الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَنْ
سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فقد كتب علي الحلبي هداه الله وأصلحه مقالاً بعنوان [تقريري الواضحُ الـمُستبين
لأُصول(علم الجرح والتعديل)-الأَمين-..قبل سنواتٍ
ثلاثين!]
قال في أوله: ((ثم يأتِي - اليومَ! - بعضُ (إخواننا!) الغُلاةِ
المُتربِّصِين -هداهُم اللهُ رَبُّ العالمِين-؛ لِيَنْسُبُوا إليَّ - تعدّياً وافتراءً
- وبناءً على عبارةٍ مِنِّي - قلتها في مجلسٍ علميٍّ!- لَمْ يَفْهَمُوهَا! وكلمةٍ عنِّي-
هم طاروا بها وطيَّروها!- لَمْ يَعُوها! -: أنِّي أنفِي دلائلَ الكِتابِ والسُّنَّةِ
على عِلْمِ الجَرْحِ والتَّعديل!!. وهذا – كلُّه - باطلٌ مِن التَّقَوُّل والتَّقويل!
لم يخطر لي على بال!ولم يَسنح لي على خيال!!. ومقصودي - مِن أصلِ عِبارتِي التي
انتقدوها -بتسرُّعهم وسوء ظنّهم!، وبَنَوْا عليها قصوراً وعواليَ!-: تفاصيلُهُ، وأنواعُهُ
، ومسائلُه...، وهذا ممّا لا يختلفُ فيه اثنان!، ولا ينتطحُ فيه كبشان!، ولكنْ؛ ماذا
نصنعُ بأهل الظنِّ والتقوّل والشنآن؟؟!!)).
أقول:
فلنر هل علي الحلبي في مقاله هذا صادق في دعواه أم يتلاعب في
عقول القراء بحسب هواه؟! وذلك من خلال هذه الأسئلة المحرجة له أولاً:
السؤال الأول: كم مرة ناقش علي
الحلبي السلفيين – في عدة مقالات وكتب! - فيما قاله هو بصوته من نفي وجود دليل في الكتاب
والسنة على إثبات علم الجرح والتعديل؛ لكنه ولا مرة - على حدِّ علمي؛ والله أعلم -
ذكر نصَّ الكلمة التي قالها بحروفها، ليعرف الناس من الصادق ومن الكاذب؟ ومَنْ الأمين
في نقله ومَنْ الذي يتلاعب ويحرِّف الكلم عن موضعه؟!!
فلماذا لا ينقل الحلبي للقراء في مقال واحد على الأقل نص َّكلامه،
ويترك الحكم لهم، بدلاً من الاتهام والتشغيب على الناقلين له والناقدين؟!
وكلمة علي الحلبي وعبارته التي أشار إليها في كلامه هذا هي قوله
بالحرف الواحد – كما مسجَّل بصوته – وتمَّ تفريغها في كتاب [تنبيه الفطين للشيخ سعد
الزعتري وفقه الله]: ((المشكلة الآن من سلوكيات وتصرفات الشباب؛
حيث لم يفهموا أنَّ علم الجرح والتعديل أصلاً وجِدَ للمصلحة، علم الجرح والتعديل
لا هو موجود في أدلة الكتاب ولا في أدلة السنة، هو علم ناشئ نشأ لحفظ الكتاب
والسنة؛ أليس كذلك؟! إذن هو علم مصلحة!، فما بالنا نستخدم هذا العلم الذي أُنشئ
للمصلحة لضرب المصلحة؛ أو على الأقل لعدم الترجيح بين المصالح في سبيل أن نبدِّع
إنسان؟!؛ لا ننتبه!، نقول هذه مصلحة؟!، نعم لكن لا ننتبه للمفاسد التي قد تترتب
على هذه المصلحة!!!)).
فليقارن القارئ بين:
قول الحلبي: ((علم الجرح والتعديل لا
هو موجود في أدلة الكتاب ولا في أدلة السنة))
وبين قوله: ((لِيَنْسُبُوا إليَّ –
تعدّياً وافتراءً - وبناءً على عبارةٍ مِنِّي قلتها في مجلسٍ علميٍّ لَمْ يَفْهَمُوهَا!،
وكلمةٍ عنِّي هم طاروا بها وطيّروها لَمْ يَعُوها!: أنِّي أنفِي دلائلَ الكِتابِ
والسُّنَّةِ على عِلْمِ الجَرْحِ والتَّعديل!!؛ وهذا كلُّه باطلٌ مِن التَّقَوُّل
والتَّقويل!))
هل هي نسبة كاذبة أم حقيقة ثابتة؟!
وعلى أي شيء يدل هذا الإصرار والعناد والجدال المقيت؟
على الصدق؟!!!
أم على المراوغة والتلاعب بعقول القراء؟!
فاتق الله أيها الحلبي!، ولا تتهم السلفيين بالكذب والتقول والافتراء
والاعتداء وسوء الظن!، وهم لم ينسبوا إليك إلا ما تفوَّهتَ به بلسانك!.
وإذا كنتَ أيها الحلبي تشكك بأخبار الثقات في هذا الزمان!، فما
بالك تُنكر وتشكك بهذه العبارة التي صدرت منك وهي في تسجيل صوتي وليس من طريق
خبر ثقة!، وقد أثبتَّ بنفسك هذه العبارة ثلاث مرات في كلامك أعلاه!، مرة عندما قلتَ:
((عبارةٍ مِنِّي))، وأخرى عندما قلتَ: ((وكلمةٍ عنِّي))، وثالثة عندما قلتَ: ((مِن أصلِ عِبارتِي))؟!
فالعبارة ثابتة عنك وصادرة منك!
فماذا تريد بعد هذا حتى تتوب وترجع؟!
ومتى تترك اتهام غيرك بالكذب وسوء الظن؟!
فاتق الله وكن مع الصادقين!
السؤال الثاني: هل كونك تبين قصدك
من عبارة ظاهرة جداً في نفي وجود الأدلة على علم الجرح والتعديل؛ أنك تقصد بها كذا
وكذا وأنَّ مرادك منها كذا وكذا، يحق لك أن تكذِّب مَنْ نسبها إليك بحروفها؟! أو تدَّعي
أنهم لم يفهموا مرادك منها لسوء ظنهم وبغضهم؟!
فأين
أنت أيها الحلبي من قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري في صحيحه:
((إِنَّ أُنَاساً كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ
فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ الْوَحْيَ
قَدْ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ:
فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ؛ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ
سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا
لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ؛ وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ!!))؟!
هل
قول عمر رضي الله عنه هذا مبني على سوء الظن؟!
بل
أين أنت من قول الله عزَّ وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا
وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ))؟!
هل
كان قصد الصحابة رضي الله عنهم سيئاً؟!
كلا.
لكنهم
قالوا كلمة صار اليهود يستعملونها في السوء والفحش، فهل أنكر عليهم القرآن أم عاملهم
بقصدهم؟!
قال
العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسيره للآية السابقة: ((كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين:
"رَاعِنَا" أي: راع أحوالنا، فيقصدون بها معنى صحيحاً، وكان اليهود
يريدون بها معنى فاسداً، فانتهزوا الفرصة فصاروا يخاطبون الرسول بذلك ويقصدون
المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة سداً لهذا الباب. ففيه النهي عن الجائز
إذا كان وسيلة إلى محرَّم، وفيه الأدب واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن وعدم
الفحش، وترك الألفاظ القبيحة أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق. فأمرهم
بلفظة لا تحتمل إلا الحسن فقال: "وَقُولُوا انْظُرْنَا"، فإنها كافية يحصل
بها المقصود من غير محذور)).
فما
بالك أيها الحلبي تسلِّط لسانك على السلفيين الذين ما زادوا على كلامك حرفاً واحداً؛
وتتهمهم بالكذب وسوء الظن، لأنهم لم ينظروا إلى قصدك ومرادك؟!
ونحن نحكم بالظاهر والله يتولَّى السرائر؛ أليس كذلك؟!
أم تأمرنا أن نشقَّ قلوب الناس لمعرفة قصدهم ومرادهم قبل الرد
والنقد؟!
السؤال الثالث: اضطرابك أيها الحلبي
وحيدتك ومراوغتك في الجواب عن هذه العبارة الثابتة عنك؛ يدل على ماذا؟!
على الصدق أم على المراوغة؟
1- فمرة تقول: أنه خطأ لفظي
كما صرَّحتَ بذلك في منزل الشيخ ربيع حفظه الله!، وكما قلتَ في كتابك [منهج السلف الصالح/
الطبعة الثانية ص135]: ((ولا ينقضي عجبي من بعض الناس!؛ لما راجعني في مسألة مشروعية الجرح
والتعديل هذه، مبيناً له قصدي وذاكراً له حقيقة قولي ومرادي، وأنَّ كلامي
ذاك إذا سلمنا بانتقاده!، لا يخرج عن كونه خطأ لفظياً، فأصرَّ جدًا على أنه
خطأ حقيقي!!)).
قلتُ:
وهل كون الخطأ لفظياً يعني أن لا تُنتقد
عليه ولا يُنكر عليك؟!
لقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله أنَّ النزاع بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء أكثره لفظي، ومع كونه قد بيِّن في مواضع
كثيرة الفروق بين مذهب أهل السنة وبين مذهب مرجئة الفقهاء في مسائل الإيمان والكفر
من جهة الأحكام الدنيوية أو الآخروية، ومع هذا لم يقبل كثيرٌ من العلماء دعوى أنَّ
النزاع بين المذهبين لفظياً، ومنهم الشيخ الألباني رحمه الله، بل أصرَّ على أنه حقيقي،
وذكر عدة آثار مترتبة على فساد مذهب مرجئة الفقهاء تبين صحة ما قاله.
فكون الحلبي يعتقد أنَّ كلمة (علم الجرح
والتعديل لا هو موجود في أدلة الكتاب ولا في أدلة السنة) من الخطأ اللفظي يدل على إصراره وعناده، وكان يكفيه أن يعترف بأنه خطأ حقيقي
ويتراجع عنه، لكنه العناد والجدل!
2- ومرة يقول الحلبي: إنَّ أدلة
مشروعية هذا العلم في الكتاب والسنة أمر ظاهر، وأنَّ البحث في تفاصيله، وهذه التفاصيل
غير موجودة في زمن الوحي إلا في بعض العمومات؛ فقد قال في [المصدر السابق
ص133]: ((أدلة مشروعيته في الكتاب والسنة ظاهرة باهرة معروفة
لا تخفى على أقل طالب علم شاد!، فلا يحتاج الحسم فيها إلى أدنى حشد!، أو أقل إرشاد!،
ولكن البحث – وهو مرادي ومقصودي! - في تقاسيمه وأنواعه وقواعده وتأصيلاته
وتفعيلاته وشروطه وأركانه، فقد حدثت بعد، مؤصَّلة على أيدي علماء السنة الربانيين،
وليس منها في الوحيين الشريفين إلا بعض عمومات)).
قلتُ:
لم يذكر الحلبي دليلاً واحداً على مشروعية هذا العلم من الكتاب
والسنة في الموضع المذكور!!!.
وأما دعواه أنَّ محل البحث والنقاش في تفاصيل علم الجرح والتعديل
وليس في مشروعيته ونشأته ووجوده؛ فهذه مراوغة!، لأنه قال في عبارته المسجَّلة بصوته:
((علم الجرح والتعديل وجِدَ للمصلحة، علم الجرح والتعديل
لا هو موجود في أدلة الكتاب ولا في أدلة السنة، هو علم ناشئ نشأ لحفظ
الكتاب والسنة؛ أليس كذلك؟! إذن هو علم مصلحة!، فما بالنا نستخدم هذا العلم الذي أُنشئ
للمصلحة لضرب المصلحة))، فهل محل النقاش في النشأة والوجود أم في التفاصيل والأنواع
والتقاسيم؟!
الجواب واضح من كلامه!
ثم بعد تلك الكلمة حمَّل الحلبي بعدها غيره الخطأ كعادته من
قبل فقال: ((ومَنْ حمَّل كلامي في بعض المجالس على خلاف هذا
التقرير: فقد تقوَّل أو تأوَّل)).
فمع إنَّ عبارته المنتقدة كانت في نشأة هذا العلم ووجوده!، وليس
في التفاصيل التي ذكرها هنا!!!، يعود الحلبي من جديد ليلقي اللوم على الناقد، ويتهمه
بالتقوِّل أو بالتأوِّل!.
أما أن يكون هو المخطئ فهذا أمر مستبعد عنده!
فمَنْ المعصوم الآن؟!
وكلمة الحلبي هذه تذكرني بما قاله الشيخ الألباني رحمه الله
في [السلسلة الصحيحة 6/320]: ((فهذا كبيرهم أبو الحسن
الكرخي الحنفي يقول كلمته المشهورة : "كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة
أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ"، فقد جعلوا المذهب أصلاً ، والقرآن
الكريم تبعاً)).
3- ثم عاد الحلبي مرة أخرى فجعل
"نشأة" هذا العلم وتفاصيله كلها كانت في زمن ابن سيرين رحمه الله؛ واعتبر
أثره دليلاً تاريخياً على ذلك، وختم بذلك كلامه في كتابه آنف الذكر، ، كما قال في
[المصدر السابق ص137]: ((قلتُ: وأدلة ما أردتُ حول تأصيلات
وتفصيلات و"نشأة" هذا العلم غير ما ذكرتُ عديدة؛ أشهرها: ما
رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (1/12) عن ابن سيرين أنه قال: "لم يكونوا يسألون
عن الإسناد فلما وقعت الفتنة؛ قالوا: سموا لنا رجالكم؛ فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم،
وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"، وهو دليل تاريخي بيِّن على "نشأة"
علم الجرح والتعديل بأصوله وقواعده، فتأمل ولا تتعجل)).
أقول:
الحلبي لم يذكر دليلاً واحداً قبل هذا
الأثر!!!، فكيف يقول: ((وأدلة ما أردتُ حول تأصيلات وتفصيلات
و"نشأة" هذا العلم غير ما ذكرتُ عديدة)).
فأين هي الأدلة التي ذكرتها من قبل
هذا الموضع؟!
نحن نتحدى الحلبي – إنْ كان صادقاً
وليس مراوغاً! – أن يبين لنا: أين الأدلة التي ذكرها قبل هذا الأثر في كتاب [منهج السلف
الصالح/ المسألة الرابعة (تأصيل الجرح والتعديل)]؟!!!
لا يوجد، وإنما هي المراوغة من جديد
والإصرار والعناد على وجه التأكيد!
وإنما ذكر الحلبي نقلاً واحداً – وليس
دليلاً! - عن الحافظ ابن الصلاح قال فيه: ((فالكلام فيهم
جرحاً وتعديلاً متقدِّم ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عن كثير من الصحابة
والتابعين فمن بعدهم)).
ثم أخذَ يتكلَّم عن القصد والنظر إلى
مراد المتكلم وإلى مفسر كلامه ومراعاة عرف الناس وحكم النزاع الفظي!
فأين الأدلة يا مَنْ تدَّعي العلم والصدق؟!
لم تذكر دليلاً واحداً من الكتاب والسنة
قبل أثر ابن سيرين!، ثم اكتفيتَ بهذا الأثر وزعمتَ أنه دليل تاريخي بيِّن على نشأة
هذا العلم!
فماذا يعني هذا؟!
يعني: أنه قبل هذا التاريخ لا يوجد
دليل على نشأة هذا العلم!!!.
فعادت حليمة إلى عادتها القديمة؛ وهو
أنَّ ((علم الجرح والتعديل لا هو موجود في أدلة الكتاب ولا في أدلة السنة))!!.
فلينظر القارئ إلى هذه المراوغة والتلاعب!.
وليتأمل كلمة "نشأة" في كلامه السابق التي ذكرها مرتين مقرونة
بتفاصيل وتأصيلات وقواعد علم الجرح والتعديل؛ ليعرف أنَّ الحلبي لا يفرِّق بين نشأة
هذا العلم وبين تدوين تفاصيله وأنواعه، وأنها كلها عنده مؤرخة في زمان ابن سيرين رحمه
الله، وليس فقط التفاصيل والتقاسيم!. ومعلوم عند أهل كل فن من الفنون أنَّ النشأة تسبق
التدوين.
ويبقى السؤال: هل الحلبي في مقاله
الجديد [تقريري الواضحُ الـمُستبين...]
قرر الحق بكل وضوح وبيان كما هو فحوى عنوانه أم أنه لا زال يراوغ ويتلاعب بالألفاظ
والعقول؟!
لننظر ذلك:
قال الحلبي في مقاله [تقريري الواضحُ الـمُستبين...]: ((وهاكم - رعاكم
الله، ووفّقكم - نصَّ كلامي في مقدمة كتابي"ثلاث رسائل في علوم الحديث"-
المطبوع في مدينة (الزرقاء)- الأردنية - قبل ثلاثين عاماً!- وهو الآن - بحمد الله
- يُطبع طبعة جديدة -)).
قلتُ:
لا أدري متى يترك الحلبيُّ عادته هذه؟!
وعادته هي: أنه إذا انتقده السلفيون في تأصيل له باطل أو تقعيد
له فاسد بعد تغيره وسقوط القناع عن وجهه، بحثَ - أو بُحِثَ له - في إرشيفه القديم بعد
العجز عن إيجاد ما ينفعه ويستر سوءته في حاله الجديد، فإذا وجَدَ - أو وجِدَ له – كلمةً
يظنُّ بها النجاة فرح بها وسارع إلى تسطيرها في مقال جديد!، ظناً منه أنَّ هذا الإسلوب
ينفعه في تزيين باطله وتغرير القراء، ومثال ذلك:
مسألة "وحدة الأديان"!
لما انتقده السلفيون على ثنائه على رسالة عمان وما قام به هو
وأنصاره من نصرة لها ومباركة ومجادلة، فلم ينزجروا ويكفُّوا عن النصرة والمجادلة بالباطل!،
ثم لما تكلَّم الشيخان صالح الفوزان وعبدالمحسن العباد حفظهما الله في فقرة واحدة من
فقرات الرسالة، ووصفاها بالباطل والضلال، توقَّف الحلبي وأنصاره لحظة ليُفكِّروا في
الموقف من هذه الصدمة والصفعة في آن واحد، فلم يجدوا إلا البحث في إرشيف الحلبي القديم
فوجدوا له كلمة قالها الحلبي قبل أكثر من (21) سنة في التحذير من دعاة وحدة الأديان؛
وهي قوله في مقاله [كلامي في تكفير القول بـ "وحدة الأديان" - وما إليها
- قبل إحدى وعشرين سنة!!]: ((قلتُ في
تحقيقي لكتاب العبودية ص226 ط1410هـ لشيخ الإسلام ابن تيميّة
– رحمه الله - حاشية "22" آخرَ صفحةٍ من الكتاب: {فدندنة بعض العصرانيين حول
"وحدة الأديان" و "التسامح الديني" و "الأخوة الإنسانية"
من ضلالات
هؤلاء المبطلين وانحرافاتهم، بل كفرياتهم!، وإنما
يريدون بذلك اجتثاث أصل الإسلام!، ومحو حقيقـة دين الله من النفوس!، فالحذر الحذر!!".
وذلك تعليقًا على قـول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في
"دين الإسلام" قال: "وهو الدين الذي لا يقبل الله من
أحد دينًا غيره"}. فجزى الله خيراً مَن دلَّني "!" على هذا النقل.
فماذا يقول المتربّصون والمتصيّدون؟! بل أين كان - يومئذٍ - أكثرُهم؟؟!!)).
قلتُ:
مع إنَّ هذا الكلام يدين الحلبي ويدل على تناقضه وتغيره؛ لأنَّ
رسالة عمان تشتمل على أكثر من هذه الكفريات الثلاثة "وحدة الأديان" و "التسامح
الديني" و "الأخوة الإنسانية"، ولا يخفى هذا إلا على جاهل أو مكابر.
فما له يثني على رسالة تشتمل على مثل هذه العبارات اليوم أو
أشد منها؟!
واليوم يعيد الكرة مرة أخرى؛ لكن هذه المرة في مسألة "نشأة
علم الجرح والتعديل"!
فلما لم يجد في حاله بعد التغير والانحراف؛ بَحَثَ – أو بُحِثَ
له – في إرشيفه القديم قبل أكثر من (30) سنة!، ليخرج لنال كلمة قالها في كتاب؛ وهي
إنْ كانت حقاً فهي تدينه وتدل على تناقضه وتغيره!، فكيف وهي تدل على إصراره في كل هذه
الفترة وإلى يومنا هذا؟!، كما سيلاحظ القارئ.
لكن قبل بيان ذلك؛ ليقارن القارئ:
بين قول الحلبي في مقال وحدة الأديان: ((فماذا يقول المتربّصون والمتصيّدون؟! بل أين كان - يومئذٍ - أكثرُهم؟؟!!))
وبين قوله في مقال الجرح والتعديل: ((ولا أدري (!) أين كان-عند كتابة هذه التأصيلات-قبل كل هذه السنوات!-
(أكثرُ) أهل التقوّل والافتراءات؟!))
هل هذا من نظرة الاستعلاء والعجب والغرور أم من التواضع المأمور؟!
وتعالي الحلبي هذا جرَّئ مشرفيه على السفاهة:
فقد قال أبو الأشبال الجنيدي - وأيده عزمي الجوابرة
- تعليقاً على كلمة الحلبي تلك: ((الشيخ ربيع كان منتظماً في
ذلك الوقت مع الإخوان المسلمين!!، والبازمول كان في الروضة!!، والعتيبي
كان يحاول الوقوف والمشي!!...)).
وقال أسامة الطيبي: ((أظن أنهم
كانوا يلعبون آنذاك بـ(الرمل) في السكك!!!))
ما شاء الله على لغة العلم والأدب!
ويظهر أنَّ شيخهم الحلبي تأثر بهم وأعجبتُه هذه
السفاهة فقال مخاطباً الشيخ ربيعاً حفظه الله في مقاله [يا قوم ... مع الشيخ
ربيع المدخلي في (مقاله! ) هذا اليوم ... ثم: ماذا بعد؟!] والذي دافع فيه عن مقال أعلاه: ((وقلبي
منعقدٌ –والحمد
لله-على تعظيم مكانة الصحابة -عموماً-، وفي الحديث وروايته ونقله-خصوصاً- منذ كنتَ
لا تزال مع الإخوان المسلمين - وهذا لا يعيبك - وإن عبتَ به غيرَك-!..)).
قلتُ:
آلشيخ ربيع كان مع الإخوان المسلمين منتظماً؟!
سبحان ربي ما أعز الإنصاف والصدق!
نعم أيها الحلبي ما أحسن ما قاله الشيخ ربيع حفظه
الله: ((الحدادية لهم أصل خبيث، وهو أنهم إذا ألصقوا
بإنسان قولاً هو بريء منه ويعلن براءته منه، فإنهم يصرون على الاستمرار على رمي ذلك المظلوم
بما ألصقوه به، فهم بهذا الأصل الخبيث يفوقون الخوارج)).
طيب؛ ماذا تقولون:
فيما قاله الحلبي في كتابه
[حق كلمة الإمام الألباني في سيد قطب ص19-26]: ((موقفان واقعيان حدثا لي شخصياً؛ أحدهما قديم جداً، والآخر حديث نسبياً، أما
الأول:....، وأما الموقف الثاني: وهو يكاد يكون سراً – أُسطره مكتوباً على الملأ للمرة
الأولى في حياتي – وإنْ كنتُ قد ذكرته مشافهة لعدد قليل من الإخوة؛ وهو أنني إلى سنوات
قليلة ماضية كنتُ متأثراً عاطفياً جداً بـ(سيد قطب) وأُسلوبه، بل أدلُّ على "ظلاله"،
وأُرشد إلى "كلامه"، وأتلمَّس له المعاذير في القليل والكثير!!، إلى أن أوقفني
بعض الإخوة الغيورين جزاهم الله خيراً، على كلام سيد قطب في كتابه "كتب وشخصيات
ص282" حيث قال: "... وحين يركن معاوية وزميله (عمرو) إلى الكذب والغش والخديعة
والنفاق والرشوة وشراء الذمم، لا يملك علي أن يتدلى إلى هذا الدرك الأسفل؛ فلا عجب
أن ينجحا ويفشل، وإنه لفشل أشرف من كل نجاح".
فوالله لقد جاءتني غضبة الحقُّ
الكُبَّار، وحميةُ النصرة للصحب الأخيار؛ أفاضل الخلق الأبرار.
فعمَّن يتكلَّم هذا؟!
ومَنْ هو ذا حتى يقول مثل
هذا الكلام الفجِّ؟!.
أفأُتابعُ هواي، وأغضُّ طرفي،
وأنصاع لعاطفتي؟!
أم أن الحق أحقُّ بالإتباع،
وأجدر بالاقتناع؟!
هو هذا والله، ولا حول ولا
قوة إلا بالله.
فكأنها شوكة وانتقشت))؟!.
أقول:
كيف إذا عرفتم أنَّ تأليف
هذا الكتاب كان في عام 1426ﻫ
/2005 بالإفرنجي كما هو مثبَّت في الكتاب
في طبعته الأولى/دار التوحيد والسنة؛ أي: بعد وفاة الشيخ الألباني رحمه الله تعالى
بـست سنوات تقريباً!!!.
فهل يحق لنا أن نقول:
لقد كان الحلبي قبل عام
1426ﻫ /2005 قطبياً جلداً!، لأنه كان متأثراً جداً بسيد قطب وإسلوبه!، ويدل على كتبه!،
ويلتمس له المعاذير في القليل والكثير؟!!
أم هو الكيل بمكيالين؟!
ومعلوم أنَّ الشيخ ربيعاً
حفظه الله تعالى له عدة مؤلفات في كشف عقائد سيد قطب الباطلة وبيان انحرافاته؛ منها
كتاب: [أضواء إسلامية على عقيدة سيد قطب وفكره] في عام 1413ﻫ!، أي: بينه وبين
تأليف الحلبي لكتابه آنف الذكر ما يقارب (13) سنة!!.
فأين كان الحلبي آنذاك؟!
نسأل الله أن يطهِّر قلوبنا من الغرور والعجب والتعالي
على الخلق، ونسأله أن يطهِّر ألسنتنا من الكذب والبهتان.
وعوداً على بدء؛ أقول:
ثم واصلتُ القراءة في مقال الحلبي [تقريري
الواضحُ الـمُستبين...] لأجد ما هو التقرير الذي رفع عنه
الغبار اليوم بعد ثلاثين سنة من إرشيفه القديم!؛ لعلي أجد صدقاً هذه المرة ولا أجد
تلاعباً من جديد!؛ فإذا به يتلاعب مرة أخرى في عقول القراء على وجه الإصرار والتأكيد،
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فقد قال علي الحلبي في كتابه المشار إليه (قبل الثلاثين!):
(("علوم الحديث نشأتها وتطورهـا": يُلاحظُ الباحثُ
الـمُتفحِّصُ، والناظرُ المدقِّقُ: أنَّ الأسسَ والأركانَ الهامَّةَ لعلوم الحديث والرواية
ونقل الأخبار مذكورةٌ في كتاب اللهِ سبحانه وتعالى، وفي سنَّة نبيِّه صلى الله عليه
وسلم:
1- فقد
جاء في كتاب الله سبحانه: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبأٍ
فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات: 6]، وفي قراءة حمزةَ والكسائي: (... فَتَثَبَّتُوا).
وشبيهُ ذلك في سُنّة رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلَّم
قولُه: "نَضَّر اللهُ امرَءاً سمعَ منا شيئاً فبلّغه كما سمعه، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ
أوعى من سامع ... ".
وصحَّ عنه صلّى اللهُ عليه وسلَّم قولُه: "إذا
حَدَّثتُكم حديثاً، فلا تزيدُنَّ عَلَيَّ...".
ومثلُه قولُه عليه السلام: "مَن حَدَّث عنِّي
بحديث يُرى أنه كذبٌ؛ فهو أحدُ الكاذِبَيْنِ"
ففي هذه الآيةِ الكريمة وهذه الأحاديثِ الصحيحة: مبدأُ
التثبُّت في أخذِ الأخبارِ، وكيفيةُ ضبطها بالانتباه لها، ووَعْيُها، والتدقيقُ في
نقلِها للآخَرين، والحرصُ على التأكُّد من المرويَّات دونما زيادة ولا نقصان.
2- وامتثالاً
لأمر اللهِ تعالى، ورسولهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فقد كانَ الصحابةُ يَتَثَبَّتون
في نقل الأخبار وقَبُولها، لا سيَّما إذا شكُّوا في صِدْقِ الناقل لها، وهَا هُو ذَا
الإمامُ الذَّهَبيُّ رحمه الله يقول في ترجمة أبي بكرٍ -رضيَ اللهُ عنهُ-: "..
وكان أوَّلَ مَنِ احتاط في قَبولِ الأخبار ...". وقال في ترجمة عمر بن الخطاب:
"... وهو الذي سَنَّ للمُحدِّثين التثبُّتَ في النقل، وربما كان يتوقّفُ في خبر
الواحدِ إذا ارتاب ...".
وقد ثبتَ عن عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ قال: "كنتُ
إذا سمعتُ مِن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حديثاً؛ نفعني اللهُ بما شاءَ منه،
فإذا حدّثني عنه غيرُه استحلفتُه، فإذا حَلَفَ لي صَدَّقْتُهُ، وإنَّ أبا بكرٍ رضيَ
اللهُ عنهُ حدثني وصدق أبو بكر أنه قال ...."
وهكذا كان سائرُ الصحابة.
3- فظهرت
بناءً على هذا كُلِّه أهميةُ الإسناد وقيمتُه في قَبول الأخبار، أو رَدّها، فطبّق التابعون
رحمهم اللهُ تعالى ذلك بقوَّة:
قال سفيانُ الثَّوْري: "الإسنادُ سلاح المؤمن،
فإذا لم يكن معه سلاحٌ، فبأيِّ شيءٍ يقاتل؟!"
وقال ابنُ المبارك: "الإسنادُ عندي من الدين،
لولا الإسنادُ لقالَ مَن شاءَ ما شاءَ".
وقال ابنُ سيرين: "كانوا في الزمن الأول لا يسألون
عن الإسناد، فلمَّا وقعتِ الفتنةُ؛ سألوا عن الإسناد، لِكَيْ يأخذوا حديثَ أهلِ السنة،
ويَدَعوا حديثَ أهل البدع".
4- وبناءً
على أنّ الخبر لا يُقْبَلُ إلا بعد معرفة سَنَده، فقد تطوَّر علمُ الجرحِ والتعديل،
والكلامُ على الرواة، ثم توسَّعَ العلماءُ في ذلك، حتى ظهر البحثُ في علومٍ كثيرة تتعلَّقُ
بالحديث من ناحية ضبطه، وكيفية تحمُّله وأدائه، ومعرفةِ ناسخِهِ ومنسوخه، وغريبِه وغيرِ
ذلك؛ إلّا أنَّ ذلك كلَّه لم يكن مدوَّناً، إنما كان يتناقلُه العلماءُ مشافهةً.
5 - ثم تطوَّر الأمرُ، وصارت هذه
العلومُ تُكتبُ وتسجَّلُ، لكنْ في أماكنَ متفرِّقةٍ من الكتب، ممزوجةً بغيرها من العلوم
الأخرى -كعلم الأصول -وغيره- ... ، يجدُ الناظرُ الباحثُ ذلك -مثلاً- في مَثاني »المسائل« المنقولة عن
الإمام أحمد، وكتاب »الرسالة« للإمام الشافعي -وغيرهما -.
6 - وأخيراً؛
لما نَضِجَتِ العلومُ، واستقرَّ الاصطلاحُ، واستقلَّ كلُّ فنٍّ عن غيره -وذلك في القرن
الرابع الهجري-؛ بدأت تظهر مُصنَّفاتُ الـمُحدِّثين في علوم الحديث، فكان أن ظهر كتاب
»الـمُحدِّث الفاصل بين الراوي والواعي« من تأليف الإمامِ الحافظِ أبي محمد الحسن بن
عبدالرحمن بن خَلَّاد الرَّامَهُرْمُزي... ، ثم تتابعت الـمُصنَّفات في سائر علوم الحديث مِن بعده، حتى وصلت إلينا
بهذا المظهر العظيم الفَذّ. فالحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات)).
أقول:
كلام الحلبي في هذا الكتاب عن علوم الحديث بصورة عامة!،
بينما محل النقاش معه: في علم الجرح والتعديل على وجه الخصوص!!، فالكلام القديم
هذا أعم من الدعوى الجديدة التي نطق بها الحلبي في الشريط المسجَّل!.
بل في استدلاله بهذا النصوص ما يدلُّ على أنَّ مراده منها هو:
تقرير مبدأ التثبت في الأخبار مطلقاً!، وليس مراده إثبات مشروعية علم الجرح والتعديل
أصلاً!.
وكلامه في مسألة ((التثبت)) هنا قد كفانا مؤنة الرد عليه العلامة
الشيخ ربيع حفظه الله تعالى بالحجة والبرهان في مقاله [الحلبي
يؤصل من قبل ثلاثين عاماً أصولاً ضد منهج السلف في الجرح والتعديل].
وإنما نريد أن نبين صدق دعواه في مسألة "نشأة علم الجرح
والتعديل":
لقد ذكر الحلبي ستة فقرات بعد توطئة موضوعه المكتوب قبل الثلاثين؛
أو قل: ستة مراحل في بيان نشأة علوم الحديث: في الفقرة الأولى ذكر آية قرانية وثلاثة
أحاديث نبوية استنبط منهما مبدأ التثبت في الأخبار!، وفي الفقرة الثانية ذكر ما يدل
على أنَّ الصحابة ساروا على هذا المبدأ في الأخبار!، وفي الفقرة الثالثة بيِّن أنَّ
ظهور أهمية الإسناد وتطبيقه كان في زمن التابعين وذكر ثلاثة آثار عن التابعين؛ ختمها
بأثر ابن سيرين رحمه الله: ((كانوا في الزمن الأول لا يسألون
عن الإسناد، فلمَّا وقعتِ الفتنةُ؛ سألوا عن الإسناد، لِكَيْ يأخذوا حديثَ أهلِ السنة،
ويَدَعوا حديثَ أهل البدع))، ثم في الفقرة الرابعة أو المرحلة الرابعة ذكر
"علم الجرح والتعديل" وتطور العلوم وتنوعها!.
فماذا يفهم القارئ من هذا التصرف؟!
هل نشأة علم الجرح والتعديل – في نظر الحلبي! - كان قبل ابن
سيرين رحمه الله أم في زمانه؟!
ولماذا أخَّر الحلبي ذكر هذا العلم بعد أن ذكر أثر ابن سيرين
رحمه الله؟!
وما الفرق بين "علي الحلبي القديم" و "علي الحلبي
الجديد" في مسألة "نشأة علم الجرح والتعديل"؟!
إذن؛ مرة أخرى: عادت حليمة إلى عادتها القديمة!!،
أي: (علم الجرح والتعديل لا هو موجود
في أدلة الكتاب ولا في أدلة السنة)!!.
وتأمَّل أيها القارئ المنصف:
أنَّ الحلبي لما ذكر الآية القرانية: ((يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبأٍ فَتَبَيَّنُوا))
استبط منها "مبدأ التثبت في الأخبار مطلقاً" (ولم يستثنِ منها أخبار الثقات
كما هو صنيع العلماء في شرحها، بل أكَّد دخولهم من خلال الأمثلة التي ضربها في أخبار
الصحابة العدول كما في الفقرة الثانية!)، ولم يستنبط منها إثبات "مشروعية علم
الجرح والتعديل" كما فعل العلماء؟!
وهذا فيه إشارة إلى أنه لا يرى فيها دلالة على ذلك!
وقد قال أبو الوليد الباجي رحمه الله في كتابه [التعديل والتجريح 1/290-291]: ((وقال علي بن المديني سمعتُ يحيى بن سعيد يقول: "ينبغي
لصاحب لحديث أن يكون ثبت الأخذ ويفهم ما يُقال له وينظر الرجال ويتعاهد ذلك؛ والأصل
في ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما
بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}، وقد روى أبو أسامة عن ابن عون عن محمد يعني
ابن سيرين أنه قال: "إنَّ هذا الحديث دين فانظروا عن من تأخذونه"، وقال عبد
الله بن المبارك: "الإسناد من الدين لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"...)) وذكر عدة آثار
في ذلك.
وقال
الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه: ((واعلم وفقك الله تعالى أنَّ الواجب على كل أحد عرف التمييز
بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين؛ أن لا يروي منها إلا ما
عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين
من أهل البدع؛ والدليل على أنَّ الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله
عز وجل ذكره: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً
بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"، وقال جل ثناؤه: "ممن ترضون من
الشهداء"، وقال عز وجل: "وأشهدوا ذوى عدل منكم"، فدل بما ذكرنا من هذه
الآيات أنَّ خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة. والخبر وإن فارق
معنى الشهادة فقد يجتمعان في أعظم معانيها؛ إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عن أهل العلم
كما أنَّ شهادته مردودة عن جميعهم)).
وقال
الحافظ السيوطي رحمه الله في [تدريب الراوي 2 /268]: (("وجُوِّزَ الجرحُ والتعديلُ صيانةً للشريعة" وذبَّاً
عنها قال تعالى: "إنْ جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" وقال صلى الله عليه
وسلم في التعديل: "إنَّ عبدالله رجل صالح"، وفي الجرح: "بئس أخو العشيرة")).
وقال
العلامة عبدالرحمن المعلمي رحمه الله في محاضرته التي بعنوان [علم الرجال وأهميته]:
((قد وقعت الرواية ممن يجب قبول خبره، وممن يجب
رده، وممن يجب التوقف فيه، وهيهات أن يعرف ما هو من الحق الذي بلَّغه خاتم الأنبياء
عن ربه عز وجل وما هو الباطل الذي يبرأ عنه الله ورسوله إلا بمعرفة أحوال الرواة. وهكذا
الوقائع التاريخية، بل حاجتها إلى معرفة أحوال رواتها أشد، لغلبة التساهل في نقلها،
على إنَّ معرفة أحوال الرجال هي نفسها من أهم فروع التاريخ. وإذا كان لا بد من معرفة
أحوال الرواة فلا بد من بيانها؛ بأن يخبر كل من عرف حال راو بحاله ليعلمه الناس، و
قد قامت الأمة بهذا الفرض كما ينبغي. وأول من تكلَّم في أحوال الرجال القرآن ثم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم ثم أصحابه، والآيات كثيرة في الثناء على الصحابة إجمالاً،
وذم المنافقين إجمالاً، ووردت آيات في الثناء على أفراد معينين من الصحابة كما يعلم
من كتب الفضائل، وآيات في التنبيه على نفاق أفراد معينين، وعلى جرح أفراد آخرين. وأشهر
ما جاء في هذا قوله تعالى: "إن جاءكم فاسق بنبأ فبينوا" نزلت في رجل بعينة،
كما هو معروف في موضعه، وهي مع ذلك قاعدة عامة.
وثبتت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث كثيرة في الثناء على أصحابه
جملة، وعلى أفراد منهم معينين، معروفة في كتب الفضائل، وأخبار أخر في ذم بعض الفرق
إجمالاً؛ كالخوارج، وفي تعيين المنافقين وذم أفراد معينين، كعيينة بن حصن، والحكم بن
أبي العاص، وثبتت آثار كثيرة عن الصحابة في الثناء على بعض التابعين، وآثار في جرح
أفراد منهم.
وأما التابعون، فكلامهم في التعديل كثير، ولا يروى عنهم من الجرح إلا القليل،
وذلك لقرب العهد بالسراج المنير عليه وعلى آله افضل الصلاة والتسليم، فلم يكن أحد من
المسلمين يجترئ على الكذب على الله ورسوله، وعامة المضعَّفين من التابعين إنما ضُعِّفوا
للمذهب كالخوارج أو لسوء الحفظ أو للجهالة.
ثم جاء عصر أتباع التابعين عما بعده، فكثر الضعفاء، والمغفلون، والكذابون، والزنادقة،
فنهض الأئمة لتبيين أحوال الرواة وتزييف ما لا يثبت، فلم يكن مصر من أ أمصار المسلمين
إلا وفيه جماعة من الأئمة يمتحنون الرواة، ويختبرون أحوالهم وأحوال رواياتهم، ويتتبعون
حركاتهم وسكناتهم تهم، ويعلنون للناس حكمهم عليهم.
استمر ذلك إلى القرن العاشر، فلا تجد فكتب الحديث اسم راو إلا وجدت في كتب الرجال
تحقيق حاله، وهذا مصداق الوعد الإلهي؛ قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال:
تعيش لها الجهابذة، وتلا قول الله سبحانه وتعالى: "إنا نحن نزَّلنا الذكر وإنا
له لحافظون")).
قلتُ:
فهذه
أقوال العلماء صريحة واضحة في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على مشروعية ونشأة علم الجرح
والتعديل.
فلماذا لا يذكر لنا الحلبي مرة واحدة
دليلاً واحداً من الكتاب أو السنة على مشروعية علم الجرح والتعديل؛ على الأقل لنحسن
به الظنَّ من جهة العلم فنقول: هو لا يجهل هذا الأمر!، وإنما يجادل بالباطل كعادته!.
وأخيراً:
أين التقرير الواضح المستبين في كلام
الحلبي قبل الثلاثين؟!!!
يعني: ليس فقط "التقرير" لهذه
المسألة، وإنما "واضح" و "مستبين"!!!
أم هو السجع من جديد؟!
وماذا يدل تلاعب الحلبي مرة تلو الأخرى بعقول القراء؟!
على الصدق؟
أم على المراوغة والكذب؟!
فليعرف إذن عماد طارق وأمثاله من أنصار الحلبي مَنْ الكاذب المراوغ؟
ومَنْ الصادق في قوله الأمين في نقله؟
وقد علَّق هذا الأخير المتغطرس على مقال شيخه فقال: ((شيخنا وفقكم الله؛ شعار القوم: اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب، ثم انشر
الكذب، ثم شنِّع على من ينكر عليه، عندها تصبح عند نفسك والمخدوعين
صادقاً مصدقاً!!!)).
نسأل الله أن يهدينا جميعاً سبيل الرشاد وأن يجعلنا من الصادقين
الأمناء وأن يختم لنا بالحسنى.
والله الموفِّق.
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.