الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَنْ سار على نهجه إلى يوم الدِّين؛
أما بعد:
فإنَّ
من أفضل الأعمال الصالحة عند الله عزَّ وجل، وأثقلها
في ميزان العبد، وأعظمها في معرفة قدره ومنزلته في الدنيا والآخرة، وأحسن ما تبذل فيه
الأوقات، هو طلب العلم وتعليمه، قال تعالى: ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا
يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ))، وقال سبحانه: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ))،
وقال: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))،
وقال عزَّ وجلَّ: ((وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ
إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ))، وقال تبارك وتعالى: ((وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ))، وقال: ((مَنْ
يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ))، وقال: ((إِنَّ
اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ))، وقال: ((فَضْلُ
العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ
وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ
لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ))، وقال: ((مَنْ
سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ،
وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ
طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ
فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى
سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ
لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ
أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ))،
وقال: ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ
مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ
دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ
يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا))، وقال: ((إِذَا
مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ
جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ))، وقال أبو الدرداء
رضي الله عنه: (تعلَّموا قبل أن يقبض العلم، فإنَّ
قبض العلم قبض العلماء، وإنَّ العالم والمتعلِّم في الأجر سواء)، وقال وهب
بن منبه رحمه الله تعالى: (مجلس يتنازع فيه العلم أحب
إلي من قدره صلاة، لعل أحدهم يسمع الكلمة فينتفع بها سنة أو ما بقي من عمره)،
وقال أحد السلف: (ما من شيء إلا وقد علمتُ منه إلا
أشياءَ صغاراً كنتُ أستحي أن يُرى مثلي يَسأل عن مثلها فبقى جهالتها فيَّ إلى الساعة)،
وقال مجاهد رحمه الله تعالى: (لا يتعلمُ العلم مستحي
ولا مستكبر)، وقال وكيع رحمه الله تعالى: (لا
ينبل الرجل حتى يكتب عمَّن هو فوقه ومن هو مثله ومن هو دونه)، وقال الهلال
بن العلاء رحمه الله: (طلب العلم شديد، وحفظه أشد من
طلبه، والعمل به أشد من حفظه، والسلامة منه أشد من العمل به))، وقال عبدالله
بن المبارك رحمه الله: (أول العلم النيَّة، ثم الاستماع،
ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر)، وغيرها من الآيات والأحاديث والآثار في بيان فضل العلم والتعلم والتعليم،
وهي كثيرة معلومة.
لكنَّ
العلم نوعان، علم يُنتفع به وعلم لا ينتفع به، قال تعالى: ((وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((سَلوا اللهَ علماً نافعاً، وتعوَّذوا باللهِ من علمٍ لا
ينفع)) رواه ابن أبي شيبة وابن ماجه وابن حبان وغيرهم.
وقد ضرب الله عزَّ وجل لنا مثلين في بيان مَنْ لم ينتفع بما يحمله من علم ومَنْ يعمل
بخلاف علمه؛ فقال في الأول:
((مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ
يَحْمِلُ أَسْفَارًا))،
وقال في الثاني: ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ
مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى
الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ
يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث))،
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره
إلى السماء ثم قال: ((هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ العِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لاَ
يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ)) فقال زياد بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه: كيف يختلس
العلم منا، وقد قرأنا القرآن؟! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال صلى
الله عليه وسلم: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا
زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ
وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟!))، ومعلوم أنَّ أوَّل مَنْ تسعَّر بهم النار ثلاثة أصناف من
الناس، منهم: ((وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ
وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا،
قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ
فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ،
وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ
عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِى النَّارِ)).
والعلم
النافع له ثماره وآثاره، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: (قد
كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه وبصره وبره)، وقال
العلامة ابن القيم رحمه الله في [مفتاح دار السعادة 1/169]: ((وللعلم ستُّ مراتب: أولها
حسن السؤال، الثانية حسن الانصات والاستماع، الثالثة حسن الفهم، الرابعة الحفظ، الخامسة
التعليم، السادسة وهي ثمرته: وهي العمل به ومراعاة حدوده)).
ومن ثمار العلم النافع:
- التعرف إلى الله عزَّ وجل بأسمائه وصفاته
وأفعاله وربوبيته وإلوهيته؛ قال تعالى: ((فاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)).
- خشية الله تبارك وتعالى وهي رأس العلم؛
قال تعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)).
-
الهداية إلى الصراط المستقم؛ قال تعالى: ((يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ
يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيَّاً)).
-
معرفة الحق؛ قال تعالى: ((وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ
لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)).
-
الخلاص من الشبهات؛ قال تعالى: ((فَأَمَّا
الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ)).
-
النجاة من الفتن؛ قال تعالى: ((وَإِذَا
جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ
مِنْهُمْ)).
-
الصبر عند الابتلاء؛ قال تعالى: ((وَكَيْفَ
تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)).
وتعلُّم
هذا العلم النافع أو تعليمه قد يدخل فيه ما يفسده أو ينقصه؛ إما لخلل في التجرد والإخلاص
أو لزلل في الفهم والإتباع، فتنشئ بسبب ذلك آثار سيئة وعواقب وخيمة، ويصبح هذا العلم
وبالاً على أهله سواء كانوا معلِّمين أو متعلِّمين، ويحدث بينهم الاختلاف والفرقة،
وتثار فيهم الفتنة والعداوة والبغضاء، وتتمزق الكلمة ويتصدَّع الصف، ويظهر التعصب والتحزب
للأشخاص.
إنَّ
الناظر في أحوال بعض طلبة العلم والدعاة المعاصرين وما يقومون به من تربية حزبية لأصحابهم
وطلابهم من خلال عدم السماح للاعتراض عليهم إنْ غلطوا ولو كان الاعتراض بعلم وعدل وأدب،
أو التسخط وعدم الرضى للرد عليهم أو انتقادهم في بعض كتاباتهم ومسالكهم المخالفة لمنهج
السلف الصالح، أو عدم القبول لرفض بعض مواقفهم وأحكامهم المبنية على الأباطيل والظن
وما تهوى الأنفس، أو قيام مبدأ الولاء والبراء من أجل شخوصهم وضد خصومهم، مَنْ يلاحظ
ذلك يعلم يقيناً أنَّ هذا العلم لا ينفع صاحبه ولا ينتفع به طالبه.
وكم
كان طلبة العلم الصادقين ولا زالوا يعانون من أمثال هؤلاء المعلِّمين والمتعلِّمين
وآثارهم السيئة في الساحة الدعوية؟ بل يعلمون أنَّ أمثال هؤلاء لا يفرح بكثرتهم ولا
بتكاثرهم حول مَنْ يعظِّمونهم لأنهم غثاء كغثاء السيل وجهودهم تذهب هباء لا تسمن ولا
تغني من جوع، وقد يكون ضررهم أشد من ضرر المخالفين، لأنَّ هؤلاء يظهرون الدعوة السلفية
بوجه قبيح مما يؤدي إلى نفرة الناس من أهل العلم والحق والصدق الذين يسعون إلى تربية
الناس على تعظيم الدليل والانقياد إليه وعدم التعصب لأحد ولا التحزب على أحد.
لهذا
كان السعي لإصلاح الخلل من داخل الصف الواحد والمنهج الواحد من أهم واجبات هذا الوقت،
من أجل الحفاظ على صفاء هذه الدعوة ونقاء هذا المنهج على ما كان عليه في زمن السلف
الصالح، وهذا لا يكون إلا من خلال توجيه نصيحة إلى هؤلاء المعلِّمين والمتعلِّمين أن
يتقوا الله في أنفسهم ودعوتهم وإخوانهم، وأن يحرصوا غاية الحرص على لزوم الجماعة ونبذ
الفرقة، وأن يكون تعليمهم لهذا العلم أو تعلمهم لوجه الله عزَّ وجلَّ لا يبتغون به
رئاسة ولا صدارة ولا علواً ولا سمعة ولا رياء، ولا يريدون به شكراً ولا جزاء، ولا يطلبونه
لمجارة العلماء أو مماراة السفهاء أو لصرف الناس إليهم، ولا يشترون به ثمناً قليلاً
ولا متاعاً حقيراً، وإنما يطلبون العلم لإعلاء كلمة الله ونصرة دين الله ودعوة الناس
إلى الحق الذي أنزل الله ودعا إليه الرسل، يطلبون العلم لإظهار التوحيد والسنة وقمع
الشرك والبدعة، يطلبون العلم ليجاهدوا بألسنتهم وأقلامهم الذين يقولون ما لا يعلمون
ويعملون ما لا يؤمرون، يطلبون العلم لينفوا عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين
وتأويل الجاهلين، فهذه هي غايتهم في طلب العلم وتعليمه.
والنصائح
والتوجيهات والرسائل في إصلاح هذا الخلل الواقع قديماً وحديثاً في صفوف المتعلمين كثيرة،
لكن من أروع ما وقعت عليه عيني منذ زمن بعيد: جواب للشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تعالى في مجموعه، ويعدُّ هذا الجواب من أحسن النصائح لهذه الفئة من الناس، الذي بصلاحها
ينصلح الناس وبفسادها يفسدون، لأنهم الدعاة والمصلحون والآمرون بالمعروف والناهون عن
المنكر، وهم أمل هذه الأمة - بعد الله عزَّ وجل -
في عودة عزها ومجدها وقوتها وتمكينها في الارض.
لهذا
أحببتُ في هذه الرسالة الموجزة أن أنشر هذه النصيحة القيمة من هذا الإمام الرباني بطولها
لما فيها من فوائد مهمة وتوجيهات جمَّة؛ لعلَّ طلبة العلم وطلابهم يتأملون فيها ويعملون
بها، فيتغير هذا الواقع المؤلم الحاصل بينهم، فتتبدل الفرقة بالوحدة والاجتماع، والعداوة
بالموالاة والألفة، والبغضاء بالمحبة والإخاء، والتحزب والتقاطع بالتعاون على الخير
والتواصل في نصرة الحق، والتحاسد والبغي والظلم بالتنافس على الهدى والمسارعة في المعروف
ونصرة المظلوم وردع الظالم، إلى غيرها من المعاني.
وهي
نصيحة واضحة المعاني ظاهرة الفوائد لا تحتاج إلا إلى التنبيه والتذكير بها فحسب، والله
تعالى يقول: ((وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى
تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ))،
ويقول في موضع آخر: ((فَذَكِّرْ
إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى)).
نصيحة شيخ الإسلام رحمه الله إلى المعلِّمين والمتعلِّمين
سُئل
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى سؤالاً مطولاً يشتمل على عدة مسائل كما في
[المجموع 28/7-25]، وكان من ضمنها قول السائل:
((وَهَلْ
يَحِلُّ لِلْأُسْتَاذِ الثَّانِي أَنْ يَقْبَلَ هَذَا الْمُنْتَقِلَ [الذي انتقل من
المعلِّم الأول إلى الثاني] وَيُعَزِّرَهُ عَلَى جَحْدِهِ لِمُعَلِّمِهِ؟
وَإِذَا
قَالَ الْمُنْتَقِلُ: أَنَا أَنْتَمِي إلَى فُلَانٍ تَعْلِيمًا وَتَخْرِيجًا، وَإِلَى
فُلَانٍ إفَادَةً وَتَفْهِيمًا؛ هَلْ يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟
وَهَلْ
لِلْمُبْتَدِئِ أَنْ يَقُومَ فِي وَسَطِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأُسْتَاذَيْنِ والمتعلِّمين
وَيَقُولَ: يَا جَمَاعَةَ الْخَيْرِ؛ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَسْأَلُكُمْ أَنْ
تَسْأَلُوا فُلَانًا أَنْ يَقْبَلَنِي أَنْ أَكُونَ لَهُ أَخًا أَوْ رَفِيقًا أَوْ
غُلَامًا أَوْ تِلْمِيذًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَيَقُومَ أَحَدُ الْجَمَاعَةِ
فَيَأْخُذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ، وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُهُ، وَيَشُدَّ وَسَطَهُ
بِمَنْدِيلِ أَوْ غَيْرِهِ: فَهَلْ يَسُوغُ هَذَا الْفِعْلُ أَمْ لَا؟ لِمَا يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَامَاةِ وَالْعَصَبِيَّةِ لِأُسْتَاذٍ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ لِكُلِّ
مِنْ الْأُسْتَاذَيْنِ إخْوَانٌ وَرُفَقَاءُ وَأَحْزَابٌ وَتَلَامِذَةٌ؛ يَقُومُونَ
مَعَهُ إذَا قَامَ بِحَقِّ أَوْ بَاطِلٍ، وَيُعَادُونَ مَنْ عَادَاهُ وَيُوَالُونَ
مَنْ وَالَاهُ)).
فأجاب
رحمه الله تعالى جواباً مفصلاً مبسوطاً يُعدُّ من أفضل ما كتب في نصح المشايخ وطلبة
العلم الذين يعلِّمون الناس دينهم، قال فيه:
((وَعَلَى
الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يُحْسِنَ نِيَّتَهُ فِي ذَلِكَ وَيَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ
تَعَالَى.
وَعَلَى
الْمُعَلِّمِ أَنْ يَنْصَحَ لِلْمُتَعَلِّمِ وَيَجْتَهِدَ فِي تَعْلِيمِهِ.
وَعَلَى
الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَعْرِفَ حُرْمَةَ أُسْتَاذِهِ وَيَشْكُرَ إحْسَانَهُ إلَيْهِ؛
فَإِنَّهُ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ، وَلَا يَجْحَدَ حَقَّهُ
وَلَا يُنْكِرَ مَعْرُوفَهُ.
وَعَلَى
الْمُعَلِّمِينَ أَنْ يَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى كَمَا
أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا
يَظْلِمُهُ"، وَقَوْلِهِ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ
كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ
الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ"، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ
حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ"، وَقَوْلِهِ: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ
بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ"، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَبَاغَضُوا
وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا" وَهَذَا كُلُّهُ فِي الصَّحِيحِ، وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؟"
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ؛ فَإِنَّ
فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ؛ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ
تَحْلِقُ الدِّينَ"،
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ
وَخَمِيسٍ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا؛ إلَّا رَجُلًا
كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ؛ فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى
يَصْطَلِحَا"،
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ
ثَلَاثٍ؛ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ
بِالسَّلَامِ".
وَلَيْسَ
لِأَحَدِ مِنْ الْمُعَلِّمِينَ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى الْآخَرِ وَلَا يُؤْذِيَهُ بِقَوْلِ
وَلَا فِعْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا".
وَلَيْسَ
لِأَحَدِ أَنْ يُعَاقِبَ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا تَعَدِّي حَدٍّ وَلَا تَضْيِيعِ
حَقٍّ، بَلْ لِأَجْلِ هَوَاهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الظُّلْمِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيمَا رَوَى عَنْهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا
عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا
فَلَا تَظَالَمُوا".
وَإِذَا
جَنَى شَخْصٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقَبَ بِغَيْرِ الْعُقُوبَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَلَيْسَ
لِأَحَدِ مِنْ الْمُتَعَلِّمِينَ وَالْأُسْتَاذَيْنِ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِمَا يَشَاء،ُ
وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَاوِنَهُ وَلَا يُوَافِقَهُ عَلَى ذَلِكَ: مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَ
بِهَجْرِ شَخْصٍ فَيَهْجُرَهُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ يَقُولَ: أَقْعَدْته
أَوْ أَهْدَرْته أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا يَفْعَلُهُ القساقسة
وَالرُّهْبَانُ مَعَ النَّصَارَى، والحزابون مَعَ الْيَهُودِ، وَمِنْ جِنْسِ مَا يَفْعَلُهُ
أَئِمَّةُ الضَّلَالَةِ وَالْغَوَايَةِ مَعَ أَتْبَاعِهِمْ، وَقَدْ قَالَ الصِّدِّيقُ
الَّذِي هُوَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ:
"أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ فَإِنْ عَصَيْتُ اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي
عَلَيْكُمْ"، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ"، وَقَالَ: "مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِيعُوهُ".
فَإِذَا
كَانَ الْمُعَلِّمُ أَوْ الْأُسْتَاذُ قَدْ أَمَرَ بِهَجْرِ شَخْصٍ أَوْ بِإِهْدَارِهِ
وَإِسْقَاطِهِ وَإِبْعَادِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ نُظِرَ فِيهِ:
فَإِنْ
كَانَ قَدْ فَعَلَ ذَنْبًا شَرْعِيًّا عُوقِبَ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ بِلَا زِيَادَةٍ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا شَرْعِيًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَاقَبَ بِشَيْءِ
لِأَجْلِ غَرَضِ الْمُعَلِّمِ أَوْ غَيْرِهِ.
وَلَيْسَ
لِلْمُعَلِّمِينَ أَنْ يحزِّبوا النَّاسَ، وَيَفْعَلُوا مَا يُلْقِي بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ، بَلْ يَكُونُونَ مِثْلَ الْإِخْوَةِ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: "وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ".
وَلَيْسَ
لِأَحَدِ مِنْهُمْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أَحَدٍ عَهْدًا بِمُوَافَقَتِهِ عَلَى كُلِّ
مَا يُرِيدُهُ، وَمُوَالَاةِ مَنْ يُوَالِيهِ، وَمُعَادَاةِ مَنْ يُعَادِيهِ، بَلْ
مَنْ فَعَلَ هَذَا: كَانَ مَنْ جِنْسِ جنكيزخان وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ
مَنْ وَافَقَهُمْ صَدِيقًا مُوَالِيًا وَمَنْ خَالَفَهُمْ عَدُوًّا بَاغِيًا.
بَلْ
عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَتْبَاعِهِمْ عَهْدُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ، وَيَفْعَلُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَيُحَرِّمُوا مَا
حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَرْعَوْا حُقُوقَ الْمُعَلِّمِينَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ.
فَإِنْ
كَانَ أُسْتَاذُ أَحَدٍ مَظْلُومًا نَصَرَهُ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا لَمْ يُعَاوِنْهُ
عَلَى الظُّلْمِ؛ بَلْ يَمْنَعُهُ مِنْهُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا" قِيلَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟! قَالَ:
"تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ".
وَإِذَا
وَقَعَ بَيْنَ مُعَلِّمٍ وَمُعَلِّمٍ، أَوْ تِلْمِيذٍ وَتِلْمِيذٍ، أَوْ مُعَلِّمٍ
وَتِلْمِيذٍ، خُصُومَةٌ وَمُشَاجَرَةٌ، لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ أَنْ يُعِينَ أَحَدَهُمَا
حَتَّى يَعْلَمَ الْحَقَّ، فَلَا يُعَاوِنُهُ بِجَهْلِ وَلَا بِهَوَى، بَلْ يَنْظُرُ
فِي الْأَمْرِ:
فَإِذَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ أَعَانَ الْمُحِقَّ مِنْهُمَا عَلَى الْمُبْطِلِ سَوَاءٌ كَانَ
الْمُحِقُّ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ أَصْحَابِ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُبْطِلُ
مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ أَصْحَابِ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ: عِبَادَةَ اللَّهِ
وَحْدَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِه، وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ وَالْقِيَامَ بِالْقِسْطِ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: "يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ
عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا"، يُقَالُ: لَوَى يَلْوِي لِسَانَهُ: فَيُخْبِرُ بِالْكَذِبِ،
وَالْإِعْرَاضُ: أَنْ يَكْتُمَ الْحَقَّ، فَإِنَّ السَّاكِتَ عَنْ الْحَقِّ شَيْطَانٌ
أَخْرَسُ.
وَمَنْ
مَالَ مَعَ صَاحِبِهِ - سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ - فَقَدْ حَكَمَ
بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَالْوَاجِبُ
عَلَى جَمِيعِهِمْ أَنْ يَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً مَعَ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ،
فَيَكُونَ الْمُعَظَّمُ عِنْدَهُمْ مَنْ عَظَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالْمُقَدَّمُ
عِنْدَهُمْ مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالْمَحْبُوبُ عِنْدَهُمْ مَنْ أَحَبَّهُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالْمُهَانُ عِنْدَهُمْ مَنْ أَهَانَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ،
بِحَسَبِ مَا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ، فَإِنَّهُ مَنْ
يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ
لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ، فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِمْ اعْتِمَادُهُ.
وَحِينَئِذٍ
فَلَا حَاجَةَ إلَى تَفَرُّقِهِمْ وَتَشَيُّعِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:
"إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ"، وَقَالَ تَعَالَى: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ".
وَإِذَا
كَانَ الرَّجُلُ قَدْ عَلَّمَهُ أُسْتَاذٌ عَرَفَ قَدْرَ إحْسَانِهِ إلَيْهِ وَشَكَرَهُ،
وَلَا يَشُدُّ وَسَطَهُ لَا لِمُعَلِّمِهِ وَلَا لِغَيْرِ مُعَلِّمِهِ، فَإِنَّ شَدَّ
الْوَسَطِ لِشَخْصِ مُعَيَّنٍ وَانْتِسَابَهُ إلَيْهِ كَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ:
مِنْ بِدَعِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِنْ جِنْسِ التَّحَالُفِ الَّذِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ
يَفْعَلُونَهُ، وَمِنْ جِنْسِ تَفَرُّقِ قَيْسٍ وَيُمَنِّ.
فَإِنْ
كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الشَّدِّ وَالِانْتِمَاءِ: التَّعَاوُنَ عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى؛ فَهَذَا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ بِدُونِ
هَذَا الشَّدِّ.
وَإِنْ
كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ: التَّعَاوُنَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؛ فَهَذَا قَدْ
حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
فَمَا
قُصِدَ بِهَذَا مِنْ خَيْرٍ فَفِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ اسْتِغْنَاءٌ
عَنْ أَمْرِ الْمُعَلِّمِينَ، وَمَا قُصِدَ بِهَذَا مِنْ شَرٍّ فَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ.
فَلَيْسَ
لِمُعَلِّمِ أَنْ يُحَالِفَ تَلَامِذَتَهُ عَلَى هَذَا، وَلَا لِغَيْرِ الْمُعَلِّمِ
أَنْ يَأْخُذَ أَحَدًا مِنْ تَلَامِذَتِهِ لِيُنْسَبُوا إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْبِدْعِيِّ
لَا ابْتِدَاءً وَلَا إفَادَةً، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْحَدَ حَقَّ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ،
وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ إفَادَةِ التَّعَلُّمِ مِنْ غَيْرِهِ،
وَلَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَقُولَ: شُدَّ لِي وَانْتَسِبْ لِي دُونَ مُعَلِّمِك الْأَوَّلِ.
بَلْ
إنْ تَعَلَّمَ مِنْ اثْنَيْنِ: فَإِنَّهُ يُرَاعِي حَقَّ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَا يَتَعَصَّبُ
لَا لِلْأَوَّلِ وَلَا لِلثَّانِي، وَإِذَا كَانَ تَعْلِيمُ الْأَوَّلِ لَهُ أَكْثَرَ
كَانَتْ رِعَايَتُهُ لِحَقِّهِ أَكْثَرَ.
وَإِذَا
اجْتَمَعُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مَعَ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ بَلْ يَكُونُ كُلُّ شَخْصٍ مَعَ
كُلِّ شَخْصٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا يَكُونُونَ مَعَ أَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَكُلِّ
مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
وَلَا
يَتَعَاوَنُونَ لَا عَلَى ظُلْمٍ وَلَا عَصَبِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ وَلَا اتِّبَاعِ الْهَوَى
بِدُونِ هُدَى مِنْ اللَّهِ وَلَا تَفَرُّقٍ وَلَا اخْتِلَافٍ، وَلَا شَدِّ وَسَطٍ
لِشَخْصِ لِيُتَابِعَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُحَالِفَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ.
وَحِينَئِذٍ
فَلَا يَنْتَقِلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ إلَى أَحَدٍ وَلَا يَنْتَمِي أَحَدٌ لَا لَقِيطًا
وَلَا ثَقِيلًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ.
فَإِنَّ
هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا وَلَّدَهَا كَوْنُ الْأُسْتَاذِ يُرِيدُ أَنْ يُوَافِقَهُ
تِلْمِيذُهُ عَلَى مَا يُرِيدُ؛ فَيُوَالِيَ مَنْ يُوَالِيهِ وَيُعَادِيَ مَنْ يُعَادِيهِ
مُطْلَقًا، وَهَذَا حَرَامٌ، لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ أَحَدًا، وَلَا يُجِيبَ
عَلَيْهِ أَحَدًا، بَلْ تَجْمَعُهُمْ السُّنَّةُ وَتُفَرِّقُهُمْ الْبِدْعَةُ، يَجْمَعُهُمْ
فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَتُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ، حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ أَهْلَ طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ أَهْلَ مَعْصِيَةِ
اللَّهِ، فَلَا تَكُونُ الْعِبَادَةُ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا الطَّاعَةُ
الْمُطْلَقَةُ إلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَا
رَيْبَ أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا عَلَى عَادَتِهِمْ الْجَاهِلِيَّةِ - أَيْ مَنْ عَلَّمَهُ
أُسْتَاذٌ كَانَ مُحَالِفًا لَهُ - كَانَ الْمُنْتَقِلُ عَنْ الْأَوَّلِ إلَى الثَّانِي
ظَالِمًا بَاغِيًا، نَاقِضًا لِعَهْدِهِ غَيْرَ مَوْثُوقٍ بِعَقْدِهِ، وَهَذَا أَيْضًا
حَرَامٌ وَإِثْمُ، هَذَا أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ فِعْلِهِ،
بَلْ مِثْلُ هَذَا إذَا انْتَقَلَ إلَى غَيْرِ أُسْتَاذِهِ وَحَالَفَهُ كَانَ قَدْ
فَعَلَ حَرَامًا، فَيَكُونُ مِثْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ الْمَيِّتِ، فَإِنَّهُ لَا
بِعَهْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْفَى، وَلَا بِعَهْدِ الْأَوَّلِ؛ بَلْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ
الْمُتَلَاعِبِ الَّذِي لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا دِينَ لَهُ وَلَا وَفَاءَ.
وَقَدْ
كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُحَالِفُ الرَّجُلُ قَبِيلَةً، فَإِذَا وَجَدَ أَقْوَى
مِنْهَا نَقَضَ عَهْدَ الْأُولَى وَحَالَفَ الثَّانِيَةَ؛ وَهُوَ شَبِيهٌ بِحَالِ هَؤُلَاءِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَا
تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ
كَفِيلًا إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ"، "وَلَا
تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ
أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ
إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ"،
"وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"،
"وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا
بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ".
وَعَلَيْهِمْ
أَنْ يَأْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَيَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَدَعُوا
بَيْنَهُمْ مَنْ يُظْهِرُ ظُلْمًا أَوْ فَاحِشَةً، وَلَا يَدَعُوا صَبِيًّا أَمْرَدَ
يَتَبَرَّجُ أَوْ يُظْهِرُ مَا يَفْتِنُ بِهِ النَّاسَ، وَلَا أَنْ يُعَاشِرَ مَنْ
يُتَّهَمُ بِعِشْرَتِهِ، وَلَا يُكْرَمَ لِغَرَضِ فَاسِدٍ.
وَمَنْ
حَالَفَ شَخْصًا عَلَى أَنْ يُوَالِيَ مَنْ وَالَاهُ وَيُعَادِيَ مَنْ عَادَاهُ كَانَ
مِنْ جِنْسِ التتر الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ
مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ،
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ
مِنْ عَسْكَرِ الشَّيْطَانِ.
وَلَكِنْ
يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ لِتِلْمِيذِهِ: عَلَيْك عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ أَنْ تَوَالِيَ
مَنْ وَالَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَتُعَادِيَ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَتُعَاوِنَ
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَا تُعَاوِنَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِذَا
كَانَ الْحَقُّ مَعِي نَصَرْت الْحَقَّ، وَإِنْ كُنْتُ عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ تَنْصُرْ
الْبَاطِلَ، فَمَنْ الْتَزَمَ هَذَا كَانَ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
تَعَالَى؛ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَتَكُونَ كَلِمَةُ
اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً وَيُقَاتِلُ
حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
فَإِذَا
كَانَ الْمُجَاهِدُ الَّذِي يُقَاتِلُ حَمِيَّةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ يُقَاتِلُ رِيَاءً
لِلنَّاسِ لِيَمْدَحُوهُ أَوْ يُقَاتِلُ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّجَاعَةِ: لَا يَكُونُ
قِتَالُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يُقَاتِلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ
اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ فَكَيْفَ مَنْ يَكُونُ أَفْضَلُ تَعَلُّمِهِ صِنَاعَةَ الْقِتَالِ
مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسٍ فَاسِدٍ لِيُعَاوِنَ شَخْصًا مَخْلُوقًا عَلَى شَخْصٍ مَخْلُوقٍ؟!
فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْجُهَلَاءِ، والتتر الْخَارِجِينَ
عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ
الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَزْجُرُهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّفَرُّقِ
وَالِاخْتِلَافِ؛ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ،
يَكُونُونَ قَائِمِينَ بِالْقِسْطِ، يُوَالُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُحِبُّونَ لِلَّهِ
وَيُبْغِضُونَ لِلَّهِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ...
إلى أن قال:
وَالْجِهَادُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَقْصُودُهُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْ تَكُونَ
كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.
وَجِمَاعُ
الدِّينِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا:
أَنْ لَا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى.
وَالثَّانِي:
أَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَّعَ لَا نَعْبُدُهُ بِالْبِدَعِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"، قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ: "أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ"،
قِيلَ لَهُ: مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ قَالَ: "إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ
خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ
خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ؛ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ: أَنْ يَكُونَ
لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ"، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا،
وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا".
وَهَذَا
هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ،
وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ كَانَ مُسْتَكْبِرًا
عَنْ عِبَادَتِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: "إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ"،
وَمَنْ اسْتَسْلَمَ لِلَّهِ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: "إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ"... إلى أن قال:
فَالْحَلَالُ
مَا حَلَّلَهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدِ
مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْمُلُوكِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُعَلِّمِينَ وَسَائِرِ
الْخَلْقِ خُرُوجٌ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ أَنْ يَدِينُوا بِدِينِ
الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَيَدْخُلُوا بِهِ كُلُّهُمْ فِي
دِينِ خَاتَمِ الرُّسُلِ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ خَيْرِ الْخَلْقِ
وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
وَكُلُّ
مَنْ أَمَرَ بِأَمْرِ كَائِنًا مَنْ كَانَ عُرِضَ عَلَى كِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَإِنْ
وَافَقَ ذَلِكَ قُبِلَ وَإِلَّا رُدَّ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ
رَدٌّ"، أَيْ: فَهُوَ مَرْدُودٌ.
فَإِذَا
كَانَ الْمَشَايِخُ وَالْعُلَمَاءُ فِي أَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ - الْمَعْرُوفُ
وَالْمُنْكَرُ وَالْهَدْيُ وَالضَّلَالُ وَالرَّشَادُ وَالْغَيُّ - عَلَيْهِمْ أَنْ
يَرُدُّوا ذَلِكَ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ؛ فَيَقْبَلُوا مَا قَبِلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ،
وَيَرُدُّوا مَا رَدَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَكَيْفَ بِالْمُعَلِّمِينَ وَأَمْثَالِهِمْ؟!
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا"، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا
الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
فَنَسْأَلُ
اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ؛
صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ)).
خاتمة:
فهذا
آخر ما جاء في هذه النصيحة المفيدة، نسأل الله تعالى أن يعيننا على إدراكها والعمل
بها والدعوة إليها، لعلَّ الله عزَّ وجلَّ يدفع عنا تحريش الشيطان وبطانة السوء وأهل
الشر الذين يسعون بكل سبيل خبيث في إفساد ذات البين والتفريق بين المتحابين، وقد قال
صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ
الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ
فِى التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)) رواه
مسلم وغيره، وقال صلى الله عليه ولم لأصحابه: "أَفَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟" قَالُوا: بَلَى،
قَالَ: ((الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ
الْبُرَآءَ الْعَنَتَ))
راوه أحمد والبزار والبخاري في الأدب المفرد، والله الموفِّق.
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.