الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَنْ سار على
نهجه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد:
لقد كانت مسألة الانتخابات من المسائل التي لا يخوض فيها إلا الأحزاب الدينية
السياسية أو العلمانية دعاة الديمقراطية، وأما السلفيون فلا ينشغلون بمثل هذه
الأمور، وإنما همهم الأول هو الدعوة إلى إصلاح عقائد الناس وعباداتهم وأخلاقهم،
لأنهم يعتقدون أنَّ الدعوة إلى التوحيد والسنة هو الواجب الذي يكون منه الانطلاق
في منهج الإصلاح والتغيير.
لكن لما صارت الانتخابات في كثير من البلاد الإسلامية من المسائل التي تعم
بها البلوى، تأثر كثير من السلفيين بهذه الفتنة والبلاء، حتى أنَّه لوحظ في كثير
من الانتخابات أنَّ بعض دعاة السلفيين قام بأعمال ومسالك مشابهة لمسالك الحزبيين!،
بل وكثيرٌ منهم كان متحمِّساً للانتخابات داعياً لها بسعي وحرص كحال دعاة الأحزاب
في وقت دعاياتهم الانتخابية!، حتى سُخِّرت المنابر والدروس والمجالس لنصرة قائمة
انتخابية بعينها أو مرشح بعينه!!.
بل لوحظ أنَّ بعض السلفيين قام بنشر صور المرشَّحين وقوائمهم على المساجد التي
في محلته أو محافظته لتعلَّق على الجدران أو لتوزَّع على الناس بعد الصلوات وفي
الطرقات!، مع دفاع عن الذين يؤيِّدونهم بحماسة وقوة، وتحقير وانتقاص لغيرهم، حتى
وقع الخلاف بينهم في أي المرشحين أنسب وأصلح للسلفيين؟!.
وقد دعا بعض السلفيين إلى أن يُرشِّحوا مَنْ يُمثلهم من السلفيين وأن
يدخلوا العملية السياسية في البرلمان أو مجلس المحافظة أو المجلس البلدي أو غير
ذلك، لتكون لهم كلمة هناك زعموا!، واستدل بما استدل به الحزبيون من قبل؛ مثل طلب
نبي الله يوسف عليه السلام حين قال للملك: ((اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ
إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ))!.
وتداعى الكثيرون ممن ينتسبون إلى السلفية من بقاع مختلفة من البلاد، وطرحوا
مشروع إنشاء تكتل حزبي أو جماعي للسلفيين!، ثم المشاركة بالعملية السياسية!، بحيث
يستقل السلفيون عن الأحزاب الأخرى سواء كانت الدينية أو العلمانية، وفعلاً وقع
ذلك، وتم إنشاء أحزاب تنتسب للسلفية!.
وبسبب المواقف المتباينة بين دعاة السلفيين وقعت بينهم فتنة حول
الانتخابات، فصار كلٌّ منهم يتبنى موقفاً ويُخاصم عليه، حتى تعجَّب من اختلافهم
ومواقفهم هذه عوامُ الناس!؛ الذين كانوا ينظرون إلى السلفيين نظرة تقدير وإجلال،
وأنَّ مواقفهم واحدة، وأنهم ليسوا ممن يركض ويحرص على المناصب السياسية، لكن هذه
النظرة تغيرت بعد تلك المواقف المتباينة!، والله المستعان.
وكثرت المجالس الخاصة (السرية) هنا وهناك بين المنتسبين إلى السلفية!،
وبدأت الارتباطات بين فلان وفلان، وبين جماعة فلان وجماعة فلان، وبدأ موضوع
الانتخابات يُطرح بينهم على أنه من المسلَّمات لا من الضرورات!، وبدأ يأخذ طور
التأصيل!، ورُبِطَ الموضوع بمقاصد الشريعة والمصالح والمفاسد!!؛ هذا الباب الذي
ولج منه الكثيرون ممن ليسوا من أهله فأباحوا المحظورات وعطَّلوا الواجبات، ومن
المعلوم أنه لا ينبغي أن يلجه إلا الراسخون في العلم.
من أجل ما تقدَّم، ومن أجل أن تكون كلمة السلفيين واحدة في الموقف من
الانتخابات كما كانت واحدة في غيرها من المسائل والأزمات التي مرَّت؛ كانت هذه
الكلمة:
لا بدَّ أن تعلموا إخواني: أنَّ طريقة الترشيح والانتخابات في تنصيب الحكَّام
والمسؤولين من وسائل الكفار، فهم لا يعتمدون على الأصلح في اختياراتهم، وإنما كثرة
الأصوات هي التي تحسم الموضوع وتعين الأنسب والأصلح!، فليس عندهم أهل الحل والعقد
يختارون الأنسب، وإنما الشعب على اختلاف مستويات الناس ومداركهم وغاياتهم هو الذي
يختار!!، وهم لا يفرِّقون في الاختيار بين الكافر والمسلم ولا بين الفاجر والتقي، ولا
بين المصلح والمفسد، ولا بين الرجل والمرأة، فالكل له الحق أن يرشِّح!، وكثرة
الأصوات هي المقياس في الاختيار!!، وهم يسوِّغون إنشاء الجبهة المعارضة بعد الحكومة
المنتخبة؛ ليبقى الجميع قبل الانتخابات وبعدها في عراك سياسي مستمر بعيداً عن
السعي في استثمار المشاريع وإنشاء الخدمات في البلد وغير ذلك مما يتقوى به البلد
وينعم به أهله، وهذه الأمور المتقدِّمة من نتاج فكرة الديمقراطية التي يؤمنون بها
ويدعون لها كما هو معلوم.
أما المسلمون؛ فيؤمنون بالقرآن والسنة ويكفرون بالديمقراطية وغيرها من
الأفكار العلمانية والرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والقومية، فالقرآن نصَّ على
أنَّ كثرة الأصوات لا يُستند إليها في الحكم والتصور فقال تعالى: ((قُل لاَّ
يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ
فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))، وقال: ((وَإِن
تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ
إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ))، وفرَّق القرآن بين المسلم
وغيره وبين التقي والفاجر وبين الصالح والمفسد فقال: ((أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))، وقال: ((أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ))، وفرَّق بين الرجل والمرأة
فقال: ((وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى))، وجعل القرآن الكريم القوة والأمانة هما
المقياس لمعرفة الأصلح في المناصب القيادية والإدارية والخدمية فقال في قصة موسى
عليه السلام: ((قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ))، وقال في قصة يوسف: ((وَقَالَ الْمَلِكُ
ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ
الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ))، وقال تعالى في صفة جبريل عليه السلام: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي
الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))، وقال في قصة سليمان عليه السلام: ((قَالَ
عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ
وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ))، وقال في قصة طالوت وجالوت: ((َقَالَ
لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ
أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ
وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن
يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ))؛ فبالأمانة والعلم يعرف حقَّ الله عز وجل وحق
العباد ويرعى هذين الحقين، وبالقوة يؤدي هذين الحقين كما ينبغي ويحفظهما من
الضياع، ويكون له سلطان على سياسة الناس، وقدرة على نصرة المظلومين وردع الظالمين.
والسنة جاءت ببيان أنَّ المرأة لا تصلح للولاية فقال صلى الله عليه وسلم:
((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) رواه البخاري، وجاءت بالتفريق بين مَنْ يحرص على
الولاية وبين مَنْ تأتيه من غير حرص ولا مسألة، فقال صلى الله عليه وسلم لعبد
الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: ((لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت
إليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها)) رواه البخاري ومسلم، وأنَّ مَنْ حرص
على الولاية منع منها فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى
الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال: أحدهما يا رسول الله أمرنا على بعض ما
ولاك الله وقال الآخر مثل ذلك. فقال: ((إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً
سأله ولا أحداً حرص عليه)) وفي رواية قال: ((لا نستعمل على عملنا مَنْ أراد)) رواه
البخاري ومسلم؛ فكيف بمَنْ يقوم بالدعايات الانتخابية ويصرف لها الأموال والأوقات
والجهود والطاقات للحصول عليها؟!. وقد أنذر صلى الله عليه وسلم من هذا الحال الذي
نراه اليوم في وقت الانتخابات فقال: ((إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم
القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة)) رواه البخاري.
وجاءت السنة كذلك بالتفريق في الإمارة والولاية بين القوي الشديد وبين
الضعيف اللين، وأنَّ الضعيف لا ينفع في مثل هذه المناصب ولو كان من أتقى الناس، فعن
أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على
منكبي ثم قال: ((يا أبا ذر؛ إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة،
إلا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها)) وفي رواية قال له: ((يا أبا ذر إني
أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم))
رواه مسلم.
وجاءت السنة بوجوب السمع والطاعة للأمراء ما لم يأمروا بمعصية، وأن لا
ننازع الأمراء والحكام في مناصبهم بعد تنصيبهم فقد رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال:
بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط
والمكره وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما
كنا لا نخاف في الله لومة لائم. وفي رواية: وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن
تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا بويع
لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)) كما في صحيح مسلم، فأين مبدأ الترشيح المزعزم؟!
وأين جواز الحكومة المعارضة بعد الانتخابات؟!
فهذه النصوص وغيرها كثير لا بدَّ أن يتأمَّل فيها المسلم ليعرف الفرق بين
مسالك الكفار وبين أهل الإسلام؛ وليحذر من تقليد الكفار في وسائلهم كما أوصاه نبيه
صلى الله عليه وسلم فقال: ((ستتبعون سنن مَنْ كان قبلكم باعاً بباع وذراعاً بذراع
وشبراً بشبر حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتم فيه)) قالوا: يا رسول الله؛ اليهود
والنصارى؟ قال: ((فمن إذاً؟!))، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية؛ لا بد أن نعلم أنَّ لأهل الإسلام مسالك تختلف عن مسالك
الكفار في تنصيب الخلفاء والأمراء وغيرهم، فعندنا الحكَّام وغيرهم يثبت تنصيبهم:
إما بالوصية، وإما بالشورى من قبل أهل الحل والعقد، وإما بالتوريث، وإما بقوة
السلطان؛ فأما الوصية للأصلح فقد أوصى صلى الله عليه وسلم بالخلافة لأبي بكر رضي
الله عنه كما أشارت إلى ذلك جملة من الأحاديث، ووصَّى أبو بكر بالخلافة من بعده
لعمر رضي الله عنهما، وجعلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بعده شورى يرجع الأمر
فيها إلى أهل الحل والعقد في البلد، وبقيت على هذه المسالك بين الوصية والشورى،
حتى جاء المُلك العضوض فصار الأب يورِّث ابنه من بعده، وبقي هكذا حتى جاء الملك
الجبري بقوة السيف والسلطان، وسيأتي اليوم الذي ترجع فيه الخلافة على منهاج النبوة
بإذن الله تعالى؛ كما وعد وبشَّر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أنه ليس في الإسلام أنَّ كثرة الأصوات هي التي تحسم أمر الخلافة
والحكم، ولا أنَّ الشعب يختار مَنْ يراه مناسباً عن طريق الترشيح والانتخابات، بل
الأمانة والقوة هما المقياس، وأهل الحل والعقد هم الذين يختارون وليس عوام الناس!!.
ومن جهة ثالثة؛ لا يغيب عن أذهاننا أنَّ القوانين التي تحكم بلدنا اليوم هي
قوانين وضعية، وأنَّ شريعة الإسلام في كثير من الأحكام قد أُقصيت وتعطَّلت، فهؤلاء
الذين يسعون للدخول في العملية السياسية أو للدخول في البرلمان ماذا يمكن أن
يصنعوا في ظل هذه الظلمات؛ وفي ظل دستور يؤمن بالديمقراطية (كثرة الأصوات) لإثبات
الأحكام أو إلغائها؟! ما هو موقفهم حين يمرر قانونٌ يُصادم شريعة الإسلام صراحاً؟ أو
ما هو موقفهم حين يُعطَّل حكم شرعي بواحاً؟ وما أكثر ما يحصل ذلك، ولا حول ولا قوة
إلا بالله.
أقول: نترك الإجابة إلى مَنْ ينظر في أحوال البلاد الإسلامية حين دخل
الإسلاميون في العملية السياسية ماذا صنعوا؟ أين التغيير؟ وأين الإصلاح؟ مجرد
شعارات وهتافات!، ومجرد أماني وآمال!.
ومن جهة رابعة؛ لا بد أن نعلم أنَّ السياسة المعاصرة هي ليست السياسة
الشرعية التي لا تنفك عن الدين، والتي لا ينبغي للدعاة وأهل العلم أن يجهلوها أو
أن ينشغلوا عنها، أقول هذا حتى لا يغتر أحدٌ أو يلبس على الناس ملبسٌ بأنَّ عدم
الدخول في السياسة أو في العملية السياسية وعدم الانشغال بذلك يُمهِّد الطريق
للعلمانيين لاعتلاء مناصب الحكم أو أنَّ هذا من تأثيرات الأفكار العلمانية على
المسلمين؛ حين دعوا إلى فصل السياسة عن الدين؛ فتأثر بهم كثير من المسلمين. أقول:
كلا، بل السياسة اليوم مبنية على الكذب والخيانة والمكر والخداع والتلاعب على عقول
الناس بالخطابات الرنانة والشعارات الحماسية والتلون في المواقف بحسب المصالح
الحزبية والغايات الذاتية؛ هذا مع أنَّ العمل السياسي يحتاج الداخل فيه اليوم لا
محال إلى إنشاء تنظيم حزبي ينعقد الولاء والبراء عليه وتُحشَّد له الجماهير وتصرف
له الأموال وتبذل له الجهود والطاقات، وبهذا يتمزق كيان البلد أكثر فأكثر، وينشغل
المسلمون بعضهم ببعض، وينصرفون عن الانشغال بأعدائهم؛ فتذهب شوكتهم وتضعف ويتسلط
عدوهم في بلادهم ويتمكَّن.
أما السياسة الشرعية التي نؤمن بها فهي مبنية على العدل وهو موافقة الشرع، وقاعدتها
النظر في مقاصد الشريعة والموازنة بين المصالح والمفاسد لتحصيل المصالح وتكميلها
وتعطيل المفاسد وتقليلها، وعند التعارض بين مصلحتين حصِّل أعظمهما، وبين مفسدتين
دفع أعظمهما، وبين مصلحة ومفسدة يكون درأ المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، ثم
مراعاة حقوق الراعي والرعية وما يجب عليهما، وإعطاء كل ذي حق حقه، وأداء الأمانات
إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل، وهذه السياسة ليست خاصة بمَنْ هو منشغل
بأعمال الحكم والقضاء فحسب، وإنما يحتاجها الداعي في دعوته ويحتاجها العالم في
تعليمه والمربي في تربيته والمفتي في فتاواه. والفرق بين السياسة المحدثة المعاصرة
اليوم وبين السياسة الشرعية كالفرق بين الظلم والعدل أو بين الحق والباطل؛ فكيف
يسوغ لمسلم أن يُعرض عن السياسة الشرعية ويدخل في السياسة المحدثة من أجل مناصب
الحكم؟!
ومن هذا يتبين لنا؛ أنَّ الإعراض عن معرفة هذه السياسة المعاصرة المحدثة
وترك الانشغال بها هو الواجب على المسلم، وأنَّ الإقبال على معرفة علوم الشريعة
ومقاصدها هو طريق السياسة العادلة، وقد عكس السياسيون اليوم الأمر حتى عابوا على
الذين يتعلمون علوم الشريعة ويسعون في تنزيل الأحكام بما يوافق الشريعة، فقالوا:
هؤلاء يجهلون السياسة!!، ووالله إنَّ الجهل بهذه السياسة المحدثة التي يتبجَّح بها
هؤلاء خير وأنفع من الخوض فيها والانشغال بها.
وأما ما يحتج به البعض من دخول نبي الله يوسف عليه السلام في حكومة الملك
الكافرة على جواز الدخول بالعمل السياسي في الحكومات الكافرة أو الظالمة من باب
تقليل الشر؟ فجوابه: من وجوه:
- أنَّ الملك هو الذي طلب نبي الله يوسف عليه السلام ليوليه إحدى الولايات
التي في حكومته قال تعالى: ((وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ
لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ))،
فلم يحرص يوسف عليه السلام على الولاية ولم يطلبها!، وإنما اختار يوسف عليه السلام
نوع الولاية فحسب فقال: ((اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ)).
- أنَّ قبول يوسف عليه السلام لطلب الملك كان بوحي من الله تعالى إليه وليس
باجتهاده عليه السلام؛ قال تعالى: ((َكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ
يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ))، وإذا كان كذلك فعمله معصوم من الزلل والخطأ،
وليس الأمر محل اجتهاد!.
- أنَّ يوسف عليه السلام كان يحكم فيهم بالعدل بقدر
ما يستطيع، ولهذا قال تعالى فيه: ((كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ
دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ))، فلم يكن يحكم فيهم
بدين الملك!، بل بدين الله، نعم قد يأخذ الملك وأقرباؤه وحاشيته من أموال الدولة
ويصرفونها على أنفسهم بالباطل والظلم كما هي عادة الملوك الكفرة والفجرة، ولا يمكن
ليوسف عليه السلام أن يفعل كل ما يريد كما ينبغي في دين الله عز وجل؛ لأنهم حينئذ
لا يستجيبون له، لكنه فعل الممكن من العدل والإحسان وإكرام المؤمنين ما لم يكن
يحصل إلا بتحمل ذلك الشر من أكل أموال الناس بالباطل، فمصلحة بقائه في هذا المكان
أعظم وأنفع بكثير من مفسدة أكل أموال الناس بالباطل التي كان الملك وحاشيته
يفعلونها بوجود يوسف عليه السلام في حكومتهم أو بعدم وجوده، ولم يكن نبي الله يوسف
عليه السلام يظلم أو يعتدي على حقوق الآخرين قطعاً، ولم يفعل هو عليه السلام ذلك
الشر جزماً، وإنما قد يسكت عن شرهم إنْ علمه لمصلحة أعظم منه.
وأما الإسلاميون السياسيون اليوم فيقعون في المخالفات الشرعية من غير ضرورة
بل ولا حاجة ملحة بل ولا حتى ضغوط سياسية كما يزعمون!، نراهم يسوغون المخالفات
لأنفسهم وأهليهم وأتباعهم، وينكرون على مَنْ يستنكرها، ثم الخير المرجو من وجودهم
في العملية السياسية ليس له أثر ملحوظ، والشر الذي كان المؤمَّل أن يقل بوجودهم قد
يزداد أكثر، وإنْ كان لهم أثر للناس فمثلهم كما قال صلى الله عليه وسلم: ((مثل
الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه: كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)) رواه الطبراني والضياء المقدسي في المختارة؛ وقال الألباني في قيام رمضان: وإسناده
جيد.
وإلا فماذا استطاع أن يصنع هرقل مثلاً؛ وهو الملك، عظيم الروم، حين أراد أن
يُغير حال قومه بما لا يرضوه؟ تأمَّل في قصته لتعلم هل يستطيع أحد الإسلاميين أن
يغير حال قوم عاشوا عليه عشرات أو مئات السنين بكلمة في برلمان أو مجلس قيادي أو
إداري؟!
فقد جاء في خاتمة محادثة هرقل لأبي
سفيان رضي الله عنه أنه قال: ((وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكُ أظنه منكم، ولو أني أعلم
أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ولبيلغن ملكه ما تحت قدمي.
قال: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقرأه فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل
عظيم الروم؛ سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فاني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم،
وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنَّ عليك إثم الأريسيين و{يا أهل الكتاب تعالوا
إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله - إلى قوله - اشهدوا بأنا مسلمون}.
فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عند وكثر اللغط وأمر بنا فأخرجنا. قال فقلت
لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقناً
بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.
قال الزهري: فدعا هرقل عظماء الروم
فجمعهم في دار له فقال: يا معشر الروم؛ هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد، وأن يثبت
لكم ملككم؟ قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدها قد غلقت. فقال: عليَّ بهم،
فدعا بهم، فقال: إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم فقد رأيت منكم الذي أحببت، فسجدوا
له ورضوا عنه)) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه.
تأملوا يا رعاكم الله؛ لما دعاهم
إلى ما فيه رشدهم وفلاحهم وعزتهم حاصوا كحيصة الحمر الوحشية ورفضوا هذه الدعوة
وهرعوا إلى الأبواب ليحدثوا الفتنة في البلد، فلما رأى منهم هرقل -وهو الملك وليس
نائباً في برلمان!- هذا الرفض لم يجد له حلاً إلا أن يدَّعي أنَّ ذلك كان اختباراً
لولائهم!
فأنَّى إذن لنائب إسلامي يدعو
برلمانين على اختلاف أديانهم وطوائفهم وأحزابهم إلى ما فيه رشدهم وفلاحهم وينتظر
منهم الاستجابة؟!! هذا لم يقع إلا في أحلام السياسين وشعاراتهم وأمانيهم.
- ثم إنَّ دخول يوسف عليه السلام
في الحكومة الكافرة هو من شرع مَنْ قبلنا، فلو كان من سعي وطلب يوسف عليه السلام
لما جاز لنا أن نحتج به لأنه قد ورد في شرعنا النهي عن طلب الإمارة أو السعي في
تحصيل الولاية كما تقدَّم، وحينها لا يكون شرع مَنْ قبلنا شرعاً لنا بالاتفاق،
فكيف ويوسف عليه السلام لم يطلبها؟!، وإنما جاءته من غير مسألة، فمكَّن الله له
ورفعه في الأرض.
وخلاصة الجواب: إنه لا يحق لأحد
يحرص على الولاية والإمارة أن يستدل بفعل يوسف عليه السلام لأنه في غير محل النزاع،
أما مَنْ جاءته الولاية من غير مسألة ولا حرص ولا إرادة لها، ومن غير تحزب ولا
مخالفات شرعية، وكان من أهل الكفاءة والأمانة، ورأى من نفسه أنه يُمكن أن يُقلل
الشر أو أن ينفع الآخرين فليجتهد بقدر ما يُمكن، والله تعالى يعينه ويوفقه.
وفي ختام هذه الكلمة:
أحب أن أنقل لكم إخواني جواب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في حكم
الترشيح والانتخابات مع التعليق عليه بما يوضِّح المراد، فإنَّ كثيراً ما تُنقل
هذه الفتوى على ما لم يرده الشيخ رحمه الله تعالى، ثم إنَّ في الفتوى إشارات قد
يغفل عنها المشغوف بالسياسة ولا يبصرها!، فأرى أنها تحتاج إلى مثل هذه التعليقات،
لعلَّ الله تعالى أن ينفعنا بها جميعاً، ولعل كلمة السلفيين تتفق ولا تختلف؛ فإنَّ
هذه الكلمة من عالم راسخ لا يشك في ذلك إلا جاهل أو متعصِّب.
وأصل هذه الكلمة؛ أنه وردت على الشيخ الألباني رحمه الله تعالى مجموعة
أسئلة من قبل الجزائريين في بيان معرفة حكم الانتخابات والترشيح لها وذلك لعام
1412ﻫ؛ فأجاب عن أسئلتهم بفتوى جامعة في مسألة الانتخابات المعاصرة، وهذه الفتوى
مصوَّرة بخط الشيخ الألباني في كتاب "مدارك النظر في السياسة بين التطبيقات
الشرعية والانفعالات الحماسية"، فإليكم إخواني هذه الأسئلة وجوابها، مع
تعليقات توضِّح المراد، وهذه التعليقات ستراها بين قوسين مربعين مسبوقة بكلمة (قلتُ)
وهي لكاتب هذه السطور:
((السؤال الأول: ما الحكم الشرعي في
الانتخابات التشريعية (ما يسمى بالبرلمان) التي نسعى من خلالها إلى إقامة الدولة
الإسلامية، وإقامة الخلافة الراشدة؟
أجاب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: ((إنّ
أسعد ما يكون المسلمون في بلادهم يوم ترفع راية "لا
إله إلا الله" وأن يكون الحكم فيها بما أنزل الله.
قلتُ: [فالشيخ رحمه
الله تعالى جمع بين رفع راية التوحيد في البلاد وبين الحكم بما أنزل الله تعالى
فيها، وجعلهما علامة سعادة المسلمين؛ فكما أنه لا يستحق العبادة إلا الله، فلا حق
لأحد في تشريع الأحكام إلا الله، وكما أنه لا يحل لأحد أن يصرف عبادة لغير الله،
فكذلك ليس لأحد أن يحكم أو يتحاكم لغير شرع الله، وقد قرن الله عزَّ وجل في
كتابه الكريم بين اختصاصه بالعبادة وبين اختصاصه بالحكم، وجعل كلاً منهما من الدين
فقال: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ))، لا كما يزعم العلمانيون وأذنابهم اللبرالييون: أنَّ
السياسة ليست من الدين، وأنْ لا شأن للدين بالحكم!!.
ولكن في الوقت نفسه؛ هذا لا يعني أن ينشغل الدعاة بدعوة الناس إلى الوصول
إلى مناصب الحكم في البلاد، ولا ينبغي أن يعرضوا عن دعوة الناس إلى التوحيد ونبذ
الشرك التي هي دعوة الرسل وينشغلوا بالسياسة والحكم كما هو حال الأحزاب الدينية
السياسية، بل نقطة الإصلاح والتغيير هي الدعوة إلى التوحيد، ونقصد به التوحيد
بأنواعه الثلاثة، وإن كان توحيد العبادة والألوهية هو الذي وقع فيه النزاع وهو
الذي وقع في خلافه كثير من الناس اليوم كما يشهد له الواقع، فلا بد من البدء به، وأما
دعوى أنَّ هناك نوع رابع من التوحيد هو توحيد الحاكمية فهذه دعوة حزبية قطبية
تكفيرية، بل الحكم من أفعال الله تعالى والتحاكم من أفعال العباد؛ فلا تخلو أن تكون
الحاكمية إما من توحيد الربوبية أو من توحيد الألوهية؛ لا غير]
وإنَّ مما لا شك فيه
أنَّ على المسلمين جميعاً ـ كل حسب استطاعته ـ أن يسعوا إلى إقامة الدولة المسلمة
التي تحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم
وعلى منهج السلف الصالح.
قلتُ: [فالدولة
المسلمة التي يسعى لإقامتها الدعاة الصادقون وكل مسلم بقدر استطاعته هي
التي تحكم بالكتاب والسنة وعلى منهج سلف الأمة الصالح، وليست الدولة التي تحكم
بالقوانين الوضعية وتؤمن
بالدساتير البشرية!!، ولا الدولة العلمانية!، ولا الدولة الوطنية!، ولا
الدولة الطائفية! كما تسعى الأحزاب لذلك وتصرِّح به علناً]
ومن المقطوع به عند كل
باحث مسلم أنَّ ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بالعلم النافع والعمل الصالح.
قلتُ: [تقام الدولة
المسلمة بالعلم النافع والعمل الصالح، ومن خلال
مرحلتين من الإصلاح والتغيير: التصفية والتربية، ولا تقام بالتكتلات الحزبية!،
ولا بالانقلابات العسكرية!، ولا يوجد من الأحزاب والدعوات مَنْ يقوم بهذا الواجب اليوم ألبتة
سوى الدعاة السلفيون كما يشهد لهم الواقع؛ والله المستعان].
وأول ذلك أن يقوم جماعة من
العلماء بأمرين هامين جداً:
الأول: تقديم
العلم النافع إلى من حولهم من المسلمين، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يقوموا بتصفية
العلم الذي توارثوه مما دخل فيه من الشركيات والوثنيات حتى صار أكثرهم لا يعرفون
معنى قولهم: (لا إله إلا الله)، وأنَّ هذه
الكلمة الطيبة تستلزم توحيد الله في عبادته تعالى وحده لا شريك له، فلا يستغاث إلا
به، ولا يذبح ولا ينذر إلا له، وأن لا يعبدوه تعالى إلا بما شرع الله على لسان
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ هذا من
مستلزمات قولهم: (محمد رسول الله)، وهذا يقتضيهم أن يُصَفُّوا كتب الفقه مما فيها
من الآراء والاجتهادات المخالفة للسنة الصحيحة حتى تكون عبادتهم مقبولة، وذلك
يستلزم تصفية السنة مما دخل فيها على مر الأيام من الأحاديث الضعيفة والموضوعة،
كما يستلزم ذلك تصفية السلوك من الانحرافات الموجودة في الطرق الصوفية، والغلو في
العبادة والزهد، إلى غير ذلك من الأمور التي تنافي العلم النافع.
قلتُ: [فهذا هو الواجب الأول الذي ينبغي على أهل العلم والدعاة والمربيين
أن يقوموا به، ولم يقم به مع الأسف إلا القليل منهم].
والآخر: أن
يُرَبُّوا أنفسهم وذويهم ومَنْ
حولهم من المسلمين على هذا العلم النافع، ويومئذ يكون علمهم نافعاً وعملهم صالحاً؛
كما قال تعالى:{فمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً
وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.
قلتُ: [وهذا هو الواجب الثاني، والقائم به أقل ممن قبله بكثير!].
وحينئذٍ إذا قامت
جماعة من المسلمين على هذه التصفية والتربية الشرعية فسوف لا تجد فيهم من يختلط
عليه الوسيلة الشركية بالوسيلة الشرعية؛ لأنهم يعلمون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بشريعة كاملة بمقاصدها ووسائلها، ومن
مقاصدها مثلاً؛ النهي عن التشبه بالكفار وتبني وسائلهم ونظمهم التي تتناسب مع
تقاليدهم وعاداتهم!!، ومنها اختيار الحكام والنواب بطريقة الانتخابات!!، فإنَّ هذه
الوسيلة تتناسب مع كفرهم وجهلهم الذي لا يفرق بين الإيمان والكفر ولا بين الصالح
والطالح ولا بين الذكر والأنثى؛ وربنا يقول:{أَفَنَجْعلُ المُسْلِمِينَ
كَالمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمون} ويقول:{ولَيْسَ الذَّكَرُ
كَالأُنثَى}.
قلتُ: [وفي هذه
إشارة واضحة من الشيخ رحمه الله تعالى أنَّ تنصيب الحكَّام عن طريق الانتخابات
والترشيح من أساليب الكفَّار، وليست من طرق أهل الإسلام في اختيار الحاكم المسلم؛ لأنَّ الترشيح يسمح لكل أحد سواء كان مؤمناً أو كافراً
وسواء كان رجلاً أو امرأة وسواء كان براً أو فاجراً، ثم كثرة الأصوات هي التي تقرر
الذي يستحق أن يكون حاكماً أو نائباً].
وكذلك يعلمون أنَّ
النبي صلى الله عليه وسلم إنما بدأ بإقامة
الدولة المسلمة بالدعوة إلى التوحيد والتحذير من عبادة الطواغيت وتربية من يستجيب
لدعوته على الأحكام الشرعية حتى صاروا كـ"الجسد
الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"
كما جاء في الحديث الصحيح، ولم يكن فيهم من يُصِرُّ على ارتكاب الموبقات والربا
والزنا والسرقات إلا ما ندر.
قلتُ: [فهذا طريق إنشاء الدولة المسلمة قد بان لكل ذي عينين؛ فأين الدعاة
الذين ينشدون إقامة الدولة المسلمة منه؟!].
فمن كان يريد أن يقيم
الدولة المسلمة حقاً: لا يُكتِّل الناس
ولا يجمعهم على ما بينهم من خلاف فكري وتربوي كما هو شأن الأحزاب الإسلامية
المعروفة اليوم، بل لا بد من توحيد أفكارهم ومفاهيمهم على الأصول الإسلامية
الصحيحة؛ الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح كما تقدم، {ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ
المُؤْمِنُون بِنَصْرِ الله}.
قلتُ: [وكل الأحزاب الدينية السياسية اليوم قائمة على مبدأ: "نتعاون
على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه" وهي قاعدة حزبية، وقد
تأثر بها مع الأسف الكثير من الدعاة ولكنهم صاغوها بلبوس آخر حتى تمرر على
السلفيين؛ فلينتبه لذلك].
فمن أعرض عن هذا
المنهج في إقامة الدولة المسلمة وسلك سبيل الكفار في إقامة دولتهم: فإنما هو
(كالمستجير بالرمضاء من النار)!.
قلتُ: [هذا هو مَثَل المشغوف بالانتخابات الذي يؤمِّل عليها]
وحسبه خطأ ـ إنْ
لم أقل: إثماً ـ أنه خالف هديه صلى الله تعالى عليه
وسلم
ولم يتخذه أسوة والله عز وجل يقول:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو
اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللهَ كَثِيراً}.
السؤال الثاني: ما الحكم
الشرعي في النصرة والتأييد المتعلقين بالمسألة المشار إليها سابقاً (الانتخابات
التشريعية)؟
الجواب : في الوقت
الذي لا ننصح أحداً من إخواننا المسلمين أن يرشِّح نفسه ليكون نائباً في برلمان لا
يحكم بما أنزل الله؛ وإنْ
كان قد نصَّ في دستوره (دين الدولة: الإسلام)!!؛
فإنَّ هذا النص قد ثبت عملياً أنه وضع لتخدير أعضاء النواب الطيبي
القلوب!!،
ذلك لأنه لا يستطيع أن يغيِّر شيئاً من مواد الدستور المخالفة للإسلام؛
كما ثبت عملياً في بعض البلاد التي في دستورها النص المذكور.
هذا إنْ
لم يتورط مع الزمن أن يُقر بعض الأحكام المخالفة للإسلام بدعوى أنَّ
الوقت لم يحن بعدُ لتغييرها كما رأينا في بعض البلاد!؛
يُغَيرِّ النائب زيّه الإسلامي، ويتزيّا بالزي الغربي مسايرة منه لسائر النواب!،
فدخل البرلمان ليُصْلِح غيره فأفسد نفسه!، وأوَّل
الغيث قطرٌ ثم ينهمر!!.
لذلك فنحن لا ننصح
أحداً أن يرشح نفسه.
قلتُ: [واضح من كلام الشيخ رحمه الله تعالى أنه لا يُجيز أن يرشح أحدٌ من
المسلمين في الانتخابات فضلاً أن يكون المرشح سلفياً، لأنه سيكون جزءاً من حكومة
لا تحكم بما أنزل الله في كثير من الأحكام، فكيف يرضى لنفسه مثل هذا المنصب؟! ثم
كيف سيصبر على الضغوط السياسية التي سينجر بسببها إلى الوقوع في المخالفات الشرعية
لا محال؟! والواقع خير برهان].
ولكن لا أرى ما يمنع
الشعب المسلم إذا كان في المرشَّحين من يعادي الإسلام وفيهم مرشَّحون إسلاميون من
أحزاب مختلفة المناهج، فننصح - والحالة
هذه - كل مسلم أن ينتخب من الإسلاميين فقط.
قلتُ: [فهو رأيٌ للشيخ رحمه الله تعالى وليس على الوجوب كما يصوِّره البعض!،
بل بعض أهل العلم لم يرَ جواز الانتخابات مطلقاً؛ لأنه لا يرى ضرورة الانتخابات
وليس فيها فائدة أصلاً، والبعض الآخر يرى أنها محرمة ولكنها أُبيحت للضرورة،
والأمر محل اجتهاد بين أهل العلم، فلا يُقال بوجوب الانتخابات أو أنها من أصول
الدين أو أنها فرض على كل مسلم أو أنَّ الإعراض عن الانتخابات حرام، كما نسمع مثل
هذه الكلمات قبيل الانتخابات!!.
ثم أنَّ الإسلاميين الذي أشار إليهم الشيخ رحمه الله تعالى ونصح بانتخابهم،
وصفهم بوصف آخر بعدها فقال:]
ومَنْ
هو أقرب إلى المنهج العلمي الصحيح الذي تقدم بيانه.
قلتُ: [الشيخ رحمه الله تعالى كان يومها يعرف أسماء الأحزاب الإسلامية التي
شاركت في انتخابات الجزائر؛ ولكنه لم يُعيِّن أحدها، وإنما دعاهم إلى ترشيح الأقرب
إلى المنهج العلمي الصحيح القائم على التصفية والتربية؛ وهذا لأنَّ الانتخابات
ضرورة، والضرورات تقدر بقدرها، فاكتفى الشيخ رحمه الله تعالى ببيان جواز
الانتخابات واختيار الأقرب إلى المنهج العلمي الصحيح، وأما تعيين اسم الحزب فهذا
زائد عن حد الضرورة، بل في دعوة الناس لاختيار قائمة معينة أو حزب أو شخص بعينه مفسدتان:
الأولى: أنَّ هذا المعيَّن لو انحرف عن الجادة مستقبلاً – وما أكثر ما يحصل
هذا - وصار من المعادين للإسلام والمسلمين ومن المحاربين لشرع الله وأحكامه، فإنَّ
لوم الناس سوف ينصب على الذين انتخبوه وأوصلوه إلى هذا المنصب، وفي هذا تشويه
للدعوة المباركة.
الثانية: لو أنَّ غير المعيَّن وصل إلى تلك المناصب، فلا محال أنه سيحارب
الذين لم ينتخبوه كما رأيناه في الانتخابات السابقة، وعند ذلك تفتح جبهة عدائية
للدعوة والدعاة ومساجدهم ومناطقهم هم في غنى عنها.
وهنا قد يرد علينا إيراد: وهو أنَّ
الناس سيسألوننا عن أي القوائم أو الأحزاب أو الأشخاص ننتخب؟ فماذا سنجيبهم؟ وكيف
نتركهم يختارون؛ ونحن ندعوهم إلى الارتباط بأهل العلم في المحن والأزمات؟ والجواب:
هو أننا ندعوهم إلى انتخاب الإسلاميين الأقرب إلى منهج أهل الحق، والأصلح والأنفع
منهم، وأما التعيين فلا يُمكن لنا أن نثق ونطمئن لأحد هذه الأحزاب أو القوائم
لأنَّ سياستهم سياسة محدثة كما تقدَّم مبنية على التلون والمصالح الحزبية، ولعلَّ
عوام الناس أعلم منا بهذه السياسة!، لأننا لا نشتغل بها ولا نضيع أوقاتنا بمتابعتها
كما يصنع البعض!، فلسنا في محل النصح بالتعيين، وإنما في محل التوجيه العام فحسب].
أقول هذا ـ وإنْ كنتُ
أعتقد أنَّ هذا الترشيح والانتخاب لا يحقق الهدف المنشود كما تقدم بيانه!! ـ من
باب تقليل الشر، أو من باب دفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى كما يقول الفقهاء.
قلتُ: [انتبهوا إخواني إلى قول الشيخ رحمه الله تعالى "وإنْ
كنتُ أعتقد أنَّ هذا الترشيح والانتخاب لا يحقق الهدف المنشود"!!، فلا يغلو أحدٌ في هذه المسألة ولا يجهد نفسه
ويبذل المال والوقت في تحصيل شيء لا يحقق الهدف المنشود!، ولا يُحدث فتنة وخلاف
بين السلفيين من أجل شيء لا يحقق الهدف المنشود!، ولا يزعم أحدٌ أنَّ المسألة
مصيرية! أو أنها من فروض الأعيان! أو أنَّ تركها خيانة لله والرسول! أو خيانة
للدين! أو تمكين للروافض أو العلمانين أو أعداء الدين إلى غير ذلك من الغلو في الأحكام
والتصورات!.
ثم ليست المسألة من باب تحصيل المصالح!، وإنما من باب تقليل الشر ودفع
المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى؛ فتمكن أعداء الإسلام والمسلمين من مناصب الحكم في
البلد فيه مفسدة كبرى رآها الناس رأي العين، والمشاركة بالانتخابات مفسدة لأنها من
مسالك الكفار وفيها ما فيها من آثار سيئة، ولكن المفسدة الأولى أكبر وأعظم أثراً فتدفع
ولو بتحمل المفسدة الصغرى، والمرشحون كلهم واقعون في الشر أو سيقعون لا محال، ولكن
اختيار أقلهم شراً على دين الناس ودنياهم هو المتعيَّن].
السؤال الثالث : حكم خروج
النساء للانتخابات؟
الجواب : يجوز لهنَّ
الخروج بالشرط المعروف في حقهن وهو: أن
يتجلببن الجلباب الشرعي، وأنْ لا يختلطن
بالرجال، هذا أولاً.
ثمَّ أن ينتخبن من هو
الأقرب إلى المنهج العلمي الصحيح من باب دفع المفسدة الكبرى بالصغرى؛
كما تقدم)).
ثم أنهى الشيخ الألباني رحمه الله تعالى كلمته بنصيحة غالية فقال:
((ونضيف
إلى ذلك: أن لا يكون همُّكم ـ معشر الجبهة الإسلامية! ـ
الوصول إلى الحكم قبل أن يصبح الشعب مهيَّئًا لقبول الحكم بالإسلام، ولا يكون ذلك
إلا بفتح المعاهد والمدارس التي يتعلم فيها الشعب أحكام دينه على الوجه الصحيح
ويربَّى على العمل بها، ولا يكون فيهم اختلاف جذري ينشأ منه التحزب والتفرق كما هو
الواقع الآن مع الأسف في الأفغان!، ولذلك
قال ربنا في القرآن: {ولاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون}،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقاطعوا ولا
تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا إخواناً
كما أمركم الله" رواه مسلم.
فعليكم إذن بالتصفية
والتربية، بالتأني؛ فإنَّ: "التأني من
الرحمن والعجلة من الشيطان" كما قال
نبينا عليه الصلاة والسلام.
ولذلك قيل: من استعجل
الشيء قبل أوانه ابتلي بحرمانه، ومَنْ
رأى العبرة بغيره فليعتبر، فقد جرب بعض الإسلاميين من قبلكم في غير ما بلد إسلامي
الدخول في البرلمان بقصد إقامة دولة الإسلام، فلم يرجعوا من ذلك ولا بخفي حنين!!،
ذلك لأنهم لم يعملوا بالحكمة القائلة: "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم
لكم في أرضكم"، وهكذا كما قال صلى الله عليه
وسلم: "إنَّ
الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"
رواه مسلم)) انتهى جواب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.
قلتُ:
فأين دعاة السياسية من
هذه النصيحة الخاتمة؟!
أسأل الله تعالى أن يبصِّرنا في
ديننا، وأن يوفقنا إلى ما يحب سبحانه ويرضى من الأقوال والأعمال، إنه ولي
المؤمنين.
وكتبه
أبو معاذ رائد آل طاهر
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.