الحمد لله والصلاة والسلام
على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فبعد أن كتبَ الحلبيُّ
مقالاً شغَّبَ فيه على عقيدة الإمام البخاري رحمه الله في مسألة الإيمان!؛ وأفهم
فيه القرَّاء أنَّ للبخاري كلاماً مجملاً يوافق فيه مذهب الجهمية في الإيمان -
الذين قالوا: إنَّ الإيمان معرفة في القلب! -، ثم ذهب يحمل كلامه المجمل – كما
يزعم - على أحسن المحامل وعلى ما عرُف من عقيدة أهل السنة!، ولم يفعل
الحلبي ذلك من باب التحقيق العلمي أو الدفاع عن الإمام البخاري، كلا وألف كلا،
وإنما فعله من أجل الانتصار لمنهجه وقواعده الفاسدة كقاعدة "حمل المجمل على
المفصَّل"!. فتصدَّى لرد تشغيباته وتخليطاته العلامة الشيخ
ربيع حفظه الله تعالى بالحجة الدامغة والبرهان الساطع في مقال علمي لا ينكره أحد
من المنصفين، وكشف تخليطه وبيَّن جهله، فلم يزدد الحلبي إلا عناداً وإصراراً في
التلبيس والخلط. ولما رأى بعض أنصاره أنَّ شيخهم قد سقط في تخليط ظاهر ولا يُمكن
التماس المعاذير له ردوا عليه بأنَّ عبارة البخاري ليس فيها إجمال ولا احتمال ولا
إيهام ولا تحتاج إلى مفصَّل!، بل هي بعيدة عن محل الكلام الذي يدندن حوله الحلبي!،
فما كان من الحلبي عند ذلك إلا أن دعاهم إلى النظر إلى غرضه وقصده من المقال لا
إلى لفظه ونقده!.
فعجباً إلى هذا التلاعب في
عقول السذج؛ أليس له حد؟!
الله المستعان!
ثم ها هو من
جديد يحاول الحلبي على عجالة أن يواري سوءته تلك!، فجاء مرة أخرى إلى عقيدة
البخاري بصورة المدافع عنه أيضاً!، لكن هذه
المرة في مسألة "لفظي بالقرآن" التي أُثيرت على البخاري قديماً، ولم
يقبل البخاري نفسه أن يخوض فيها لأنها مسألة مشئومة كما وصفها رحمه الله!، لكنَّ
الحلبي أراد فتق الكلام فيها من جديد لنصرة قواعده!، فكتب مقالاً بعنوان [ما أشبهَ اليومَ بالأمس دفاعاً عن عقيدة الإمام البخاري رحمه الله وبيان
أنَّ الحق معه]،
واكتفى الحلبي هذه المرة بمجرد النقل!، حيث نقل نقلاً مطوَّلاً عن العلامة ابن
القيم رحمه الله من غير الإشارة إلى المصدر!!، ثم لم يعلِّق عليه إلا بكلمات
وإشارات في تلوين بعض العبارات تشبه الطلاسم!!!، وختمه بقوله: ((وفي هذا النص من الوضوح والظهور شيءٌ كثيرٌ، مع أنَّ ترجمة ما فيه من مَعانٍ منهجيةٍ يزيده بياناً، ويزيدُنا اطمئناناً)).
ونحن لا
ندري ماذا يدور في ذهنه حتى صار هذا النقل فيه من الوضوح والظهور شيء كثير؟!
ولا ندري
ماذا يقصد الحلبي بالترجمة والمعاني المنهجية التي زادت الكلام بياناً والحلبي
وأنصاره اطمئناناً؟!!
ولا ندري
ما هو غرضه من تلوين بعض عبارات العلامة ابن القيم؟!!!.
لكن الذي
صرنا نعرفه - على مثل اليقين - أنَّ الحلبي لو علَّق على كلام العلامة ابن القيم
رحمه الله بشيء لأتى بالعجائب والغرائب!، ولم يخل كلامه من اللبس والتشغيب والتخليط
كعادته في التعليقات والحواشي على كلام العلماء والمشايخ قديماً وحديثاً!، ولهذا
اختار طريقة الطلاسم على طريقة البيان والوضوح الذي قال تعالى فيها: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ)).
وأما كلام العلامة ابن القيم
رحمه الله الذي نقله الحلبي فقد وجدتُه في [مختصر
الصواعق المرسلة للشيخ محمد بن الموصلي/ دار الحديث في القاهرة ص510-513]، ولم
أجده في أصل كتابه [الصواعق المرسلة لابن القيم/ دار العاصمة في الرياض]!!، والله أعلم.
وكلامه رحمه الله كان في
بيان حقيقة محنة الإمام البخاري رحمه الله في مسألة اللفظ بالقرآن، وقد نُسِبَ
للبخاري فيها أنه يقول: إنَّ لفظي بالقرآن مخلوق!، وقد كذَّب البخاري هذه الدعوى،
وبيَّن أنه لا يتكلَّم في هذه المسألة، وأنه يقول بأنَّ القرآن غير مخلوق، وأنَّ
أفعال العباد - الأعمال والألفاظ - مخلوقة، وأنَّ بعض مَنْ ينتسب إلى الإمام أحمد
رحمه الله غلط عليه ولم يفهم دقة كلامه حين قال: ((مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ
مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ))، فدار
بسبب ذلك بينه وبين جماعة من أهل الحديث المعروفين فتنة واختلاف، وهذه خلاصة ما
جاء في كلام العلامة ابن القيم الذي نقله عنه الحلبي في مقاله.
والذي يظهر لي أنَّ الحلبي
أراد من سرد هذه الحادثة أن ينتصر لقواعده الباطلة مثل: ((لا نجعل خلافنا في غيرنا سبباً للخلاف بيننا))!، و((حمل المجمل على
المفصَّل))!، و((لا إلزام بالجرح المفسَّر))!،
وغير ذلك.
وطريقة تلوين الحلبي لكلام
العلامة ابن القيم مع ما نعرفه من قواعده وتأصيلاته وكتاباته – وهي بالطبع قرائن
قوية - تدفعنا إلى القول بأنَّ الحلبي في مقاله هذا لا يقبل كلام الإمام أحمد رحمه
الله الذي جهَّم فيه اللفظية المثبتة وبدَّع فيه اللفظية النافية!، ويعده من
المجمل الذي ينكره عليه السلفيون اليوم!، وأنه لا يمكن أن نستدل به في ردِّ قاعدة
حمل المجمل على المفصل في كلام البشر؛ لأنَّ الإمام البخاري غلَّط الذهلي وغيره
ممَنْ قال بها ووقف عندها، ثم ذهب رحمه الله إلى التفصيل في مسألة اللفظ، والعلامة
ابن القيم جعل كلامه الإمام البخاري أمتن وأوضح من كلام الإمام أحمد؛ هكذا يَفهم
الحلبي المسألة وهكذا يريد إفهام القارئ لمقاله!.
وكذلك يريد الحلبي من نقل
هذه المحنة أن يصوِّر أنَّ الخلاف المعاصر بينه وبين السلفيين محنة له ناشئة من
حسد البعض!، ولا ندري حقاً على أي شيء يُحسد هذا الرجل؛ بعد أن ضيَّع دينه ودعوته
وعلمه في نصرة الباطله وأهله؟!
ولسان حال الحلبي في مقاله
هذا: إنَّ هذه الفتنة التي أنا فيها مع غلاة التجريح هي مثل الفتنة التي
حدثت للأمام البخاري من جماعة من أهل السنة!، وسببها الحسد والتمسك بالقول المجمل
المنقول عن أئمة السلف!، وأنَّ منهج التفصيل في الحكم على المسائل والأشخاص أوضح
وأمتن، والخلاصة:
ما أشبه يوم الحلبي وحسَّاده
بأمس الإمام البخاري وحسَّاده؟!!!.
ولا يدري الحلبي أنَّ ما بينه
وبين الإمام البخاري كما بين الثرى والثريا؟!
ثم لا ندري هل يرى الحلبي
أنَّ خصوم البخاري من غلاة التجريح أيضاً؟!
أم أنَّ الأمس لا يشبه اليوم
في هذه الجزئية؟!
وحتى لا نطيل على القارئ في فكِّ طلاسم
الحلبي!، نكتفي في بيان مسألة اللفظ بما ينفعنا من خلال هذه المحاور:
المحور الأول: حقيقة مذهب اللفظية
يظن
البعض أنَّ مذهب اللفظية هو كل مَنْ قال لفظي بالقرآن مخلوق ولو أراد بكلامه هذا
أنَّ ألفاظ العبد مخلوقة ولم يرد القرآن، وليس كذلك، وإنما اللفظية الذين قسَّموا
كلام الله عز وجل إلى قسمين، كلام غير منزَّل ولا مقروء وكلام منزل مقروء، فالأول
غير مخلوق، والثاني مخلوق، لكن لما صار البعض يُطلق عبارة (لفظي بالقرآن مخلوق)
متستراً بها وتغريراً وتمويهاً، أنكر الأئمة ذلك وبدَّعوا قائلها لما فيها من
إجمال وإيهام.
قال
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [المجموع 12/ 359]: ((وطائفة أخرى قالت: نقول كلام الله الذي لم
ينزله غير مخلوق، وأما القرآن الذي أنزله على رسوله وتلاه جبريل
ومحمد والمؤمنون فهو مخلوق!، وهؤلاء هم: "اللفظية".
فصارت
الأمة تفزع إلى إمامها إذ ذاك؛ فيقول لهم أحمد: افترقت الجهمية على ثلاث فرق:
فرقة
تقول: القرآن مخلوق.
وفرقة
تقول: كلام الله وتسكت.
وفرقة
تقول: ألفاظنا وتلاوتنا للقرآن مخلوقة؛ فإنَّ حقيقة قول هؤلاء: أنَّ القرآن الذي
نزل به جبريل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قرآن مخلوق لم يتكلم الله
به، وكان لهؤلاء شبهة كون أفعالنا وأصواتنا مخلوقة؛ ونحن إنما نقرؤه بحركاتنا
وأصواتنا. وربما قال بعضهم: ما عندنا إلا ألفاظنا وتلاوتنا وما في الأرض قرآن
إلا هذا؛ وهذا مخلوق. فقابلهم قوم أرادوا تقويم السنة فوقعوا في البدعة
وردوا باطلاً بباطل وقابلوا الفاسد بالفاسد؛ فقالوا: تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة
وألفاظنا به غير مخلوقة؛ لأنَّ هذا هو القرآن، والقرآن غير مخلوق، ولم يفرقوا بين
الاسم المطلق والاسم المقيد في الدلالة وبين حال المسمى إذا كان مجرداً وحاله إذا
كان مقروناً مقيداً.
فأنكر
الإمام أحمد أيضاً على مَنْ قال: إنَّ تلاوة العباد وقراءتهم وألفاظهم وأصواتهم
غير مخلوقة؛ وأمر بهجران هؤلاء كما جهَّم الأولين وبدَّعهم، والنقل عنه بذلك من
رواية ابنه عبد الله وصالح والمروذي وفوران وأبي طالب وأبي بكر بن صدقة وخلق كثير
من أصحابه وأتباعه.
وقد
قام أخص أتباعه أبو بكر المروذي بعد مماته في ذلك وجمع كلامه وكلام الأئمة من
أصحابه وغيرهم مثل عبد الوهاب الوراق والأثرم وأبي داود السجستاني والفضل بن زياد
ومثنى بن جامع الأنباري ومحمد بن إسحاق الصنعاني ومحمد بن سهل بن عسكر وغير هؤلاء
من علماء الإسلام، وبيَّن بدعة هؤلاء الذين يقولون: إنَّ تلاوة العباد وألفاظهم
بالقرآن غير مخلوقة.
وقد
ذكر ذلك الخلال في كتاب السنة وبسط القول في ذلك؛ قال الخلال: أخبرني أبو بكر
المروذي قال: بلغ أبا عبدالله عن أبي طالب أنه كتب إلى أهل نصيبين: أنَّ لفظي
بالقرآن غير مخلوق، قال أبو بكر: فجاءنا صالح بن أحمد فقال: قوموا إلى أبي، فجئنا
فدخلنا على أبي عبد الله فإذا هو غضبان شديد الغضب قد تبين الغضب في وجهه، فقال:
اذهب فجئني بأبي طالب، فجئتُ به، فقعد بين يدي أبي عبدالله وهو يرعد، فقال: كتبتَ
إلى أهل نصيبين تخبرهم عني أني قلتُ: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فقال : إنما حكيت عن
نفسي، قال: فلا يحل هذا عنك ولا عن نفسي؛ فما سمعتُ عالماً قال هذا، قال أبو
عبدالله : القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف، فقيل لأبي طالب: اخرج وأخبر أنَّ
أبا عبدالله قد نهى أن يقال لفظي بالقرآن غير مخلوق، فخرج أبو طالب فلقي جماعة من
المحدثين فأخبرهم: أنَّ أبا عبدالله نهاه أن يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق.
ومع
هذا فكل واحدة من الطائفتين - الذين يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، والذين
يقولون: لفظنا وتلاوتنا مخلوقة - ينتحل أبا عبدالله وتحكي قولها عنه وتزعم أنه كان
على مقالتها؛ لأنه إمام مقبول عند الجميع، ولأنَّ الحق الذي مع كل طائفة يقوله
أحمد، والباطل الذي تنكره كل طائفة على الأخرى يرده أحمد)).
المحور الثاني: الإمام أحمد وأصحابه كان يُبدِّعون
مَنْ تكلَّم في مسألة اللفظ نفياً وإثباتاً ولو كان من أهل الحديث.
لم
يمنع الإمام أحمد رحمه الله من كون قائل هذه اللفظة - (لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق) - سنياً أو له أصوله سنية أو من كبار أهل الحديث من الإنكار عليه
وتبديعه، كما يقيِّد المأربي والحلبي وأنصارهم مسألة الإنكار والتشنيع والتبديع
بمثل هذه القيود اليوم!.
قال
شيخ الإسلام رحمه الله في[المجموع 12/ 238]: ((الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَعَامَّةِ
أَصْحَابِهِ تَبْدِيعُ مَنْ قَالَ: "لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ"، كَمَا جَهَّمُوا مَنْ قَالَ "اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ
مَخْلُوقٌ". وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ أَخَصُّ أَصْحَابِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِهِ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً
كَبِيرَةً مَبْسُوطَةً، وَنَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي
كِتَابِ السُّنَّةِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ
مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَبْوَابِ الِاعْتِقَادِ. وَكَانَ بَعْضُ
أَهْلِ الْحَدِيثِ إذْ ذَاكَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ: بِأَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ مُعَارَضَةً لِمَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ؛ فَبَلَغَ
ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَاراً شَدِيداً وَبَدَّعَ مَنْ
قَالَه، وَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَداً مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ)).
المحور الثالث: لماذا كان الأئمة يمنعون الكلام في
مسألة اللفظ؟
قال
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [المجموع 12/ 373]: ((وكانت اللفظية "الخلقية" من أهل
الحديث يقولون: نقول: إنَّ ألفاظنا بالقرآن مخلوقة؛ وإنَّ التلاوة غير المتلو
والقراءة غير المقروء. واللفظية "المثبتة" يقولون: نقول: إنَّ ألفاظنا
بالقرآن غير مخلوقة؛ والتلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء.
وأما
المنصوص الصريح عن الإمام أحمد وأعيان أصحابه وسائر أئمة السنة والحديث فلا يقولون
مخلوقة ولا غير مخلوقة، ولا يقولون: التلاوة هي المتلو مطلقاً ولا غير المتلو
مطلقاً، كما لا يقولون: الاسم هو المسمى ولا غير المسمى.
وذلك:
أنَّ التلاوة والقراءة كاللفظ؛ قد يراد به مصدر تلا يتلو تلاوة وقرأ يقرأ قراءة
ولفظ يلفظ لفظاً ومسمى المصدر هو فعل العبد وحركاته، وهذا المراد باسم التلاوة
والقراءة، واللفظ مخلوق، وليس ذلك هو القول المسموع الذي هو المتلو.
وقد
يراد باللفظ الملفوظ وبالتلاوة المتلو وبالقراءة المقروء، وهو القول المسموع، وذلك
هو المتلو، ومعلوم أنَّ القرآن المتلو الذي يتلوه العبد ويلفظ به غير مخلوق.
وقد
يراد بذلك مجموع الأمرين.
فلا
يجوز إطلاق الخلق على الجميع، ولا نفي الخلق عن الجميع.
وصار
ابن كلاب يريد بالتلاوة القرآن العربي، وبالمتلو المعنى القائم بالذات، وهؤلاء إذا
قالوا: التلاوة غير المتلو وهي مخلوقة كأن مرادهم أنَّ الله لم يتكلم بالقرآن
العربي؛ بل عندهم أنَّ القرآن العربي مخلوق، وهذا لم يقله أحد من أئمة السنة
والحديث.
ويظن
هؤلاء أنهم يوافقون البخاري أو غيره ممن قد يفرق بين التلاوة والمتلو؛ وليس الأمر
كذلك. ومن الآخرين من يقول: التلاوة هي المتلو؛ ويريد بذلك أنَّ نفس ما تكلم الله
به من الحروف والأصوات هو الأصوات المسموعة من القراء؛ حتى يجعل الصوت المسموع من
العبد هو صوت الرب، وهؤلاء يقولون: نفس صوت المخلوق وصفته هي عين صفة الخالق،
وهؤلاء اتحادية حلولية في الصفات، يشبهون النصارى من بعض الوجوه، وهذا لم يقله أحد
من أئمة السنة.
ويظن
هؤلاء أنهم يوافقون أحمد وإسحاق وغيرهما ممن ينكر على اللفظية؛ وليس الأمر كذلك.
فلهذا
كان المنصوص عن الإمام أحمد وأئمة السنة والحديث أنه لا يقال: ألفاظنا بالقرآن
مخلوقة ولا غير مخلوقة، ولا أنَّ التلاوة هي المتلو مطلقاً ولا غير المتلو مطلقاً؛
فإنَّ اسم القول والكلام قد يتناول هذا وهذا)).
المحور الرابع: أنَّ الإمام البخاري رحمه الله لا
يقول بمقولة اللفظية
الإمام
البخاري رحمه الله توقف في مسألة اللفظ ولم يُطلق القول فيها كما فعل الإمام أحمد؛
لئلا يلزم من ذلك إنكار أنَّ أفعال العباد - ومنها ألفاظهم – مخلوقة، فقام
بالتفصيل والتفريق في هذه المسألة بين ما كان متعلِّقاً بكلام الله وبين ما كان من
فعل العبد، وإنما لم يطلق كما أطلق الإمام أحمد لأنه يرى أنَّ المروي عنه من وجوه
مختلفة، ولدقته وغموضه افتراق أصحابه في حمله وفهمه، والذي ثبتَ عنده عن الإمام
أحمد: عدم جواز قول لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأنَّ اللفظية عنده هم الذين يقولون:
القرآن بألفاظنا مخلوق، أي ليس الذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق، فالبخاري رحمه
الله ليس عنده إشكال في إنكار عبارة (لفظي
بالقرآن غير مخلوق)، وإنما إشكاله في
إطلاق الإنكار لعبارة (لفظي بالقرآن
مخلوق)؛ لئلا تستغل ممن يقول بأنَّ
أفعال العباد غير مخلوقة، وبسبب هذا التوقف منه رحمه الله في "العبارة
الثانية" اختلف معه بعض أهل الحديث وهجروه.
قال
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [المجموع 12/ 364-366]: ((وكذلك أيضاً افترى بعض الناس على البخاري
الإمام صاحب الصحيح أنه كان يقول: لفظي بالقرآن مخلوق!، وجعلوه من اللفظية!!، حتى
وقع بينه وبين أصحابه مثل محمد بن يحيى الذهلي وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم [فتنة]
بسبب ذلك، وكان في القضية أهواء وظنون، حتى صنَّف "كتاب خلق الأفعال"،
وذكر فيه ما رواه عن أبي قدامة عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: ما زلتُ أسمع
أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة، وذكر فيه ما يوافق ما ذكره في آخر كتابه
الصحيح من أنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنَّ الله يتكلم بصوت وينادي بصوت،
وساق في ذلك من الأحاديث الصحيحة والآثار ما ليس هذا موضع بسطه، وبيَّن الفرق بين
الصوت الذي ينادي الله به وبين الصوت الذي يسمع من العباد، وأنَّ الصوت الذي تكلم
الله به ليس هو الصوت المسموع من القارئ، وبيَّن دلائل ذلك، وأنَّ أفعال العباد
وأصواتهم مخلوقة، والله تعالى بفعله وكلامه غير مخلوق. وقال في قوله: "ما
يأتيهم من ذكر من ربهم محدث" إنَّ حدثه ليس كحدث المخلوقين، وذكر قول النبي
صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يحدث من أمره ما شاء، وإنَّ مما أحدث أن لا
تكلموا في الصلاة"، وذكر عن علماء السلف: أنَّ خلق الرب للعالم ليس هو
المخلوق؛ بل فعله القائم به غير مخلوق، وذكر عن نعيم بن حماد الخزاعي: أنَّ الفعل
من لوازم الحياة وأنَّ الحي لا يكون إلا فعَّالاً، إلى غير ذلك من المعاني التي
تدل على علمه وعلم السلف بالحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول.
وذكر
أنَّ كل واحدة من طائفتي "اللفظية المثبتة والنافية" تنتحل أبا عبدالله،
وأنَّ أحمد بن حنبل كثيرٌ مما يُنقل عنه كذب، وأنهم لم يفهموا بعض كلامه لدقته
وغموضه، وأنَّ الذي قاله وقاله الإمام أحمد هو قول الأئمة والعلماء وهو الذي دل
عليه الكتاب والسنة.
ورأيتُ
بخطِّ القاضي أبي يعلى رحمه الله على ظهر "كتاب العدة" بخطه قال: نقلتُ
من آخر "كتاب الرسالة" للبخاري في أنَّ القراءة غير المقروء، وقال: وقع
عندي عن أحمد بن حنبل على اثنين وعشرين وجهاً؛ كلها يخالف بعضها بعضاً، والصحيح
عندي أنه قال: ما سمعتُ عالماً يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، قال: وافترق أصحاب
أحمد بن حنبل على نحو من خمسين، قال أبو عبدالله البخاري: قال ابن حنبل:
"اللفظي" الذي يقول: القرآن بألفاظنا مخلوق)).
المحور الخامس: أنَّ الإمام أحمد رحمه الله هو
الإمام القدوة المتَّبع في مسألة الكلام واللفظ.
قال
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 12/ 358]: ((وصار الإمام أحمد عَلَماً لأهل السنة الجائين بعده من جميع الطوائف؛ كلهم
يوافقه في جمل أقواله وأصول مذاهبه، لأنه حفظ على الأمة الإيمان الموروث
والأصول النبوية - ممن أراد أن يحرفها ويبدلها -، ولم يشرع ديناً لم يأذن الله به،
والذي قاله هو الذي يقوله سائر الأئمة الأعيان، حتى إنَّ أعيان أقواله منصوصة عن
أعيانهم؛ لكنْ جمع متفرقها وجاهد مخالفها، وأظهر دلالة الكتاب والسنة عليها،
ومقالاته ومقالات الأئمة قبله وبعده في الجهمية كثيرة مشهورة، والجهمية هم نفاة
صفات الله المتبعون للصابئة الضالة، وصارت فروع التجهم تجول في نفوس كثير من
الناس، فقال بعض من كان معروفاً بالسنة والحديث: ولا نقول مخلوق ولا غير مخلوق بل
نقف، وباطن أكثرهم موافق للمخلوقية، ولكن كان المؤمنون أشد رهبة في صدورهم من الله،
وطائفة أخرى قالت: نقول كلام الله الذي لم ينزله غير مخلوق، وأما القرآن الذي
أنزله على رسوله وتلاه جبريل ومحمد والمؤمنون فهو مخلوق وهؤلاء هم اللفظية، فصارت
الأمة تفزع إلى إمامها إذ ذاك فيقول لهم أحمد: افترقت الجهمية على ثلاث فرق...)).
وقال رحمه الله [المجموع 12/ 420-421]: ((وكذلك ذم "الواقفة" وتضليلهم - الذين لا
يقولون مخلوق ولا غير مخلوق - مأثور عن جمهور هؤلاء الأئمة؛ مثل ابن الماجشون وأبي
مصعب ووكيع بن الجراح وأبي الوليد وأبي الوليد الجارودي صاحب الشافعي والإمام أحمد
بن حنبل وأبي ثور وإسحاق بن راهويه ومن لا يحصي عدده إلا الله.
وأما
البدعة الثانية - المتعلِّقة بالقرآن المنزَّل تلاوة العباد له - وهي "مسألة
اللفظية" فقد أنكر بدعة اللفظية - الذين يقولون: إنَّ تلاوة القرآن وقراءته
واللفظ به مخلوق - أئمة زمانهم، جعلوهم من الجهمية، وبينوا أنَّ قولهم يقتضي القول
بخلق القرآن، وفي كثير من كلامهم تكفيرهم.
وكذلك
مَنْ يقول: إنَّ هذا القرآن ليس هو كلام الله وإنما هو حكاية عنه أو عبارة عنه، أو
أنه ليس في المصحف والصدور إلا كما أنَّ الله ورسوله في المصاحف والصدور ونحو ذلك.
وهذا
محفوظ عن الإمام أحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي مصعب الزهري وأبي ثور وأبي الوليد
الجارودي ومحمد بن بشار ويعقوب بن إبراهيم الدورقي ومحمد بن يحيى بن أبي عمرو
العدني ومحمد بن يحيى الذهلي ومحمد بن أسلم الطوسي وعدد كثير لا يحصيهم إلا الله
من أئمة الإسلام وهداته. وكذلك أنكر بدعة "اللفظية المثبتة" - الذين
يقولون: إنَّ لفظ العباد أو صوت العباد به غير مخلوق، أو يقولون: إنَّ التلاوة
التي هي فعل العبد وصوته غير مخلوقة - الأئمة الذين بلغتهم هذه البدعة؛ مثل الإمام
أحمد بن حنبل وأبي عبد الله البخاري صاحب الصحيح وأبي بكر المروذي أخص أصحاب
الإمام أحمد بن حنبل به، وأخذ في ذلك أجوبة علماء الإسلام إذ ذاك؛ ببغداد والبصرة
والكوفة والحرمين والشام وخراسان وغيرهم؛ مثل عبد الوهاب الوراق وأبي بكر الأثرم
ومحمد بن بشار بندار وأبي الحسين علي بن مسلم الطوسي ويعقوب الدورقي ومحمد بن سهل
بن عسكر ومحمد بن عبد الله المخرمي الحافظ ومحمد بن إسحاق الصاغاني والعباس بن
محمد الدوري وعلي بن داود القنطري ومثنى بن جامع الأنباري وإسحاق بن إبراهيم بن
حبيب بن الشهيد ومحمد بن يحيى الأزدي والحسن بن عبد العزيز الجروي وعبد الكريم بن
الهيثم العاقولي وأبي موسى بن أبي علقمة النفروني وغيره من علماء المدينة، ومحمد
بن عبد الرحمن المقري وأبي الوليد بن أبي الجارود وأحمد بن محمد بن القاسم بن أبي
مرة وغيرهم من أهل مكة، وأحمد بن سنان الواسطي وعلي بن حرب الموصلي ومن شاء الله
تعالى من أئمة أهل السنة وأهل الحديث من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل وغيرهم، ينكرون
على مَنْ يجعل لفظ العبد بالقرآن أو صوته به أو غير ذلك من صفات العباد المتعلقة
بالقرآن غير مخلوقة، ويأمرون بعقوبته بالهجر وغيره، وقد جمع بعض كلامهم في ذلك أبو
بكر الخلال في "كتاب السنة".
ومن
المشهور في "كتاب صريح السنة" لمحمد بن جرير الطبري وهو متواتر عنه لما
ذكر الكلام في أبواب السنة قال: "وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن؛ فلا
أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا إلا عمن في قوله الشفاء والعفاء، وفي
إتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى؛ أبي عبد الله أحمد بن
محمد بن حنبل، فإنَّ أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعتُ أبا عبد الله أحمد بن
محمد بن حنبل يقول: "اللفظية جهمية، يقول الله: "حتى يسمع كلام
الله"، ممن يسمع؟!"، قال ابن جرير: وسمعتُ جماعة من أصحابنا - لا
أحفظ أسماءهم - يحكون عنه أنه كان يقول: "من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو
جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع"، قال ابن جرير: ولا قول في ذلك عندنا
يجوز أن نقوله غير قوله؛ إذ لم يكن لنا إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع،
وهو الإمام المتبع)).
وقال
رحمه الله [المجموع 12/ 417-418]: ((بل الذي يُعلم من حيث الجملة: أنَّ الإمام أحمد والأئمة
الكبار الذين لهم في الأمة لسان صدق عام لم يتنازعوا في شيء من هذا الباب؛ بل كان
بعضهم أعظم علماً به وقياماً بواجبه من بعض، وقد غلط في بعض ذلك من أكابر الناس
جماعات، وقد ردَّ الإمام أحمد عامة البدع في هذا الباب هو والأئمة.
فأول
ما ابتدع الجهمية القول بخلق القرآن ونفي الصفات؛ فأنكرها مَنْ كان في ذلك الوقت
من التابعين ثم تابعي التابعين ومن بعدهم من الأئمة وكفروا قائلها، ثم ابتدع بعض
أهل الحديث والكلام الذين ناظروا الجهمية القول بأنَّ القرآن المنزَّل مخلوق أو
أنه ليس بكلام الله أو أنه ليس في المصاحف ولا في الصدور وأنكر بعضهم أن تكون حروف
القرآن كلام الله أو أن يكون الله تكلم بالصوت؛ وأنكر الإمام أحمد وأئمة وقته ذلك،
وقابلهم قوم من أهل الكلام والحديث فزعموا أنَّ ألفاظ العباد وأصوات العباد غير
مخلوقة أو ادَّعوا أنَّ بعض أفعال العباد أو صفاتهم غير مخلوقة أو أنَّ ما يسمع من
الناس من القرآن هو مثل ما يسمع من الله تعالى من كل وجه ونحو ذلك؛ فأنكر الإمام
أحمد وعامة أئمة وقته وأصحابه وغيرهم من العلماء ذلك.
وإنكار
جميع هذه البدع وردها موجود عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة في الكتب الثابتة مثل "كتاب السنة" للخلال و
"الإبانة" لابن بطة و "كتب المحنة" التي رواها حنبل وصالح و
"كتاب السنة" لعبدالله بن أحمد و "السنة" للالكائي و
"السنة" لابن أبي حاتم، وما شاء الله من الكتب)).
المحور السادس: أنه لا خلاف بين الإمامين أحمد
والبخاري في مسألة اللفظ
نقل الحلبي عن العلامة ابن
القيم رحمه الله - بما يفهم منه القارئ! - أنَّ بين الإمامين أحمد والبخاري خلافاً
في الموقف من اللفظية!، وليس الأمر كذلك، فقد وضَّح العلامة ابن القيم - بعد النقل
الذي ذكره الحلبي مباشرة! - أنَّ مذهبهما واحد وموقفهما واحد في مسألة اللفظ؛ فقال
في [مختصر الصواعق المرسلة ص513-514]: ((وَالَّذِي قَصَدَهُ أَحْمَدُ: أَنَّ اللَّفْظَ
يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ؛ أَحَدُهُمَا: الْمَلْفُوظُ نَفْسُهُ وَهُوَ غَيْرُ
مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ وَلَا فِعْلٍ لَهُ، الثَّانِي: التَّلَفُّظُ بِهِ
وَالْأَدَاءُ لَهُ وَفِعْلُ الْعَبْدِ، فَإِطْلَاقُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّفْظِ
قَدْ تُوهِمُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَهُوَ خَطَأٌ!، وَإِطْلَاقُ نَفْيِ الْخَلْقِ
عَلَيْهِ قَدْ يُوهِمُ الْمَعْنَى الثَّانِيَ وَهُوَ خَطَأٌ!، فَمَنَعَ
الْإِطْلَاقَيْنِ.
وَأَبُو
عَبْدِاللَّهِ الْبُخَارِيُّ مَيَّزَ وَفَصَّلَ وَأَشْبَعَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ،
وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا قَامَ بِالرَّبِّ وَبَيْنَ مَا قَامَ بِالْعَبْدِ،
وَأَوْقَعَ الْمَخْلُوقَ عَلَى تَلَفُّظِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ
وَحَرَكَاتِهِمْ وَأَكْسَابِهِمْ، وَنَفَى اسْمَ الْخَلْقِ عَنِ الْمَلْفُوظِ
وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي سَمِعَهُ جَبْرَائِيلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
وَسَمِعَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ جَبْرَائِيلَ، وَقَدْ شَفَى فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ "خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ"، وَأَتَى
فِيهَا مِنَ الْفُرْقَانِ وَالْبَيَانِ بِمَا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ وَيُوَضِّحُ
الْحَقَّ، وَيُبَيِّنُ مَحَلَّهُ مِنَ الْإِمَامَةِ وَالدِّينِ، وَرَدَّ عَلَى
الطَّائِفَتَيْنِ أَحْسَنَ الرَّدِّ.
وَقَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ: فَأَمَّا مَا احْتَجَّ الْفَرِيقَانِ
لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَيَدَّعِيهِ كُلٌّ لِنَفْسِهِ فَلَيْسَ بِثَابِتِ كَثِيرٍ
مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَرُبَّمَا لَمْ يَفْهَمُوا دِقَّةَ مَذْهَبِهِ، بَلِ
الْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَدَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى
غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَأَنَّهُمْ كَرِهُوا
الْبَحْثَ وَالتَّفْتِيشَ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْغَامِضَةِ وَتَجَنُّبِ أَهْلِ
الْكَلَامِ وَالْخَوْضَ وَالتَّنَازُعَ إِلَّا فِيمَا جَاءَ بِهِ الْعِلْمُ
وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْفَرِيقَانِ
اللَّذَانِ عَنَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَتَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِمَا وَإِبْطَالِ
قَوْلِهِمَا، ثُمَّ أَخْبَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ
الطَّائِفَتَيْنِ الزَّائِغَتَيْنِ تَحْتَجُّ بِأَحْمَدَ، وَتَزْعُمُ أَنَّ
قَوْلَهَا قَوْلُهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ
أُولَئِكَ اللَّفْظِيَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، وَهَذَا قَوْلُ
مَنْ يَقُولُ التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ
وَالْكِتَابَةُ هِيَ الْمَكْتُوبُ.
وَالطَّائِفَةُ
الثَّانِيَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: التِّلَاوَةُ وَالْقِرَاءَةُ مَخْلُوقَةٌ،
وَيَقُولُونَ: أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، وَمُرَادُهُمْ
بِالتِّلَاوَةِ وَالْقُرْآنِ نَفْسُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي
سُمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَتْلُوُّ
الْمَقْرُوءُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ وَهُوَ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ، فَإِذَا قَالُوا: الْقُرْآنُ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ أَرَادُوا بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمَتْلُوُّ الْمَقْرُوءُ، وَأَمَا
الْمَقْرُوءُ الْمَسْمُوعُ الْمُثْبَتُ فِي الْمَصَاحِفِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ
وَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ التِّلَاوَةُ غَيْرُ الْمَتْلُوِّ،
وَالْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ، وَالْكِتَابَةُ غَيْرُ الْمَكْتُوبِ وَهِيَ
مَخْلُوقَةٌ، وَالْمَتْلُوُّ الْمَقْرُوءُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ غَيْرُ
مَسْمُوعٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُرُوفٍ وَلَا أَصْوَاتٍ، وَالْفَرِيقَانِ مَعَ
كُلٍّ مِنْهُمَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ)).
ثم
قال [الصواعق المرسلة ص514]: ((وَالْبُخَارِيُّ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ بُرَآءُ مِنْ
هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَالثَّابِتُ الْمُتَوَاتِرُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
هُوَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ خَوَاصُّ أَصْحَابِهِ وَثِقَاتِهِمْ، كَمَا بَيَّنَهُ
صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَرُّوذِيُّ وَغَيْرُهُمْ: مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى
الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعاً كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، فَأَحْمَدُ
وَالْبُخَارِيُّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْفَرِيقَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ
قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جَهْمِيٌّ، وَمَنْ قَالَ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَأُهُ الْمُسْلِمُونَ
هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَحَيْثُ تَصَرَّفَ كَلَامُ اللَّهِ،
فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَانَ يَقُولُ بِخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ
وَأَصْوَاتِهِمْ، وَإِنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْقَارِئِ هُوَ صَوْتُهُ
وَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَيَقُولُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "«لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ"
مَعْنَاهُ: يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ، كَمَا قَالَ: "زَيِّنُوا الْقُرْآنَ
بِأَصْوَاتِكُمْ".
وَلَمَّا
كَانَ كُلُّ مَنِ احْتَجَّ بِكَلَامِ أَحْمَدَ عَلَى شَيْءٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ
أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ النَّقْلِ عَنْ ذَلِكَ الْقَائِلِ، وَالثَّانِي:
مَعْرِفَةُ كَلَامِهِ.
قَالَ
الْبُخَارِيُّ: فَمَا احْتَجَّ بِهِ الْفَرِيقَانِ مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ لَيْسَ
بِثَابِتِ كَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ!، وَرُبَّمَا لَمْ يَفْهَمُوا دِقَّةَ
مَذْهَبِهِ!، فَذَكَرَ أَنَّ مِنَ الْمَنْقُولِ عَنْهُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ،
وَالثَّابِتُ عَنْهُ قَدْ لَا يَفْهَمُونَ مُرَادَهُ لِدِقَّتِهِ عَلَى
أَفْهَامِهِمْ.
وَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِذْ
جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا قَوْماً
يَقُولُونَ: إِنَّ أَلْفَاظَهُمْ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ، قَالَ أَبُو
عَبْدِاللَّهِ: يَتَوَجَّهُ الْعَبْدُ لِلَّهِ بِالْقُرْآنِ بِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ؛
وَهُوَ فِيهَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ: حِفْظٌ بِقَلْبٍ، وَتِلَاوَةٌ بِلِسَانٍ،
وَسَمْعٌ بِأُذُنٍ، وَنَظْرَةٌ بِبَصَرٍ، وَخَطٌّ بِيَدٍ، فَالْقَلْبُ مَخْلُوقٌ،
وَالْمَحْفُوظُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالتِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ، وَالْمَتْلُوُّ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالسَّمْعُ مَخْلُوقٌ، وَالْمَسْمُوعُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ،
وَالنَّظَرُ مَخْلُوقٌ، وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالْكِتَابَةُ
مَخْلُوقَةٌ، وَالْمَكْتُوبُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَمَاتَ
أَحْمَدُ فَرَأَيْتُهُ فِي النَّوْمِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ وَبِيضٌ، وَعَلَى
رَأْسِهِ تَاجٌ مِنَ الذَّهَبِ مُكَلَّلٌ بِالْجَوَاهِرِ، وَفِي رِجْلَيْهِ
نَعْلَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ غَفَرَ لِي
وَقَرَّبَنِي وَأَدْنَانِي، فَقَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا
رَبِّ بِمَاذَا؟ قَالَ: بِقَوْلِكَ كَلَامِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
فَفَرَّقَ
أَحْمَدُ بَيْنَ فِعْلِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ وَمَا قَامَ بِهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ،
وَبَيْنَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ كَسْبُهُ وَهُوَ غَيْرُ مخلوق، وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ هَذَا التَّفْرِيقَ لَمْ
يَسْتَقِرَّ لَهُ قَدَمٌ فِي الْحَقِّ)).
قلتُ:
وهذا
التفريق هو نفسه الذي ذهب إليه الإمام البخاري كما تقدَّم عنه، والإمام أحمد قيَّد
في بعض كلامه ما يدل على هذا التفريق أيضاً؛ وإنما أطلق الإنكار على العبارتين
لأنَّ فيهما إجمال وإيهام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في [درء تعارض
العقل والنقل 1/ 149]: ((ولهذا قال أحمد في بعض كلامه: "مَنْ قال لفظي
بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي"، احترازاً عما إذا أراد به فعله
وصوته. وذكر اللالكائي أنَّ بعض مَنْ كان يقول ذلك رأى في منامه كأنَّ عليه فروة
رجل يضربه فقال له: لا تضربني!، فقال: إني لا أضربك وإنما أضرب الفروة!!، فقال:
إنَّ الضرب إنما يقع ألمه عليَّ، فقال: هكذا إذا قلتَ: لفظي بالقرآن مخلوق وقع
الخلق على القرآن.
ومن
قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق أو تلاوتي؛ دخل في ذلك المصدر الذي هو علمه، وأفعال
العباد مخلوقة. ولو قال: أردتُ به أنَّ القرآن المتلو غير مخلوق لا نفس حركاتي؛
قيل له: لفظك هذا بدعة وفيه إجمال وإيهام وإنْ كان مقصودك صحيحاً.
كما
يقال للأول - إذا قال: أردتُ أنَّ فعلي مخلوق - لفظك أيضاً بدعة وفيه إجمال وإيهام
وإنْ كان مقصودك صحيحاً.
فلهذا منع أئمة السنة الكبار إطلاق هذا وهذا،
وكان هذا وسطاً بين الطرفين، وكان أحمد وغيره من الأئمة يقولون: القرآن حيث تصرف
كلام الله غير مخلوق، فيجعلون القرآن نفسه حيث تصرف غير مخلوق من غير أن يقترن
بذلك ما يشعر أنَّ أفعال العباد وصفاتهم غير مخلوق)).
ثم
قال رحمه الله: ((والمقصود هنا: أنَّ الأئمة الكبار كانو يمنعون من إطلاق
الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة لما فيه من لبس الحق بالباطل مع ما توقعه من
الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بينت معانيها،
فإنَّ ما كان مأثوراً حصلت له الألفة، وما كان معروفاً حصلت به المعرفة)).
قلتُ:
وهذا
هو أصل أهل السنة في الألفاظ المجملة التي تحتمل الحق والباطل، فالواجب المنع من
استعمالها لما فيها من لبس وفتنة، ومَنْ استعملها يُنكر عليه ويشنَّع، بل قد يُنسب
إلى البدعة.
والمقصود
أنه ليس ثمة خلاف بين الإمامين أحمد والبخاري في مسألة اللفظ، بل مات الإمام أحمد
وهو يثني على البخاري ومَنْ نقل غير ذلك فقد كذب، قال شيخ الإسلام رحمه الله في
[المجموع 12/ 305]: ((وكانت محنة البخاري مع أصحابه محمد بن يحيى الذهلي وغيره
بعد موت أحمد بسنين، ولم يتكلَّم أحمد في البخاري إلا بالثناء عليه، ومَنْ نقل عن
أحمد أنه تكلَّم في البخاري بسوء فقد افترى عليه)).
المحور السابع: أنَّ كلام الإمام أحمد أسد وأبين
وأصلح من جهة عموم أهل الإيمان وتثبيت جمل الاعتقاد، وكلام الإمام البخاري أوضح
وأمتن من جهة أهل العلم والتحقيق.
الإمام البخاري لما رأى أنَّ
أهل العلم الذين ينتسبون إلى الإمام أحمد قد افترقوا إلى طائفتين، كل طائفة تحمل
كلام أحمد على مذهبهم وتنكر على الأخرى، فذكر هذا التفريق والتفصيل لينتهي الخلاف
بينهما، ولئلا يستغله أهل الاتحاد والقدر في وقته ممن يقول أنَّ أفعال العباد غير
مخلوقة، بينما في وقت الإمام أحمد كانت الفتنة قائمة في مسألة كلام الله، فأراد
أحمد أن يسد الباب على أهل التجهم، ثم لعسر فهم هذا التفريق على عموم أهل الإيمان،
لهذا أطلق الإنكار على العبارتين، ولا ريب أنَّ الإنكار يختلف بحسب الحاجة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله [المجموع 12/ 430]: ((وإنما نبَّهت على أصل مقالة الإمام أحمد وسائر أئمة
السنة وأهل الحديث في "مسألة تلاوتنا للقرآن" لأنها أصل ما وقع من
الاضطراب والتنازع في هذا الباب مثل مسألة الإيمان؛ هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟
ومسألة نور الإيمان والهدى ونحو ذلك من المسائل التي يكثر تنازع أهل الحديث والسنة
فيها، ويتمسك كل فريق ببعض من الحق، فيصيرون بمنزلة الذين أوتوا نصيباً من الكتاب،
مختلفين في الكتاب، كل منهم بمنزلة الذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض، وهم عامتهم في جهل
وظلم؛ جهل بحقيقة الإيمان والحق، وظلم الخلق، ويقع بسببها بين الأمة من التكفير
والتلاعن ما يفرح به الشيطان ويغضب له الرحمن، ويدخل به من فعل ذلك فيما نهى الله
عنه من التفرق والاختلاف، ويخرج عما أمر الله به من الاجتماع والائتلاف.
وأصل
ذلك القرب والاتصال الحاصل بين ما أنزله الله تعالى من القرآن والإيمان الذي هو من
صفاته وبين أفعال العباد وصفاتهم؛ فلعسر الفرق والتمييز يميل قوم إلى زيادة في
الإثبات، وآخرون إلى زيادة في النفي.
ولهذا
كان مذهب الإمام أحمد والأئمة الكبار النهي عن الإثبات العام والنفي العام؛ بل
إما الإمساك عنهما وهو الأصلح للعموم وهو جمل الاعتقاد، وأما التفصيل
المحقق فهو لذي العلم من أهل الإيمان، كما أنَّ الأول لعموم أهل الإيمان.
وهذه
المسألة لها أصلان:
أحدهما:
أنَّ أفعال العباد مخلوقة؛ وقد نصَّ عليها الأئمة أحمد وغيره وسائر أئمة أهل السنة
والجماعة المخالفين للقدرية، واتفقت الأمة على أنَّ أفعال العباد محدثة.
والأصل
الثاني: مسألة تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به؛ هل يقال: إنه مخلوق أو غير مخلوق؟
والإمام أحمد قد نصَّ على رد المقالتين هو وسائر أئمة السنة من المستقدمين
والمستأخرين؛ لكن كان رده على "اللفظية النافية" أكثر وأشهر وأغلظ
لوجهين:
أحدهما:
أنَّ قولهم يفضي إلى زيادة التعطيل والنفي، وجانب النفي أبداً شر من جانب الإثبات؛
فإنَّ الرسل جاءوا بالإثبات المفصَّل في صفات الله، وبالنفي المجمل؛ فوصفوه بالعلم
والرحمة والقدرة والحكمة والكلام والعلو وغير ذلك من الصفات، وفي النفي "ليس
كمثله شيء"، "ولم يكن له كفواً أحد".
وأما
الخارجون عن حقيقة الرسالة من الصابئة والفلاسفة والمشركين وغيرهم ومَنْ تجهَّم من
أتباع الأنبياء فطريقتهم النفي المفصل؛ ليس كذا، ليس كذا، وفي الإثبات أمر مجمل،
ولهذا يقال: المعطل أعمى والمشبه أعشى، فأهل التشبيه مع ضلالهم خير من أهل
التعطيل.
الوجه
الثاني: أنَّ أحمد إنما ابتلي بالجهمية المعطَّلة، فهم خصومه، فكان همه منصرفاً
إلى رد مقالاتهم؛ دون أهل الإثبات فإنه لم يكن في ذلك الوقت والمكان مَنْ هو داع
إلى زيادة في الإثبات كما ظهر من كان يدعو إلى زيادة في النفي، والإنكار يقع
بحسب الحاجة.
والبخاري
لما ابتلي "باللفظية المثبتة" ظهر إنكاره عليهم؛ كما في تراجم آخر كتاب
"الصحيح" وكما في كتاب "خلق الأفعال"، مع أنه كذَّب مَْن نقل
عنه أنه قال: "لفظي بالقرآن مخلوق" من جميع أهل الأمصار،، وأظنه حلف على
ذلك؛ وهو الصادق البار)).
وقال
رحمه الله في [المجموع 12/ 395]: ((ومَنْ تأمل نصوص الإمام أحمد في هذا الباب؛ وجدها من
أسد الكلام وأتم البيان، ووجد كل طائفة منتسبة إلى السنة قد تمسكت منها بما
تمسكت ثم قد يخفى عليها من السنة في موضع آخر ما ظهر لبعضها فتنكره)).
وأخيراً:
فهذا
ما أحببتُ بيانه في هذه المسألة التي فتح الباب فيها الحلبي ولم يعطها حقها من
البحث والتحقيق!، لئلا يقع اللبس والتخليط في أذهان أهل الإيمان، والله المستعان
وعليه التكلان.
جزاكم الله خيراً يا أهل
السنة الأفاضل على هذا المرور والتعليقات المفيدة
وقد سُئل الشيخ الألباني
رحمه الله تعالى السؤال الآتي: هل
يجوز القول إنَّ لفظنا بالقرآن مخلوق؟
فكان جوابه: ((هذه المسألة
فى اعتقادي لا حاجة ولا مبرر لإثارتها في العصر الحاضر؛ لأنها قد تكون سبباً
لإساءة فهم السامعين لهذه الكلمة سواء أثبتت أو نفيت.
فإذا قيل: لفظي بالقران مخلوق؛
يمكن أن يؤخذ على أنَّ القران نفسه مخلوق، وهذا ما وقع في إمام المحدثين
في زمانه وهو الإمام البخاري، فكبار أصحابه وكثير من حفاظ الحديث خاصموه وعادوه
لأنه قال هذه الكلمة!.
والآن نحن لسنا في هذا الصدد
وفى هذا
العصر؛ ذلك لأنَّ جماهير المسلمين اليوم حينما يشاركوننا في الاعتقاد بأنَّ القرآن كلام
الله وكلام الله غير مخلوق، هم يفسرونه بتفسير معروف في كتبهم بأنَّ كلام الله تبارك
وتعالى نفسيٌ وليس كلاماً لفظياً مسموعاً عند المصطفَين الأخيار، الخلاف الآن الموجود
يكفينا، ولا نريد أن نثير خلافاً قديماً كان بين أهل السنة أنفسهم.
فالخلاف الموجود
اليوم بين أهل السنة وأتباع أهل الحديث والمخالفين لهم ممن ينتمون إلى مذهب الماتريدي
أو الأشعري هذا خلاف كافينا، فما يجوز أن نثير بيننا نحن الذين نقول أنَّ كلام
الله عز وجل كلام حقيقي مسموع كما في الآية الكريمة "فأستمع لما يوحى".
أما هل يجوز
لنا أن نقول لفظي بالقرآن مخلوق؟ ما الذي يترتب من وراء هذا، وخاصة في العصر الحاضر،
فهو في اعتقادي وهذا خلاصة جوابي: بأنه غير ذي موضوع الآن في العصر الحاضر، أما
إذا كان إنسان فرد من الأفراد عنده شبهة عنده إشكال حول هذه الكلمة سلباً أو إيجاباً
يمكن هذا البحث معه على إنفراد، أما أن نثيرها جماعية هكذا بين الناس يمكن أكثرهم فكرهم
خالي عن هذا الموضوع إطلاقاً؛ سواء قيل أنه يجوز بمعنى كذا أو لا يجوز إذا كان بمعنى
كذا، هذا جوابي عن هذا السؤال)) [سلسلة الهدى والنور/ الشريط (247) الدقيقة (00:32:30)].
وفي جواب لسؤال آخر قال رحمه
الله:
((يختلف الأمر أخي بين القصد؛
وهذا الخلاف الواقع وقع بين الإمام البخاري إمام المحدثين والإمام الذهلي أيضاً من
كبار أئمة الحديث في بخارى، حتى قام الذهلي على البخاري واضطره إلى أن يهجر بلده. والمسألة
فيها دقة من حيث التعبير - وما كنتُ أحب أن يلقى مثل هذا السؤال في مثل هذا الجمع
- لأنه أشبه ما يكون الجواب بالفلسفة وقد تشرد بعض الأذهان عن المراد بهذا الكلام فيقع
المحذور الذي قال: "مَنْ قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي" تقع هذه المشكلة
نفسها.
لماذا قال الإمام أحمد هذه
الكلمة وغيره؟
لأنَّ هذه ذريعة ليقول القائل
أنَّ القرآن مخلوق، ذريعة، خطوة، أما التدقيق وهو الذي عناه البخاري هو: أنا تلفظي،
وأنا تلفظي حادث بلا شك، وأنا أتلفظُ بالقرآن الآن فأقول "ألم"، تلفظي أنا
هو حادث مخلوق، لكن لما أقول أنا: لفظي بالقرآن مخلوق قد يفهم بعض الناس أنَّ القرآن
نفسه هو المخلوق، ولذا فالإمام احمد وبخاصة أنَّ ذاك الزمن كان الزمن الصولة والدولة
للمعتزلة، فأراد الإمام أحمد قطع دابر كل وسيلة تؤدي إلى تأييد الجهمية والمعتزلة ونحو
ذلك، وإلا إذا عرفنا قصد المتكلِّم كما أقول أنا الآن: لفظي أنا لما أقول أنا:
"ألم" لفظي أنا هذا مخلوق؛ لأنَّ أنا مخلوق، لكنَّ الله الذي تكلَّم به فكلامه
غير مخلوق؛ هذا هو المقصود)) [سلسلة الهدى والنور/ الشريط (261)، الدقيقة: 00:09:18].
وسُئل رحمه الله تعالى: ما
معنى قول "لفظي بالقرآن مخلوق"؟ وما صحة هذه العبارة؟
فكان جوابه: ((أعتقد أنَّ
هذا السؤال كما يقال في هذا العصر غير ذي موضوع، يعني لا يترتب من ورائه فقه ولا عقيدة
إلا إذا كان هناك فعلاً يوجد شخص يقول: "لفظي بالقرآن مخلوق" حينئذ نسأله
ماذا تعني بهذا اللفظ؟ لأنَّ هذا اللفظ يُمكن استعماله بمعنيين متناقضين تماماً؛ معنى
صحيح ومعنى باطل، ولذلك صح عن الإمام أحمد أنه مَنْ يقول هذه الكلمة "لفظي بالقرآن
مخلوق" هذا جهمي، بينما تلميذه الإمام البخاري كان يقول: "لفظي بالقرآن مخلوق"،
أو مَنْ قال: "لفظي بالقرآن مخلوق" فهو مصيب، كيف هذا؟! لأنَّ هذه اللفظة
تعني معنيين متعاكسين تماماً، ...))، ثم واصل رحمه الله في ذم استعمال هذه الكلمة والخوض
فيها، وبيَّن أنَّ مَنْ فصَّل من أهل العلم لأنه اضطر لذلك لئلا يُستغل هذا اللفظ من
المبتدعة، وأنَّ اختلاف جواب الأئمة بين السكوت والتفصيل بحسب واقعهم ووجهتهم، وليسعنا
ما وسع السلف الصالح، وانظر ذلك كله في [سلسلة الهدى والنور/ الشريط (708) الدقيقة: 00:04:14].
قلتُ:
وهذا ما يقول به السلفيون
اليوم.
فما بال الحلبي أثار هذه
المسألة بدعوى أنه يريد أن يبين أنَّ الحقَّ مع البخاري، فما حرر القول ولا حقق المقام!،
وإنما مراده الانتصار لنفسه ولو بما لا يحتمله المقام والمقال الذي نقله، وكذا تشبيه
محنة البخاري مع أهل الحديث بمحنته مع غلاة التجريح كما يصفهم بالباطل!.
تنبيـه/ نسبة
القول "لفظي بالقرآن مخلوق" إلى الإمام البخاري رحمه الله - كما في كلام
الشيخ الألباني رحمه الله - غلطٌ كما تقدَّم في المقال والتعليقات أعلاه، فليُنتبه
لهذا.
والله
الموفِّق
وكتبه:
أبو معاذ رائد آل طاهر
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.