الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛
وبعد:
فقديماً دارت بين شيخي
- فرَّج الله كربته من قبضة المحتلين وأعاده إلينا سالماً من كلِّ سوء وثبَّتنا
الله وإياه على نهج سلفنا القويم – وبين أحدِ إخواننا الأفاضل - ممن قضيتُ معهم
أسعدَ أيامي في طلب العلم والبحث في المسائل بالدليل – مناظرةٌ في أكثر من مجلس في
مسألة: ((حكم صيام الصائم إذا خرج منه المني بشهوة
أو بتعمّد من غير جماع؛ هل يفطر أم لا؟)) وكان شيخي آنذاك يسوق ملخصَ أدلةِ مجدد العصر
العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى في كتابه تمام المنَّة
والسلسلة الصحيحة، بينما كان أخي المشار إليه آنفاً يسوق أدلةَ فقيه العصر العلامة
الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في كتابه الشرح الممتع؛ فوجدتُ ما
ساقه شيخي أقوى دلالة وأظهر في الحجة مما ساقه أخي، ومنذ ذلك الوقت كنتُ أميل إلى
قول مَنْ قال: لا يُفطر.
ثم إني وأنا أُقلِّبُ النظر في بعض المقالات التي
وضعتُها في حاسبتي المتواضعة إذ وقع بصري على مقالٍ يَبحثُ في هذه المسألة، بعنوان:
((قول البعض إخراج المني في نهار رمضان لا يفطر))، وينصر صاحبُه قولَ مَنْ قال: يُفطر، فقرأتُه فما
وجدتُ فيه شيئاً غيرَ ما كنتُ أعلمه في هذه المسألة، غير أني وجدتُ مقدمةَ مقالهِ لطيفة
جداً؛ وهي نصيحة منه حفظه الله تعالى وأعزَّه وتولاه إلى إخوانه القرَّاء أرجو من
الله جلَّ في علاه أن يَكتبُها له في ميزان حسناته، كما أرجو من كلِّ ناصح أو باحث
أن تكون تلك الكلمات نصب عينيه؛ وفَّقنا الله جميعاً للعمل بتلك النصيحة وسدد
أقوالنا وأعمالنا وأحكامنا بما يُرضيه عنَّا وبما يُوافق الحقَّ الذي دعانا إليه،
ورزقنا الإخلاص في ذلك كلِّه.
◄ قال صاحب المقال حفظه الله تعالى وأعزَّه وتولاه: ((فقول ذلك البعض رحمهم الله: إنَّ إخراج
المني شهوة تعمدا في نهار رمضان أو يوم الصيام من غير جماع لا يفطر الصائم اعتمادا على القاعدة الأصولية: الأصل براءة الذمة حتى
تشغل بدليل، وأن
الأصل براءة الذمة من المفطر حتى يأتي دليل صحيح واضح مبين على
كونه مفطر؛
ليس بصحيح، وذلك من عدة أوجه ...))
قلتُ: ولماذا ليس بصحيح؛ مع أنَّ القاعدة من المتفق
عليها، وما عندكم من أدلة ليست بواضحة ولا مبينة، وإنما محتملة ومجملة؛ كما يُلاحظ
ذلك الباحث، وسيراه المنصف.
ثم ذكر الشيخ الفاضل صاحب المقال - حفظه الله تعالى
- سبعة وجوه.
◄ قال صاحب المقال: ((الأول: أن الذمة شغلت بكون ذلك
العمل مفطر
وذلك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة: "يدع
طعامه وشرابه وشهوته من أجلي" وقوله: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى
نسائكم" وفُسِّرَ الرفث: بالجماع ومقدماته، ومفهومه: أنَّ ذلك لا يحل نهار
الصيام))
قلتُ: هذه محاولة من الشيخ الفاضل بإدخال نزول المني
في عموم الآية والحديث؛ على أنَّه يُطلق عليه اسم الشهوة وهو من مقدِّمات الجماع،
لكنَّها محاولة بعيدة المنال، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى [الفتح 4/ 107]:
((والمراد بـ"الشهوة" في الحديث: شهوة الجماع؛ لعطفها على
الطعام والشراب، ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص. ووقع في رواية الموطأ بتقديم
الشهوة عليها فيكون من الخاص بعد العام، ومثله حديث أبي صالح في التوحيد وكذا
جمهور الرواة عن أبي هريرة، وفي رواية بن خزيمة من طريق سهيل عن أبي صالح عن أبيه:
"يدع الطعام والشراب من أجلي ويدع لذته من أجلي" وفي رواية أبي قرة من
هذا الوجه: "يدع امرأته وشهوته وطعامه وشرابه من أجلي" وأصرح من ذلك ما
وقع عند الحافظ سمويه في فوائده من طريق المسيب بن رافع عن أبي صالح: "يترك
شهوته من الطعام والشراب والجماع
من أجلي")).
أقول: فالخلاف دائر فيما إذا كانت كلمة (الشهوة) في
الحديث هل يُراد بها شهوة الجماع لعطفها على الأكل والشرب؛ والعطف يقتضي التغاير؟
أم يُراد بها شهوة الطعام والشراب ويكون من العام بعد
الخاص؟
والرواية الأخيرة تقطع الشك في تفسير معنى (الشهوة)،
وأنها الجماع، وتبيِّن الإجمال الوارد في غيرها؛ وكلام النبي صلى الله عليه
وسلم - في بعض طرق الحديث - هو خير ما يُفسَّر به ما روي عنه - في غير تلك
الطرق - بإجمال؛ بل هو المتعين.
وفي الحديث ذكر الرفث: ((فلا يرفث)) وقد قال ابن حجر في الشرح [4/ 104]: ((ويرفث
بالضم والكسر ويجوز في ماضيه التثليث؛ والمراد بالرفث هنا وهو بفتح الراء والفاء
ثم المثلثة: الكلام الفاحش، وهو يُطلق على هذا، وعلى الجماع، وعلى مقدِّماته، وعلى
ذكره مع النساء، أو مطلقاً، ويحتمل أن يكون لما هو أعم منها)).
قلتُ: وهذا
فيما يخصُّ الحديث.
أما الآية فاستغربتُ من صنيع صاحب المقال كيف فسَّر
(الرفث) فيها بمعنى: ((الجماع ومقدِّماته)) ولم يَنقله عن أحد، وأنا أعرف أنَّ الرفث يُفسَّر بأكثر من
ذلك، ولكن مَنْ الذي سبق صاحب المقال بهذا التفسير في هذا الموضع؟!!.
قال
الإمام الطبري في تفسيره [2/ 167]: ((فأما "الرفث" فإنه كناية عن الجماع
في هذا الموضع)) ثم نقل ذلك عن ترجمان القرآن
ابن عباس رضي الله عنهما بالنقول المستفيضة وعن غيره من التابعين، ولم ينقل لهم
مخالفاًً.
بل إنَّ
سياق الآيات يدل على ذلك بلا أدنى شك قال الإمام ابن كثير في تفسيره [1/ 319] :
(("أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" يعني بالرفث: مجامعة النساء،
"هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم" يعني:
تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء، "فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن
باشروهن" يعني: جامعوهن، "وابتغوا ما كتب الله لكم" يعني: الولد))
وقال
الإمام القرطبي في جامعه [2/ 309]: ((والرفث : كناية عن الجماع لأنَّ الله عز وجل
كريم يكني قاله ابن عباس والسدي، وقال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل
من امرأته وقاله الأزهري أيضاً، وقال ابن عرفة: الرفث ها هنا
الجماع، والرفث: التصريح بذكر الجماع والإعراب به؛ قال الشاعر: ويرين من أنس
الحديث زوانيا ... وبهن عن رفث الرجال نفار، وقيل: الرفث أصله قول الفحش؛ يقال:
رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح؛ ومنه قول الشاعر: ورب أسراب حجيج كظم ... عن اللغا
ورفث التكلم)).
قلتُ:
وقول الزجاج والأزهري الذي نقله القرطبي إنما محله في بيان معنى الرفث من حيث
الأصل، لا في هذا الموضع من الآية، كما نقله البعض عنهما
في غير هذه الآية وعند شرح بعض الأحاديث التي اشتملت على هذه الكلمة؛ فتنبَّه لهذا
سددنا الله وإياك.
وأقول:
وبحثتُ في جملة من كتب التفسير وشُرَّاح الحديث لعلِّي أجدُ أحداً من أهل العلم
ذكر أنَّ الرفث في هذا الموضع له عدَّة معان فلم أجد، بل أجمعوا على أنَّ معناه
هنا: الجماع، وإنْ كان له عدة معان في غير هذا الموضع.
بل ويدل
عليه - في أحد أسباب قصة نزول الآية - ما رواه أبو داود وغيره عن ابن أبي ليلى
قال: ((وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى
يصبح، قال: فجاء عمر بن الخطاب فأراد امرأته، فقالت: إني قد نمت؛ فظنَّ أنها تعتل
فأتاها، فجاء رجل من الأنصار فأراد الطعام، فقالوا: حتى نسخن لك شيئاً فنام، فلما
أصبحوا أُنزلت عليه هذه الآية: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى
نسائكم")) وصححه الألباني.
ثم وجدتُ
بعد ذلك أنَّ الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى نصَّ على هذا الاتفاق فقال
[الاستذكار 3/ 374]: ((واختلف العلماء في قوله عز وجل: "فلا رفث ولا فسوق ولا
جدال في الحج" البقرة/ 197، فأكثر
العلماء على أنَّ الرفث ها هنا جماع النساء، وكذلك لم يختلفوا في قوله تعالى:
"أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" البقرة/ 187: أنه الجماع)) وانظر [التمهيد 19/ 55].
قلتُ:
وبهذا القدر تنتقض ثلاثة وجوه، بل ستة وجوه من الوجوه التي استدل بها صاحبُ المقال
بوقفة واحدة؛ وما ذلك إلا لأنَّ وجوه مقاله بنيت وتأسست على الوجه الأول. ولم يبق
إلا وجه؛ هو في الحقيقة رد من وجهين لأثر جابر بن زيد الذي نستدل نحن به، وسيأتي
الكلام عنه، فالحمد لله على توفيقه.
◄ قوله: ((تخصيص ترك الشهوة في الحديث بالجماع
لا يتم؛ لأن القاعدة في الأصول أن المفرد إذا أضيف يدل على العموم))
قلتُ: تخصيص الشهوة بالجماع إنما
هو بالحديث من طريقه الآخر؛ فلا عموم بعد ذلك، ثم أنَّ القاعدة قد وقع الخلاف في
بعض صورها كما نقل ذلك أهل الأصول؛ كما في صورة: إذا قال الرجل: زوجتي طالق؛ وله
أربع زوجات، فهل تُطلق كلها؟!! أم واحدة بعينها؟ على قولين، وإنْ كان الراجح: صحة
هذه القاعدة من حيث الأصل.
◄ وبعد أن
أدخل صاحب المقال أفراداً مما يدخل تحت معنى الشهوة كـ ((التقبيل، والضم، والمباشرة، وإخراج
المني لشهوة، والمذي، والجماع)) قال بعد ذلك: ((وتخرج من العموم الأفراد التي دل الدليل على إخراجها
ويبقى
ماعداها مفطر؛ فمن ذلك: المباشرة، والتقبيل، ومقدمات الجماع، وخروج المذي، ويبقى
إخراج المني والجماع))، ثم ذكر الدليل: ((وهو ما رواه البخاري حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ عَنْ
شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ.
وَقَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاسٍ مَآرِبُ حَاجَةٌ قَالَ طَاوُسٌ غَيْرِ أُولِي
الْإِرْبَةِ الْأَحْمَقُ لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ)) ثم قال: ((فخرج من ذلك العموم
المباشرة؛ ولو ضرب بيده على فرجها كما دلت على ذلك بعض آثار الصحابة ما كان يملك إربه، والضم،
والمداعبة، والتقبيل، ومن باب أولى شهوة الحديث مع المرأة في باب المقدمات، ونحو ذلك)) ثم قال: ((ويبقى الجماع والمذي
والمني؛ فلم
يختلفوا في الجماع، وإنما اختلفوا في المذي؛ والراجح: أنه لا يُفطر؛ إذ كيف
تتصور إباحة
المباشرة والتقبيل والمداعبة والأخذ بجهاز المرأة ساعات ولا يكون مع
ذلك إخراج
مذي؟ فإنه لا يمكن التحرز منه إذا صنع ذلك، ثم أن عائشة خصت ما يمكن ملك
الإرب معه عند
فعل مثل ذلك: وهو المني والجماع، أما ما لا يمكن حبسه وملكه عند صنع ذلك:
فداخل تحت
البراءة الأصلية،
فيبقى المني على الراجح والجماع باقياً على العموم))
فيبقى المني على الراجح والجماع باقياً على العموم))
في كلامه هذا وقفتان:
الأولى: في الدليل الذي أخرج به
الشيخُ الفاضل ما ذكره من مقدِّمات الجماع
1- تفسير
الصحابي والتابعي لكلمتي (مآرب) و(الإربة) بـ[الحاجة] حق لا ريب فيه؛ وهذا واضح
لِمنْ راجع تفسير قوله تعالى: ((وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن
ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا
يبدين زينتهن إلا: لبعولتهن، أو آبائهن، أو آباء بعولتهن، أو أبنائهن، أو أبناء
بعولتهن، أو إخوانهن، أو بني إخوانهن، أو بني أخواتهن، أو نسائهن، أو ما ملكت
أيمانهن، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال، أو الطفل؛ الذين لم يظهروا على
عورات النساء)) وأنَّ المراد بهم: الرجال الذين لا حاجة لهم في النساء؛ وهم الذين
لا تُحدِّثهم نفوسُهم بالفاحشة، فلا يَكترث للنساء
ولا يَشتهيهنَّ.
والحاجة
تُطلق على جماع الرجل لزوجته فعن أبي إسحاق قال: سألت الأسود بن يزيد عما حدثته
عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ((كان ينام أول الليل ويحي
آخره، ثم إنْ كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته، ثم ينام...)) وعن
أبي الزبير عن جابر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأةً، فأتي امرأته
زينب وهي تمعس منيئة لها [أي: تشرع في دباغة جلد]، فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه
فقال: ((إنَّ المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان؛ فإذا أبصر أحدُكم
امرأةً فليأت أهلَه، فإنَّ ذلك يرد ما في نفسه)) رواهما مسلم،
وقال: ((إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإنْ كانت على التنور)) رواه الترمذي
والنسائي وابن حبان وصححه الألباني.
فمعنى قول
عائشة رضي الله عنها: ((وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لأربه)) أي: كان
صلى الله عليه وسلم يُباشر؛ لكنَّه كان يَملك حاجتَه من أزواجه؛ فيملك شهوتَه
ونفسَه من قضائها فلا يُجامع. فليس لتفسير الإرب بنزول المني أصل؛ فكيف يُستثنى من
مطلق المباشرة كما يُستثنى الجماع؟!
قال الحافظ
[الفتح 4/ 151]: ((قوله: "لأربه" بفتح الهمزة والراء وبالموحدة؛ أي:
حاجته، ويروى بكسر الهمزة وسكون الراء؛ أي: عضوه، والأول أشهر، وإلى ترجيحه أشار
البخاري بما أورده من التفسير)).
2- أنَّ
عبارة ((وَكَانَ
أَمْلَكَكُمْ لأربه)) قد وردتْ عن عائشة بما تبيِّن معناها بقيين لا
خِلاف فيه؛ وذلك فيما أخرجاه البخاري ومسلم عنها رضي الله تعالى عنها قالت: ((كانت
إحدانا إذا كانت حائضاً فأراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها أمرها أن
تتزر في فورِ حيضتها ثم يباشرها. قالت: وأيكم يملك أربه كما كان النبي صلى الله
عليه وسلم يملك أربه؟))
فهنا معناه
واضح: وهو أيُّكم يَملك نفسَه وحاجتَه من زوجته فيمتنع عن جماعها بعد مباشرتها
ومداعبتها وليس بينه وبين فرجها إلا الإزار؛ كما كان صلى الله عليه وسلم يملك
أربه؟
فهل يا ترى
سيقول الشيخ الفاضل صاحب المقال في هذا الحديث: ((أنَّ عائشة خصَّت ما يُمكن ملك الإرب
معه عند فعل مثل ذلك وهو: المني والجماع)) كما خصَّ الدليل الذي استدل به آنفاً؟!! ومعلوم أنَّ من
أمنى وهو يُباشِر زوجتَه وهي حائض دون الجماع ليس عليه شيء؛ فكذلك من حصل منه ذلك
وزوجتُه صائمة، فما الفرق؛ واللفظ واحد ومستعمله واحد؟!
قلتُ: ثم لو فرضنا أنَّ نزول
المني يَدخل في معنى الأرب، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يَملك نفسَه فلا ينزل منه
المني بتلك المباشرة؛ فأين حال عائشة رضي الله عنها من ذلك، وقد تُوفي الرسول صلى
الله عليه وسلم عنها وعمرها (18) عاماً، وقد ورد عنها ما يدل أنَّها أيضاً كانت
صائمة فقد أخرج أحمد وأبو داود عنها رضي
الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني وهو
صائم وأنا صائمة)) وصححه الألباني. فلماذا لم تقل في حديثها الأول: [وكنَّا أملككم
للأرب]، لِماذا نسبت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ لو كان خشية نزول المني
داخل في ذلك القول؟! ومعلوم أنَّ المني ينزل من الرجل والمرأة، فهذا يدل أنَّ
المراد به: الجماع حصراً، وهو الذي يحصل من الرجل؛ فيقال: جامع فلان زوجته وليس
العكس!!، ولهذا قالت: ((وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لأربه)).
وخلاصة
الأمر: مَنْ كان يأمن على نفسِه ويَملك شهوتَه فلا يُجامع زوجتَه إذا باشرتْ
بشرتُه بشرتَها بالتقبيل والضمِّ والمداعبة واللمس وإدخال الفرج ما بين الفخذين
وكل ما دون الجماع: فله أن يفعل ذلك ولو أمنى، ومَنْ قويت شهوتُه ويَعرف من نفسِه
أنَّه لا يملك حاجتَه إذا باشر دون الجماع حتي يقضيها: فيحرُم عليه؛ لأنَّ الوسيلة
التي تفضي إلى المحرَّم محرَّمة، وهذا هو معنى الحديث لا غير.
الوقفة
الثانية: قلتُ: قول صاحبنا الشيخ الفاضل في بيان عدم إفطار الصائم بخروج المذي: ((إذ كيف تتصور إباحة المباشرة والتقبيل
والمداعبة والأخذ بجهاز المرأة ساعات ولا يكون مع ذلك إخراج مذي؟ فإنه لا يمكن التحرز
منه إذا صنع ذلك)).
فيُقال له:
ولماذا يا شيخ لم تقل مثل هذا بالنسبة للمني؟!! بل الغريب أنَّك تصوَّرت رجلاً
ينظر إلى امرأته بنظرةٍ فيُمني وحكمتَ عليه بعدم الفطر فقلت في الوجه السابع: ((فيمَنْ سبقه منيُّه بنظرة لم
يستحفزه على الخروج بتكرار النظر أو الحركة: فهذا لا يفطر))، ثم إذا نَظَرَ هذا الرجلُ
الذي يباشرُ زوجتَه إليها الساعات، مع المداعبة والمباشرة والتقبيل والأخذ
بجهازها، ومع هذا يُمكن له أن يَملك نفسَه فلا يُمنِ، بينما لا يُمكن له التحرز من
المذي؟! وهذا تناقض ظاهر.
ثم لو قال لك
قائل يقول بإنَّ المذي يُفطر الصائم والخلاف فيه معروف: أنَّ المذي
داخل في قول عائشة ((وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لأربه)) كما
أدخلتَ أنت المني؟ فإنْ قلتَ: وقع الخلاف في المذي. قال لك: ووقع كذلك في المني،
وإنْ قلتَ: يُمكن للرجل أن يملك نفسه فلا يُمنِ، قال لك: وكذلك المذي، فإن قلتَ:
لا يُمكن التحرز منه، قال لك: لقد تصوَّرتَ رجلاً يُمني بنظرة؛ فهل يُمكن التحرز
من المني وحبسه والرجل يُباشر زوجتَه ساعات؟!.
وأقول أنا: يا شيخ إما
أن تقول بإنَّ المني والمذي كليهما من المفطرات كما هو المذهب من أقوال الإمام
أحمد؛ فكليهما لا يُمكن التحرز منه بمثل تلك الصورة من المباشرة الآنفة الذكر،
وإما أن تقول: لا يُفطران وهما داخلان تحت البراءة الأصلية، وما سوى ذلك فتناقض لا
محيص عنه.
◄ أما ما استدل به الشيخ الفاضل على أنَّ الشرع سمَّى خروج المني
شهوة بالحديث الذي أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود واللفظ لمسلم وفيه: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا
أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا
وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا)).
قلتُ: البُضع يُطلق على الجماع أو
على الفرج؛ قال الإمام النووي [شرح صحيح مسلم 7/ 92]: ((قوله صلى الله عليه
وسلم: "وفي بُضع أحدكم صدقة" هو بضم الباء: ويُطلق على الجماع، ويُطلق على
الفرج نفسه؛ وكلاهما تصح إرادته هنا)).
وقال [2/ 1016]: ((قال الفراء: العرب تقول:
"نُكح المرأة" بضم النون بُضعها؛ وهو كناية عن الفرج، فإذا قالوا
"نكحها" أرادوا أصاب نُكحها: وهو فرجها))
قلتُ:
وهذا هو المعروف في كلام الفقهاء؛ أنَّ البُضع يُطلق على الفرج أو على النكاح
والجماع، وراجع كلامهم – إن
شئتَ – في نكاح الشغار.
بل لقد ورد بهذا المراد في كلام النبي صلى الله
عليه وسلم؛ فقد أخرج البخاري ومسلم: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((غزا
نبي من الأنبياء؛ فقال لقومه: لا يتبعني رجلٌ مَلكَ بُضعَ امرأةٍ وهو يريد أن يبني
بها ولمَّا يَبنِ بها، ولا أحدٌ بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا أحدٌ اشترى غنماً
أو خلفات وهو ينتظر ولادها ...))، قال الحافظ [فتح الباري 1/ 88]: ((قوله:
"بُضع امرأة" بضم أوله: هو الفرج، ويُطلق على الجماع، والمباضعة اسم
الجماع، وقوله: "استبضعي منه" أي: اطلبي منه الجماع لأجل الولد، ومنه
نكاح الاستبضاع فسرته عائشة)).
وأخرج
البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ يا رسول الله يُستأمر النساء في
أبضاعهن؟ قال: ((نعم)) قلتُ: فإنَّ البكر تُستأمر فتستحي فتسكت؟ قال: ((سكاتُها
إذنها)).
وأما البَضعة
فهي: قُطعة من اللحم؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((فاطمة بَضعة مني)) وهو
في الصحيحين؛ قال الإمام النووي [شرح صحيح مسلم 16/ 2]: ((وفي الرواية الأخرى:
"أنَّ فاطمة مُضغة مني وأنا أكره أن يفتنوها" أما البَضعة فبفتح الباء
لا يجوز غيره: وهي قطعة اللحم، وكذلك المُضغة بضم الميم))، وقال الحافظ [الفتح9/ 329]:
((قوله: "فإنما هي بَضعة مني" بفتح الموحدة وسكون الضاد
المعجمة: أي قطعة، ووقع في حديث سويد بن غفلة كما تقدم: "مُضغة" بضم
الميم وبغين معجمة)).
وأخرج أبو
داود والنسائي وغيرهما عن قيس بن طلق عن أبيه أنَّ رجلاً سأل النبيَّ صلى الله
عليه وسلم عن مسِّ الذّكر هل يَنقض الوضوء؟ فقال: ((إنَّما هو بَضعة منك))، وفي
رواية: ((هل هو إلا مُضغة منه - أو قال - بَضعة منه؟))، قال العظيم آبادي [عون
المعبود 1/ 215]: ((أي ما هو؛ أي الذكر: إلا مُضغة من الجسد، والمُضغة بضم الميم
وسكون الضاد وفتح الغين المعجمتين: قطعة لحم؛ أي كما لا ينقض الوضوء من مس الجسد
والأعضاء فكذا لا ينقض الوضوء من مس الذكر، لأنَّ الذكر أيضا قطعة من الجسد
"أو بَضعة منه" بفتح الباء الموحدة وسكون الضاد المعجمة والمُضغة
والبَضعة لفظان مترادفان، وهو شك من الراوي)).
قلتُ: فالبُضعة بضم الميم لا تُطلق إلا على الفرج أو
على الجماع؛ وهي كذلك في حديث: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) أي: وفي
فرج أحدكم إذا وضعه في رحم امرأته أو في جماعه لها صدقة، بل ويؤكِّد أنَّ معنى
الحديث هو الجماع: هو أنَّ أبا داود أخرجه في موضعين من كتاب السنن مرة مضافاً إلى
الرجل بلفظ: ((وبضعته أهله: صدقة))، وأخرى مضافاً إلى المرأة بلفظ: ((وبُضعةُ
أهلِه: صدقة))؛ وهذا لا يتحقق إلا بإلتقاء الختانين؛ بُضع الرجل وبُضع المرأة،
وهو حقيقة الجماع؛ وإلا فإنَّ المني – إنْ كان هو المراد حصراً – فهو من الرجل في
رحم المرأة وليس العكس!!.
فالشهوة المراد بها في الحديث: هو أن يُجامع الرجلُ
زوجتَه، ولا ريب أنَّ كمالها ولذتها في إنزاله لمنيه في رحمها، فالشهوة التي يؤجر
عليها الرجل تَشمل الجماع وهو أولها وتشمل نزول المني وهو آخرها؛ ولهذا يَفتر
الرجلُ بعد ذلك، بل المني لا ينزل فيؤجر عليه إلا بالجماع، هذا هو الظاهر، فإطلاق
اسم الشهوة على نزول المني دون الجماع إطلاق قاصر.
ثم لو فرضاً أنَّ الشهوة في الحديث أُريدَ بها نزول
المني حصراً؛ فإنَّ هذا لا يُغير من الأمر شيئاً بعد أن عرفنا أنَّ الشهوة في
حديث: ((يدع طعامه
وشرابه وشهوته من أجلي)) قد
فُسِّرت برواية: ((يترك شهوته: من الطعام والشراب والجماع
من أجلي)) وقد تقدَّم ذلك؛ فعلام نتعب أنفسنا في مثل تلك التأويلات
المحتملة؟!!
وقوله في الحديث: ((قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ
وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا
وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا)) هو جواب لسؤالهم: ((أَيَأتِي أَحَدُنَا
شَهْوَتَهُ
وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟))، أي: أرأيتم لو وضع شهوته - جامَعَ فأمنى - في
حرام – وذلك إذا زنا والعياذ بالله - أكان
عليه فيها وزر؟ والجواب معروف: بالطبع عليه فيها وزر، فكذلك إذا وضع شهوته - جامع
فأمنى – في الحلال – وذلك إذا جامع أهله – كان له أجر.
◄ أما تعليق الشيخ الفاضل على ما رواه عبد الرزاق في مصنفه بسنده إلى مسروق قال: سألت عائشة
ما يحل للرجل من امرأته صائماً؟ قالت: ((كل شيء إلا الجماع)) بقوله: ((ليس فيها - بحسب ما اطلعت عليه -
جواز إخراج المني عند مباشرة الزوجة وقت الصوم؛ بل فيها مطلق الاستمتاع بما يتعلق ببدن
الزوجة)) وقال:
((وليس معنى
كلام عائشة رضي الله عنها إباحة إخراج المني، لأنَّ السؤال كان عن ما يحل
للرجل من امرأته؛ فهو متعلق بما يجوز مباشرته لها من بدنها فحسب، ولا علاقة بذلك
بما يجوز إخراجه عند ذلك)).
قلتُ: خروج المني هو أثر لمطلق الاستمتاع، والرجل قد يسبقه منيه
بنظرة كما تصوَّرت يا شيخ، فكيف يُباح السبب وتُحرَّم النتيجة؟! وبالأخص أنَّ
المباشرة أقوى من النظرة الواحدة!!.
ثم ألا يدخل في مطلق الاستمتاع بالبدن جماع المرأة بين الفخذين أو
تكرار الزوج النظر إلى محاسِن زوجته أو تفكَّر في بدنها؟ وهذا لا محال يَجرُّ
الرجلَ – في الغالب - إلى إنزال منيه ولو بشيء قليل، ولا يُمكن الاحتراز منه بعد
ذلك - هذا إنْ أمكن قبل ذلك –؛ فإن قُلتم أنَّ هذا يفطر؛ وكلُّ ما كان سبباً لنزول
المني كان مفطراً: فقد حرَّمتم مطلق الاستمتاع بالبدن، وإن قلتم لا يفطر: فقد
رجعتم إلى ما نقول به؛ وهو عدم إفطار الصائم بنزول المني، وإن قلتم مطلق الاستمتاع
يُفصَّل به: منه ما يُفطر فيحرم ومنه ما لا يُفطر فلا يحرم؛ وبهذا تكونون قد
استدركتم على قول عائشة التي أباحت مطلق الاستمتاع، وبخاصَّة ما ورد عنها في
الرواية الأخرى لمَّا سُئلت عما يَحرم على الرجل من امرأته وهو صائم؟ فقالت:
((يَحرُم عليه فرجها)) وقد علَّقها البخاري بصغية الجزم ووصلها ابن حجر في الفتح،
وهذا الإلزام لا محيص لكم عنه؛ فما هو قولكم؟!
أما التفريق بين النظرة الواحدة والنظر المتكرر؛ بحيث إذا أمنى في
الأولى فإنه لا يفطر وإذا أمنى في الثانية فإنه يفطر: تفريق لا دليل عليه أولاً،
ثم ينقض القيد الذي وضعتموه وهو أنَّ المباشرة تجوز إذا أمن من نزول المني،
وقد نزل المني في الحالتين فعلام هذا التفريق في الحكم؟!!
ثم أنَّ الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال
في استمتاع الرجل بالحائض: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح))، وفي لفظ: ((إلا الجماع))
رواه الجماعة إلا البخاري؛ فهل ستقولون كذلك: ((وليس معنى [قول النبي صلى الله عليه وسلم] إباحة إخراج المني، لأنَّ السؤال
كان عن ما يحل للرجل من امرأته؛ فهو متعلق بما يجوز مباشرته لها من بدنها فحسب، ولا علاقة بذلك
بما يجوز إخراجه عند ذلك)) كما علَّقتم على قول عائشة؟!
◄ أما أثر جابر بن زيد رحمه الله تعالى
فإنما رواه البخاري معلَّقاً بصيغة الجزم بلفظ: ((إنْ نظر
فأمنى: يتم صومه))، قال الحافظ [الفتح4/ 151]: ((وصله ابن
أبي شيبة من طريق عمر بن هرم: سُئل جابر بن زيد عن رجل نظر إلى امرأته في رمضان
فأمنى من شهوتها؛ هل يفطر؟ قال: "لا، ويتم صومه")).
فهذه الرواية تبيِّن أنَّ ذلك النظر كان عن قصد وشهوة ولم يقع فجأة
أو من غير قصد ولا تمعُّن؛ لأنَّ نظر الرجل إلى زوجته مباح ولو كان في رمضان،
والمانع الذي يَمنع الرجل من تكرار النظر إلى زوجته؟!
فقول صاحبنا الفاضل معلِّقاً على الأثر: ((لا يقال عنه: أنه قصد؛ بأن كرر
واستدعى
الشهوة حتى أخرج المني، بل قد تكون صورته: كالاحتلام، فإنه ذكر صورة
لا اختيار له
فيها: وذلك فيمن سبقه منيه بنظرة لم يستحفزه على الخروج بتكرار النظر أو
الحركة؛ فهذا
لا يفطر، فإنَّ جابر لم يقل: فكَّرر النظر، بل قال: نظر فأمنى، والفاء للسببية)).
قلتُ: هل في الأثر ما يدل على أنَّه لم يُكرر النظر؟ أو أنه لم
يستدعِ الشهوة؟ فمن أين لكم بهذه القيود؟!!
ثم أنا شخصياً لا يُمكن لي أن أتصوَّر رجلاً يَنظر إلى زوجته بنظرة
واحدة ولم يستدعي الشهوة ثم يُمني!!، فإن تصوَّرتم أنتم ذلك: فيلزمكم القول
بتحريم مباشرة الرجل زوجتَه دون الجماع؛ لأنها أشد من النظرة كما لا يَخفى، وأنتم
تبيحون ذلك؛ فكيف هذا؟!
وقلتُ: فكيف وقد صرَّح السائل أنَّ السبب هو الشهوة فقال: ((فأمنى
مِن شهوتها))
و"مِن" تعليلية أليس كذلك؟!!
تنبيه: سمى السائل نزول المني بالنظرة الواحدة – على قول صاحب المقال
– شهوةً؛ فهل يا تُرى سيقول صاحب المقال
إذا اطَّلع على هذه الزيادة في الرواية: إذن يدخل في حديث ((يدع طعامه وشرابه
وشهوته من أجلي)) فتكون النظرة الواحدة من المفطرات؟!
قلتُ: أما تشبيه الذي ينظر إلى زوجته فيُمني بالرجل الذي يَحتلم،
وذلك بجامع أنهما لا اختيار لهما في نزول المني؛ فمن أبطل القياس؛ لأنه قياس
المستيقظ على النائم، وهو أدنى كما لا يَخفى.
فالراجح: أنَّ نزول المني لا يفطر الصائم؛ وهو مذهب جابر بن زيد؛ وهو
أبو الشعثاء روى عن الحكم بن عمرو الغفاري ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن
الزبير وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وقد جاء في ترجمته كما
ذكر ذلك المزي [تهذيب الكمال 4/ 435-436]: ((قال عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن
عباس: "لو أنَّ أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً
من كتاب الله - وربما قال - عما في كتاب الله" وقال عتاب بن بشير عن خصيف عن
عكرمة: كان ابن عباس يقول: "هو أحد العلماء؛ يعني جابر بن زيد"
وقال عروة بن البرند عن تميم بن حدير عن الرباب سألتُ ابن عباس عن شيء؟ فقال:
"تسألوني وفيكم جابر بن زيد"))، وقال الحافظ [تهذيب التهذيب 2/ 34]:
((وفي تاريخ البخاري عن جابر بن زيد قال: لقيني ابن عمر فقال: "جابر إنك
من فقهاء أهل البصرة"، وقال ابن حبان في الثقات: كان فقيهاً، ودفن هو
وأنس بن مالك في جمعة واحدة، وكان من أعلم الناس بكتاب الله، وفي كتاب الزهد
لأحمد: لما مات جابر بن زيد قال قتادة: اليوم مات أعلم أهل العراق، وقال إياس بن
معاوية: أدركت الناس وما لهم مفت غير جابر بن زيد، وفي تاريخ بن أبي خيثمة: كان
الحسن البصري إذا غزا أفتى الناسَ جابرٌ بن زيد)).
قلتُ: فالحمد لله لم يكن الرجلُ ظاهرياً!!،
بل من الفقهاء والعلماء بتزكية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
أقول أخيراً: فالآن حصص الحق، وتبيَّن أنَّ قول
الجماهير وإن تتابعوا عليه قولٌ خالٍ من الدليل الصحيح الواضح البيِّن الذي يوقف
العمل بالقاعدة
الأصولية: "الأصل براءة الذمَّة حتى تشغل بدليل"، وأنَّ قول
الظاهرية وغيرهم هو الصحيح الموافق لما تستلزمه الآثار الواردة عن الصحابة،
وهو نصٌّ لأحد أعلام التابعين، والله الموفِّق.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أبو معاذ رائد آل طاهر
صبيحة يوم الجمعة 17 رجب 1427ﻫ
الموافق: 11/ 8/ 2006م
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.