبي مهفهف **** لعوبٌ بألباب البرية عابث
ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته **** ولكنَّه رمح وثان وثالث
فمسألة (الاجتهادية) في المؤاخذة السابقة!، وهو قد قال في خاتمتها: ((يظهر من كلامه هذا أنه يرى: أنَّ أقوال الثقات في باب الجرح والتعديل من الأمور الاجتهادية التابعة للشروط والضوابط، ويجوز فيها الخلاف لأنها اجتهادية)).
فكيف يقول في هذه المؤاخذة: ((ولم أقصد بالاجتهادية أنها غير ملزمة))؟!
ألم أقل لكم: لا يثبت على قول واحد!

وقول أبي عبد الحق: ((وبناء على ما سبق أقول: إنَّ الحكم الذي نسبه إليَّ الكاتب من أنني اشترط الإجماع في التبديع حكم جائر غير صحيح)).
أقول:
ألا تستحي يا أبا عبد الحق من الكذب؟!
أنت بنفسك نقلت المؤاخذة في جوابك بهذا اللفظ بتمامه: ((8- أحكام علماء الجرح والتعديل في التبديع غير ملزمة إذا انفردوا بها:
قال د. أبو عبد الحق في "الجواب الصريح" ص54: "نعم تمسَّكتُ بغرز الشيخ السحيمي في تبديعه لأبي الحسن، وبغرزه في عدم إلزام الناس تبديع كل مَنْ يُبدِّعهم الشيخ ربيع أو غيره تبديعاً منفرداً!، ونحن في العراق ما ألزمنا الناس بتبديع الحلبي وما هجرناهم لعدم تبديعهم له؛ وإنما هم هجرونا")).
فأين لفظ "الإجماع" في كلام الناقد؟!
أم أنك تفتعل تهمة ثم تزعم أنَّ الناقد نسبها إليك ثم تجيب عنها لأمرين كما تقدَّم؛ صرف الأذهان عن أصل المؤاخذة التي عجزتَ عن الجواب عنها!، وتصوير الناقد على خلاف واقعه!.

وقول أبي عبد الحق: ((ومع هذا فأنا قد كتبتُ تراجعاً عن هذه الجملة الموهومة ونشرتُه قبل سنتين في سحاب، ولكنهم أصروا إلى يومنا هذا على إلصاق هذه التهمة بي!، وهذه صورة التراجع...)).
أولاً: هذه الصورة التي وضعتها في جوابك هذا هي صورة من وريقاتك المسماة [كشف الأكاذيب الردية في وريقات المتأثرين بالحدادية] وليست صورة [تراجعك المنشور في سحاب].
ألم أقل لكم: الرجل من كثرة التلاعب والكذب أصابه الاختلاط!
ثانياً: هذه الوريقات [كشف الأكاذيب الردية] لم تنشرها إلا بين أصحابك الخواص باعترافك في البيان المنشور في سحاب بعنوان [تراجع وبيان] حيث قلتَ: ((وقد دوَّنتها كلها وأعطيتها للمشايخ، ولا أنشرها في بلدي لحكمة, ولكن أعطي نسخاً منها لعدد من الإخوة الدعاة في مدن الإقليم)).
فهل هذا تراجع؟!!
ثم لماذا لم تنشرها في بلدك؟!
حقيقة كنتُ أتسآل عن هذا حيناً من الدهر، لأني لا أستغرب نشرك كلَّ ما فيه طعن وأذية لمخالفيك وناقديك وقد فعلتَ هذا معهم مراراً!، فلماذا لم تنشر هذه الكذبات وهي تنفعك وتضر ناقديك كما تزعم؟!
لكن بعد أن وصلتني هذه الكذبات من طريق أحد الإخوة عرفتُ السبب، وقد قيل: إذا عُرِف السبب بطل العجب!، عرفتُ أنك لا يمكنك مواجهة ناقديك بهذه الورقات، لأنهم سيكشفون كذبك وتلبيسك فيها، وسيظهر للمشايخ وللسلفيين أنك تكذب وتصر على الكذب المفضوح، والله حسيبك.
ثالثاً: قولك في الصورة المنشورة من وريقاتك [كشف الأكاذيب الردية]: ((فأنا أتراجع عن هذه العبارة كي لا يفهم خطأ ولا يُنسب إليَّ ما لا أعتقده)).
رجعتَ يا أبا عبد الحق إلى اتهام غيرك بالفهم الخاطئ أو النسبة الكاذبة، ولماذا لا تتهم نفسك بالخطأ؟! أليست عبارتك صريحة في عدم الإلزام بالتبديع الصادر من العالم المنفرد؟! فلماذا تعيب غيرك ولا تعيب نفسك؟!
والله الموفِّق

كتبه/ أبو معاذ رائد آل طاهر

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.