-->
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المنبر العام. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المنبر العام. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 12 يناير 2014

افتتاحيــة هذه المدونة


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد:
فإنَّ الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ ونشر العلم ورد الأخطاء وبيان الحق وكشف الباطل وأهله من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه، مع كون ذلك كله من الواجبات التي أخذ الله عز وجل الميثاق على مَنْ آتاهم الله تعالى علماً في الشريعة وفقهاً في الدين وبصيرة في الحق أن يبينوها للناس ولا يكتموها، قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، وقال تعالى: (وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)، وقال عليه الصلاة والسلام: (مَا مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِى أُمَّةٍ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ؛ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) أخرجهما الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه.
وإذا نظر المسلم في واقع المسلمين اليوم وجد أنَّ وسائل الاتصال هذه من شبكات ومواقع ومنتديات قد انتشرت بصورة ملحوظة في أوساطهم، وصارت ظاهرة لا تنفك عن واقع نشر العلم والدعوة إلى الله، فأصبح هذا من الواقع الذي ليس له من دافع، لكن من الناس مَنْ يستعمل هذه الوسائل في نشر باطله وضلاله وتلبيساته وجداله، وهؤلاء هم أهل الزيغ والأهواء؛ ولا غرابة أن يكون هؤلاء هم الأكثر سيطرة واستغلالاً لهذه الوسائل في نشر دعوتهم الباطلة، لأنَّ أهل الحق في عادة الله عز وجل هم الأقلون عدداً لكنهم الأعظمون عند الله وأهل الحق قدراً.
من أجل ذلك كان على أهل العلم وطلبته أن يقوموا بواجب البيان ونشر الهدى من خلال وسائل الاتصال هذه، وبهذا تصل كلمتهم ودعوتهم إلى أكثر الناس عدداً وأبعدهم مكاناً، وقد قام بذلك كبار العلماء والمشايخ وطلبة العلم والدعاة السلفيين، وصار لهم مواقع خاصة بهم تنشر كتاباتهم ومؤلفاتهم وأشرطتهم وفتاواهم، وفي ذلك الخير الوفير والنفع الكثير كما لا يخفى على أحد ولا ينكره أحد.
لكن من المؤسف أنَّ الكثير من هذه المنتديات والمواقع لا تخلو من تسلط وتصدر غير المؤهلين وتعصب وتحزب وتعظيم لبعض المشرفين والمسؤولين عليها، ولهذا نلاحظ التفرق والفتنة وتراشق التهم والصراع بين المنتديات لنصرة مشرفيهم وأعضائهم والدفاع عن مواقعهم ومنتدياتهم، بل صار ولاء الأعضاء والمشاركين وبراؤهم ومدحهم وقدحهم وقربهم وبعدهم وحبهم وبغضهم مبنياً على توجهات مشرف الموقع ومواقفه وقراراته، وهذا المشرف لا يعدو أن يكون طالب علم أو شيخ أو داعية، ولا يصل مهما بالغ أصحابه في تعظيمه ورفع شأنه إلى درجة عالم مجتهد راسخ فضلاً أن يكون من كبار العلماء المعروفين، ومعلوم أيضاً أنَّ أمثال هؤلاء المشرفين لم يصلوا إلى مستوى الرسوخ في العلم الذي بلغه العلماء، ومع هذا صار لهؤلاء في نفوس أنصارهم الملتفين حولهم في تلك المنتديات أعظم منزلة ومهابة من العلماء الكبار!، ثم تتوجه الكتابات والردود بحسب توجهات هذا المشرف ومواقفه، وتُمنع المقالات النافعة الأخرى أو يُوقف الكاتب أو يُطرد أو يُضيَّق عليه ويُؤذى ويوجَّه ضده الأغمار أو يُغلق مقاله لكونه مخالفاً للشروط = مخالفاً لتوجهات المشرف العام أو بعض المشرفين!، فيضيق صدر هذا الكاتب لما رأه من تصدر غير المؤهلين وتسلط بعض المشرفين والمراقبين وتحريش بعض الأغمار المندفعين مع عدم التقدير والاحترام وعدم تثمين الجهود.
فيذهب هذا المضطهَد ويُحدث منتديات جديدة يكون مشرفاً عليها كردة فعل!، ويجتمع معه كل مَنْ يوافقه في مواقفه وقراراته، فيجد ضالته في هذه المنتديات التي يُمكن من خلالها أن يشفي غيضه من خصومه أولئك!، ثم تقوم الحرب بين المنتديات هذه، وينتهض الأنصار هنا وهناك، وينشغل الأعضاء بعضهم في بعض، فيتمزق الصف وتتفرق الكلمة وتضيع الجهود، وتصبح الغاية من هذه المنتديات الانتصار للمشرف وتوجهاته والرد على خصومه وتفنيد اتهاماتهم وطعوناتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولهذا كنتُ أرفض أن أشارك في هذه الفتنة بين المنتديات التي انشقت عن بعضها وانشطرت إلى أكثر من منتدى؛ لأنَّ من أصول أهل السنة المعلومة: لزوم الجماعة ونبذ الفرقة، فلا ينبغي للسلفي أن يكون سبباً أو مشاركاً من قريب أو بعيد في تفريق الجماعة أو إحداث الفرقة.
لهذا فإني أنصح إخواني من طلبة العلم والدعاة السلفيين أن يحذروا من دخائل النفوس ومصائد الشيطان، مع علمي أنَّ هذه المشاكل لا تنحصر أسبابها فيهم وفي منتدياتهم الجديدة، بل ترجع بعض تلك الأسباب إلى سلوكيات بعض القائمين على تلك المنتديات التي انشقوا عنها، لكن مع هذا لا ينبغي أن تكون مواقفنا ردة أفعال أو انفعالات نفسية، وبخاصة ونحن نلاحظ ما يترتب على هذا الانشقاق والتعدد من تفرق مذموم وفتنة كبيرة بين رواد المنتديات هذه.
نعم كان من المفترض أن يكون القائمون على المنتديات السلفية من طلبة العلم المعروفين بسلامة العقيدة وسداد المنهج، وعندهم رسوخ في العلم وأهلية في الكتابة والردود وضبط للمسائل العلمية واعتدال في المواقف والقرارات وخلق رفيع في التعامل مع المشتركين في هذه الشبكة أو الموقع أو المنتدى، ويكون لهم أيضاً معرفة واسعة وتواصل وثيق مع العلماء الكبار، فهؤلاء هم الذين يستحقون أن يُكلَّفوا بمسؤوليات الإشراف والرقابة، ويعيش في ظلهم باقي طلبة العلم والمشتركين على مبدأ العلم والعدل والأدب والإحترام والتقدير، لكن هذا الجانب فيه تقصير واضح بسبب تصدر غير المؤهلين في هذه المناصب والمسؤوليات، وهذا الأمر هو الذي دفع طلبة العلم البارزين وكتَّاب السلفيين المعروفين بهجر هذه المنتديات وتكوين منتديات جديدة!، فكان خطؤهم كردة فعل عن خطأ أولئك، وكان هذا التفرق هو الذي أضعف المنتديات السلفية وشتت جهودهم وضيَّع أوقاتهم وحزَّب بعضهم ضد البعض الآخر!، وما يحصل بعد ذلك من طعونات واتهامات وتحذيرات ومجازفات في إطلاق الأحكام على إخوانهم.
وأما إنشاء المواقع الخاصة التي لا يكتب فيها إلا صاحبها ولا يوجد فيها مشرفون ولا جماعة متعصبة أو متحزبة له، والتي يُمكن من خلالها أن يجمع طالبُ العلم شتات مقالاته وجهوده المتفرقة في عدة منتديات أو في عدة صفحات من المنتدى الواحد في موقع واحد؛ فهذا أمر طيب لا اعتراض عليه ولا مفسدة مترتبة فيه إن شاء الله، لأنه يقلل الجهود والأوقات في تحصيل هذه المقالات ومطالعتها والانتفاع منها، وليس ثمة فرقة ولا فتنة مترتبة على ذلك، لكن يُخشى على صاحب الموقع الخاص من فتنة الوحدة والعزلة عن الجماعة، فإنَّ في الجماعة بركة وعصمة وقوة، وفي التفرد والعزلة شذوذ وضعف وفتنة، وقد يجد المرء الحرية المطلقة في الكتابة من خلال هذه المواقع الخاصة لأنها بلا رقيب ولا حسيب من البشر؛ فلا يقف عند حد الاعتدال والحكمة، ولا يُمسك عن طعن واتهام الآخرين بلا حجة ولا بينة، فإنْ ألزم صاحب هذا الموقع الخاص نفسه تقوى الله عزَّ وجلَّ، وكانت كتاباته بعلم وعدل وأدب فهو على خير كبير، وسعيه مشكور من أولي الإنصاف.
ولهذا عزمتُ على إنشاء هذه المدونة التي جمعتُ فيها وسأجمع - إنْ شاء الله تعالى - كل ما كتبته وأكتبه من كتب ورسائل وبحوث ومقالات وردود إلى غير ذلك ليسهل الانتفاع منها على كثير ممن سألني عن كيفية تحصيلها؛ وبخاصة من أهل بلدي ممن لا خبرة لكثير منهم في وسائل الاتصال هذه وطريقة البحث فيها، أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلها عملاً خالصة لوجهه الكريم لا رياء فيه ولا سمعة، وأن يرزقنا السداد والعدل فيما نكتب، وأن ينفعنا بها وينفع بها، وأن يعصمنا من دسائس النفوس ومضلات الفتن، وأن يثبتنا على الحق حتى الممات ويكتب لنا حسن الختام، وأن يثيب مَنْ قام بإنشاء هذه المدونة بهذه الصورة كأجر الكاتب فيها، فالدالُّ على الخير كفاعله، إنه وليُّ المؤمنين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه
أبو معاذ رائد آل طاهر
غفر الله له ولوالديه ومشايخه وإخوانه السلفيين
السبت 30/صفر/1434 للهجرة
الموافق 12/ 1 /2013


الجمعة، 15 مارس 2013

مواقفٌ موحَّدةٌ في مواجهةِ حكوماتٍ متسلِّطةٍ


مواقفٌ موحَّدةٌ في مواجهةِ حكوماتٍ متسلِّطةٍ

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَنْ سار على نهجه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد:
فإنَّ العصمة من الفتن والنجاة من المحن لا تكون إلا بالاعتصام بكتاب ربنا جلَّ في علاه وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه الكرام وسلف الأمة الصالح، وما دام أنَّ الناس اليوم يعيشون في بعض البلاد تحت سطوة الحكومات المتسلِّطة ويسألون عن الموقف الصحيح في التعامل معها، لهذا أحببتُ أن أُذِّكر نفسي وإياهم بهذه المواقف الصادرة من قبل الأنبياء والصحابة والأئمة من سلف الأمة ضد حكومات متسلِّطة - سواء كانت كافرة أو ظالمة - في زمانهم، لتكون هذه المواقف لنا نوراً نستضيء به في هذه الظلمات التي نعيش فيها والله تعالى يقول: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ))، والله الموفِّق.

الموقف الأول: موسى عليه السلام وبنو إسرائيل في مواجهة فرعون وهامان وجنودهما
لقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في كتابه المبين قصة موسى عليه السلام مع فرعون في عدة مواضع، وفيها يتعرَّف القارئ أنَّ فرعون علا في الأرض وأفسد فيها غاية الإفساد حتى ادَّعى لنفسه الربوبية والإلوهية، واستعبد قومه فكانوا يُطيعونه خوفاً من سطوته وتزلفاً إليه، وفرَّق الناس في بلاده إلى طائفتين: الأولى هم الأقباط وهم أنصاره المقرَّبون، والثانية هم بنو إسرائيل، فكان يرفع الطائفة الأولى ويكرمهم، ويذل الطائفة الثانية ويهينهم، حتى بلغ به الأمر أن يذيق هذه الطائفة المستضعفة أشدَّ العذاب؛ فوضعهم في أشقِّ الأعمال وأرذلها، ولما بلغه أنَّ زوال ملكه ودولته سيكون على يد رجل من بني إسرائيل أمر بقتل ذكورهم بعد ولادتهم وترك إناثهم، فعاش بنو إسرائيل في دولته سنوات شديدة من القهر والظلم والعذاب والذل والمهانة، يكفي في وصفه قول ربنا سبحانه في كتابه: ((وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ)).
ثم لما ظهر أمر موسى عليه السلام ودعا بني إسرائيل إلى الهدى فآمنوا به؛ ازداد طغيان فرعون وهامان وجنودهما فشددوا العذاب عليهم كما قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا: اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ. وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ)).
فلما اشتدَّ البلاءُ على بني إسرائيل شكوى ذلك إلى موسى عليه السلام، وهنا موطن الشاهد من هذه القصة، ماذا قال لهم موسى عليه السلام؟ هل أمرهم بالخروج على فرعون وجنوده ومواجهتهم؟ أم أمرهم بالإلتجاء إلى الله عزَّ وجل والصبر على أذاهم وظلمهم؟
قال تعالى: ((قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ، قَالَ: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ. قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. قَالُواْ: أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا، قَالَ: عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)).
فلما استجاب بنو إسرائيل لوصية موسى عليه السلام تحقق وعد الله الذي وعدهم إياه؛ فقال سبحانه في بيان عاقبة الفريقين: ((فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ. وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ، وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ)).
وقد أكَّد سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام أنَّ الابتلاء لابد منه وأنَّ شدته علامة على قرب التمكين في الأرض وهلاك العدو، فقال: ((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)).
كما بيِّن فيها سبحانه أنَّه قد تكفَّل بحفظ عباده المؤمنين المستضعفين الذين يدعون إلى توحيده ويحذِّرون من الشرك به من كيد الكافرين والظالمين، فقال في مؤمن آل فرعون: ((وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ. تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ. لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ. فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ)).

الموقف الثاني: النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مواجهة كفَّار قريش في مكة
لما جاء نبينا محمد صلوات ربي وسلامه عليه بهذه الدعوة المباركة دعوة التوحيد ونبذ الشرك آمن بها في أول الأمر قلةٌ من الناس المستضعفين؛ كما قال تعالى: ((وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ؛ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))، واستبكر عن قبول هذه الدعوة الكثير من أهل قريش بخاصة كبراؤهم ووجهاؤهم وزعماؤهم الذين كانوا يملكون فيهم الإدارة والحكم والرأي، وقد حاول هؤلاء أن يصدوا عن سبيل الله بشتى الطرق من التشويه الإعلامي وتقبيح وجه الحق وعرض عدة عروض دنيوية على النبي صلى الله عليه وسلم ليترك هذه الدعوة ، فلما لم يروا نتيجة في ذلك، بدأوا بالمرحلة الثانية من التصفية الجسدية من تشريد وطرد وحبس وضرب وتعذيب وقتل، حتى اضطر بعض المؤمنين بالهجرة من بلادهم، وبعضهم أخفى إيمانه، وبعضهم لاقى ما لاقاه من الأذى والظلم والعدون، فلما رأى بعض الصحابة ذلك واشتدَّ عليهم البلاء والعذاب والقهر والذل جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا ذلك إليه، فماذا قال لهم؟ هل أمرهم بالخروج على كبرائهم ومواجهتهم؟ أم أمرهم بالصبر وعدم الاستعجال؟    
عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: ((قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)) أخرجه البخاري.
فمواجهة الكافرين له وقته الذي لا ينبغي التعجل فيه، ولا يكون من قبيل ردود الأفعال العاطفية أو الانفعالات الحماسية غير المنضبطة ولا المدروسة، والعلماء يقولون: مَنْ استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وهذا ما أشار إليه الله عزَّ وجلَّ بقوله: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ؛ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقَالُواْ: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ؟ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ، قُلْ: مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً))، ومثله قوله: ((وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً، وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ، وَقِيلَ: اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)).

الموقف الثالث: الصحابة والتابعون في مواجهة ظلم الحجاج بن يوسف الثقفي
بعد موت يزيد بن معاوية في عام 64 تولى الخلافة من بعده ولده معاوية وكان مريضاً ضعيفاً، فنادى في الناس "الصلاة جامعة"، فاجتمع الناس إليه، فقال لهم: "يا أيها الناس؛ إني قد ولِّيتُ أمركم وأنا ضعيف عنه، فإنْ أحببتم تركتها لرجل قوي كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة منكم كما تركها عمر بن الخطاب؛ وليس فيكم من هو صالح لذلك، وقد تركتُ لكم أمركم فولوا عليكم من يصلح لكم"، ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج منه حتى مات بعد أيام قليلة أو أشهر.
توفي ابن يزيد هذا ولم يعهد إلى أحد بعده، فبويع لمروان بن الحكم - وكان نائباً لمعاوية رضي الله عنه في المدينة – خليفة على الشام، وبويع لعبدالله بن الزبير رضي الله عنه خليفة على الحجاز ثم أضاف لها البصرة والعراق ومصر، ولم يكمل مروان في خلافته سنة فمات بعد أن طلب البيعة لولده عبدالملك بن مروان من بعده.
تولَّى الخلافة عبدالملك بن مروان وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة، منها تسع سنين مشاركاً لابن الزبير، وثلاث عشرة سنة مستقلاً وحده، وكانت بينه وبين ابن الزبير رضي الله عنه حروب وفتن كثيرة، وقد عَيِّن عبدالملك الحجَّاج بن يوسف الثقفي لمواجهة ابن الزبير، فكانت الحروب بينهم سجال وحدثت بينهما مقتلة عظيمة، حتى انتهى الأمر بحصار ابن الزبير في البيت الحرام، وبلغ الطغيان بالحجَّاج أن ضرب البيت الحرام بالمنجنيق، ثم تسلَّط على أهلها وقتل منهم مَنْ قتل، ثم ظفر بابن الزبير فصلبه على جذع عند البيت، حتى بقي مدة على ذلك.
وبعد مقتل ابن الزبير رضي الله عنه استقرَّ الأمر في الحجاز إلى الحجاج بن يوسف، فتحرك بعدها إلى السيطرة على البصرة والكوفة، وأذاق الناس ألواناً من العذاب من حبس وضرب وتعذيب وقتل، وظهرت فتنة ابن الأشعث الذي بايعه آلاف من أهل الكوفة والبصرة على خلع الحجاج وقتاله، ومنهم الكثير من الفقهاء والقراء والعباد والأمراء وشيوخ الناس وشبابها، فتمكَّن منهم وقتل منهم الكثير وفرَّ الباقون، وممن فرَّ سعيد بن جبير رحمه الله، واستمر مختفياً من الحجاج قريباً من ثنتي عشرة سنة، لكنَّ الحجَّاج ظفر به بعد ذلك فقتله، وبقى الناس يعيشون تحت سطوة الحجاج وظلمه عشرين سنة كاملة، والفتن تدور بين الحين والآخر، والقتل يشتد ويكثر.
وكان الحجَّاج - عليه من الله ما يستحق - يؤذي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقبح فعاله وفحش لسانه، وكانوا يصبرون على ذلك ولا يأذنون لأحد بالخروج عليه، وكان الحجَّاج يتربَّص بكل مَنْ يتكلَّم فيه أو في خلافة عبدالملك بن مروان أو مَنْ يشارك أو يُحرِّض في الخروج عليهم، فإن ظفر بهم سامهم سوء العذاب.
 قال أيوب السختياني رحمه الله: إنَّ الحجاج أراد قتل الحسن البصري مراراً فعصمه الله منه، وقد ذكر له معه مناظرات؛ على أنَّ الحسن لم يكن ممن يرى الخروج عليه، وكان ينهى أصحاب ابن الأشعث عن ذلك، وإنما خرج معهم مكرهاً، فقد قيل لابن الأشعث: إنْ أحببتَ أن يُقتل الناس حولك كما قُتلوا حول هودج عائشة رضي الله عنها يوم الجمل فأَخرِج الحسن معك، فأَخرجه.
وقال الحسن البصري: إنَّ الحجَّاجَ عذابُ اللهِ، فلا تدفعوا عذابَ اللهِ بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانةِ والتضرعِ فإنه تعالى يقول: "وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ".
وقال الإمام الترمذي رحمه الله: ثنا أبو داود سليمان بن مسلم البلخي ثنا النضر بن شميل عن هشام بن حسان قال: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً فبلغ مائة ألف وعشرين ألفاً.
وذكر الأصمعي: ثنا أبو صم عن عباد بن كثير عن قحدم قال: أطلق سليمان بن عبدالملك - أي لما تولى الخلافة بعد أخيه الوليد وبعد موت الحجاج - في غداة واحدة أحداً وثمانين ألف أسير كانوا في سجن الحجاج، وقيل إنه لبث في سجنه ثمانون ألفاً منهم ثلاثون ألف امرأة، وعرضت السجون بعد الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفاً لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب.
وقال عمر بن عبدالعزيز: لو تخابثت الأمم فجاءت كلُّ أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم.
وقال الرياشي حدثنا عباس الأزرق عن السري بن يحيى قال: مرَّ الحجاج في يوم جمعة فسمع استغاثة، فقال: ما هذا؟ فقيل: أهل السجون يقولون قتلنا الحر!، فقال: قولوا لهم اخسؤوا فيها ولا تكلِّمون!، فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة حتى قصمه الله.
وعن معمر عن ابن طاووس عن أبيه: أنه أُخبر بموت الحجاج مراراً، فلما تحقق وفاته قال: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين".
وروى غير واحد أنَّ الحسن البصري لما بُشِّر بموت الحجاج سجد شكراً لله تعالى، وكان مختفياً فظهر، وقال: اللهم أَمتَّه فأذهِب عنا سنَّته.
وقال حماد بن أبي سليمان: لما أَخبرتُ إبراهيم النخعي بموت الحجاج بكى من الفرح.
ومن أعيان من قتلهم الحجاج: عمران بن عصام الضبعي وكان من علماء أهل البصرة، وكان صالحاً عابداً، أُتي به أسيراً إلى الحجاج فقال له: اشهد على نفسك بالكفر حتى أطلقك، فقال: والله إني ما كفرتُ بالله منذ آمنتُ به، فأمر به فضربت عنقه.  
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية من أحواله أشياء كثيرة غير ما تقدَّم، وقد وصفه بقوله: ((كان جباراً عنيداً مِقداماً على سفك الدماء بأدنى شبهة)).
وقد صدق في الحجاج وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه "مبير" أي مسرف في إهلاك الناس، فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه ما قالته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها والدة ابن الزبير بعد صلب الحجاج له وتركه معلقاً على الجذع، فقال: عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ قال: رَأَيْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ، ثُمَّ نَفَذَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ مَوْقِفُ عَبْدِاللَّهِ وَقَوْلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ فَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ: لَتَأْتِيَنِّي أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ، قَالَ: فَأَبَتْ؛ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي، قَالَ فَقَالَ: أَرُونِي سِبْتَيَّ فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ!، قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، أَنَا وَاللَّهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ، أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا؛ فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ، قَالَ: فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا.
قال الحافظ النووي رحمه الله: ((وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالْكَذَّابِ هُنَا الْمُخْتَار بْن أَبِي عُبَيْد، وَبِالْمُبِيرِ الْحَجَّاج بْن يُوسُف)).
ولما اشتدَّ الظلم والأذى في زمان الحجَّاج - وهنا موطن الشاهد - شكى بعض التابعين لأنس بن مالك رضي الله عنه هذا الحال، فماذا قال لهم؟ هل أَذِن لهم في مواجهة الحجَّاج والخروج عليه؟ أم أمرهم بالاحتساب والصبر؟
أخرج البخاري في صحيحه عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجَّاج؟، فقال: ((اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم)) سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.

الموقف الرابع: الإمام أحمد والسلف الصالح في مواجهة محنة ثلاث خلفاء عباسيين
لقد ظهر في زمان الخلفاء (المأمون والمعتصم والواثق) القول بخلق القرآن، وهذا عقيدة كفرية، لأنَّ الأمة أجمعت على أنَّ القرآن كلام الله المنزَّل غير مخلوق، فامتحن هؤلاء الخلفاء وبتحريض من دعاة الجهمية والمعتزلة كبشر المريسي وأحمد بن أبي دؤاد الناسَ بهذا الكفر ما يُقارب العشرين سنة بشتى صور الظلم والأذى، وقد لخَّص ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في [المجموع 12/ 488-489] فقال: ((فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد مَثَلًا قَدْ بَاشَرَ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ دَعَوْهُ إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ وَامْتَحَنُوهُ وَسَائِر عُلَمَاءِ وَقْتِهِ، وَفَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الَّذِينَ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ عَلَى التَّجَهُّمِ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْقَتْلِ وَالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَاتِ وَقَطْعِ الْأَرْزَاقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَتَرْكِ تَخْلِيصِهِمْ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ؛ بِحَيْثُ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ إذْ ذَاكَ مِنْ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ يُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ جهمياً مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ مِثْلِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَيَحْكُمُونَ فِيهِ بِحُكْمِهِمْ فِي الْكَافِرِ فَلَا يُوَلُّونَهُ وِلَايَةً وَلَا يُفْتِكُونَهُ مِنْ عَدُوٍّ وَلَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يَقْبَلُونَ لَهُ شَهَادَةً وَلَا فُتْيَا وَلَا رِوَايَةً، وَيَمْتَحِنُونَ النَّاسَ عِنْدَ الْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالِافْتِكَاكِ مِنْ الْأَسْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَمَنْ أَقَرَّ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ حَكَمُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَمْ يَحْكُمُوا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ كَانَ دَاعِيًا إلَى غَيْرِ التَّجَهُّمِ قَتَلُوهُ أَوْ ضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَغْلَظِ التَّجَهُّمِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ إلَى الْمَقَالَةِ أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهَا، وَإِثَابَةَ قَائِلِهَا وَعُقُوبَةَ تَارِكِهَا أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ إلَيْهَا، وَالْعُقُوبَةَ بِالْقَتْلِ لِقَائِلِهَا أَعْظَمُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِالضَّرْبِ.
ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد دَعَا لِلْخَلِيفَةِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ ضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وحَلَّلَهُم مِمَّا فَعَلُوهُ بِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ؛ وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ، فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَفَّارِ لَا يَجُوزُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُكَفِّرُوا الْمُعَيَّنِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَفَّرَ بِهِ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ؛ فَإمَّا أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فَفِيهِ نَظَرٌ، أَوْ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى التَّفْصِيلِ؛ فَيُقَالُ: مَنْ كَفَّرَهُ بِعَيْنِهِ فَلِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ، وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ بِعَيْنِهِ فَلِانْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، هَذِهِ مَعَ إطْلَاقِ قَوْلِهِ بِالتَّكْفِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالِاعْتِبَارُ)).
ومع هذا الظلم والبلاء من قبل هؤلاء الخلفاء لم يأذن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لأحد من أصحابه أو مَنْ سأله الخروج على هؤلاء الحكام خشية سفك الدماء وما يترتب عليها من فتنة عامة.
قال أبو بكر الخلال رحمه الله في كتابه [السنة 1/131- 134]: ((أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللَّهِ، يَأْمُرُ بِكَفِّ الدِّمَاءِ، وَيُنْكِرُ الْخُرُوجَ إِنْكَارًا شَدِيدًا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ: أَنَّهُمَا كَرِهَا الدَّمَ، يَعْنِي فِي الْفِتْنَةِ.
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّ أَبَا الْحَارِثِ حَدَّثَهُمْ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِاللَّهِ فِي أَمْرٍ كَانَ حَدَثَ بِبَغْدَادَ، وَهَمَّ قَوْمٌ بِالْخُرُوجِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الْخُرُوجِ مَعَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ؟ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ؛ الدِّمَاء!، الدِّمَاء!، لاَ أَرَى ذَلِكَ، وَلاَ آمُرُ بِهِ، الصَّبْرُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْفِتْنَةِ يُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَيُسْتَبَاحُ فِيهَا الأَمْوَالُ، وَيُنْتَهَكُ فِيهَا الْمَحَارِمُ، أَمَا عَلِمْتَ مَا كَانَ النَّاسُ فِيهِ؛ يَعْنِي أَيَّامَ الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: وَالنَّاسُ الْيَوْمَ أَلَيْسَ هُمْ فِي فِتْنَةٍ يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ؟! قَالَ: وَإِنْ كَانَ، فَإِنَّمَا هِيَ فِتْنَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِذَا وَقَعَ السَّيْفُ عَمَّتِ الْفِتْنَةُ!، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، الصَّبْرَ عَلَى هَذَا وَيَسْلَمُ لَكَ دِينُكَ خَيْرٌ لَكَ، وَرَأَيْتُهُ يُنْكِرُ الْخُرُوجَ عَلَى الأَئِمَّةِ، وَقَالَ: الدِّمَاء، لاَ أَرَى ذَلِكَ، وَلاَ آمُرُ بِهِ.
وَأَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ عِيسَى قَالَ: سَمِعْتُ حَنْبَلاً يَقُولُ فِي وِلاَيَةِ الْوَاثِقِ: اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ إِلَى أَبِي عَبْدِاللَّهِ؛ أَبُو بَكْرِ بْنُ عُبَيْدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَطْبَخِيُّ، وَفَضْلُ بْنُ عَاصِمٍ، فَجَاؤُوا إِلَى أَبِي عَبْدِاللَّهِ، فَاسْتَأْذَنْتُ لَهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ، هَذَا الأَمْرُ قَدْ تَفَاقَمَ وَفَشَا - يَعْنُونَ إِظْهَارَهُ لِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَبْدِاللَّهِ: فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: أَنْ نُشَاوِرَكَ فِي أَنَّا لَسْنَا نَرْضَى بِإِمْرَتِهِ وَلاَ سُلْطَانِهِ، فَنَاظَرَهُمْ أَبُو عَبْدِاللَّهِ سَاعَةً، وَقَالَ لَهُمْ: عَلَيْكُمْ بِالنَّكِرَةِ بِقُلُوبِكُمْ، وَلاَ تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وَلاَ تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ وَدِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَعَكُمُ، انْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِكُمْ، وَاصْبِرُوا حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ أَوْ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ، وَدَارَ فِي ذَلِكَ كَلاَمٌ كَثِيرٌ لَمْ أَحْفَظْهُ، وَمَضَوْا. وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي عَبْدِاللَّهِ بَعْدَمَا مَضَوْا، فَقَالَ أَبِي لأَبِي عَبْدِاللَّهِ: نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلاَمَةَ لَنَا وَلأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَمَا أُحِبُّ لأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا، وَقَالَ أَبِي: يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ، هَذَا عِنْدَكَ صَوَابٌ؟ قَالَ: لاَ، هَذَا خِلاَفُ الآثَارِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِالصَّبِرِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ ضَرَبَكَ فَاصْبِرْ، وَإِنْ...، وَإِنْ...، فَاصْبِرْ"، فَأَمَرَ بِالصَّبِرِ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: وَذَكَرَ كَلاَمًا لَمْ أَحْفَظُهْ)).

أقول بعد هذا:
هذه المواقف الواضحة التي تدعو إلى الصبر على أذى الكفار والظالمين وعدم الاستعجال في إتخاذ المواقف في مواجهة الحكام المستبدِّين في وقت الإستضعاف إنْ دلَّت على شيء فإنما تدل على خطأ من يعدُّ الصبرَ على ظلم الحكَّام المعاصرين من الجبن أو الخنوع أو الرضى بالظالم وظلمه أو الإقرار على الذل والاستعباد أو الخوف من الصدع بكلمة الحق ضد سلطان جائر!، فالأمر ليس كذلك، وإنما هو الإتباع والتمسك بما كان عليه الأنبياء والصحابة والعلماء في مثل هذه المواقف، لأننا نعلم أنَّ هؤلاء هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ولا يخيب المقتدي بهم، فهم الأسوة الحسنة لمن جاء من بعدهم.
وقد دلَّت الآيات والأحاديث والآثار الكثيرة على وجوب الصبر على أذى الكفار والمنافقين والظالمين في وقت الاستضعاف، من ذلك:
قوله تعالى: ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ))، وقوله: ((وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ))، وقوله: ((وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ))، وقوله: ((تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ))، وقوله: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ))، وقوله: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا))، وقوله: ((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ))، وقوله: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ))، وقوله: ((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ))، وقوله: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ)).
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً))، وقال: ((إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى عَلَى الْحَوْضِ))، والأثرة: استئثار الحكام بالمناصب والأموال، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِى أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)) فقال الصحابة: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِى عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِى لَكُمْ))، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة الطويل: ((يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ)) فقال حذيفة رضي الله عنه: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ فقال: ((تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ))، أي: اسمع وأطع في المعروف والطاعة لا في الظلم والمنكر ومعصية الله عز وجل، وفي رواية: ((فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ، وَإِلاَّ فَمُتْ عَاضًّا بِجِذْلِ شَجَرَةٍ))، قال حذيفة : قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ((يَخْرُجُ الدَّجَّالُ))، وهذا يدل على عموم هذه الأحاديث إلى قيام الساعة.
وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في [الصارم المسلول 3/681-683]: ((إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة مستضعفاً هو وأصحابه عاجزين عن الجهاد أمرهم الله بكفِّ أيديهم والصبر على أذى المشركين، فلما هاجروا إلى المدينة وصار له دارُ عزًّ ومنعةٍ أمرهم بالجهاد وبالكفِّ عمن سالمهم، وكفِّ يده عنهم لأنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود على كل منافق لنفر عن الإسلام أكثر العرب إذ رأوا أن بعض من دخل فيه يُقتل، وفي مثل هذه الحال نزل قوله: "وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً"، وهذه السورة نزلت بالمدينة بعد الخندق، فأمره الله في تلك الحال أن يترك أذى الكافرين والمنافقين له، فلا يكافئهم عليه لما يتولد في مكافأتهم من الفتنة، ولم يزل الأمر كذلك حتى فتحت مكة ودخلت العرب في دين الله قاطبة، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في غزو الروم، وأنزل الله تبارك وتعالى سورة براءة، وكمل شرائع الدين من الجهاد والحج والأمر بالمعروف، فكان كمال الدين حين نزل قوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" قبل الوفاة بأقل من ثلاثة أشهر، ولما أنزل براءة أمره بنبذ العهود التي كانت للمشركين وقال فيها: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ"، وهذه ناسخة لقوله تعالى: "وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم"، وذلك أنه لم يبق حينئذ للمنافق من يعينه لو أقيم عليه الحد، ولم يبق حول المدينة من الكفار من يتحدث بأنَّ محمد يقتل أصحابه، فأمره الله بجهادهم والإغلاظ عليهم، وقد ذكر أهل العلم أنَّ آية الأحزاب منسوخة بهذه الآية ونحوها، وقال في الأحزاب: "لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا" الآية، فعلم أنهم كانوا يفعلون أشياء إذ ذاك إن لم ينتهوا عنها أقبلوا عليها في المستقبل لما أعز الله دينه ونصر رسوله، فحيث ما كان للمنافق ظهور وتخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه عملنا بآية "وَدَعْ أَذَاهُم"، كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح، وحيث ما حصل القوة والعز خوطبنا بقوله: "جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ")).
وقال رحمه الله في [الصارم المسلول 2/412-414]: ((فلما أتى الله بأمره الذي وعده من ظهور الدين وعز المؤمنين أمر رسوله بالبراءة إلى المعاهدين وبقتال المشركين كافة وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون؛ فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى اللذين أمر الله بهما في أول الأمر، وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية.
وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت أية الصَّغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في أخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام.
فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بأية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)).
فلابد أنَّ نعلم أنَّ الصبر في مثل هذه الأحوال التي تمرُّ فيها الشعوب الإسلامية في مواجهة الحكَّام المعاصرين هو واجب الوقت، فلا ينبغي الخروج عن واجب الوقت ولا استعجال الواجب الذي بعده، فالأمر كلُّه لله، والله عزَّ وجلَّ أمرنا أن نغيِّر أنفسنا وأن ننشغل في إصلاحها عن الكلام في الحكَّام الذي لا يترتب عليه إلا الفتنة والفساد.
ولابد أن نعلم أيضاً أنَّ هؤلاء الحكَّام ما تسلَّطوا على رقابنا إلا بما كسبت أيدينا، والله تعالى يقول: ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ))، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المعروف: ((وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ))، ورحم الله مَنْ قال: ((كما تكونوا يولَّى عليكم))، وهؤلاء الحكَّام ما خرجوا إلا من هذه الشعوب الثائرة، والله تعالى: ((وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا)).
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في [مفتاح دار السعادة 1/253]: ((وتأمَّل حِكمتَهُ تَعَالَى في أنْ جَعَلَ مُلوكَ العبادِ وأُمراءَهم وَوُلاتَهم مِن جِنسِ أعمَالِهم، بلْ كأنَّ أعْمَالهم ظَهرتْ في صُورِ وُلاتِهم ومُلوكِهم؛ فإن استقَامُوا استقَامَتْ مُلوكُهم، وإنْ عَدلُوا عَدَلتْ عليهم، وإن جَارُوا جَارتْ ملوكهم ووُلاتُهم، وإنْ ظهَر فيهم المكرُ والخَديعةُ فوُلاتُهم كذلك، وإنْ مَنعوا حقوقَ اللهِ لديهم وبخَلوا بها منعتْ مُلوكهم ووُلاتُهم ما لَهُم عندهم من الحق وبَخَلوا بها عليهم، وإنْ أخذوا مِمَّن يستضعفونَه ما لا يستحقونَه في مُعَاملتهم أخذتْ منهم الملوكُ ما لا يستحقونه وضَربتْ عليهم المكوسَ والوظائف، وكلَّما يستخرجونَه من الضعيف يستخرِجْهُ الملوكُ منهم بالقوة، فعُمَّالُهم ظَهَرتْ في صُورِ أعمالهم، وليس في الحِكمةِ الإلهية أن يُولَّى عَلى الأشرارِ الفجَّارِ إلا مَنْ يكونُ مِنْ جِنْسهم.
ولما كان الصدرُ الأولُ خِيارَ القُرونِ وأبَرَّها كانتْ وُلاتُهم كذلك، فلمَّا شَابُوا شَابَتْ لهمُ الوُلاة.
فحكمةُ اللهِ تَأْبَى أن يُولِّيَ علينا في مِثلِ هذهِ الأزمانِ مثلَ مُعاويةَ وَعُمَرَ بنَ عبدالعزيز، فضلاً عن مثلِ أبي بكر وعمر، بَلْ وُلاتُنا على قَدْرِنا، ووُلاةُ مَنْ قَبلَنا على قَدرِهم، وكلٌ مِن الأمرَين مُوجِبُ الحِكمة ومُقْتضاها)).
أسأل الله تعالى أن يصلح أمرنا، وأن يغيِّر حالنا وبلادنا، وأن يولِّي علينا خيارنا ويُبعد عنا شرارنا، وأن يثبتنا على الحق والهدى وما كان عليه سلفنا الصالح عند المحن، وأن يجنبنا مضلات الفتن، وأن يعصمنا من شبهات أهل الزيغ واستدلالات أهل الباطل، وأن يقبضنا إليه غير ضالين ولا مضلين ولا مفتونين ولا فاتنين، إنه وليُّ المؤمنين.
كتبه ناصحاً ومشفقاً
أبو معاذ رائد آل طاهر
قبل أذان العشاء من يوم الاثنين 16 من شهر ربيع الأول لعام 1434 هـ
الموافق  28/ 1/ 2013 بالإفرنجي

الثلاثاء، 5 فبراير 2013

الدمعة البازيـــة صورةٌ من التجرد للحق والثبات عليه


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدِّين؛ أمَّا بعد:
فإنَّنا جميعاً نعلم حديث النبيِّ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ((لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ؛ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كَذَلِكَ))، وفي رواية: ((لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ))، وفي أُخرى: ((لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) وهذه الأحاديث رواها البخاري ومسلم - واللفظ له – ، وغيرهم من حفَّاظ الحديث.
ونفهم من ذلك:
أنَّ من صفات هذه الطائفة المنصورة النَّاجية: القيام بالحقِّ وإظهاره والجهاد من أجله؛ لا يضرهم مَنْ خالفهم ولا مَنْ خذلهم، ولا يخافون في الله لومة لائم؛ وذلك إمَّا بالسيف والسنان وإمَّا بالحجة واللسان؛ والثاني أعظم مرتبة وأصعب ولهذا فهو مُقدَّم؛ كما قال العلامة ابن القيِّم رحمه الله تعالى: ((والجهاد بالحجة واللسان مقدَّم على الجهاد بالسيف والسنان))، وقال: ((وهو جهاد خواصِّ الأمة، وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالَم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه - وإن كانوا هم الأقلين عدداً - فهم الأعظمون عند الله قدراً)).
ولقد دوَّن لنا التاريخُ نماذجاً من ذلك الثبات والجهاد - بالحجة واللسان - من أجل إظهار كلمة الحقِّ؛ كثبات ذلك الخليفة الأول الراشد أبي بكر الصدِّيق رضي الله تعالى عنه في " وجوب قتال مانعي الزكاة "  في ظرفٍ من أصعب الظروف التي عصفَت بهذه الأمَّة!! ولم يضرّه مَنْ خالفه من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم - وهم الأكثرون –، حتى رجعوا جميعهم – بعد ذلك - إلى قوله، وكثبات ذاك العالِم المُبَجَّل إمام أهل السُّنَّة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في فتنةٍ كادت أن تشابه فتنة مانعي الزكاة، إنَّها فتنة "القول بخلق القرآن"، وكثبات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في نصرة عقيدة السلف ضد الأشاعرة والمتصوفة، وله معهم مناظرات ومجادلات، قلَّ أن تسمع أو ترى مثلها، يعلمها الكثير منَّا، وكثبات مجدِّد التوحيد الشيخ الإمام محمَّد بن عبدالوهَّاب رحمه الله تعالى في وجه هجمات القبوريين ودحض شبهاتهم وأباطيلهم، ... وغيرهم من أهل العلم قديماً وحديثاً لا يسع المقام لذكرهم.
وفي هذا العصر؛ قد شهدنا - الشيء الكثير – من ثبات أهل العلم الأكابر والمشايخ الأفاضل لإقامة كلمة الحقِّ ضدِّ المناهج المنحرِفة والأقوال المخالِفة لعقيدة السلف وفهمهم، لا يضرهم مَنْ خالفهم ولا مَنْ خذلهم.
ومن أكبر الفتن التي يمرُّ بها هذا العصر – وهي قديمة – فتنة " تكفير الحكَّام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله " وما ترتَّب على ذلك من مِحَن وفتن، وضلال وفساد، وتكفير للعباد والبلاد، وخروج على الحكَّام وطعن بالعلماء، وسفك للدماء، وخراب للأموال، وانتهاك للأعراض، وفقد للأمن والاستقرار إلى غيرها من البلايا والرَّزايا، ولم ينجُ من ذلك حتى بلد التوحيد بل والبيت الحرام!!!.
من أجل ذلك؛ تصدَّى أهلُ العلم لردِّ هذه الفتنة الهوجاء وكشف ضلال أصحابها الغوغاء، وبيان خطورة هذا الفكر والتحذير من مصادره ومنابعه، حِفاظاً لشباب الأمَّة أن ينساقوا وراءه أو يقتفوا آثاره.
ولعلَّ من أروع صورِ الثبات التي سمعناها – وقد رآها بعضنا؛ وإنَّا نغبطه على ذلك – ثبات ذاك الجبل الراسخ مفتي العصر الإمام المحدِّث الفقيه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى في الفتنة ذاتها بوجهها الثاني "حكم مَنْ بدَّل الشرع المبين بالقانون الوضعي اللعين!!" ضدّ المتبنِّين للقول: بكفر الحاكم المُبَدِّل وإن لم يستحِل!!.

مكان اللقاء والحاضرون
التقى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى بمجموعة من المدرسين والمحاضرين والمعيدين في قسم السُّنـَّة وأصول الدِّين في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض؛ فألقى سماحتُه كلمةً حثَّ فيها على العلم والدعوة، وذكر من حال شيخه العلامة الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى، وكيف كان يحرص على طلابه في التعليم والأدب، وكيف كان يرعاهم ويهتم بشؤونهم كالأب؛ بل أكثر من ذلك.
وهنا توقَّف عن الكلام رحمه الله تعالى فإذا بالدَّمع من عينيه ينزل حبَّاً لهذا الشيخ المعلِّم المربي وتذكراً لأحواله مع طلابه، ثمَّ يريد سماحتُه مواصلةَ كلامه عنه، فإذا بالدَّمع يصبح أزيزاً كأزيز المِرْجَل، فيرتفع صوته بالبكاء، حتَّى وأنَّ السامع للشريط ليتأثر من ذلك تأثراً شديداً؛ ولهذه الدَّمعة أُطلِقَ على الشريط اسم: "الدَّمعة البازية".
ثم بعد أن أنهى سماحتُه كلمتَه؛ بدأ المقدِّم بعرض مجموعة من الأسئلة عليه في مواضيع مختلفة؛ كمسائل في علم الحديث، وفي حكم تارك الصلاة .... وغير ذلك.
وبانتهاء سماحته من أجوبة هذه الأسئلة؛ ينتهي الوجه الأول من الشريط، ثمَّ يبدأ الوجه الثاني منه وهو بيت القصيد؛ وتدور الأسئلة عن موضوع " كُفر المُبَدِّل للشرع من الحكَّام" وتبدأ الأسئلة عن آية: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ))!!، فانتبه لهذه البداية؛ ثم انظر كيف كانت النِّهاية؟!!.
ملاحظتان قبل بدء الحوار:
1- يعلم كلُّ من سمع الشريط؛ أنَّ كلام الشيخ – وتارة كلام السائل – غير واضح تماماً، ولقد عملنا على جمع الكلام بما نستطيع من جهد؛ ولهذا سترى نقاط بهذه الصورة  "..."  للتعبير عن أنَّ الكلام غير واضح.
2- ما كان من إضافات من كلامنا - للتوضيح أو بيان الصورة على ما هي عليه في الحوار - وضعناه بين قوسين مربعين [ ].

الدَّمعة البازية/ الوجه الثاني:    
ابتدأ المقدِّم سائلاً: في التفسير عن ابن عباس في قوله: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ [ كفر دون كفر؟!.
فأجاب سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى بقوله: ((إذا لم يستحلها كالرشوة أو على عدو أو لصديق: يكون كفر دون كفر، أما إذا استحلها: يكون كافراً، إذا استحله يكون كفر، لكن إذا حكم لرشوة لا يكون كافراً؛ كفر دون كفر، كما جاء عن مجاهد وغيره)).
السائل: مسألة تبديل الاحكام الشرعية بقوانين؟!!!.
أجاب الشيخ: ((لا يحلُّ له، إذا فعلها [أراد السائل المداخلة فقال: "وقد يدَّعي أنَّه"، فلم يأذن له الشيخ] مستحلاً لها: يكفر [أراد السائل المداخلة مرَّة أخرى فلم ينل]، أما إذا فعلها متأولاً لِإرضاء قومه أو كذا أو كذا: يكون كفر دون كفر، ... قتاله إذا كانت عنده قوة حتى يلتزم، مَنْ غيَّرَ دين الله من زكاة وغيرها يُقاتَل حتى يلتزم)).
السائل: مثلاً الحدود؛ بدَّل حد الزنى وكذا وكذا؟
قاطعه الشيخ بقوله: ((إلى آخره، بدأ يُقاتِل: عُزِّر. [أحد الحاضرين: أو حَبْس، فقال الشيخ:] أو حَبْس)) 
السائل: وضع مواد عفا الله عنك؟!
الشيخ: (( الأصل: عدم الكفر حتى يستحل!!، يكون عاصياً وأتى كبيرة ويستحق العقاب إلى آخره، حتى يستحل!!)).
السائل: حتى يستحل!!، الاستحلال في قلبه ما ندري عنه؟!!
 الشيخ: ((إذا إدَّعى ذلك [السائل: عفا الله عنك!!] إذا ادَّعى أنَّه لا يستحل!!)).
السائل: إذا أباح الزِّنى، وبلغ الطرفين ؟
قاطعه الشيخ: ((هذا كفر، إذا استحلَّ الزنى: هذا كفر)).
أحد الحاضرين!!: لو حصل: أنَّه حكم بشريعة منسوخة وغيَّرها، وفرضها على الناس، وجعلها قانوناً عاماً، وعاقب من رفضه بالسجن أو القتل والتطريد، وما شابه ذلك؟!
الشيخ يسأل: ((نسبها إلى الشريعة؟!))
السائل: حكم بها من غير أن يتكلم [أحد الحاضرين: قانون!!]؟
الشيخ: ((إذا نسبها إلى الشرع: يكون كفراً، [أحد الحاضرين: أكبر أو أصغر؟!! فقال الشيخ:] أكبر؛ إذا نسبها إلى الشريعة، أما إذا لم ينسبها للشريعة مجرد قانون وضعه: فلا، ...)).                 
أحد الحاضرين!!: ما هو الفرق بين الحالة الخاصة في نازلة أو قضية معينة وبين أن يضع قانوناً عاماً للناس كلهم؟!
الشيخ: ((إذا نسبه للشرع: يكفر، أما إذا لم ينسبه للشرع ... : يكون كفر دون كفر)).
نفس السائل!!: ابن كثير في البداية والنهاية: نقل الإجماع على كفره كفراً أكبراً؟!.
الشيخ: ((لعلَّه إذا نسبها للشرع)).
نفس السائل!!: لا، قال: "مَنْ حكم بغير شريعة الله من الشرائع المنزَّلة المنسوخة: فهو كافر، فكيف بِمَنْ حكم بغير ذلك من آراء البشر!!: لاشك أنه ".
قاطعه الشيخ فقال: ((ابن كثير ليس بمعصوم، غلطان ...)).
السائل: هم يجعلونه بدل الشرع، يقولون: هو أحسن وهو أولى وأنسب من الأحكام الشرعية؟!!.
الشيخ: ((هذا قول المستحل!!، إذا قالوا: هذا الشيء أحسن من الشرع أو مثل الشرع: عندئذ يكون حكمه بغير ما أنزل الله كفراً أكبراً)).
السائل: الذين لا يُكفـِّرون الأشخاص وإنَّما يُكفِّرون النظام!!، أي يقولون:هذا النظام كافر، لكن لا نُكفِّر الأشخاص؟!
الشيخ: (( إذا استحل الحكم بغير ما أنزل الله كفر، ولو شخص يُعيَّن؛ إذ يكفر بلا شك، ويقال: فلان كافر؛ إذا استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو استحل الزنى يكفر بعينه، أما القتل [يقصد رحمه الله تعالى: قتل هذا الحاكم]  فشيء آخر، القتل يحتاج إلى استتابه)).
[هناك سؤالان غير واضحين لكثرة المتكلِّمين، وبعدهم عن سمَّاعة الصوت؛ لهذا يصعب كتابتهما].
ثم قال أحد الحاضرين: لأنَّ بعضهم يقول: عمر ترك الحدود في المجاعة؛ عام الرَّمادة؟!
الشيخ: ((لم يستحل؛ لأنَّه قد يضطر الإنسان إلى ...)).
المـُقَدِّم: ما الدليل على أنَّه كفر أصغر في قوله تعالى:) وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ( ، ما هو الصارف مع أنَّها جاءت بصيغة الحصر؟!!!!!!.
الشيخ: ((محمول على الاستحلال؛ على الأصح، وإن حُمِلَ على غير الاستحلال مثل ما قال ابن عباس نحملها على: كفر دون كفر، والأصل هم كافرون [يقصد رحمه الله تعالى: أنَّ الأصل في الآية أنَّها نزلت في الكفَّار])).
أحد الحاضرين: ما في دليل على أنه إلَّا يستحل هذا؟! ما الدليل على أنه كفر أصغر؟!!
المُقَدِّم يوضح : يعني يا شيخ؛ ما الذي جعلنا نصرف النص عن ظاهره؟!!!!.
الشيخ: ((لإنه مستحل، والآية في الكفار الذين حكموا بغير ما أنزل الله!!، حكموا ... وحكموا...، أما لو حكم زيد لعمرو لرشوة نقول: كَفَر [سائلاً بتعجب]؟!! [فأجاب نفسه] لا يكفر بهذا، أو حكم بقتل زيد بغير حق: لا يكفر بهذا)).
[مداخلة من أحد الحاضرين غير واضحة].
الشيخ يسأل: ((الزاني يكفر؟!)).
المُقَدِّم وأحد الحاضرين: لا يكفر.
الشيخ ((وإذا قالها يكفر؟ [يقصد رحمه الله تعالى: إذا قال أنَّ الزنى حلال يكفر])).
أجابا: كَفَر، ولو لم يزن.
فقال الشيخ: ((ولو لم يزن، خَلَص [انتهى])).
المُقَدِّم: عفا الله عنك؛ نرجع يا سماحة الوالد ] ومَنْ لم يحكم بما أنزل الله[  علق الحكم بترك الحكم!!؛ فما هو الدليل علـ؟!.
قاطعه الشيخ: ((يحكم بغير ما أنزل الله مستحل له، يُحمل على هذا)).   
المُقَدِّم نفسه: القيد هذا من وين جاء؟!!!!.
الشيخ: ((من الأدلة الأُخرى الدالة عليه، التي تدلّ على: أنَّ المعاصي لا يكفر صاحبها؛ إذا لم يستحله: لا يكون كافراً)).
[وهنا سكت الشيخ رحمه الله منتظراً جواباً أو تعليقاً أو سؤالاً فلم يظفر بشيء من ذلك فواصل كلامه:]
(( فاسق وظالم، وكافر: هذا إذا كان مستحل له، ... المقصود: أنَّه يكون على المستحل، أما إذا حكم بغير ما أنزل الله لهوى فيكون عاصياً مثل من زنى لهوى لا للاستحلال، عقّ والديه لهوى، قتل لهوى فيكون عاصياً، أما إذا قتل مستحلاً، عقَّ والديه مستحلاً لعقوقها، زنى مستحلاً: كفر، وبهذا ... عن الخوارج، يكون بيننا وبين الخوارج حينئذ متسع، ولا نقع بما وقع به الخوارج!!، [أراد أحد الحاضرين المداخلة فقال: حفظكم الله، فلم يأذن له الشيخ] ... مثل الإطلاقات هذه)).
المُقَدِّم: حفظكم الله؛ هذه المسألة قد تكون مشكلة عند كثير من الاخوان!!؛ فلا بأس لو أخذنا بعض.
قاطعه الشيخ: ((هذه مهمة، مهمة، عظيمة)).
السائل: ذكرتم مسألة تكفير العاصي فاعل الكبيرة؛ هذا ليس موضع خلاف؟!!
الشيخ: ((هذه هي مسألة الخوارج، وعلة الخوارج!!!))
[أراد السائل المداخلة بقوله: لا، فلم يستطع، ولم يأذن له الشيخ!!]
فواصل الشيخ كلامه: ((الاطلاقات هذه!!، تركوا المقيدات وأخذوا بالمطلقات، وكفَّروا الناس!!...)).
السائل: الزاني والسارق؟
الشيخ: ((يكفر عند الخوارج!!)).
السائل: عند الخوارج، لكن عند أهل السنة يقولون: هؤلاء عصاة.
الشيخ: ((نعم؛ ما لم يستحلوها)).
أحد الحاضرين!!: ما لم يستحلُّوها، إلاَّ أَنَّهم يرَون أنَّ هناك فرق بين مَنْ يفعل المعصية فنحكم بأنَّه مسلم فاسق أو ناقص الإيمان، وبين مَنْ يجعل المعصية قانوناً ملزماً للناس، لإنه يقولون: لا يتصور من كونه أبعد الشريعة وأقصاها وجعل بدلاً عنها قانوناً ملزماً، ولو قال: أنَّه لا يستحل؛ لا يتصور، إما أنه يستحله أو يرى أنه أفضل للناس أو ما أشبه ذلك!!، وأنَّه يفارق الذي حكم في قضية خاصة لقرابة أو لرشوة؟!!!.
الشيخ: (( لازم الحكم ليس بحكم، قاعدة: لازم الحكم ليس بحكم، قد يكون الذي حكم لهواه أو لقرابة، أنَّه مستحل... هذا بينه وبين الله، أما بينه وبين الناس: فإذا كانت هناك دولة مسلمة تستطيع أن تقاتِل هذا؛ لماذا لا يحكم بما أنزل الله؟!، يُقاتَل؛ مثل ما يُقاتَل مانع الزكاة إذا دافع عنها وقاتَل، يقاتَل قتال مرتدين؛ لإنَّ دفاعه عن الحكم بغير ما أنزل الله مثل دفاعه عن عدم إخراج الزكاة بل أكبر وأعظم يكون كافراً ، مثل ما ذكر الشيخ ...: قتاله يكون قتال المرتدين لا قتال العصاة إذا دافع وقاتل؛ ذكره رحمه الله في كتاب أظنَّه "السياسة" لا؛ في كتاب "فتح المجيد" في باب [أحد الحاضرين: "قتال التتر"] ...، فقتاله ليس مثل قتال المرتدين، فدفاعه عن المعصية مثل دفاع مانع الزكاة في عهد المرتدين سواء بسواء)).
السائل: حفظكم الله؛ الآن بالنسبة لمانع الزكاة إذا قاتل عليها قلنا: أنَّه يقاتَل قتال كفر، لإنَّ امتناعه وقتاله على ذلك دليل على جحد الوجوب؟
الشيخ مقاطعاً: ((نعم؛ لا شك إذا دافع عن الحكم بغير ما أنزل الله، وقال: لا أرجع، فدفاعه دفاع مستحل: يكون كافراً)).
أحد الحاضرين: هؤلاء [أي الحكَّام] مقطوعٌ بأنَّهم سيستميتون ...!!!
الشيخ: ((إذا وقع: كفروا، إذا قيل لهم: تحكموا بما أنزل الله وإلَّا قاتلناكم؟ فأبَوا: يَكفروا، هذا ظنِّي فيهم)).
أحد الحاضرين [بتعجب شديد]: هذا ظَنٌ!!!
الشيخ: ((بلا شك، [وضحك رحمه الله تعالى، وقال:] هذا ظنُ الشيخوخة ...، لكن يتورع الإنسان أن يقول هذا كافر إلّا إذا عرف أنَّه يستحل ...)).
أحد الحاضرين: لا إله إلا الله !!!.
الشيخ [بكلِّ هدوء وإطمئنان] يسأل المُقَدِّم: (( فـي أسئلة عندك؟ والّا خَلَص؟!)).
المُقَدِّم: نحن ننتظر الإذن مـنك!!!.
أحد الحاضرين: هذا البحث خلَاص [يقصد ليس فيه مجال للنقاش والأخذ والرد]؟!
الشيخ: ((هذا البحث لا يمنع من بحث آخر!!، كلُّ أحد يجتهد حتى يطمئنُّ قلبه، هذه المسائل خطيرة، وغير سهلة، هذه المسائل مهمَّة!!)).
المُقَدِّم: هل ترون المسألة يعني اجتهادية؟!!
الشيخ : ((والله أنا هذا الذي اعتقده من النصوص، ذكرها أهل العلم في ما يتعلق بالفَرق بين أهل السنة وبين الخوارج والمعتزلة؛ وبالخصوص الخوارج، وأنَّ فعل المعصية ليس بكفر إلا إذا استحلها أو دافع عنها بقتال!!)).
السائل: قلت سَلّمَكَ الله!!: إذا كوتبوا وطولبوا بالشريعة فلم يرجعوا يُحكم بكــ ؟!.
قاطعه الشيخ: ((إذا قاتلوا  بس [فقط]!!، أما إذا لم يقاتِلوا: فلا)).
السائل: فإن قَتَلوا؟!
وسائل آخر: إذا طولبوا بهذا، إذا طولبوا بهذا.
الشيخ مقاطعاً: (( ...، أمَّا إذا قاتَل دونها: يكفر)).
السائل: لكن الذي سيُطالِب ضعيف، وقد يقاتِل [أي الحاكم؛ لأنَّ الذي يقاتِله ضعيف]؟
الشيخ: ((ما يكفر إلا بهذا!!، ...))
السائل: لا، من طُولِب بالحكم بشرع الله فأبى؟!.
الشيخ: ((نعم؛ يقاتَل: فإن قاتَل كفر، وإن لم يقاتِل: لم يكفر؛ يكون حكمه حكم العصاة!!!)).
السائل : مَنْ الذي يقاتِله؟!!.
الشيخ: ((الدولة المسلمة!!)).
السائل: [الكلام غير واضح؛ ولعلَّه: فإذا لم يكن هناك دولة مسلمة تقاتِل؟].
الشيخ: ((يبقى على حاله!!)).
أحد الحاضرين [بتعجب شديد]: يبقى على حاله!!!.
الشيخ: ((الله المستعان)).
نفس المتعجب: متساهلين [مع ضحكة واضحة!!].
الشيخ: ((الله المستعان)).
السائل: سماحة الشيخ!!؛ الشيخ محمد بن إبراهيم يرحمه الله في رسالته ذكر: أنَّ الدول التي تحكم بالقانون دول كفرية يجب الهجرة منها؟!.
الشيخ: [كلامه قصير وغير واضح؛ ولعلَّه: طلب الاستفسار عن السؤال].
السائل: يحكمون بالقانون.
الشيخ: ((ذكر في رسالته رحمه الله: أنَّه يرى أنَّ هذا ظاهره الكفر؛ يعني أنَّ بعض القوانين دلَّ على رضى واستحلال؛ الله يسامحه، رحمه الله، لكن أنا الذي عندي متوقف، ما يكفي هذا، ما يكفي حتى يعرف أنَّه استحله، أمَّا مجرد أن حكم بغير ما أنزل الله أو أمر بذلك: لا يكفر بذلك، مثل الذي أمر بالحكم على فلان أو قتل فلان: ما يكفر بذلك حتى يستحله، السلطان لا يكفر بذلك ، ولو قتل ما قتل حتى يستحل!!؛ لأنَّه شبه.
وقَبل ذلك عبدالملك بن مروان ومعاوية وغيره لا يكفر بهذا لعدم الإستحلال، وقتل النُّفوس أعظم من الزِّنى، وأعظم من الحكم بغير ما أنزل الله لرشوة)).
السائل: الهجرة تتنوع؛ أنَّه مجرد وجوده في بلاد الكفر: لا يلزمه الهجرة ما لم.
قاطعه الشيخ: ((الهجرة فيها تفصيل ...)).
وبهذا تنتهي الأسئلة الخاصَّة بموضوع " حكم الحكَّام المبدلين لأحكام الشريعة "، ثم تنتقل الأسئلة حول: حكم المعتزلة؟، وحكم مَنْ يقول بخلق القرآن؟ وهل يكفر كفر عين؟، وتكفير رأس المعتزلة أحمد بن أبي دؤاد، والمأمون؟ والأجوبة فيها غير واضحة ...

وأخيراً:
فهذه هي صورة من صور التجرد للحق والثبات عليه، من هذا الإمام الهمام رحمه الله تعالى، وأنت ترى كيف صبر على القوم مع ضحكهم ونبزهم له!!، وكيف صبر على محاصرتهم ومنازعتهم جميعاً وكأنَّ قائلهم يقول: " فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى"!!؛ وكيف بيَّن رحمه الله تعالى أنَّ هذه المسألة – تكفير مَنْ يحكم بالقوانين الوضعية – من المسائل المهمَّة والخطيرة!!، وهي من المسائل التي فارق بها الخوارج والمعتزلة أهل السنة والجماعة!!، وكيف كان جوابه - لمّا ألحَّ السائل مستدلاً بكلام الإمام ابن كثير والشيخ محمد بن إبراهيم رحمهما الله تعالى - ممَّا يدلّ على تجرده للحق وثباته عليه من غير تردد ولا إرتياب!!.
ولعلَّ قائلاً يقول: ولماذا هذا الموضوع في هذا الوقت؟!
فأقول له: كتبت ذلك لأمرين اثنين:
الأول: أنَّه ينبغي علينا أن نسير على آثار أهل العلم وأن نحذوا حذوهم في ((التجرد للحق والثبات عليه)) لا نلتفت إلى مَنْ خالفنا أو مَنْ خذلنا وإن كانوا هم الأكثرين؛ فالحق أحق أن يتبع.
الثاني: ما نراه اليوم من جماعات التكفير والتفجير، والآثار المترتبة من عملياتهم التي لم يخلو منها بلد من بلدان المسلمين وخاصَّة في المملكة العربية السعودية بلد التوحيد والسنَّة؛ هذا البلد الذي ازدادت فيه نسبة هذه العمليات بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة.
وأكثرنا يعلم أنَّ هذه العمليات سببها تكفير الحكَّام وولاة الأمر مما يسوِّغ لمنفذي تلك العمليات ما يعملون؛ ولهذا كان علمائنا – ولا يزالون – يسعون لقطع الطريق عن تلك الجماعات من تحقيق مآربهم ومخططاتهم؛ لذا ترى هذا الموقف العظيم من هذا الإمام الجليل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى.
وليست هذه هي الصورة الوحيدة؛ بل هناك صور أخرى له ولغيره من علمائنا الأكابر ومشايخنا الأفاضل في هذا العصر
ضد القطبيين والسروريين والحزبيين والحركيين والتكفيريين والثوريين، فجزاهم الله خيراً على ما قدَّموه لهذا الدِّين.
نسأل الله تعالى أن يهدينا إلى الحق، وأن يثبتنا عليه، وأن يجنبنا شبهات أهل الأهواء.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك

 

أخوكم ومحبكم

أبو معاذ

21 ذو القعدة 1424

الموافق: 13/1/2004م