إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ أما بعد: فقد صح عن ابن
مسعود رضي الله تعالى عنه موقوفاً - وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم
حُكْماً - أنه قال: ((كيف أنتم إذا لبستكم فتنة: يهرم فيها الكبير، ويربو فيها
الصغير، ويتخذها الناس سنة!!، إذا ترك منها شيء قيل: تركت السنة؟!!))
قالوا: ومتى ذاك؟ قال: ((إذا ذهبت علماؤكم!!، وكثرت قُراؤكم!!، وقَلَّت فقهاؤكم!!،
وكَثُرت أمراؤكم، وقلَّتْ أمناؤكم، والتُمِسَتِ الدنيا بعمل الآخرة، وتُفُقهَ لغير
الدين!!)) رواه الدارمي (1/ 64) بإسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن، والحاكم (4/ 514)
وغيرهما؛ انظر مقدمة رسالة " قيام رمضان " للشيخ الألباني.
لقد اتخذ بعض المسلمين قديماً وحديثاً عبادات لم يرد فيها نص من كتاب الله
تعالى أو سنة رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وداوموا عليها حتى أصبحت عندهم
من السنن التي ((إذا ترك منها شيء قيل: تركت السنة؟!!)) وهذا بسبب ابتعادهم عن
دينهم وتركهم التحاكم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما
يحصل بينهم من تنازع، وتعصبهم لأقوال من ليس في قوله حجة ولا يحق له أن يشرع.
ومن هذه العبادات التي اتخذها الناس سنة وهي لم يرد فيها عن الله تعالى نص
خاص ولم تكن من هدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: المداومة على الجهر بالأذكار
بعد الصلوات، الجهر بالصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعد الأذان،
الجهر بتلاوة القرآن قبل أذان يوم الجمعة، صلاة ركعتين بعد أذان الجمعة حتى أطبق
الناس ممن يصلونها على تسميتها ب((السنة!!))القبلية للجمعة، صلاة التسابيح بعد
صلاة التراويح في رمضان، إلى غير ذلك من العبادات المحدثة!!.
ومن هذا العبادات: زيادة
أذان على أذان يوم الجمعة، فإنَّ من المعلوم عند أهل العلم - ولا أقول أهل
التقليد أو العوام من الناس – أنَّ الأذان لصلاة الجمعة في عهد النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما كان أذاناً واحداً يقوم
به مؤذن واحد إذا قعد الإمام على المنبر؛ فقد أخرج
الإمام أحمد عن الزهري عن السائب بن يزيد رضي الله تعالى عنه قال: ((ما كان لرسول
الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد: يؤذن إذا قعد على المنبر، ويقيم إذا نزل،
وأبو بكر كذلك وعمر كذلك))، فلما كانت خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، وكان في
صدر خلافته أذان واحد فلما كثر الناس وتباعدت المنازل عن المسجد النبوي أمر به
عثمان رضي الله تعالى عنه أن يُؤدَّى قبل خروجه: ليعلم الناس أنَّ الجمعة قد حضرت
فيستعدّوا لها ولا يفوتهم شيئاً منها، وقد نقل القرطبي في [الجامع لأحكام
القرآن 18/ 100]عن الماوردي في هذا الأذان قوله: ((فعله عثمان: ليتأهب الناس لحضور
الخطبة، عند اتّساع المدينة، وكثرة أهلها))، وقد ذكر لنا الصحابي الجليل السائب بن
يزيد رضي الله تعالى عنه هذا الحدث وسببه وأثره بما لا يحتاج بعده إلى كثرة كلام؛
قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: أخبرني السائب بن يزيد رضي الله تعالى عنه:
((أنَّ الأذان [الذي ذكره الله في القرآن([1])] كان أوله: حين يجلس الإمام على المنبر([2])، [وإذا أُقيمت الصلاة ([3])]؛ يوم الجمعة [على باب المسجد] في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، [ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير مؤذن واحد]؛
فلما كان خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، وكثر الناس [وتباعدت المنازل] : أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث (وفي رواية: الأول، وفي أخرى: بأذانٍ
ثالثٍ)([4])، [على دار [له] في السوق يقال: لها الزوراء([5])]، فأذن به على الزوراء [قبل خروجه؛ ليعلم الناس أنَّ الجمعة قد حضرت]،
فثبت الأمر على ذلك، [ فلم يعب الناس ذلك عليه، وقد عابوا عليه حين أتم الصلاة
بمنى])).
رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود – واللفظ له من غير الزيادات [ ]
ما عدا الخامسة فقد أخرجها كذلك – والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة
والطبراني والبيهقي وغيرهم؛ وانظر تخريج هذه الزيادات في كتاب "الأجوبة
النافعة" لمجدد العصر ومحدث الزمان الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله
تعالى.
قال الألباني في الأجوبة النافعة: ((وهذا السبب لا يكاد يتحقق في عصرنا
هذا إلا نادراً؛ وذلك في مثل بلدة كبيرة تغص بالناس على رحبها كما كان الحال
في المدينة المنورة، ليس فيها إلا مسجد واحد يجمع الناس فيه، وقد بعدت لكثرة
منازلهم عنه، فلا يبلغهم صوت المؤذن الذي يؤذن على باب المسجد. وأما بلدة فيها
جوامع كثيرة - كمدينة دمشق مثلاً -: لا يكاد المرء يمشي فيها إلا خطوات حتى
يسمع الأذان للجمعة من على المنارات، وقد وضع على بعضها أو كثير منها الآلات
المكبرة للأصوات، فحصل بذلك المقصود الذي من أجله زاد عثمان الأذان، ألا وهو إعلام
الناس: أن صلاة الجمعة قد حضرت، كما نص عليه في الحديث المتقدم))، وقال رحمه
الله تعالى: ((وكأنه لذلك كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو بالكوفة: يقتصر
على السنة ولا يأخذ بزيادة عثمان كما في "القرطبي "، وقال ابن عمر
رضي الله عنهما: " إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر أذن
بلال ، فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته أقام الصلاة، والأذان الأول
بدعة " رواه أبو طاهر المخلص في "فوائده" ورقة 229/ 1-2)).
فإن قال قائل: عثمان خليفة من الخلفاء الراشدين وقد أمرنا النبي صلى الله
عليه وسلم بالتزام سنتهم، والأذان الثاني من سنته، فنحن نلتزم سنة عثمان ونأخذ
بأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:((فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ
مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي
وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا
وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ فَإِنَّ
كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ)).
وجواب ذلك من وجهين:
1- الحديث في أوله ((فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي)) وليس الأذان الثاني
من سنته، وفي وسطه ((الْخُلَفَاءِ)) وعلي رضي الله تعالى عنه منهم ولم يفعله، وفي
آخره ((وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ)) وهو لم يكن في عهد النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم ولا في عهد أبي بكر ولا عمر!!.
2- لم يفعل عثمان رضي
الله تعالى عنه ذلك بغير علة؛ وإنما ليتأهب الناس لحضور الخطبة، عند اتّساع
المدينة وكثرة أهلها، واليوم - بل قبل اليوم كذلك – يشهد الناس كثرة المساجد في
المدينة أو الحي الواحد واختراع مكبرات الصوت ومعرفة وقت الصلاة من خلال الساعات
والإذاعة إلى غير ذلك من وسائل؛ فلا يحتاج الناس إلى أذانين لصلاة الجمعة وخاصة
أنَّ الوقت بينهما لا يكاد يغني للتأهب والحضور إلى الجمعة، فمن زاد أذاناً على
أذان الجمعة: فهو لم يوافق عثمان رضي الله عنه لا في الفعل ولا في القصد؛ فكيف
يكون مقتدياً بسنته؟!!
واعلم أنَّ الأذان الواحد لصلاة الجمعة من مؤذن واحد هو مذهب الإمام
الشافعي رحمه الله تعالى؛ فقد قال في كتابه [الأم/ م1 ص195]:
((وأحب أن يكون الأذان يوم الجمعة: حين يدخل الإمام المسجد ويجلس على
موضعه الذي يخطب عليه - خشب أو جريد أو منبر.. - فإذا فعل: أخذ المؤذن في الأذان، فإذا فرغ: قام
فخطب لا يزيد عليه!!!، وأحب أن يؤذن مؤذن واحد إذا كان على المنبر،
لا جماعة مؤذنين)) ثم استدل بحديث السائب بن يزيد الآنف الذكر ثم قال رحمه الله
تعالى: (( فالأمر الذي على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم أحب إلي!!، فإن أذن جماعة من المؤذنين: والإمام على
المنبر، وأذن كما يؤذن اليوم: أذان قبل أذان المؤذنين إذا جلس الإمام على
المنبر: كرهت ذلك له!!، ولا يفسد شيء منه صلاته، وليس في الأذان شيء يفسد
الصلاة؛ لأنَّ الأذان ليس من الصلاة إنما هو دعاء إليها، وكذلك لو صلى بغير أذان
كرهت ذلك له ولا إعادة عليه))، فهذا هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى فلا يقول
قائل: هذا مذهب جديد!!، وهذا ما كان على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
فلا يقول قائل: هذا دين جديد!!، نسأل الله تعالى أن يوفق أئمة المساجد وأخواننا
المصلين للعمل على ما كان عليه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من هدي في
جميع عباداتهم، وأن يجنبهم محدثات الأمور، ومخالفة وعصيان أمر الله تعالى وأمر
نبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؛ قال تعالى: ((فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ)) النور/ 63، وصلى الله تعالى على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
5- عن أنس بن مالك رضي
الله تعالى عنه: أنَّ نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه [كان] بالزوراء؛ قال:
والزوراء: بالمدينة عند السوق والمسجد، فيما ثمه دعا بقدح فيه ماء فوضع كفه فيه
فجعل ينبع من بين أصابعه فتوضأ جميع أصحابه قال قلت كم كانوا يا أبا حمزة قال
كانوا زهاء الثلاث مائة. رواه مسلم، وقال البخاري بعد حديث السائب: الزوراء موضع
بالسوق بالمدينة.
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.