الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله
وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدِّين؛ وبعد:
فإنَّ كثيراً من نزاع العلماء وطلبة العلم الواقع في
المسائل الفقهية سببه الاختلاف في بعض الأصول الفقهية؛ وإلى هذا أشار شيخ الإسلام
رحمه الله تعالى حين ذكر أسباب اختلاف العلماء بقوله: ((السبب السابع: اعتقاده أنْ
لا دلالة في الحديث؛ والفرق بين هذا وبين الذي قبله – [وهو: عدم معرفته بدلالة
الحديث] - أنَّ الأول لم
يعرف جهة الدلالة، والثاني عرف جهة الدلالة لكن اعتقد أنها ليست دلالة صحيحة؛ بأنْ يكون له من الأصول ما يرد تلك
الدلالة، سواء كانت في نفس الأمر صواباً أو خطأً؛
مثل: أن يعتقد أنَّ العام المخصوص ليس بحجة، وأن المفهوم ليس بحجة، وأنَّ العموم الوارد
على سبب مقصور على سببه، أو أنَّ الأمر المجرد لا يقتضي الوجوب، أو لا يقتضى الفور، أو أنَّ المعرف باللام لا عموم له، أو أنَّ الأفعال المنفية
لا تنفي ذواتها ولا جميع أحكامها، أو أنَّ المقتضى لا عموم له فلا يدعى العموم في المضمرات
والمعاني، إلى غير ذلك مما يتسع القول فيه، فإنَّ شطر أصول الفقه تدخل مسائل الخلاف
منه في هذا القسم)) [المجموع 20/ 245-246]
ولا شكَّ أنَّ العناية في تقرير القواعد وتحرير الأصول التي تنبي عليها
الفروع والعمليات من الأهمية بمكان؛ لأنَّ مقام الأصل من الفروع كمقام الأساس من
البناء؛ فلا يقوم البناء الراسخ إلا على أصل ثابت، وقد أرشدنا الله جلَّ في علاه
إلى الاهتمام بالأصول قبل الفروع بقوله: ((أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى
تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ
شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِه))، وقد نبَّه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى
هذه الحقيقة الشرعية في أكثر من موضع فقال: ((ومن المعلوم
أنَّ العلم أصل العمل، وصحة الأصول توجب صحة الفروع)) [المجموع 4/ 53]، وقال: ((والكلام
في الفروع مبني على الأصول)) [المجموع 28/ 616]، وقال: ((ومن لم يكن معه أصل ثابت فانه
يحرم الوصول؛ لأنه ضيع الأصول)) [المجموع 13/ 160]، وقال في مسألة حضانة الأم
للولد: ((وإنَّ الذين اعتقدوا أنَّ الأم قُدِّمت لتقدم قرابة الأم؛ لما كان أصلهم ضعيفاً
كانت الفروع اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة؛ وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم))
[المجموع 34/ 127].
ونقل رحمه الله تعالى مثالاً عن إمامٍ خبير من أئمة
الفقه والأصول عند الحنابلة يُبين أهمية صحة الأصول وتثبيتها يحسن أن نتأمل فيه؛
فقال: ((وكثير من الفروع الضعيفة التي يفرعها هؤلاء – [يقصد: بعض الفقهاء] ونحوهم؛
هي كما كان الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله يقول: مثالها مثال رجل بنى داراً حسنة على حجارة مغصوبة؛ فإذا نوزع
في استحقاق تلك الحجارة التي هي الأساس فاستحقها غيرُه: انهدم بناؤه؛ فإنَّ الفروع
الحسنة إنْ لم تكن على أصول محكمة وإلا لم يكن لها منفعة)) [المجموع 35/ 296].
ومن الأصول الفقهية التي اختلف الأصوليون فيها قاعدة:
"الأمر المطلق هل يُفيد الفور أم التراخي؟"، وهذه القاعدة أصل كبير من
أصول الفقه وتنبي عليه مسائل فقهية مهمَّة؛ والخلاف فيها شديد كما سترى ويَعلم ذلك
من خاض فيه، فلا بدَّ لطلبة العلم من تحرير القول في هذا الأصل حتى يُستفرغ الجهد
فيه ويُقطع فيه العذر. والله الموفِّق.
وأما هذا المبحث فمبني على ثلاثة مطالب:
الأول: تنقيح
محل النزاع.
الثاني: أقوال
المختلفين.
الثالث: عرض أدلة
المختلفين ومناقشتها.
ثم بعد ذلك نبيِّن القول الراجح من هذه الأقوال؛ وبه
يتحرر القول في هذا الأصل، أسأل الله تعالى أن يوفقني للصواب في هذه المسألة وأن
يسدد فهمي وقلمي في تحرير هذا الخلاف، وأن يرزقني الإخلاص فيه وفي غيره إنه سميع
الدعاء.
المطلب الأول: تنقيح محل النزاع
لابُدَّ لكلِّ مَنْ يبحث في مسألة أن يعيِّن محلَّ
النزاع فيها أولاً قبل أن يبين حكمها لكي يتصور حقيقة الخلاف؛ ومن المعلوم أنَّ
الحكم على الشيء فرع من تصوره.
فنحن نبحث في ((هل الأصل في الأمر المطلق أنه يفيد الفور أم التراخي؟))؛ فلنبيِّن محل النزاع في هذه القاعدة:
أقول: لا نزاع بين العلماء أنَّ الأمر إذا اقترن بما
يُفيد الفورية أفاد طلب الامتثال على الفور كقول القائل: اسقني الماء؛ لأنَّ الرجل
لا يقول ذلك إلا إذا كان في حال العطش فلا يجوز التأخر في امتثال هذا الأمر؛ ومثله
إذا قال: أنقذ الغريق، وكذلك لا نزاع بينهم إذا اقترن بما يُفيد التراخي أفاد طلب
الامتثال على التراخي كقول القائل: افعل هذا في أيِّ وقتٍ شئتَ؛ ومثله: افعل هذا
الآن أو غداً.
وكذلك إذا كان الأمر مقيداً بوقت؛ فإنْ كان ضيقاً يفوت
الأداء بفواته ولا يسع غيرَه كصيام رمضان فإنَّ الأمر يفيد الفور بلا خلاف، أو كان
الوقت موسَّعاً يسع فعل المأمور وغيرَه وله حدَّان أوَّل وآخر كالصلوات المفروضة
فيجوز التراخي بلا إشكال؛ وإنما اختلفوا في هذا: هل الوجوب في الواجب الموسَّع في
أوَّل الوقت أم في آخره وليست هي مسألتنا.
كما أنَّه لا خلاف معتبر في مسألتنا على أفضلية
المبادرة إلى فعل المأمور والمسارعة في امتثاله والمسابقة في تطبيقه؛ فإنَّ ذلك
أحوط وأبرأ للذِّمَّة وقد قال تعالى: ((وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً
وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)) وقال: ((وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن
قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي
إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ)) وقال: ((وَمَا
تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوت))، وهو أحب وأفضل في ميزان الأعمال: ((وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا
فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَات))، ((أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ
لَهَا سَابِقُونَ))، ((وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ))، ((سَابِقُوا
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء
وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ))، وكذلك
الأحاديث التي في أولها: ((بادروا بالأعمال...)) والتي تدعو للمبادرة بالأعمال قبل
حلول ما يعترضها.
كما أنَّه لا خلاف في كون الأمر المطلق يفيد الفور أو
التراخي إذا ورد الدليل على وجوب الفور في أمرٍ ما أو جواز التراخي فيه؛ لأنَّ
بحثنا من حيث الأصل، ولا إشكال في جواز الانتقال إلى خلاف الأصل للدليل أو لعارض
شرعي مع بقاء صحة الأصل كما هو معلوم.
كمَنْ يقول بالفور ثم يجوز التراخي في قضاء الفوائت من
الفرائض للانتقال إلى مكان آخر لما ورد من دليل يبين الانتقال من المكان الذي حضر
فيه الشيطان، أو كمَنْ يقول بالتراخي ثم يوجب المبادرة للحج للأحاديث التي تأمر
بالتعجل به.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [شرح العمدة 2/ 229]:
((الأمر المطلق عندنا يوجب فعل المأمور به على الفور؛ ولو لم يكن الأمر
المطلق يقتضي ذلك: فقد بينا من جهة السنة وغيرها ما يقتضي وجوب المبادرة إلى فعل
الحج فيكون الأمر به مقيداً)).
وإنما محل النزاع في مسألتنا هذه: هل الأصل في الأمر
المجرَّد من الوقت والقرائن سواء كانت مقالية أو حالية يفيد وجوب الفور لامتثاله
أم جواز التراخي فيه؟ وهل التراخي فيه يوجب التقصير والإثم واستحقاق العقاب أم لا؟
هذا هو موضع الخلاف.
ومعلوم بالإستقراء أنَّ أوامر الكتاب والسنَّة المطلقة
عن القرائن والوقت قليلة بالنسبة للأوامر المقيَّدة بوقت أو قرينة؛ بل يقول الصنعاني وهو يبحث في أدلة الفور والتراخي: ((والحق: أنه لا يخلو أمرٌ
عن القرينة الدالة على أحد الأمرين)) [إجابة السائل شرح بغية الآمل ص282]، وقد ضرب المختلفون
في هذا الأصل المتنازع عليه - وهو موضوع بحثنا - أمثلةً لو حُرِّرت وحُقِّقت لما
بقي منها إلا مسائل محصورة، فقد مثَّلوا للمسألة بصدقة الفِطر، وقضاء الفوائت من
الفرائض، وإخراج الزكاة؛ فأما صدقة الفطر فمؤقتة بقبل الخروج إلى صلاة العيد وما
بعد ذلك فإنما هي صدقة من الصدقات فلا يجوز التراخي فيها إلى ما بعد الصلاة، وأما قضاء
الفوائت من الفرائض للمعذور إنما هو مقيَّد بقرينة تدل على الفور كما في قوله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله: ((فليصلها إذا ذكرها لا كفارة له إلا
ذلك))، وأما إخراج الزكاة فمؤقت بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا
زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)) فإذا حال عليه الحول وجب إخراج الزكاة ولا يجوز
التأخير.
ولعلَّ أفضل ما ذكروه من مسائل: كفارة اليمين؛ هل هي
على الفور أم على التراخي؟ وقد ورد الأمر فيها مطلق بقوله تعالى: ((وَلَـكِن
يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُم)).
المطلب الثاني: أقوال المختلفين
اختلف الأصوليون في هذه القاعدة إلى ستة أقوال:
الأول: أنَّ
الأمر المطلق يفيد الفور؛ فيجب الإتيان به في أول أوقات الإمكان للفعل المأمور به.
قال به الظاهرية وعزي إلى المالكية والحنابلة
وبعض الحنفية والشافعية، وإليه
ذهب ابن تيمية والشاطبي وابن القيم والشنقيطي والألباني وابن عثيمين.
الثاني: أنه
يفيد التراخي إلى آخر العمر على وجه لا يفوت المأمور به؛ وذلك بما لا يغلب على ظنه فواته إنْ لم يفعل؛ وقد
نُقِلَ عن جماعة، والبعض يُنكر هذا القول ويدَّعي أنه الثالث.
الثالث: أنه
يفيد طلب الفعل وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور وطلبه على التراخي؛ من غير
أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فوراً أو تراخياً. وهذا هو الصحيح عند الحنفية وعزي إلى الشافعي وأكثر أصحابه، وهو قول الرازي والغزالي والآمدي وابن الحاجب، وإليه
ذهب الشوكاني والصنعاني.
الرابع: الأمر يوجب
إما الفور أو العزم على الإتيان به في ثاني الحال. قال به القاضي عياض.
الخامس: التوقف
في كونه للفور أو للتراخي؛ فيُمتثل المأمور بكل من الفور والتراخي لعدم رجحان أحدهما
على الآخر، مع التوقف في إثمه بالتراخي لا بالفور لعدم احتمال وجوب التراخي. فلو أتى
بالمأمور به في أول الوقت كان ممتثلاً قطعاً وإنْ أخَّر عن الوقت الأول لا يقطع بخروجه
عن العهدة، اختاره الجويني في البرهان.
السادس: وقيل بالوقف
في الامتثال؛ أي لا ندري هل يأثم إنْ بادر أو إنْ أخَّر؟ لاحتمال وجوب التراخي،
فلو بادر إلى فعله في أول الوقت فلا يقطع بكونه ممتثلاً وخروجه عن العهدة لجواز إرادة
التراخي. وهو مذهب نقله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما، وسمَّاه
بعضهم بغلاة الواقفية.
تمييز المذاهب وتمحيصها:
والفرق بين المذهب الثاني والثالث إنْ ثبت أنهما قولان
متغايران: أنَّ الثاني يُجوِّز التراخي من نفس الإطلاق في صيغة الأمر، وأما الثالث
فصيغة الإطلاق في الأمر لا تدل عنده على التراخي كما لا تدل على الفور.
وأما الفرق بين القول الثاني والرابع: أنَّ الثاني لا
يقيد التراخي ببدل ولا يُوجب على من أخَّر الإمتثال شيئاً، وأما الرابع فيفيد أنَّ
التراخي مقيد بالعزم القلبي على إتيان الفرض ليتميز به عن النفل.
وأما الفرق بين القول الثالث الذي يفيد الاشتراك
والقولين الخامس والسادس اللذين يفيدان التوقف؛ أنَّ الثالث يفيد أنَّ الامتثال من
غير إثم يقع بالفور كما يقع بالتراخي مع عدم القطع بإفادة الإطلاق للفور أو للتراخي،
وأما القولان الخامس والسادس: فالتوقف في نفي الإثم عند التراخي مع إثبات الامتثال
عند الفور على القول الخامس أو التوقف في نفي الإثم وإثبات الامتثال عند الفور
والتراخي على القول السادس.
والقول السادس مردود بالنص والإجماع؛ على أنَّ المبادر
لفعل المأمور ممتثل مثاب على المسارعة إليه، وأما القول الخامس فمنقوض كذلك لأنَّه
لو كان بفعل المأمور على التراخي ممتثل فكيف نتوقف في نفي الإثم عنه؟! وحكم الواجب
ما يُثاب فاعله امتثالاً ويستحق العقاب تاركه؛ فهو إما فاعل للواجب أو تارك، ففاعل
الواجب ممتثلاً يُثاب على فعله ولا يستحق العقاب فلا يُتوقف في نفي الإثم عنه.
وأما القول الرابع فهو يوجب إما الفور أو العزم على الإتيان
به في ثاني الحال؛ فأما الفور سيأتي بيانه، وأما أنه قد يوجب العزم على الإتيان
بالمأمور ولا يوجب الفور؛ فأستدل القاضي بأنَّ فعل المأمور مبني على أمرين: العزم
وهو عمل القلب، وأدائه وهو عمل الجوارح؛ فلا يكون عاصياً إلا بتركهما معاً، ويُرد
عليه: بأنَّ انفكاك عمل الجارحة عن عمل القلب إما لضعف ما في القلب أو لعدم؛
والأول معصية والثاني كفر فكيف يكون ممتثلاً بمجرد العزم؟. وبإنَّ الطاعة إنما هي بالفعل بخصوصه فهو مقتضى الأمر؛ فوجوب العزم ليس مقتضاه.
وأما القول الثاني والثالث فسواء كانا قولين أو قول
واحد: فالنتيجة واحدة؛ وهي جواز التراخي في الأوامر المطلقة واستحباب المبادرة لها،
وأدلتهما على ذلك واحدة.
فالآن عندنا قولان أو بقي لنا من هذه الأقوال الستة
قولان معتبران:
الأول: يوجب الفور في فعل الواجب المطلق.
والثاني:
يُجوِّز التراخي في فعله.
فلنرى أدلة القولين.
المطلب الثالث: عرض أدلة المختلفين ومناقشتها
أ- أدلة الموجبين للفور:
1- ظواهر النصوص التي فيها الأمر بالمسابقة في فعل
الخيرات والمسارعة إلى ما يوجب المغفرة والمبادرة في عمل الصالحات؛ وقد تقدَّمت
هذه النصوص، وهي أوامر مطلقة فتفيد الوجوب.
2- قوله تعالى لإبليس: ((ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك)) عابه
على أنه لم يأت في الحال بالمأمور به، وهذا يدل على أنه أوجب عليه الإتيان بالفعل حين
أمره به؛ إذ لو لم يجب ذلك لكان لإبليس أن يقول إنك أمرتني وما أوجبت عليَّ في الحال،
فكيف أستحق الذم بتركه في الحال؟ فيدل الأمر على وجوب الفور.
3- حديث صلح الحديبية وفيه: ((...فلما فرغ من قضية الكتاب؛
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" قال:
فو الله ما قام منهم رجل؛ حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، [وعند ابن
خزيمة: فو الله ما قام رجل منهم رجاء أن يحدث الله أمراً]، فدخل على أم سلمة فذكر لها
ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؛ اخرج لا تكلم أحداً منهم كلمة
حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه
ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضُهم
يقتل غماً...)) رواه البخاري، وعند مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس؛ فدخل علي وهو غضبان، فقلت:
مَنْ أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار، قال: "أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر
فإذا هم يترددون؟" [قال الحكم: كأنهم يترددون أحسب] ولو أني استقبلت من أمري ما
استدبرت ما سقت الهدي معي حتى اشتريه ثم أحل كما حلوا".
وعند أحمد والنسائي وابن ماجه بإسناد فيه مقال: عن البرآء
قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فخرجنا معه وأحرمنا بالحج فلما دنونا
من مكة؛ قال: "مَنْ لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة فإني لولا أنَّ معي هدياً لأحللت"
فقالوا: حين لم يكن بيننا وبينه إلا كذا وقد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة؟ قال: "انظروا
ما آمركم به فافعلوا" قال: فردوا عليه القول، فغضب، ثم انطلق حتى دخل على عائشة
غضباناً فرأت الغضب في وجهه فقالت: مَنْ أغضبك أغضبه الله؟ فقال: "ومالي لا أغضب
وأنا آمر بالأمر فلا أتبع"
ففي الحديث: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غضب على أصحابه لما لم يقوموا لامتثال أمره بالحلق والنحر والتحلل حتى
شكى ذلك لأمِّ سلمة رضي الله عنها، فدل على أنَّ الأمر يوجب الفور وإلا لم يغضب لتأخيرهم
الامتثال عن وقت الأمر.
4- بالنظر: وهو أنَّ
جواز التأخير غير مؤقت ينافي الوجوب؛ وهذا مبني على ثلاث حيثيات:
أ- تحديد الغاية: فإنه
لا يخلو إما أنْ يؤخَّر الامتثال إلى غاية بحيث إذا وصل المكلف إليها لا يجوز له أن
يؤخر الفعل عنها؛ والغاية إما أن تكون مجهولة أو معلومة، أو إلى غير غاية بحيث يجوز
له التأخير أبداً؛ فالأول من القسمة لا يجوز لأنَّ الغاية إنْ كانت مجهولة يكون تكليفاً
بالمجهول وهو باطل، وإنْ جعلت الغاية الوقت الذي يغلب على ظنه البقاء إليه فباطل أيضاً؛
فإنَّ الموت يأتي بغتة كثيراً، وظنُّ البقاء معدوم لأنه لا يدري أيخترمه الموت
الآن أم لا؟! ثم إذا كان له غاية خرج عن محل النزاع إذ يصير من الأمر المقيد، وإنْ
قيل يؤخَّر إلى غير غاية: فباطل أيضاً؛ لأنه:
ب- تحديد البدل: لا يخلو
من قسمين؛ إما أن يؤخَّر إلى غير بدل فيلتحق بالنوافل والمندوبات، أو إلى بدل، فلا
يخلو البدل: إما أن يكون بالوصية به أو العزم عليه؛ والوصية لا تصلح بدلاً لأنَّ كثيراً
من العبادات لا تدخلها النيابة ولأنه لو جاز التأخير للموصي جاز للوصي أيضاً فيفضي
إلى سقوطه، والعزم ليس ببدل لأنَّ العزم يجب قبل دخول الوقت والبدل لا يجب قبل دخول
وقت المبدل، ولأنَّ وجوب البدل يحذو وجوب المبدل والمبدل لا يجب على الفور فكذلك البدل،
ولأنَّ البدل يقوم مقام المبدل ويجزىء عنه والعزم ليس بمسقط للفعل، وكيف يجب الجمع
بين البدل والمبدل؟ ثم لا ينفعكم تسميته بدلاً مع كون الفعل واجباً؛ فما الذي يسقط
وجوب الفعل ويقوم مقامه؟!
ج- تحقق العصيان: فلو
مات المخاطب بعد امتداد الزمن وما كان امتثل لم يخل الأمر فيه: إما أن ينسب إلى العصيان
أو لا ينسب إليه؛ فإنْ قيل: إنه مات غير عاص فهذا إسقاط الإيجاب بالكلية قطعاً، وإنْ
قيل مات عاصياً كان ذلك مناقضا لجواز التأخير؛ فإنه فعل ما له أن يفعل، فإن قيل: جوِّز
له التأخير بشرط سلامة العاقبة كان ذلك ربط التكليف بالمجهول.
5- بالقياس: أنَّ الأمر
ضد النهي؛ فلما أفاد النهي وجوب الانتهاء على الفور، وجب في الأمر أن يفيد الوجوب على
الفور بجامع الطلب بينهما؛ أو بمعنى آخر: أنَّ الأمر بالشيء نهي عن تركه؛ لكن النهي
عن تركه يوجب الانتهاء عن تركه في الحال؛ والانتهاء عن تركه في الحال لا يمكن إلا بالإقدام
على الفعل في الحال، فثبت أنَّ الأمر يوجب الفعل في الحال.
6- باللغة: أنَّ
السيد لو أمر عبده فلم يمتثل في الحال فله أن يُعاقبه ولا يلومه أحد، وليس للعبد
أن يعتذر فيقول بأنَّ الأمر على التراخي!!.
7- بالاحتياط: على أنه
لو فعل المأمور عقيب الأمر فإنَّه يخرج عن العهدة وتبرأ به الذمَّة اتفاقاً إلا
مَنْ شذَّ وقد تقدَّم، فالاحتياط يقتضي وجوب الإتيان بالمأمور على الفور لتحصيل الخروج
عن العهدة بيقين.
هذه هي الأدلة التي
استدل بها الموجبون للفور
ب-
أدلة المجيزين للتراخي:
1- بالسنة الفعلية:
أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخَّر الحجَّ إلى السنة العاشرة مع أنَّ فريضة
الحج نزلت عليه قبل ذلك بالأمر المطلق في قوله تعالى: ((ولله
على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً)) وهذه في سورة آل عمران وقد نزلت كثير
من آياتها بعد أحداث معركة أحد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة، وفي قوله:
((وأتمُّوا الحجَّ والعمرة لله)) وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست من الهجرة بالإجماع؛
ولحديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه؛ فعن أنس رضي الله
عنه: قال كنا نتمنَّى أن يأتي الأعرابي العاقل فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم ونحن
عنده، فبينا نحن كذلك إذ أتاه أعرابي فجثا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا محمد إنَّ رسولك أتانا فزعم لنا أنك تزعم أنَّ الله أرسلك، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: ((نعم))، قال: فبالذي رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال؛ آلله أرسلك؟ فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم))، قال: فإنَّ رسولك زعم لنا أنك تزعم أنَّ علينا
خمس صلوات في اليوم والليلة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) قال: فبالذي أرسلك؛
آلله أمرك بهذا؟ قال: ((نعم))، قال: فإنَّ رسولك زعم لنا أنك تزعم أنَّ علينا صوم شهر
في السنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق)) قال: فبالذي أرسلك؛ آلله أمرك بهذا؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) قال: فإنَّ رسولك زعم لنا أنك تزعم أنَّ علينا
في أموالنا الزكاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدق)) قال: فبالذي أرسلك؛ آلله
أمرك بهذا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) قال: فإنَّ رسولك زعم لنا أنك تزعم
أنَّ علينا الحج إلى البيت من استطاع إليه سبيلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم))
قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم))، فقال:
والذي بعثك بالحق؛ لا أدع منهنَّ شيئاً ولا أجاوزهنَّ، ثم وثب، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: إنْ صدق الأعرابي دخل الجنة؟ رواه مسلم وغيره واللفظ للترمذي،
واختُلِفَ في سنة قدومه؛ قيل في سنة خمس، وقيل سبع، وقيل تسع، قال الحافظ ابن عبد
البر [الاستيعاب 1/ 226]: ((بعثه بنو سعد بن بكر وافداً؛ قيل: إنَّ ذلك في سنة خمس
قاله محمد بن حبيب وغيره، وذكر ابن إسحاق قدوم ضمام بن ثعلبة ولم يذكر العام، وقيل:
كان قدومه في سنة سبع، وقيل: في سنة تسع ذكره ابن هشام عن أبي عبيد))، وقال الحافظ
ابن حجر في [الإصابة 3/ 487]: ((وزعم الواقدي
أنَّ قدومه كان في سنة خمس وفيه نظر، وذكر ابن هشام عن أبي عبيدة أنَّ قدومه كان سنة
تسع وهذا عندي أرجح)).
وإذا كان فرض الحجِّ
متقدِّماً وهو صلى الله عليه وسلم فتح مكة في رمضان سنة ثمان، وأقام الحج للناس
تلك السنة عتَّاب بن أَسيد أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعث أبا بكر
الصديق رضي الله عنه في سنة تسع فأقام للناس موسم الحج ومعه علي بن أبي طالب بسورة
برآءة ورجال من المسلمين، واعتمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل العام
الذي حجَّ فيه ثلاث مرات؛ فقد
أخرج البخاري من طريق قتادة قال: سألت أنساً رضي الله عنه فقال: ((اعتمر النبي صلى
الله عليه وسلم حيث ردوه، ومن القابل عمرة الحديبية، وعمرة في ذي القعدة، وعمرة مع
حجته)) وأخرج من طريق همام قال: ((اعتمر أربع عمر في ذي القعدة؛ إلا التي اعتمر مع
حجته: عمرته من الحديبية، ومن العام المقبل، ومن الجعرانة حيث قسم غنائم حنين، وعمرة
مع حجته))، ولم يحج النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا في
السنة العاشرة، فدل على أنَّ وجوبه على التراخي.
2- بالسنة التقريرية: أخرج
الشيخان وغيرهما من طريق يحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها: كان يكون
عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان؛ قال يحيى: الشغل من النبي أو
بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا التعليل الذي ذكره يحيى رواه مسلم تارة من قول عائشة، ثم رواه من قول يحيى بلفظ: وذلك
لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارة عنه بلفظ: فظننت أنَّ ذلك لمكانها من النبي
صلى الله عليه وسلم، وأخرى من غير هذه الكلمة أصلاً.
وأخرج مسلم بعده من
غير طريق يحيى عنها رضي الله عنها أنها قالت: إنْ كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي
شعبان.
وعند الترمذي من
طريق عبد الله البهي عن عائشة قالت: ما كنت أقضي ما يكون علي من رمضان إلا في شعبان
حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده وقال: يعني
لحاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها كانت هي وغيرها من أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يؤخِّرن قضاء رمضان إلى شعبان؛ وهذا لا شكَّ بعلمه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكون إقراراً، مع أنَّ قضاء رمضان قد أمر به الشارع بقوله:
((وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر)) فدلَّ هذا على
جواز التراخي في امتثال الأمر المطلق.
3- بالإلزام: فإنَّ الله تعالى يقول في قضاء
رمضان: ((وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر)) وأيام نكرة في
سياق الإثبات فتفيد مطلق الأيام؛ أي: في أيِّ وقت تشاء فصم بمقدار ما أفطرت، بل
وأكَّد سبحانه الإطلاق بكلمة أُخَر، ومن قال بوجوب الفور بالقضاء لزمه أن يقول
بوجوب التتابع في صيامها؛ لأنَّ التفريق في صيامها يتضمن معنى التراخي، وهذا يلزم
منه تقيد الحكم الذي أطلقه الشارع مع عدم المانع؛ فالشارع قد قيد الصيام في كفارة
الظهار والقتل بالتتابع فقال: ((فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا)) وقال: ((فَمَن لَّمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ))، وبالتفريق في الحج
فقال: ((فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ
إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ))، بينما أطلق في قضاء رمضان؛ وهذا
يدل على أنَّ العبد مخيَّر بين التتابع والتفريق، وإلا فما المانع أن يقيد الشرع
هذا الصيام بالتتابع، ثم أنَّ تقييد الحكم بالتتابع لا يوافق التيسير المشار إليه
في الآية، فدل على أنَّ إيجاب التتابع يلزم منه إلغاء ما أثبته الشرع وإثبات ما
ألغاه، وفيه إلزام للناس بما يوجب الحرج في محل التيسير.
4- بالنظر: وهو أنَّ
وجوب الفور يُنافي الإطلاق والتقييد في أوامر الشرع؛ من ثلاثة وجوه:
أ- أنَّ الشرع فرَّق
بين الأوامر المطلقة والأوامر المقترنة بقرينة الوقت أو الحال التي تدل على الفور؛
فإدَّعاء أنه لا فرق بينها من حيث وجوب المبادرة لها يُخالِف هذا التفريق؛ وحقيقته
إلغاء ما قيَّده الشرع وتقييد ما أطلقه، فالشرع ذكر أوامراً مقيَّدة بما يوجب
الفور؛ فإذا كان الأمر بصيغته المجرَّدة يوجب الفور كانت تلك القيود لغواً، كما
أنه ذكر أوامر مجرَّدة عن القرائن التي توجب الفور فتقيدها بذلك تحكُّم محض.
ب- أنَّ الأوامر
المطلقة لو كانت تفيد وجوب المبادرة لامتثالها في أول الوقت لكان مَنْ فعلها بعد
ذلك خارجاً على الوقت فتكون له قضاء لا أداء؛ كما لو فعل الصلاة بعد خروج الوقت،
وليس كذلك، ولا يقولون هم بذلك.
ج- أنَّ الأمر قد يكون المراد منه الفور
تارة بقرينة تدل على ذلك، أو قد يكون المراد منه التراخي بقرينة أخرى؛ فلا بد من جعله
حقيقة في القدر المشترك بين القسمين؛ وهو طلب الفعل.
5- بالقياس: فإذا كان الأمر بصيغتة المجرَّدة عن
القرائن لا يفيد المرة ولا التكرار؛ وإنما المرة من ضروراته، فكذلك هو لا يفيد
الفور ولا التراخي، وإنما يفيد طلب الفعل من غير إشعار إلى وقت ولا مكان ولا غير
ذلك، وإنما تُعرَف هذه بالقرائن.
6- باللغة: فإنه يحسن من السيد أن
يقول لعبده: افعل كذا في الحال، أو أفعل كذا غداً؛ ولو كانت صيغة (افعل) تدل على
الفور بمجرَّدها لكان التقييد في المثال الأول بـ(الحال) تكراراً، والثاني بـ(غداً)
نقضاً، وأنه غير جائز، مع أنَّ هذا واقع في لسان العرب.
7- الأصل البرآءة: فإنَّ العبد إذا أخَّر الامتثال
ثم فعله فقد برئت ذمته وسقط عنه الطلب، فالأصل براءة الذمة من إثم التأخير؛ فمن
ادَّعاه فعليه الدليل.
هذه هي
أدلة المجيزين للتراخي في امتثال الأوامر المطلقة.
مناقشة
أدلة الفريقين:
أولاً:
مناقشة أدلة الفريق الأول:
1- الجواب
عن النصوص التي تأمر بالمسارعة والمسابقة والمبادرة:
أنَّ
الآيات التي تتضمن الأمر بالمسارعة والمسابقة لا يمكن أن نؤصِّل عليها أنَّ الأمر
يفيد وجوب الفور وإنما استحباب الفور؛ وإلا لزم أن يدخل فيها كل المأمورات سواء
كانت واجبات أو مستحبات، وسواء كانت الواجبات مطلقة أو مقيَّدة بالوقت أو القرائن
بما يفيد التراخي أو الفور، فهذه كلها تدخل في مضمون كلمة ((الخيرات))، وكذلك هي
توجب المغفرة والرضوان.
فإنْ
قلتم: أنَّ المستحبات والواجبات المقيَّدة بما يفيد التراخي خرجت بالأدلة الأخرى.
قيل لكم: وخرجت
الواجبات المقيَّدة بالفور بالأدلة كذلك، فلم يبق إلا الواجبات المطلقة وهي قليلة
جداً بالنسبة لما مضى بل جزم الصنعاني كما تقدَّم بعدمها؛ فكيف يكون دلالة الآية
على أقل القليل؟!
ولهذا ((فيختص ذلك: بما
اتفق على وجوب تعجيله من الأفعال المأمور بها؛ ولا يعم كلَّ فعلٍ مأمورٍ به))
[الإحكام للآمدي 2/ 190].
- ((ثم قولكم "الفورية
لم تستفد من الأمر بل من مادة سارعوا"؛ فيه تسليم لوجوب فعل المأمورات
الشرعية على الفور بما دل على ذلك من قوله "سارعوا"؛ فحاصل ما أجبتم به:
أنكم سلمتم ثبوت الفور في المأمورات؛ ولكنْ قلتم إنَّ ذلك ليس من مدلول الأمر بل من
دليل منفصل)) [الإبهاج للسبكي 2/ 62].
وهذا يعني
أنَّ ظواهر النصوص التي استدللتم بها ((لو دلَّت على وجوب الفور لم يلزم منه دلالة
نفس الأمر على الفور)) [المحصول للرازي 2/ 201].
2- أما
قوله تعالى لإبليس: ((مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)).
فجوابه: أنَّه
دلَّ على الفور بالقرينة؛ لأنَّ
((هذا الأمر لإبليس مقيد بوقت وهو وقت نفخ الروح في آدم بدليل قوله: "فإذا سويته
ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" فذمَّ إبليس على تركه الامتثال للأمر في ذلك
الوقت المعين)) [إرشاد الفحول ص150].
ثم إنَّ إبليس ترك الامتثال للأمر ردٌّ له بما استقرَّ في نفسه من الاستكبار ولهذا
أجاب بقوله: ((أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن
طِينٍ))، فكان ذلك هو المانع من امتثال الأمر بالسجود: ((قَالَ: يَا إِبْلِيسُ مَا
مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ
الْعَالِينَ))، فالآية في غير محل النزاع.
3- وأما
حديث أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه بالحلق والنحر بعد صلح
الحديبية فلم يمتثلوا فغضب عليهم: فجوابه: أنه لا يُمكن أن يكون عدم امتثالهم سببه
إرادة التأخير إلى وقت آخر؛ بدليل أنَّه لم يقم منهم أحد قط، فهل يا ترى اجتمعت
إرادتهم للتراخي في امتثال الأمر؟! من البعيد أن يقع مثل هذا؛ وبخاصة من خير الناس
بعد الأنبياء، وإنما تركوا الامتثال رجاء أن يُنزِّل الله على نبيِّه أمراً كما صح
عند ابن خزيمة: ((فو الله ما قام رجل منهم رجاء أن يحدث الله أمراً))، ولهذا لما
أشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها أن يحلق وينحر فرآه الصحابة انقطع أملهم بذلك وامتثلوا
جميعاً لأمره السابق ومن غير أمر جديد، وأما غضبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فسببه أنه كرر عليهم الأمر ثلاثاً فإذا هم يترددون؛ وفي الرواية الأخرى:
((قال: "انظروا ما آمركم به فافعلوا" فردوا عليه القول، فغضب))، ثم أنَّ
تكرار الأمر قرينة يدل على إرادة الفور؛ فالقصَّة في غير محل الاستدلال أصلاً.
4-
وأما أنَّ جواز التأخير المطلق ينافي الوجوب من حيثيات ثلاثة: جهالة الغاية، وجهالة
البدل، وتحقق العصيان.
فجوابه من وجوه:
أ- أنَّه
ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الكثير من أصحابه أنهم لم يحجوا
إلا في السنة العاشرة؛ وثبت عن أزواج النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أنَّهنَّ كنَّ يؤخِّرن قضاء رمضان إلى شعبان، وذهب كثير من أهل العلم ومنهم
القائلون بالفور على جواز التفريق في قضاء رمضان؛ وكلُّ هذه الصور وغيرها يدخل
فيها ما ذكروه من تقسيم وإلزامات.
ب- وأُجيب:
((بأنه يختار الطرف الثالث – أي: يجوز تأخيره إلى غير غاية مِن غير بدل - ولا يلزم أنه من تكليف ما لا يطاق، لأنا
لم نقل: بوجوب التأخير مع جهالة الوقت؛ حتى يجب التعيين، بل نقول: بجواز تأخيره، ولا
يلزم منه ذلك؛ إذ يمكنه امتثال الأمر في أي وقت شاء)) [إجابة السائل شرح بغية الآمل للصنعاني ص281].
وقال الشوكاني: ((أما
جواز التأخير إلى وقت يعينه المكلف فلا يلزم منه تكليف ما لا يطاق؛ لتمكنه من الامتثال
في أيِّ وقتٍ أراد إيقاع الفعل فيه)) [إرشاد الفحول ص150].
ج- وأُجيب: ((قد يقال الترك الملزوم للذم:
هو ترك العازم على أنْ لا يفعل ما أمر به، وأما التارك لأنَّ وقت الطلب لا يتعين بل
مسافته العمر فإنه غير مذموم؛ ولا هذا هو الترك المأخوذ في رسم الواجب؛ فيُتأمَّل)) [إجابة السائل شرح بغية الآمل ص282].
د- وقيل: ((الصحيح أنه إذا مات عصى سواء غلب على ظنه قبل ذلك البقاء أم لا، ولا
يلزم التكليف بما لا يطاق؛ لأنه كان يمكنه المبادرة فالتمكُّن موجود، وجواز التأخير
بشرط سلامة العاقبة، وتبين خلافه فتبين عدم الجواز؛ والوجوب
تحقق مع التمكن فيُقضى))
[الإبهاج 1/ 98-99].
ﻫ- وقيل: ((وما ذكروه على ذلك من ارتباط
الأمر بجهالة في العاقبة تهويل لا تحصيل له؛ فإنَّ هذا النوع من الجهالة محتمل؛ وإنما
الممتنع جهالة تمنع فهم الخطاب أو إمكان الامتثال؛ أما ما يمنع فهم الخطاب فبين، وأما
ما ينافى الإمكان فهو مثل أن يقال لشخص: "اعتق عبداً من عبيد الدنيا" وهو
معين عند الآمر ولم يعينه للمخاطب؛ فإنْ وافق عتقه تقديره كان ممتثلاً، وإنْ لم يوافقه
عرضه للعقاب: فهذا ينقدح وجه امتناعه على ما سيأتي شرحنا عليه في كتاب النواهي إن شاء
الله تعالى. فأما تكليف المرء شيئاً مع تقدير عمره مهلة وفسحة وهو أنه إنْ امتثله فاز
بالأجر، وإن أخلى العمر منه تعرض للمعصية فلا استحالة في هذا)) [البرهان للجويني 1/
169-171].
و- وقيل وهو أقواها: ((وليس في مجرد التأخير تفويت لأنه يتمكن من الأداء في جزء يدركه من الوقت
بعد الجزء الأول حسب تمكنه في الجزء الأول، وموت الفجأة نادر لا يصلح لبناء
الأحكام عليه، فيجوز له التأخير إلى أن يغلب على ظنه بأمارة أنه إذا أخَّر يفوت
المأمور به؛ والظن عن أمارة دليل من دلائل الشرع كالاجتهاد في الأحكام فيجوز بناء
الحكم عليه.
فإنْ قيل: ما قولكم فيمنْ
مات بغتة أيموت عاصياً أم غير عاص؟ فإنْ قلتم: يموت عاصياً فمحال؛ لأنا إذا أطلقنا
له التأخير واخترمته المنية من غير أن يحسَّ بحضورها لم يتصور إطلاق وصف العصيان
عليه لأنَّ العصيان بالتأخير مع إطلاق التأخير محال، وإنْ قلتم: يموت غير عاص فلم
يبق للوجوب فائدة؟
قلنا: اختلف الأصوليون
فيه:
فمنهم من قال: إذا مات
بعد تمكنه من الأداء يموت عاصياً لأنَّ التأخير إنما أبيح له بشرط أن لا يكون
تفويتاً، وتقييد المباح بشرط فيه خطرٌ: مستقيمٌ في الشرع كالرمي إلى الصيد يُباح
بشرط أنْ لا يصيب آدمياً، وهذا لأنه متمكِّن من ترك الترخص بالتأخير بالمسارعة إلى
الأداء التي هي مندوب إليها.
فقلنا: بأنه يتمكن من
البناء على الظاهر ما دام يرجو الحياة عادة؛ وإنْ مات كان مفرِّطاً لتمكنه من ترك
الترخص بالتأخير.
ومنهم من قال: لا يموت
عاصياً ولكنه يدل على بطلان فائدة الوجوب؛ وهذا لما بينا أنَّ التأخير عن الوقت
الأول إلى وقت مثله لم يحرم عليه لأنه ليس فيه تفويت المأمور به ثم إذا أحسَّ
بالفوات بظهور علامات الموت منعناه من التأخير لأنه تفويت تعد، فإذا مات بغتة
وفجأة فهو غير مفوِّت للمأمور به لأنه أخَّر عن وقت إلى وقت مثله وقد أطلقنا له
ذلك، فصار الفوات عند موته بغتة من غير ظهور أمارات الموت مضافاً إلى صنع الله
تعالى لا إلى العبد؛ لأنه قد فعل ما كان مطلقاً له فلم يصح وصف فعله بالتفويت فلم
يجز أن يوصف بالعصيان؛ ثم عدم وصفه بالعصيان لم يدل على فوات فائدة الوجوب لأنا
حققنا صفة الواجبية فيما يرجع إلى فعل العبد من منعه من التفويت، فبوجود الفوات من
الله تعالى لا يبطل فائدة الوجوب)) [كشف الأسرار 2/ 182-183].
قلتُ: خلاصة الجواب المستفاد من القائلين بالتراخي عن التقسيم والإلزام الذي
ذكره القائلون بالفور من حيث الغاية والبدل وتحقق العصيان:
أنَّ العبد يُباح له
التأخير إلى آخر العمر على وجه الرُّخصة وله أن يعيِّن وقتاً لامتثال المأمور؛
فليس فيه إلزام له بالتأخير فلا يكون تكليفاً، ثم أنَّه متمكِّن من فعل المأمور في
أي وقت شاء سواء في أوَّل الوقت أو الثاني أو الثالث وهكذا حتى يغلِب على ظنَّه
فواته بالتأخير؛ فيُمنع حينئذ من التأخير فلا يحق له التراخي وهذا هو معنى الوجوب؛
وبهذا لا يكون الوقت مجهولاً وإنما مبهماً؛ وهذا لا يمنع كما في الأصناف الثلاثة
الأولى في كفارة اليمين، ومنه ذكر الأصوليون في أنواع الواجبات الواجب المبهم؛
فإذا كان الشرع يُسوِّغ واجباً مبهماً فلا إشكال أن يكون الوقت مبهماً.
وترك الواجب الذي يوجب
العصيان والإثم هو إذا خرج وقته أو فات فعله بتقصير من العبد؛ وأما إذا كان ليس له
وقت محدد في الشرع أو فات العبد فعله بفعل الله فلا عصيان حينئذ ولا إثم.
5-
وأما قياس الأمر على النهي في الفور بجامع الطلب؛ وأنَّ الأمر
بالشيء نهي عن تركه،
والنهي يفيد الفور، فلزم أنَّ الأمر كذلك:
وجوابه: أنَّ هذا قياس
مع الفارق، وقد فرَّق الشرع بين الأمر والنهي في مسألة التكرار؛ فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
((أيها الناس قد فرض الله عليكم الحجَّ فحجوا)) فقال: رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت
حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم))
ثم قال: ((ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم،
فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتمن وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)).
وإذا كان الأمر بالشيء
نهي عن تركه لزم منه أنَّ الأمر يُفيد التكرار كما أنَّ النهي يفيده؛ فلابد من
التفريق، فالتكرار من ضرورات النهي لأنَّ ترك الشيء لا يكون إلا باستغراق جميع
العمر وإلا إن حصل فعله مرة انتقض الترك، وأما الأمر فليس من ضروراته المداومة على
الفعل وإنما من ضروراته أن يقع فعله في جزء من العمر؛ ويبقى هذا الجزء هل يكون في
أول الوقت أم في غيره؟ فهذا محل النقاش، وبهذا يفترق الأمر عن النهي.
6- أما إنْ
طلبَ السيدُ من عبده بصيغة (افعل) الدالة على الأمر فتأخر العبد عن الامتثال فله
أن يلومه أو يُعاقبه. فجوابه:
أنَّ للعبد أن يقول له أمرتني أن أفعل لكنك لم تحدد لي وقت الفعل ولا يوجد في
كلامك ولا من حالِك ما يوجب الفور؛ فلم تأمرني بالتعجيل ولا علمتُ أنَّ عليَّ في التأخير
مضرة فعلام تلومَني أو تعاقبني؟!.
7- أما أنَّ الاحتياط يقتضي وجوب الإتيان
بالمأمور على الفور لتحصيل الخروج عن العهدة بيقين:
فجوابه: أنَّ ((التمسك على
الفور بطريقة الاحتياط ضعيف؛ لإنَّ الاحتياط ليس من أمارات الوضع ولا مقتضيات الوجوب
بل هو من باب الأصلح)) [الإبهاج 2/ 65]، ولو صح كونه دليلاً ((فيقال للمستدل به: يلزمك
بهذه الطريقة أنْ تقول أنَّ "الأمر للتكرار" إلا إن تبين دليلاً قائماً على
نفي التكرار بخصوصه)) [الإبهاج 2/ 66]، وعلى هذا يُلزَم المخالِف بكلِّ ما يُخالِف رأيه من
القواعد التي في أحد أقوالها ما يدل عليه الاحتياط.
وبهذا ننتهي من مناقشة أدلة القول الأمر، فلندخل إلى مناقشة أدلة الفريق الثاني:
ثانياًَ:
مناقشة أدلة الفريق الثاني:
1- الجواب
عن حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أ- منازعة
الخصم في تقدّم فرض الحج عن السنة العاشرة:
1- ((وأما قولهم:
أنه فرض سنة خمس أو ست؛ فقد اختلف الناس في ذلك اختلافاً مشهوراً، فقيل: سنة خمس،
وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة عشر؛ فالله أعلم متى فُرِضَ،
غير أنه يجب أن يعلم: إما أنه فرض متأخر، أو فرض متقدِّم وكان هناك مانع عام يمنع
من فعله؛ وإلا لما أطبق المسلمون على تركه وتأخيره)).
2- ((أنَّ
الأشبه والله أعلم: أنه إنما فُرِضَ متأخر يدل على ذلك وجوه؛ أحدها: أنَّ آية وجوب
الحج التي أجمع
المسلمون على دلالتها على وجوبه قوله: "ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلاً" وقد قيل: إنَّ هذه الآية إنما نزلت متأخرة سنة تسع أو عشر؛ ويدل
على ذلك أنها في سياق مخاطبة أهل الكتاب وتقرير ملة إبراهيم وتنزيهه من اليهودية
والنصرانية، وصدر سورة آل عمران إنما نزلت لما جاء وفد نجران إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وناظروه في أمر عيسى بن مريم عليه السلام، ووفد نجران إنما قدموا على
النبي صلى الله عليه وسلم بآخره)).
3- ((وأما قوله:
"وأتموا الحج والعمرة لله" فإنه نزل عام الحديبية سنة ست من الهجرة لما
صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إتمام عمرته التي قد كان أهلَّ بها،
وفيها بايع المسلمون بيعة الرضوان، وفيها قاضى المشركين على الصلح على أن يعتمر من
قابل؛ فإنما يتضمن الأمر بالإتمام، وليس ذلك مقتض للأمر بالابتداء، فإنَّ كل شارع
في الحج والعمرة مأمورٌ بإتمامها، وليس مأموراً بإبتدائهما، ولا يلزم من وجوب
إتمام العبادة وجوب ابتدائها، كما لا يلزم من تأكيد استحباب الإتمام تأكيد استحباب
الشروع))
4- ((أنَّ أكثر
الأحاديث الصحيحة في دعائم الإسلام ليس فيها ذكر الحج مثل حديث وفد عبد القيس لما
أمرهم بأمر فصلٍ يعملون به ويدعون إليه من وراءهم ويدخلون به الجنة أمرهم بالإيمان
بالله وحده وفسره لهم أنه الصلاة والزكاة وصوم رمضان وأن يعطوا من المغنم الخمس؛
ومعلوم أنه لو كان الحج واجباً لم يضمن لهم الجنة إلا به،
وكذلك الأعرابي الذي
جاء من أهل نجر ثائر الرأس الذي قال: "لا أزيد على هذا ولا أنقص منه"
إنما ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة والزكاة والصوم، وكذلك الذي أوصاه
النبي صلى الله عليه وسلم بعمل يدخله الجنة أمره بالتوحيد والصلاة والزكاة وصوم
رمضان؛ وقد تقدمت هذه الأحاديث في أول الصيام، مع أنه قد ذكر ابن عبد البر: أنَّ
قدوم وفد عبد القيس كان سنة تسع؛ وأظنه وهماً ولعله سنة سبع؛ لأنهم قالوا: أنَّ
بيننا وبينك هذا الحي من كفَّار مضر، وهذا إنما يكون قبل فتح مكة)).
5- ((وأما ذكر الحج في
حديث ضمام بن ثعلبه في بعض طرقه؛ وقد تقدم اختلاف الناس في وفود ضمام، وبيَّنا
أنَّ الصواب: أنه إنما وفد سنة تسع؛ فيكون الحج إنما فرض سنة تسع، وهذا يطابق نزول
الآية في تلك السنة، وهذا شبيه بالحق؛ فإنَّ سنة ثمان وما قبلها كانت مكة في أيدي
الكفار وقد غيروا شرائع الحج وبدَّلوا دين إبراهيم عليه السلام، ولا يمكن مسلماً
أن يفعل الحج إلا على الوجه الذي يفعلونه؛ فكيف يفرض الله على عباده المسلمين ما لا
يمكنهم فعله؟! وإنما كانت الشرائع تنزل شيئاً فشيئاً كلما قدروا وتيسَّر عليهم
أمروا به))
6- ((أنَّ الناس قد
اختلفوا في وجوبه؛ والأصل: عدم وجوبه في الزمان الذي اختلفوا فيه حتى يجتمعوا عليه؛
لاسيما والذين ذكروا وجوبه إنما تأوَّلوا عليه آية من القرآن أكثر الناس يخالفونهم
في تأويلها، وليس هناك نقل صحيح عن مَنْ يوثق به: أنه واجب سنة خمس أو سنة ست)).
ذكر هذه الأوجه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في شرح العمدة.
ب-
منازعته في لو صح قوله بتقّدم فرض الحج:
1- أمره
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتعجيل الحج خشية العوارض:
فعن ابن
عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعجلوا إلى الحج -
يعني الفريضة - فإنَّ أحدكم لا يدري ما يعرض له)) رواه أحمد، وقال صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة
وتعرض الحاجة)) رواه أحمد وابن ماجه؛ والحديثان حسَّنهما الألباني.
وهذا
يقتضي وجوب المبادرة إلى الحج، والقول مقدَّم على الفعل؛ فكيف إذا كان تأخر الفعل
لمانع؟ فلا تعارض إذاً بينهما.
2- أمره
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتعجيل قضاء الحج بعد الأداء الناقص على الفور:
فعن
الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كسر أو عرج
أو مرض فقد حلَّ؛ وعليه الحج مِن قابل)) رواه أصحاب السنن الأربعة واللفظ لأبي داود
وصححه الألباني.
وبهذا يتبين: أنَّ ((فعل
القضاء من الحج يجب على الفور؛ فإنه لو أفسد الحج أو فاته لزمه الحج من قابل؛ وهذا
لا خلاف فيه؛ فإذا كان القضاء يجب على الفور فأنْ تجب حجةُ الإسلام الأداء بطريق
الأولى والأحرى)) قاله شيخ الإسلام في العمدة.
3- ((أنه وإنْ كان فرض
متقدماً؛ لكن كانت هناك عوائق تمنع من فعله بل من صحته بالكلية سواء كان واجباً أو
غير واجب؛ أظهرها منعاً:
- أنَّ الحج قبل حجة
الوداع كان يقع في غير حينه؛ لأنَّ أهل الجاهلية كانوا ينسئون النسيء الذي ذكره
الله في القرآن حيث يقول: "إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا
يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم
سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكفرين" فكان حجهم قبل حجة الوداع في تلك
السنين يقع في غير ذي الحجة؛ روى أحمد بإسناده عن مجاهد في قوله: "إنما
النسيء زيادة في الكفر" قال: حجوا في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين
ثم حجوا في صفر عامين فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت حجة أبي
بكر الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة، ثم حج
النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة فلذلك حين يقول النبي صلى الله عليه
وسلم: "إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض"، وروى
عبد الرازق عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: "إنما النسيء
زيادة في الكفر" قال: فرض الله الحج في ذي الحجة وكان المشركون يسمُّون
الأشهر ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادي وجمادي ورجب وشعبان ورمضان وشوال
وذا القعدة وذا الحجة ثم يحجون فيه مرة أخرى، ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه،
فيسمون - أحسبه قال: - المحرم صفراً، ثم يسمون رجب جمادى الآخرة، ثم يسمون شعبان
رمضاناً، ورمضان شوالاً، ثم يسمون ذا القعدة شوالاً ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة،
ثم يسمون المحرم ذا الحجة، ثم عادوا لمثل هذه القصة؛ قال: فكانوا يحجون في كل شهر
عامين حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله
عليه وسلم حجته التي حج فوافق ذلك ذا الحجة فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم
في خطبته: "إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض"،
وكذلك في رواية أخرى عن مجاهد قال: هذا في شأن النسيء لأنه كان ينقص من السنة شهراً،
وروى سفيان بن عمرو عن طاووس قال: الشهر الذي نزع الله من الشيطان المحرم، وروى
أبو يعلى الموصلي عن إبراهيم في قوله تعالى: "إنما النسيء زيادة في الكفر"
قال: النسيء المحرم، وروى أحمد عن أبي وائل في قوله عز وجل: "إنما النسيء
زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً" الآية، قال:
كان رجل ينسأ النسيء من كنانة وكان يجعل المحرم صفراً يستحل فيه الغنائم فنزلت: "إنما
النسيء زيادة في الكفر"، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم بالأخبار
والتفسير والحديث لما نزل قوله: "إنَّ عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهراً"
والتي بعدها، وعن أبي بكرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: "ألا
إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض؛ السنة إثنا عشر شهراً
منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين
جمادى وشعبان" وذكر الحديث متفق عليه.
وإذا كان الحج قبل حجة
الوداع في تلك السنين باطلاً واقعاً في غير ميقاته: امتنع أن يُؤدَّى فرض الله
سبحانه قبل تلك السنة، وعُلِمَ أنَّ حجة عتاب بن أسيد وحجة أبي بكر إنما كانتا
إقامة للموسم الذي يجتمع فيه وفود العرب والناس؛ لينبذ العهود وينفي المشركون
ويمنعون من الطواف عرآة تأسيساً وتوطئة للحجة التي أكمل الله بها الدين وأتم بها
النعمة وأدَّى بها فرض الله وأقيمت فيها مناسك إبراهيم عليه السلام.
ولا يجوز أن يُقال:
فقد كان يمكن للمسلم أن يحج في غير وقت حج المشركين؟ أما قبل الفتح: فلو فعل ذلك
أحد لأريق دمه ولمنع من ذلك وصدَّ، وكذلك بعد الفتح: لأنَّ القوم حديثوا عهد
لجاهلية وفي استعطافهم تأليف قلوبهم وتبليغ الرسالة في الموسم ما فيه.
والذي يبين ذلك: أنَّ
النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر عمرة الحديبية ثم عمرة القضية من العام المقبل
ثم عمرة الجعرانة من العام الذي يليه؛ ومعه خلق كثير من المسلمين فقد كان يمكنه أن
يحج بدل العمرة فإنه أكمل وأفضل أن يجعل بدل هذه العمرة حجة أو يأمر أحداً من
أصحابه بذلك ولو أنها حجة مستحبة كما أن العمرة مستحبة؛ فلما لم يفعل علم تعذر
الحج الذي أذِنَ الله لاختصاصه بوقت دون العمرة)).
4- ((وقد ذكروا أيضاً من جملة أعذاره: اختلاط المسلمين بالمشركين،
وطوافهم بالبيت عُرآة، واستلامهم الأوثان في حجهم، وإهلالهم بالشرك حيث يقولون:
لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكة وما ملك، وإفاضتهم من عرفات قبل غروب
الشمس، ومن جمع بعد طلوعها، ووقوف الحمس عشية عرفة بمزدلفة؛ إلى غير ذلك من
المنكرات التي لا يمكن الحج معها ولم يمكن تغييرها بعد الفتح إلا في سنة أبي بكر حين
حج من العام المقبل لما زالت)).
5- ((ومن الأعذار أيضاً: اشتغاله بأمر الجهاد، وغلبة الكفار على
أكثر الأرض، والحاجة والخوف على نفسه وعلى المدينة من الكفار والمنافقين، وأنَّ
الله أعلمه أنه لا بد أن يحج قبل الموت. وفي بعض هذه الأمور نظر وإنْ صحت فهي عذر
في خصوصه ليست عذراً لجميع المسلمين)) وهذه الأوجه
ذكرها شيخ الإسلام في المصدر السابق.
وقد ((وسئل أيضاً: عن
رجل قدم يريد الغزو ولم يحج، فنزل على قوم مثبطوه عن الغزو وقالوا: إنك لم تحج تريد
أن تغزو؟! قال أبو عبد الله: يغزو ولا عليه؛ فإنْ أعانه الله حجَّ ولا نرى بالغزو قبل
الحج بأساً.
قال أبو العباس: هذا مع أنَّ الحج واجب على الفور عنده؛
لكن تأخيره لمصلحة الجهاد كتأخير الزكاة الواجبة على الفور لانتظار قوم أصلح من غيرهم
أو لضرر أهل الزكاة، وتأخير الفوائت للانتقال عن مكان الشيطان ونحو ذلك؛ وهذا أجود ما ذكره بعض أصحابنا في تأخير
النبي صلى الله عليه وسلم إنْ كان وجب عليه متقدماً))
[الفتاوى الكبرى 5/ 537].
وقال [المجموع 8/ 25-26]:
((فلما أمر بالإتمام أمر بإتمام الحج والعمرة؛ وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست
باتفاق الناس، وآية آل عمران نزلت بعد ذلك سنة تسع أو عشر و فيها فرض الحج؛ ولهذا كان أصح القولين أنَّ فرض
الحج كان متأخراً، و من قال أنه فرض سنة ست
فإنه احتج بآية الإتمام و هو غلط؛ فإنَّ الآية إنما أمر فيها بإتمامهما لمن شرع فيهما
لم يأمر فيها بابتداء الحج والعمرة، والنبي صلى الله عليه و سلم اعتمر عمرة الحديبية
قبل أن تنزل هذه الآية ولم يكن فرض عليه لا حج ولا عمرة، ثم لما صده المشركون أنزل
الله هذه الآية فأمر فيها بإتمام الحج والعمرة وبين حكم المحصر الذي تعذر عليه الإتمام؛
و لهذا اتفق الأئمة على أنَّ الحج و العمرة يلزمان بالشروع فيجب إتمامهما)).
قلتُ: الذي
يظهر أنَّ الحجَّ فُرِضَ متقدِّماً على سنة عشر وإلا لمَا استعمل النبيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عتاباً بن أسيد رضي الله عنه على أهل مكَّة ليقيم لهم
موسمَ الحج، ولمَا أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر رضي الله
عنه أن يحج بالمسلمين سنة تسع؛ ولكنَّ هذا الحج كان ناقصاً لكونه يقع في غير الشهر
الذي شُرِّع فيه وعلى غير الوجه الذي شُرِّع، ولهذا ترك النبيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبادرةَ إليه وترك بعض من أصحابه ذلك، حتى كانت حجة أبي بكر
ومن معه تمهيداً لحجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن معه، فلما حجَّ
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون معه وأدَّى فيها مناسك الحج
على أكمل وجه أنزل الله تعالى بعد ذلك: ((اليوم أكملتُ لكم دينكم))، لأنَّ الحج
كان الفرض الوحيد من أركان الإسلام لم يكمل بعد، ولهذا كان تأخيره صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن معه لأداء فريضة الحج إما لمانع وهو أنَّ مناسك الحج لم
تكن على الوجه المشروع، وإما لتحصيل مصلحة وهو الانشغال بجهاد الأعداء المتربِّصين
لأهل الإسلام وإما لدفع مفسدة وهي الفتنة التي تقع لأهل مكَّة إذا حجَّ النبيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل سنة عشر على الوجه المشروع؛ وإما أن تكون
هذه الأسباب كلها مجتمعة، وعند ذلك فلا حجة للقائلين بالتراخي بهذا الاستدلال،
لأنَّ التراخي لعذر أو لمانع ليس في جوازه خلاف، فكيف والنبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بتعجيل الحج؟! وهو نص في محل النزاع فلا اجتهاد بعده.
ومما يؤكِّد أنَّ فرض
الحج كان متقدِّماً؛ ما أخرجه البخاري في [باب: مَنْ اعتمر قبل الحج] من طريق عكرمة بن خالد أنه سأل ابن عمر رضي
الله عنهما: عن العمرة قبل الحج؟ فقال: ((لا بأس))، قال عكرمة قال ابن عمر: ((اعتمر
النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج))، فلو كان فرض الحج متأخراً بعد
عمره كلِّها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما صح استدلال ابن عمر بفعل النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
2- الجواب
عن تأخير أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقضاء صوم رمضان إلى شعبان:
للقائلين
بالفور مسلكان في الجواب عن ذلك:
أ- مسلك
الذين لا يجيزون التأخير إلى شعبان بغير عذر:
فيقول
هؤلاء: أنَّ تأخير أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضي الله
عنهنَّ كان لعذر لقول عائشة رضي الله عنها: ((فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان))
وفي رواية الجمع: ((فما تقدر على أن تقضيه
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان))؛ وهذا العذر سببه
الإنشغال برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل رواية: ((ما كنت أقضي ما يكون علي من رمضان إلا في شعبان
حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وهذا ما فسَّره رواة الحديث حيث
قال يحيى بن سعيد: ((الشغل بالنبي صلى الله عليه وسلم)) أي المانع هو الشغل به
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال إسحاق
بن راهويه في مسنده: ((يعني لحاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
فالتأخير
إلى شعبان كان لعذر؛ سواء عرفنا هذا العذر أو جهلناه.
ب- مسلك
الذين لا يجيزون التأخير إلى رمضان بغير عذر؛ أما إلى شعبان فيجوز بلا عذر:
أما هؤلاء
فيقولون:
1- أنَّ قضاء رمضان أطلق في القرآن بما يُفيد التراخي وذلك بقرينة
((أُخَر)) في قوله: ((وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْر)) ولم تقيَّد بالتتابع فدلَّ على أنَّ
الأمر فيه سعة.
2- ويؤكِّد
ذلك فعل أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التأخير إلى شعبان
وإقراره لهنَّ؛ وأما عدم الاستطاعة المذكورة في الأحاديث فليس المراد بها
الاستطاعة البدنية بدليل أنهنَّ كنَّ يبادرن بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما المراد الاستطاعة الشرعية؛ فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه)) رواه الشيخان، وفي
زيادة عند غيرهما: ((غير رمضان))، قال النووي [شرح صحيح مسلم 7/ 115]: ((وهذا النهى للتحريم صرح به أصحابنا، وسببه: أنَّ الزوج له حق الاستمتاع بها في
كل الأيام، وحقه فيه واجب على الفور فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي، فإنْ قيل:
فينبغى أن يجوز لها الصوم بغير إذنه فإنْ أراد الاستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها؟
فالجواب: أنَّ صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة لأنه يهاب انتهاك الصوم بالإفساد،
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وزوجها شاهد" أي مقيم في البلد؛ أما إذا كان
مسافراً فلها الصوم لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه)).
فلو كان
الواجب القضاء فوراً لما كان الشغل به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مانعاً
من المبادرة أو مسوِّغاً للتأخير؛ كما هو الحال في صوم رمضان؛ فدلَّ على أنَّ
القضاء واجب على التراخي، فهنَّ لا يستطعن شرعاً أن يصمن إلا بإذنه، ولا يستطعن أن
يستأذنَّه لئلا يكون له في إحداهنَّ حاجة فيكون صومها مانعاً من قضاء حاجته صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكنَّ يؤخِّرن القضاء حتى يأتي شعبان حيث كان صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصوم أكثره فيصمن معه قضاءاً.
3- أنَّ قضاء رمضان له وقتان أول وآخر كحال الواجبات المحددة
بوقتين أوَّل وآخر؛ فأما أوَّله فيبدأ من ثاني يوم من شوال وأما آخره فما يبقى من
شعبان بقدر ما عليه، وما بعد ذلك فلا يحق له من غير عذر؛ أما إن كان معذوراً كمن
أخَّر صومه إلى شعبان ثم طرأ له أمر فسافر حتى انتهى شعبان فيلزمه أن يصوم بعد
رمضان ما عليه من أيام.
3- الجواب
عن الإلزام في قوله تعالى: ((وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْر)) بما يخص التتابع والتفريق:
كذلك
للقائلين بالفور مسلكان في الجواب عن ذلك:
أ- مسلك من يقول بالتتابع
في أيام قضاء رمضان:
يقول هؤلاء: السلف
اختلفوا في كون أيام قضاء رمضان على التتابع أم على التفريق؛ فنحن نقول بوجوب التتابع؛
لأنَّ القضاء يحكي الأداء، ثم للأدلة التي تدل على وجوب المسارعة في فعل الخيرات.
قال ابن حزم [المحلى 6/ 261]: ((مسألة: والمتابعة في قضاء رمضان واجبة لقول
الله تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم"، فإنْ لم يفعل فيقضيها متفرقة
وتجزئه لقول الله تعالى: "فعدة من أيام أخر"، ولم يحد تعالى في ذلك وقتاً
يبطل القضاء بخروجه وهو قول أبى حنيفة، ومالك، والشافعي، وأبى سليمان؛ نعني: أنهم
اتفقوا على جواز قضائها متفرقة)).
ب- مسلك من يقول بالتفريق
في أيام قضاء رمضان:
أما هؤلاء فيقولون: أنَّ الآية أطلقت أيام
القضاء ولم تقيدها بالتتابع، وكانت أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يؤخِّرن القضاء بإقرار منه؛ فالأمر فيه سعة، وإذا جاز تأخير القضاء جاز التفريق من
باب أولى.
4- الجواب عن قول
القائلين بالتراخي: أنَّ وجوب الفور يُنافي الإطلاق والتقييد في أوامر الشرع؛ من
ثلاثة وجوه: أنَّ الشرع أطلق ما أمر به في مواضع وقيَّد ذلك بما يفيد الفور في
أخرى، وجعل ما يُفعل في وقته أداءاً وما يفعل خارج عن وقته قضاءاً، وقيَّد الأمر
بقرينة الفور إنْ أراد الفور وبقرينة التراخي إن أراد التراخي؛ فعدم الاعتبار
للإطلاق والتقييد في الأوامر خلاف عرف الشرع.
قالوا: ليس في الشريعة
إلا واجب مؤقَّت أو واجب على الفور؛ أما واجب يجوز تأخيره مطلقاً فلا يجوز لِما
ذكرناه في تحديد الغاية والبدل؛ وما أطلقه الشارع في مواضع ولم يقيِّده بوقت
مضيَّق أو موسَّع ولا بقرينة تفيد الفور أو التراخي فيجب أن يُفعل على الفور
للنصوص العامة كقوله: ((فاستبقوا الخيرات)) وأمثاله، وإنْ لم يفعله المكلَّف في أول أوقات الامكان لم يسقط عنه وعليه أن يفعله ويكون أداءً لا قضاءً لأنه غير مؤقَّت.
5- الجواب عن قياسهم على أنَّ الأمر لا يُفيد التكرار إلا بقرينة
فكذلك لا يفيد الفور إلا بها والجامع بينهما أنَّ الأمر لمجرَّد طلب الفعل:
أما القائلون بالتكرار فهم يقولون بالفور؛ لأنَّ
التكرار استغراق الوقت من أول أوقات الإمكان إلى آخر العمر، والفور هو فعل الواجب
في أول أوقات الإمكان.
وأما القائلون بأنَّ الأمر المطلق لا يفيد التكرار
ولكنَّه يفيد الفور فيجيبون:
1- أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فرَّق بين الفور والتكرار في فريضة الحج؛ فأمر أصحابه أن يُعجِّلوا بالحجِّ وقد
تقدَّمت الأحاديث في ذلك؛ وهي تفيد الفور، ولمَّا خطبهم فقال: ((أيها الناس؛ إنَّ الله عز وجل قد فرض عليكم الحج فحجوا)) فقال له رجل: أكل عام
يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت:
نعم لوجبت، ولما استطعتم))؛
وفيه دليل على أنَّ الأمر المطلق في قوله: ((فحجوا)) لا يفيد التكرار.
2- أنَّ
المرة والتكرار من صفات الفعل كالقلة والكثرة ولا دلالة للموصوف على الصفة المعينة
منهما؛ وأما وجوب المبادرة إلى فعل المأمور فهي من مدلول صيغة الأمر كوجوب فعل المأمور؛ فافترقا.
6- أما ما
ذكروه في اللغة: بأنَّه إن قال السيد لعبده: "افعل كذا في الحال"، أو "أفعل
كذا غداً"؛ لو كانت صيغة (افعل) تدل على الفور بمجرَّدها لكان التقييد في
المثال الأول بـ(الحال) تكراراً، والثاني بـ(غداً) نقضاً، وأنه غير جائز، مع أنَّ
هذا واقع في لسان العرب.
فجوابه: أنَّ الكلام في الأمر المطلق من القرينة
الدَّالة على الفور أو التراخي؛ ولا مانع أن يرد الأمر بقرينة تدل على الفور
تأكيداً، كما أنه لا مانع أن يرد بقرينة تدل على التراخي تيسيراً؛ فليس ثمة تكراراً
لا فائدة منه ولا نقضاً.
7- وأما أصل
البرآءة: وأنَّ العبد إذا أخَّر الامتثال ثم فعله فقد برئت ذمته وسقط عنه الطلب،
فالأصل براءة الذمة من إثم التأخير؛ فمن ادَّعاه فعليه الدليل.
فجوابه: أنَّ الدليل قائم وهي النصوص التي توجب
المبادرة إلى فعل الخيرات؛ فهو وإن برئت ذمته وسقط عنه الطلب إلا أنَّه مقصِّر في
التأخير.
الترجيح بين الأدلة:
بعد عرض أدلة الفريقين ومناقشتها أرى أنَّ الراجح من
القولين قول مَنْ ذهب إلى أنَّ الأمر المطلق يُفيد التراخي؛ وذلك لأنَّ أقوى ما
ذكره القائلون بالفور هو أنَّ تجويز فعل المأمور الوارد بالأمر المطلق إلى وقت
مظنون أو مجهول يُنافي القول بالوجوب لاحتمال أن يأتيه الموت بغتة؛ وقد رأينا أنَّ
أكثرهم يجوِّزون تأخير قضاء رمضان وتفريق الصيام فيه مع أنَّ الاحتمال نفسه وارد. والله
تعالى أعلم.
كتبه أبو
معاذ رائد آل طاهر
غفر الله
تعالى له ولوالديه
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.