-->

السبت، 2 فبراير 2013

التعقيب على من أوجب التتابع في صيام كفارة اليمين



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فقد قرأتُ البحثَ الموسوم بـ((إتْحَافُ المُجْتَهِدِ بِأَنَ الصِّوْمَ يَكُونُ تَتَابعاً كَفَّارَةً لِمَنْ لَمْ يَجِد)) لأخينا الفاضل أبي عبدالله الآجري وفقه الله؛ فرأيتُه بحثاً جامعاً نافعاً في هذه المسألة التي لم أطّلع على مَنْ توسَّع فيها كما توسَّع أخونا أبو عبدالله؛ حتى أنه اختصر لي الطريق في الخوض فيها، فجزاه الله تعالى خيراً على هذا الجهد الذي يُشكر عليه والذي لا يُستغنى عنه.
ولكن ما دام أنَّ الموضوع قد عُرِضَ على النقاش؛ فقلَّما يخلو بحثٌ تحت مجهر النقاش من نقد أو تعليق أو استدراك، وهكذا وجدتُ هذا البحث بعد تأمل ودراسة.
وإنما أُعلِّق هنا لثلاث فوائد:
الأولى: أنَّ يكون ذلك شحذاً لهمم الباحثين من طلبة العلم البارزين أن يقرؤوا المقالات العلمية بتأمل وبحث ومناقشة، وأن لا يكتفوا بعبارات الشكر والثناء، حتى ينتفع الباحث من تعليقاتهم ويطمئنّ إلى ما وصل إليه من قول، وحتى ينتفع القرَّاء الذين لا يجدون وقتاً كافياً للبحث والمشاركة؛ ثم لابد أن يكون هذا النقاش حواراً هادئاً بعيداً عن الانتقاص أو التجريح، وأن يكون علمياً مبني على الدليل والبحث، وأن يكون موضوعياً في أصل المسألة وما يتعلَّق بها لا في ذات الباحث أو في اسلوبه أو في نيته أو في كتاباته الأخرى، فإنْ كان نقصاً في اسلوبه أو كتاباته فليكن النصح على الخاص، لا في أصل المقال فيضيع منه المقصود.
الثانية: نصرة مذهب مَنْ لا يوجبون التتابع في صيام كفارة اليمين؛ حتى يكون التوازن العلمي، فلا يأتِ مدَّع فيدَّعي أنَّ مَنْ لا يُوجب التتابع مخالف بلا حجة، وخاصة بعد أن فنـَّد أخونا أبو عبدالله كلَّ الإيرادات التي يُمكن لمخالفه أن يستدل بها بإسلوب مُقنِع.
الثالثة: إكمال هذا البحث القيم بوقفاتٍ يُدرك القارئ لها أنَّ ذاك البحث لا يستغني عنها، فينظر له بعينين، ويقرأه بإنصاف، ثم هو غير ملزم إلا بما وافق الدليل.
 وهذا هو أوان الشروع في بيان الوقفات؛ ونرجو من أخينا الحبيب أن يتقبَّلها بصدرٍ رحب لأنها من محب، ولكن الحق إلى القلوب أحب، وهو يعرف أنَّ مسائل العلم والمباحثات فيها هي طريق سلفنا الصالح، ومباحثات أهل العلم فيما بينهم قديماً وحديثاً كثيرة وكثيرة جداً، فكيف بمثلي وأمثالي ممن ليس له باع في العلم؟!
وإنما نحن – حقاً - نبحث في مصنَّفات أهل العلم وفي استدلالاتهم فنجمعها ونرتِّبها في مقال أو رد لا غير، والمقصود أنَّ المباحثة العلمية بين طلبة العلم نافعة وهي من سبيل سلفنا الصالح فلا ينزعج محب ولا يسخط قارئ، نسـأل الله تعالى أن يوفِّقنا إلى قول الحق وأن يشرح صدورنا لقبوله.

وأما الوقفات فهي:  
1- دعوى أنَّ الجمهور يشترط التتابع في صيام كفارة اليمين الذي صرَّح بها العلامة الشيخ الفوزان حفظه الله تعالى ونقلها عنه أخونا أبو عبد الله معارضة بدعوى ينقلها الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى في [الاستذكار 3/ 350-351] حين يقول: ((وأما صيام الثلاثة أيام في كفارة اليمين لمن لم يجد ما يكفر به من إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة: فجمهور أهل العلم يستحبون أن تكون متتابعات، ولا يوجبون التتابع إلا في: الشهرين اللذين يصامان كفارة لقتل الخطأ، أو الظهار، أو الوطء عامداً في رمضان)).
وهذا التعليق أوردتُه وأنا أعلم أنه لا يضر في أصل الموضوع؛ ولكنَّ كثيراً من القرَّاء يميل قلبه إلى قول الجمهور ابتداءً، والمعلوم أنَّ الكثرة ليست مقياساً للحق، بل الحق ما وافق الدليل ولو كان القائل به أقل، ويكفينا أن نعلم أنَّ هذه المسألة من مسائل الخلاف، وللعلماء قديماً وحديثاً لهم فيها قولان.
2- أما نسبة الأقوال إلى قائليها فأمرها يطول، وقد كفانا أخونا أبو عبد الله في مقاله بالنقل عنهم في الأصل والحاشية، بما يدلُّ على أنَّ الجزم بنسبة القول إلى بعضهم محتملة، ومثال ذلك: المنصوص عن الشافعي فيما نقله عنه ابن كثير في تفسيره؛ وراجع حاشية المقال (4)، (7).
3- أما الكلام عن صحة نسبة قراءة: ((فصيام ثلاثة أيام متتابعات)) إلى ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم؛ ففيها وقفات:
أ- أنَّ التخريج الذي ذكره مجدد العصر الشيخ الألباني رحمه الله تعالى ليس فيه ذكر لرواية عبد الله بن عباس أصلاً؛ فليُنظر.
لكن الشيخ الألباني أشار إلى كتاب الدر المنثور للحافظ السيوطي رحمه الله تعالى، وهذا الموضع فيه [3/ 155]: ((وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأها: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات")) من غير سند!!.
ب- أنَّ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى قوَّى الرواية عن عبد الله بن مسعود بالرواية عن أُبي بن كعب والعكس؛ مع أنَّهما صحابيان لا واحد!!، وهذا إنما يُقبل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا رواه صحابيان في طريق كلٍّ منهما ضعف، فيثبت متن الحديث بالطريقين بشروط تقوية الحديث الضعيف المعروفة، أما أننا نريد أن نُثبت صحة نسبة قول أو قراءة لصحابي في طريق إسنادها ضعف فنقويه برواية أخرى عن صحابي آخر في طريقها كذلك ضعف؛ فلا أدري لأيٍّ منهما يُنسب القول أو تُنسب القراءة بالمجموع؟!
ولهذا نرى أنَّ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى قد عدل في آخر التخريج إلى عبارة: ((وبالجملة فالحديث أو القراءة ثابت بمجموع هذه الطرق عن هؤلاء الصحابة: ابن مسعود وابن عباس وأبيّ، والله أعلم))، يعني: إثباته كحديث لأنه في حكم المرفوع أو كقراءة للقرآن ثابت، لأنَّ ذلك هو الذي يقبل التقوية بتعدد الطرق عن الصحابة، أما نسبة قراءة لصحابي تتقوى بنسبة قراءة لآخر والعكس فأمر بعيد، والتلازم بين الأمرين ظاهر؛ لأنَّ إثبات نسبة القراءة للنبي صلى الله عليه وسلم متوقف على صحة النسبة لهذين الصحابيين، فلا تثبت القراءة كإحدى قراءات القرآن إلا بصحة نسبة القراءة لأحدهما أو إليهما، بل وهذا هو الشيخ الألباني رحمه الله تعالى لا يقول بشرط التتابع في صيام كفارة اليمين مع أنه يصحح نسبة القراءة عنهما، وسيأتي توضيح أكثر.
ج- الروايات التي وردت فيها تلك القراءة عن ابن مسعود – وكذا مجاهد عن أُبي - روايات مرسلة كما نصَّ البيهقي ونقلها عنه الألباني، ومع هذا فلا تخلو من ضعف في أسانيدها كما أشار الألباني إلى ذلك.
وقول الشيخ الألباني في الرواية الأخيرة: ((وأبو جعفر هو الرازي وفيه ضعف))، ضعفه قد بيَّنه الحافظ في [التقريب 1/ 629] فقال: ((صدوق سيء الحفظ خصوصاً عن مغيرة))، وشيخه الربيع بن أنس قال فيه الحافظ [التقريب 1/ 205]: ((صدوق له أوهام ورمي بالتشيع))، فهذه الرواية هي عمدة الشيخ الألباني في دفع دعوى الإرسال، وهذا حالها.
د- أما عزو الشيخ الألباني رحمه الله تعالى الأثر إلى جمع ممن أخرجه نقلاً عن السيوطي في الدر المنثور؛ فهذا لا يقوي الأثر وبخاصة أنَّ الطرق هي ما ذكره الألباني فلا زيادة، ولعلَّ مراد الشيخ رحمه الله تعالى بذلك بيان شهرته، والله أعلم.
ﻫ- وأما قول الشيخ رحمه الله تعالى: ((بين ولادة مجاهد ووفاة ابن مسعود نحو عشر سنوات، فمن الممكن أن يكون سمع منه))، وكذلك من الممكن أنه لم يسمع منه؛ وبخاصة أنه كان يُرسِل عن جمع من الصحابة، بل صرَّح بنفسه أنَّه لم يقرأ على قراءة ابن مسعود؛ فقد قال الحافظ في [التهذيب 10/ 40]: ((وقال الأعمش عن مجاهد: "لو كنت قرأتُ على قراءة بن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن"، وعن مجاهد قال: "قرأتُ القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت وكيف كانت")).
قلتُ: ولو كان ابن عباس رضي الله عنه قد قرأ بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: ((فصيام ثلاثة أيام متتابعات)) لما أحتاج مجاهد أن يُرسل عن ابن مسعود أصلاً؛ فتأمَّل.
ولعلَّ من أجل ذلك قال أخونا أبو عبد الله: ((ونحن إذ نقلنا إثبات صحَّة هذه القراءة عن عبد الله ابن مسعودٍ وأبيّ – رضي الله عنهما- بمجموع الطرق ...)) وترك ذكر ابن عباس رضي الله عنه.
وأخيراً: فهذا هو حال الروايات الواردة في نسبة قراءة ((فصيام ثلاثة أيام متتابعات)) إلى أولئك الصحابة، فلا أدري كيف تُنسب هذه القراءة إلى القرآن بعد هذا؟! أم كيف يُقيـد فيها مطلقه؟! وصدق الألباني إذ يقول: اثبت العرش ثم انقش.
4- أما قول أخينا أبي عبد الله: ((هذه القراءة مشهورة مع أنَّها غير متواترة، وهي مُنزلة منزلة أخبار الآحاد صالحة لتقييد المطلق وتخصيص العام كما تقرر في الأصول)).
فكونها مشهورة سيأتي الكلام عنه.
أما أنها منزَّلة منزلة أخبار الآحاد صالحة لتقييد المطلق وتخصيص العام كما تقرر في الأصول؛ فهذا وإنْ قاله العلامة الأصولي الشوكاني في النيل كما نقله أخي أبو عبد الله فإنما أراد به ما ترجَّح له، وإلا فالخلاف عند الأصوليين في ذلك ثابت، قال العلامة العيني في [عمدة القاري 2/ 202]: ((واختلف أصحاب الأصول فيما نقل آحاداً؛ ومنه القراءة الشاذة كمصحف ابن مسعود وغيره هل هو حجة أم لا؟ فنفاه الشافعي، وأثبته أبو حنيفة وبنى عليه وجوب التتابع في صوم كفارة اليمين بما نقل عن مصحف ابن مسعود من قوله: "ثلاث أيام متتابعات وبقول الشافعي قال الجمهور، واستدلوا بأنَّ الراوي له: إنْ ذكره على أنه قرآن فخطأ، وإلا فهو متردد بين: أن يكون خبراً أو مذهباً له؟ فلا يكون حجة بالاحتمال، ولا خبراً لأنَّ الخبر ما صرح الراوي فيه بالتحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيُحمل على أنه مذهب له، وقال أبو حنيفة: إذا لم يثبت كونه قرآناً فلا أقل من كونه خبراً)).
قلتُ: فإنْ قصد العيني بقوله: ((وبقول الشافعي قال الجمهور)) أي قال جمهور أهل الأصول: أنَّ القراءة الشاذة ليست بحجة، وهذا هو الظاهر في سياق كلامه، فهذا يعني: أنَّ جمهور الأصوليين على خلاف ما قرره الشوكاني، وإنْ قصد بذلك أنَّ جمهور الفقهاء قالوا بعدم وجوب التتابع فهذا يؤيِّد ما قاله ابن عبد البر وقد سبق.
5- قال أخونا الفاضل أبو عبد الله الآجري وهو يبين قاعدة حمل المطلق على المقيد: ((وهذه القاعدة الأصولية يحسُن بسط بعضها في هذا الموضع؛ فنقول: إن المطلق والمقيّد إمّا أن يختلفا في السّبب والحكم، وإمّا أن يتّفقا فيهما، وإمّا أن يختلفا في السّبب دون الحكم)).
قلتُ: وأهل الأصول يذكرون قسماً رابعاً وهو: {وإما أن يختلف في الحكم دون السبب}؛ ومثاله: [اكسِ يتيماً] و [أطعم يتيماً]، ومثاله من القرآن: ((فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)) عند القدرة على استعمال الماء، وقال: ((فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ)) عند عدم القدرة على استعمال الماء؛ فالسبب واحد: وهو إرادة التطهر، والحكم يختلف: فالأولى غسل اليدين والثاني مسح اليدين، فلا يُحمل المطلق على المقيد، أي فلا يُقال: مسح اليدين في التيمم إلى المرفقين كما كان غسلها في الوضوء إلى المرفقين.
قال العلامة الأصولي الشوكاني في [إرشاد الفحول 1/ 245]: ((لقسم الرابع: أن يختلفا في الحكم؛ نحو: اكس يتيماً، أطعم يتيماً، فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين؛ اتحد سببهما أو اختلف، وحكى الإجماع جماعة من المحققين آخرهم ابن الحاجب)).
6- أما قول أخينا الفاضل: ((القراءة لم تكن شاذة عند الصحابة والتابعين في ذلك الوقت .....)) وأشار أنَّ هذا الكلام مستفاد من كتاب [الفصول في الأصول] للجصاص.
قلتُ: الجصاص لم يذكر في ذلك الموضع المشار إليه بأنَّ قراءة عبد الله بن مسعود لآية ((فصيام ثلاثة أيام متتابعات)) لم تكن شاذة، بل قال بالنص: ((لم يكن حرف عبد الله بن مسعود عندهم وارداً من طريق الآحاد؛ لأنَّ أهل الكوفة في ذلك الوقت كانوا يقرؤون بحرف عبد الله كما يقرءون بحرف زيد، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يعلمونا ونحن في الكتَّاب حرف عبد الله كما يعلمونا حرف زيد، وكان سعيد بن جبير يصلي بهم في شهر رمضان فيقرأ ليلة بحرف عبد الله وليلة بحرف زيد؛ فإنما اثبتوا هذه الزيادة بحرف عبد الله لاستفاضته وشهرته عندهم في ذلك العصر، وإن كان إنما نُقل إلينا الآن من طريق الآحاد؛ لأنَّ الناس تركوا القراءة به واقتصروا على غيره)).
فأقول: الكلام عن كون هذه القراءة من طريق الآحاد أو مشهورة مستفيضة شيء، والكلام عن كونها شاذة شيء آخر، فهي شاذة لأنها خالفت رسم المصحف المتفق عليه، أما أنها قد اشتهرت واستفاضت في الوقت الأول عند أهل الكوفة فهذا لا يلزم نفي الشذوذ عنها.
فكونها شاذة لأنها لم يُجمع عليها، لا لأنها غير متواترة قال القرطبي في [جامع الأحكام 1/ 77]: ((قال ابن عطية: ومضت الأعصار والأمصار على قراءة السبعة وبها يُصلى لأنها ثبتت بالإجماع، وأما شاذُّ القراءات فلا يُصلَّى به لأنه لم يُجمع الناس عليه))
7- أما الكلام حول المنقول عن الشافعي، وأنه هل يقول بحجية الاستدلال بالقراءة الشاذة أو لا يقول، فلا طائل منه، بعد أن عرفنا أن المنصوص عنه أو المنقول قولان كما ذكره ابن كثير، ونقله أخونا أبو عبد الله وقد تقدَّم. وأما الشافعية فمنهم من يدَّعي أنَّ الشافعي يحتج بالقراءة الشاذة، ومنهم من ينفي ذلك.
وأما المدوَّن في كتاب الأم للإمام الشافعي رحمه الله تعالى فهو:
أ- قال [الأم 7/ 117]: ((كل مَنْ وجب عليه صوم ليس بمشروط في كتاب الله عز وجل أن يكون متتابعاً: أجزأه أن يكون متفرقاً؛ قياساً على قول الله عز وجل في قضاء رمضان: "فعدة من أيام أخر"والعدة: أن يأتي بعدد صوم لا ولاء)) أي: عليه أن يأتي بعدد الأيام التي في ذمته ولا يُشترط فيها الموالاة وهي المتابعة.
ب- وقال [الأم 2/ 142]: ((ومن أفطر أياماً من رمضان من عذر مرض أو سفر قضاهنَّ في أيِّ وقت ما شاء في ذي الحجة أو غيرها وبينه وبين أن يأتي عليه رمضان آخر؛ مفترقات أو مجتمعات، وذلك أنَّ الله عز وجل يقول: {فعدة من أيام أخر} ولم يذكرهنَّ متتابعات، وقد بلغنا عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أحصيت العدَّة فصمهن كيف شئت"، وصوم كفارة اليمين متتابع، والله أعلم)).
قلتُ: لا تعارض بين النصَّين؛ لأنَّ كفارة اليمين عند الشافعي رحمه الله تعالى خرجت من ذلك الأصل بالقياس على كفارة الظهار أو القتل أو المجامع في نهار رمضان فهي عنده أقرب إلى هذه الكفارات من قضاء رمضان، وقد نقل المزني كلام الشافعي السابق ثم علَّق عليه بقوله [مختصر المزني ص309]: ((هذا ألزمٌ له؛ لأنَّ الله عزَّ وجل شرط صوم كفارة المتظاهر متتابعاً وهذا صوم كفارة مثله، كما احتج  الشافعي بشرط الله عز وجل رقبة القتل مؤمنة، فجعل الشافعي رقبة الظهار مثلها مؤمنة لأنها كفارة شبيهة بكفارة، فكذلك الكفارة عن ذنب بالكفارة عن ذنب أشبه منها بقضاء رمضان الذي ليس بكفارة عن ذنب؛ فتفهَّم))
وقد قال الشافعي في مسألة كفارة الظهار [الأم 5/ 402]: ((فإذا وجبت كفارة الظهار على الرجل وهو واجد لرقبة أو ثمنها لم يجزه فيها إلا تحرير رقبة، ولا تجزئه رقبة على غير دين الإسلام؛ لأنَّ الله عز وجل يقول في القتل: {فتحرير رقبة مؤمنة} وكان شرط الله تعالى في رقبة القتل إذا كانت كفارة كالدليل - والله تعالى أعلم - على أن لا يجزىء رقبة في الكفارة إلا مؤمنة. كما شرط الله عز وجل العدل في الشهادة في موضعين وأطلق الشهود في ثلاثة مواضع؛ فلما كانت شهادة كلها اكتفينا بشرط الله عز وجل فيما شرط فيه واستدللنا على أنَّ ما أطلق الشهادات - إن شاء الله تعالى - على مثل معنى ما شرط. وإنما ردَّ لله عز ذكره أموال المسلمين على المسلمين لا على المشركين فمن أعتق في ظهار غير مؤمنة فلا يجزئه وعليه أن يعود فيعتق مؤمنة)).
وأصَّل قبل ذلك فقال [الأم 2/ 167]: ((قلنا: في ذكر رقبة مؤمن في قتل مثلها رقبة في الظهار وإن لم يذكر مؤمنة فيه، وكما قلنا في الشهود حين ذكروا عدولاً وذكروا في موضع آخر فلم يشترط فيهم العدول هم عدول في كل موضع على ما اشترط الله تعالى في الغير حيث شرطه فاستدللنا - والله أعلم - على أنَّ حكم المجمل حكم المفسر إذا كانا في معنى واحد))، والمعنى الواحد في المسألة الأولى: هو الكفارة بتحرير رقبة.
والخلاصة: أنَّ كلام الشافعي في كتاب الأم حول مسألة اشتراط التتابع في صيام كفارة اليمين نصَّان؛ لكن أحدهما منطوق وهو اشتراط التتابع، والثاني مفهوم من أصل عام وهو إجزاء التفريق في الصوم الذي لم يشترط فيه الشرع التتابع، ونسبة القول المنطوق إلى صاحبه أولى من المفهوم لو كان هناك تعارض، والله تعالى أعلم.  
هذا فيما ورد في كتاب الأم؛ فأما أن يرد في غيره كلامٌ للشافعي فيه التصريح بعدم إيجاب التتابع في كفارة اليمين، فالكلام له شأن آخر حينئذ.
8- أما ما نقله أخونا قال أبو عبد الله فقال: ((فقد نقل ابن عبد البر إجماع العلماء على أنَّ القراءة الشاذة إذا صح النقل بها عن الصحابة فإنه يجوز الاستدلال بها في الأحكام‏)).
قلتُ: لا أجد في مقابل هذا النقل إلا نقلاً من نفس المنقول عنه؛ فقد قال ابن عبد البر [الاستذكار 3/ 350]: ((جواز الاحتجاج من القراءات بما ليس في مصحف عثمان إذا لم يكن في مصحف عثمان ما يدفعها؛ وهذا جائز عند جمهور العلماء، وهو عندهم يجري مجرى خبر الواحد في الاحتجاج به للعمل بما يقتضيه معناه))، وقال كذلك [الاستذكار 2/ 35]: ((...وفي هذا الحديث؛ دليل على ما ذهب إليه العلماء من الاحتجاج بما ليس في مصحف عثمان على جهة التفسير، فكلُّهم يفعل ذلك: ويفسر به مجملاً من القرآن، ومعنى مستغلقاً في مصحف عثمان؛ وإن لم يقطع عليه بأنه كتاب الله، كما يفعل بالسنن الواردة بنقل الآحاد العدول وإنْ لم يقطع على معناها، وقد كان ابن مسعود يقرؤها كما كان يقرؤها عمر: "فامضوا إلى ذكر الله")).
قلتُ: ومعلوم أنَّ مصطلح الجمهور يختلف عن الإجماع؛ وهذا يبين لنا أنَّ مراد الحافظ ابن عبد البر: أنَّ أكثر العلماء على جواز الاحتجاج بالقراءة الشاذة على جهة التفسير.
وقد قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في المذكرة: ((أنَّ ما نقل آحادا كقراءة "متتابعات" المذكورة لا يكون قرآناً؛ وهذا لا خلاف فيه، وهل يجوز الاحتجاج به مع الجزم بأنه ليس قرآناً؟ قال جمع من أهل الأصول: لا يجوز الاحتجاج به؛ لأنه رواه على أنه قرآن، فلما بطل كونه قرآناً بطل الاحتجاج به من أصله. وقال قوم: يجوز الاحتجاج به كأخبار الآحاد؛ لأنه لا يخرج عن كونه مسموعاً من النبي صلى الله عليه وسلم ومروياً عنه، وهذا هو اختيار المؤلف، وعليه فلا مانع من أخذ لزوم التتابع في صوم كفارة اليمين من قراءة ابن مسعود: "متتابعات" وإنْ جزمنا أنـها ليست من القرآن)).
9- وقال أخونا الفاضل: ((وقد عمل الأئمة بقراءة الآحاد في مسائل كثيرة منها قراءة أُبيَّ: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُم} ووقع الإجماع على ذلك ولا مستند لهم غيرها)) وأشار إلى أنه استفاده من شيخ الإسلام والشوكاني..
قلتُ: فإذا وقع الإجماع فالعمل حينئذ به لا بالقراءة الشاذة، وقد يكون مستنده غير القراءة؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 31/ 340]: ((والله تعالى قال: "وإن كان رجل يورث كلالة أو إمرأة وله أخ أو أخت فلكلِّ واحد منهما السدس" الآية وفي قراءة سعد وإبن مسعود: "من الأم" والمراد به: ولد الأم بالإجماع، ودلَّ على ذلك: قوله "فلكلِّ واحد منهما السدس" وولد الأبوين والأب في آية في قوله: "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرئ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد" فجعل لها النصف وله جميع المال؛ وهكذا حكم ولد الأبوين، ثم قال: "وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين" وهذا حكم ولد الأبوين لا الأم باتفاق المسلمين، فدلَّ ذكره تعالى لهذا الحكم في هذه الآية وكذلك الحكم في تلك الآية على أنَّ أحد الصنفين غير الآخر)).
10- قال أخونا الفاضل: ((والوجه الأخير: أنَّ قراءة ابن مسعود معمول بها على الصحيح ومحتج بها؛ وهو مذهب الإمام البخاري، خلافاً لمن ردّه من القراء وقال بشذوذها، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد" يعني به: عبد الله بن مسعود))
أما مذهب البخاري فلم يذكر أخونا أبو عبد الله من أين استفاده كعادته في بيان ذلك، ولو ثبت ذلك: فإنْ قصَد البخاري العمل والاحتجاج من جهة التفسير فقد سبقه إلى ذلك الجمهور كما تقدَّم، وإن قصدَ أنها غير شاذة فهذا مذهب له وهو خلاف قول الجمهور.
ولا أدري هل المقصود بهذا النقل: أنه يجوز القراءة بها في الصلاة؟ أم ماذا؟ فالكلام مجمل والنقل مجهول، فنحتاج إلى بيان.
أما الاستدلال بالحديث فإنْ لزم منه أنَّ قراءة ابن مسعود لا يتطرق إليها الخطأُ فليلزم من قوله صلى الله عليه وسلم: ((رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد)) أنَّ اختيارات ابن مسعود الفقهية والتفسيرية لا يتطرق إليها الخطأُ، ولم يقل به أحد.
بل ويكفي في ردِّ ذلك ما ثبت عنه رضي الله عنه أنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، بل ويحكُّهما من المصحف لأنه كان يظنُّ أنهما ليستا من القرآن، وإنما كانتا من المعوِّذات، فلا يقرأ بهما، فهل علينا أنْ لا نقرأ بهما لأنهما ليستا من قراءة ابن مسعود؟!!
قال الحافظ السيوطي في [الدر المنثور 8/ 683]: ((أخرج أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عن ابن عباس وابن مسعود: أنه كان يحك المعوذتين من المصحف؛ ويقول: "لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب الله إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوَّذ بهما" وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما. قال البزار: لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هاتين السورتين؟ فقال: "قيل لي فقلتُ؛ فقولوا كما قلتُ" وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وابن الضريس وابن الأنباري وابن حبان وابن مردويه عن زر بن حبيش قال: أتيت المدينة فلقيت أُبي بن كعب فقلت: يا أبا المنذر إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه فقال: "أما والذي بعث محمداً بالحق قد سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنهما وما سألني عنهما أحد منذ سألته غيرك
قال: "قيل لي قل فقلت فقولوا" فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم")).
11- قال أخونا أبو عبد الله: ((ومع ذلك: فلنفرض – جدلاً- أنَّ هذه القراءة لم تثبت أو لم تنقل إلينا؛ فلدينا وجه آخر: وهو القياس على الصوم في كفارة الظهار؛ فالأمر بمطلق الصوم يُحمل على التتابع، والأصل الواجب بالشرع في الكفَّارات إنما هو التتابع إلا قضاء رمضان والله أعلم. قال مجاهد: كلُّ صومٍ في القرآن فهو متتابع إلا قضاء رمضان؛ فإنه عدة من أيام أخر)).
هذا الأصل ما هو دليله؟! فإنْ كان من الشرع فأين هو النص أو الإجماع؟ وإنْ كان من قول البشر؛ فكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم. ثم لو كان هذا الأصل ثابتاً أصيلاً لما كان الخلافُ في المسألة من أساسه.
ثم أليس هناك فرق بين الأصل المُدَّعى وقول مجاهد رحمه الله تعالى؟!‍ فالأصل مقيَّد بالكفارات، والقول مطلق في كلِّ صوم؛ فبأيُّهما نأخذ؟
ثم الأصل الذي أصَّله مجاهد رحمه الله تعالى معارض بأصلٍ أصَّله الشافعي رحمه الله تعالى حين قال: ((كل مَنْ وجب عليه صوم ليس بمشروطٍ في كتاب الله عزَّ وجل أن يكون متتابعاً: أجزأه أن يكون متفرقاً)) وقد تقدَّم؛ فما العمل؟!
وأما القياس على الصوم في الظهار أو القتل أو الجماع في نهار رمضان؛ فإنَّ من المعروف عند أهل الأصول: أنَّ من شروط صحة القياس أن تكون العلة في الفرع مساوية أو أولى من العلة في الأصل، وعلة الكفارات في الظهار أو القتل أو الجماع في نهار رمضان أقوى من علة كفارة اليمين؛ لأنَّ القتل أو الظهار أو الجماع في نهار رمضان ذنب أغلظ من الحنث في اليمين بلا خلاف؛ فالتشديد في الأولى مقصود شرعاً؛ بينما التخفيف في كفارة اليمين مقصود شرعاً بدليل أول الآية: ((لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ)) فالشرع قد عفا عن اليمين الذي يخرج من طرف اللسان بلا عزم ولا جزم؛ فكيف يصح القياس والعلة في الفرع أدنى من العلة في الأصل؟! هذا هو ما يُسمَّى عند الأصوليين: قياسٌ مع الفارق، وهو مردود اتفاقاً.

12- قال أخونا الفاضل في آخر مقاله: ((وأخرج ابن أبي شيبة عن علي أنه كان لا يفرق في صيام اليمين ثلاثة أيام)).
أثر علي رضي الله عنه أخرجه ابن أبي شيبة فقال: حدثنا معتمر بن سليمان الرقي عن حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي: أنه كان لا يفرق صيام اليمين الثلاثة أيام. وهذا الأثر ضعيف؛ لأنَّ فيه حجاج بن أرطأة وهو مدلِّس مكثر وقد عنعن، وفيه الحارث الأعور وفي حديثه ضعف. ثم لو صح الأثر ففعله لا يدل إلا على الاستحباب وهذا لا خلاف فيه.
قلتُ: هذه هي آخر وقفة مع بحث أخينا الفاضل أبي عبد الله رفعه الله تعالى بالعلم والإيمان.

وخلاصة هذه الوقفات:
1- أنَّ الآثار الواردة عن بعض الصحابة في قراءة: ((فصيام ثلاثة أيام متتابعات)) لا تثبت حديثياً، ولا يُمكن الاطمئنان لها، فضلاً عن دعوى أنَّها قراءة صحيحة غير شاذة، أو تُنزَّل منزلة الحديث، أو يجب الاحتجاج بها في تقييد مطلق القرآن.
2- ولو ثبتت؛ فإنَّها قراءة شاذَّة لأنها تخالِف رسم المصحف الذي اتفق عليه الصحابة ومن بعدهم، ولا حجة إلا بكتاب الله تعالى الذي هو بين الدفتين وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة وبالإجماع الثابت، وأما اجتهاد البشر فيحتمل الصواب والخطأ، وهو بين الأجر والأجرين.
3- أنَّها – لو ثبتت – فهي منسوخة بالعرضة الآخيرة للقرآن؛ وذلك أنَّ القرآن كان جبريل عليه السلام يعرضه على النبي صلى الله عليه وسلم مرَّة في كلِّ عام، وفي العام الذي قُبضَ فيه عُرِضَ عليه القرآن مرتين؛ فلعلَّ عبد الله بن مسعود ومَنْ وافقه من الصحابة – إنْ صحَّ السند إليهم – قد سمعوا هذه الزيادة ((متتابعات)) في أول الأمر، ثم نُسِختْ في العرضة الأخيرة للقرآن؛ وهي قراءة زيد التي اتفق الصحابة عليها، وليس في هذه القراءة هذه الزيادة، والله جلَّ في علاه يمحو ما يشاء ويُثبت، فرفع سبحانه هذه الزيادة تخفيفاً للناس ورفعاً للحرج.
قال شيخ الإسلام [المجموع 13/ 394-395]: ((وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني؛ مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما: "والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. والذكر والأنثى" كما قد ثبت ذلك في الصحيحين، ومثل قراءة عبد الله: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وكقراءته: "إنْ كانت الازقية واحدة" ونحو ذلك؛ فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يُقرأ بها في الصلاة؟ على قولين للعلماء هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد وروايتان عن مالك:
إحداهما: يجوز ذلك؛ لأنَّ الصحابة والتابعين كانوا يقرؤون بهذه الحروف في الصلاة.
والثانية: لا يجوز ذلك وهو قول أكثر العلماء؛ لأنَّ هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت فإنَّها منسوخة بالعرضة الآخرة؛ فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: أنَّ جبريل عليه السلام كان يُعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كلِّ عام مرة فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين، والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحفٍ أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف، وإرسالها إلى الأمصار، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره)).
4- لا يصح قياس التتابع في صيام اليمين على التتابع في صيام الظهار أو القتل أو الجماع في نهار رمضان بجامع (الكفَّارة)؛ بل لابد أن تكون العلة في الفرع تساوي أو أقوى من العلة في الأصل، والواقع خلاف ذلك.
هذا ما بدا لي بعد بحثٍ مطوَّل في هذه المسألة؛ فإن أصبتُ في هذه الوقفات فمن توفيق الله تعالى على عبده الضعيف، وإن كانت الأخرى فإنما هي زلة نسأل الله تعالى أن يعفوها وهو العفو الكريم.
لكن لابد من أن ننبه إلى:
أنَّ المتابعة في صيام كفارة اليمين مطلب شرعي على وجه الاستحباب؛ لأنَّ الكفارة بها يستر الله تعالى الذنب ويمحو أثره، وهذه هي حقيقة المغفرة، وقد دعانا سبحانه وتعالى إلى المسارعة في المغفرة وقال: ((وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ))، ثم إنَّ الإنسان لا يدري متى يأتيه أجله، فقد يأتيه الموت بغتة وعليه صوم فيكون في ذمَّته حتى يقضيه عنه وليُّه، أو قد يُعرض له عارض من مرض أو بلاء فلا يقدر على تأدية الكفارة، فمتابعة الصيام أولى وأفضل وأسلم، ولكن لو فرَّق بين أيام الصيام فلا حرج عليه وأجزأه ذلك، لأنَّ الله تعالى أطلق الصيام ولم يُقيده بالتتابع، كما قيَّد بذلك في مواضع أخرى، وتقييد ما أطلق الشرع وإطلاق ما قيَّده كلاهما مرفوض، وإلزام العباد بما لم يلزمهم به الشرع تكليف بما لم يُكلِّف به الشرع وهو مردود.

وأخيراً: فبحث أخينا الحبيب والباحث اللبيب أبي عبد الله حفظه الله تعالى بحثٌ رائع لا يستغني عنه الباحث في هذه المسألة، وقد أجاد فيه بإسلوب علمي موضوعي، وهو بحث موسَّع يدل على سعة إطلاعه في هذه المسألة؛ حتى لو أراد باحث أن يخوض في هذه المسألة فلا يجد مَنْ جمع شتات مسائلها كما جمعها أخونا أبو عبد الله في مقاله، فشكر الله تعالى له ذلك وجعله في ميزان حسناته.
ولكن ما دام أنه جهد بشري فلا غرابة أن يعتريه النقص، فكانت هذه الوقفات مكمِّلات لذلك البحث، والقارئُ له الخيار المبني على العلم والعدل؛ إن شاء أخذ بقول مَنْ يوجب التتابع، وإن شاء أخذ بقول مَنْ لا يوجبه، ولا يخرج اختياره عن قول العلماء، والله أعلم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك

ملاحظة: تبقى مسألة لم يتطرق إليها أخونا الفاضل في مبحثه السابق ولا الذي قبله، ولعلَّه سيتكلم عنها فيما بعد: وهي مسألة هل وجوب أداء الكفارة على الفور أم على التراخي؟ وهي مسألة مبنية على قاعدة أصولية مختلف فيها: هل الأمر المطلق يفيد الفور أم التراخي؟، وهناك بحثٌ فيها موسَّع بعنوان: ((تحرير القول في الأمر المطلق هل يُفيد الفور؟)) في شبكة سحاب، فمَنْ شاء فإليه هذا الرابط:
http://www.sahab.net/forums/showthread.php?t=348013

نسأل الله تعالى أن يوفِّقنا إلى القول السديد وأن يرزقنا الإخلاص فيه، وأن يُميتنا على كلمة التوحيد، وأن يجمعنا في جنة الخلد، إنه هو الوليُّ الحميد.

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.