الجمعة، 18 يناير 2013

الإيضـاح والتبسيـط فـي بيـان حكـم البيع بالتقسيط


ملاحظة/  شاركتُ في حوار علمي لم يكتمل في أحد المواقع الإسلامية حول موضوع ((بيع التقسيط))، ورأيتُ من الفائدة العلمية تدوينه مع شيء من الترتيب والجمع والتفصيل؛ وذلك لأهمية هذا الموضوع، ثم لشيوع هذا النوع من البيع بين أوساط الناس؛ حتى صار البيع بالآجل أحد مظاهر هذا العصر، بل بسبب تراكم الديون وجشع المرابين صار كثير من الناس من الغارمين الذين لا يجدون مَنْ يدفع عنهم الدَّين، بل مات منهم الكثير وهم غارقون في ديونهم، وصعد أُناس آخرون على رقاب أولئك حتى صار المال دولة بينهم. 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإنَّ التفريق بين البيع الحلال والبيع الحرام وبالأخص الربا مطلب شرعي لا بد من مراعاته وبيانه أتم البيان؛ وفي ذلك يقول الله عزَّ وجل في محكم التنزيل: (قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وتحريم ما أحلَّ الله عزَّ وجلَّ لعباده وتحليل ما حرَّمه عليهم سواء في الإثم؛ لهذا كان الواجب الرجوع في معرفة الحلال والحرام إلى مَنْ له حق التشريع؛ وهو الله عزَّ وجل، لا إلى قول بعض البشر ولو كثروا ما دام أنه لم يتحقق الإجماع في ذلك؛ قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ)، وقال سبحانه: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، وقد سمع عدي بن حاتم رضي الله عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية فقال له: يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم؟! فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (أجل؛ ولكن يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه؛ فتلك عبادتهم لهم).
ومما تنازع فيه الناس بين التحليل والتحريم بيع التقسيط الذي اشتهر في العصور المتأخرة؛ فمن أهل العلم مَنْ ذهب إلى إباحته، ومنهم مَنْ قال بتحريمه.

محل الخلاف:
ولا بد - قبل الخوض في عرض مسالك الفريقين ومناقشة استدلالاتهم - أن نوضِّح للقارئ صورة المسألة المتنازع فيها؛ لأنه قد وقع لبس عند بعض الناس في ذلك، فظنَّ البعض أنَّ أصحاب القول الأول يبيحون التعامل بالقسط في كل صور البيوع!!، وبالمقابل ظنَّ البعض الآخر أنَّ أصحاب القول الثاني يُحرِّمون التعامل بالقسط مطلقاً!!، بل وممن خاض في مناقشة هذا الموضوع مَنْ التبس عليه الأمر وصار يستدل على مخالفه في غير محل النزاع؛ فتعين إيضاح المسألة وبسط القول فيها.
ومن المعلوم أنَّ الأصل في البيوع أن يكون البيع بمبيع معجَّل وثمن معجَّل؛ لكـن قد يطرأ أمر على البائع يجعله يؤجِّل تسليم المبيع أو على المشتري يجعله يؤجِّل دفع الثمن أو عليهما معاً.
فأما الأول فهو بيع السلم أو السلف؛ وهو على خلاف الأصول في البيع ولكـنَّ الشارع رخَّص به فقد أخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يسلفون، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أسلف فلا يسلف إلا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم))، فالمؤجَّل في هذه الصورة هو المبيع وليس الثمن، وهذا جائز بالنص والإجماع بالشروط المذكورة في الحديث، بالإضافة إلى شرطين آخرين؛ وهما أن يكون الثمن معجَّلاً، وأن لا يكون البيع في الدور والأراضي كما ذكر ذلك أهل العلم.
وأما الثاني فسنتكلَّم عنه بعد بيان الصورة الثالثة؛ وهي إذا كان كل من المبيع والثمن مؤجلين وهو بيع الكالئ بالكالئ أي المبيع بالدَّين والثمن بالدَّين؛ وهذا بيع حرام بالإجماع، وقد ورد النص بتحريمه في حديث ابن عمر مرفوعاً: ((نهى عن بيع الكالئ بالكالئ)) أخرجه الدارقطني والحاكم والطحاوي وابن عدي والبيهقي، ولكنه ضعيف كما قال الشيخ الألباني في الإرواء [5/ 220-222] حديث (1382): ((ثم ذكر الحافظ عن الشافعي أنه قال: "أهل الحديث يوهنون هذا الحديث"، وعن الإمام أحمد قال: "ليس في هذا حديث يصح؛ لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين"، وقال الحافظ في "بلوغ المرام": "رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف". قلت: وعلته موسى بن عبيدة هذا؛ فإنه ضعيف كما جزم الحافظ في "التقريب"، وقال الذهبي في "الضعفاء والمتروكين" : "ضعفوه وقال أحمد: لا تحل الرواية عنه")) 
وعلى هذا فلا يجوز البيع بثمن مؤجَّل إذا كان المبيع بالآجل كذلك؛ بالإجماع.
وأما البيع بثمن مؤجَّل وهو البيع بالآجل فله صور؛ منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو متنازع فيه:
فمن بيع الآجل المحرَّم: أن يبيع شيئاً من الأصناف الربوية بالآجل، وهذا لا يحل بالنص والإجماع، والأصناف الربوية هي الأصناف الستة التي وردت في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم وغيره وما في معناها من الأصناف الأخرى، حيث قال عبادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح؛ مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)).
وعلى هذا؛ فمن اشترى ذهباً بفضة بالآجل لا يجوز، وكذلك مَنْ اشترى ذهباً بالتقسيط لا يجوز، وكذا من اشترى عملة نقدية من غير جنس عملته إلى أجل لا يجوز.
فعن أبي المنهال أنَّ زيد بن أرقم والبراء بن عازب رضي الله عنهم كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهما: ((أنَّ ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه)) أخرجه أحمد وأصله في البخاري.
ومن المجمع عليها: أن يبيع شيئاً من غير الأصناف الربوية بسعر واحد بالآجل؛ وهذا جائز بالنص والإجماع. فقد أخرج البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل، ورهنه درعاً من حديد))، ولا زال المسلمون من عهد النبي صلى الله عليه وسلم يشترون ما يحتاجونه من متاع أو طعام بمال في الدين من غير نكير.
وعلى هذا؛ لو اشترى متاعاً بثمن واحد على أقساط مؤجَّلة فهو جائز بالإجماع؛ بل ويدل عليه ما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت بريرة فقالت: إني كاتبتُ أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني؟
فقالت عائشة: إنْ أحبَّ أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك فعلتُ؛ ويكون ولاؤك لي. فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها، فقالت: إني قد عرضتُ ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم. فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته؛ فقال: ((خذيها فأعتقيها، واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق))
والأوقية أربعون درهماً؛ فبريرة أرادت أن تعتق نفسها فكاتبت أهلها على ثلاثمائة وستين درهماً وهي ما تقابل تسع أواق، ويكون ذلك على مدار تسع سنين؛ في كل سنة أوقية، ولم تنكر عائشة عليها، ولا أنكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما أُخبر بالأمر، فدل على جواز البيع بالتقسيط إذا كان بثمن واحد.
ومن المتنازع فيه وظهرت حرمته: أن يشتري حاجة من آخر على أن يسدد له ثمنها بالتقسيط أو بالآجل بأكثر من سعرها في الحال، ثم يبيعها في الحال إلى غيره بثمن السوق سواء ملكها وصارت في حوزته أو لم يملكها بعد؛ وإنما قصدهما المال وليس استعمال تلك الحاجة ولا التجارة فيها، وهذه مسألة التورق.
وكذا، لو اشترى الحاجة من الأول بالآجل ثم يبيعها إليها بأقل من ثمن الآجل في الحال أو قبل حلول الأجل؛ وهذه مسألة بيع العينة.
وكذا، شراء الفلوس بنقد ثم تباع بزيادة إلى أجل، وهي من مسائل  الصرف. فقد سُئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [29/ 469-470]: ((عن الفلوس تشترى نقداً بشيء معلوم وتباع إلى أجل بزيادة؛ فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب: الحمد لله؛ هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين العلماء وهو صرف الفلوس النافقة بالدراهم، هل يشترط فيها الحلول أم يجوز فيها النسأ؟
على قولين مشهورين هما قولان في مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل:
أحدهما: و هو منصوص أحمد وقول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، و قال مالك: وليس بالحرام البين.
والثاني: وهو قول الشافعي وأبي حنيفة في الرواية الأخرى وابن عقيل من أصحاب أحمد أنه يجوز، ومنهم من يجعل نهي أحمد للكراهة؛ فانه قال: هو يشبه الصرف، والأظهر المنع من ذلك، فإنَّ الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان، و تجعل معيار أموال الناس.
و لهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم من غير ظلم لهم ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلاً بأن يشتري نحاساً فيضربه فيتجر فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم و يضرب لهم غيرها؛ بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصناع من بيت المال، فإنَّ التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل، فانه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضاً و ضرب لهم فلوساً أخرى أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها فيظلمهم فيها، وظلمهم فيها بصرفها بأعلى سعرها.
و أيضا فإذا اختلفت مقادير الفلوس صارت ذريعة إلى أنَّ الظلمة يأخذون صغاراً فيصرفونها و ينقلونها إلى بلد آخر ويخرجون صغارها فتفسد أموال الناس)).
# ومن المتنازع فيه كذلك: أن يبيع شيئاً يقصد به الانتفاع أو الاتجار من غير الأصناف الربوية بسعرين مختلفين بين النقد والآجل، ويُخير فيه المشتري بين أن يدفع الثمن نقداً، أو أن يدفعه بالآجل لكن بثمن أكثر من ثمن النقد؛ فيأخذ المشتري المبيع بثمن الآجل، وهذا هو بيع التقسيط المعروف؛ وهو موضوع البحث؟

أصل الخلاف:
ومدار اختلاف أهل العلم هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) والذي أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وأبو داود والحاكم وابن حبان والبيهقي. وعند أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان وابن الجارود بلفظ: ((نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)). وعند ابن عبد البر وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنفس اللفظ المختصر. وعند أحمد من طريق سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما عن أبيه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة واحدة)) قال سماك: الرجل يبيع البيع فيقول هو بنساء بكذا وكذا، وهو بنقد بكذا وكذا.

سبب الخلاف:
أنَّ أهل العلم لهم عدة مسالك في هذا الحديث:
- منهم مَنْ ضعَّف زيادة ((فله أوكسهما أو الربا)) واعتبرها شاذة، وأخذ بتفسير سماك راوي الحديث على أنَّ المراد منه انعقاد البيع على سعرين مختلفين ولم يتفقا على أحدهما؛ فعلة النهي عندهم جهالة الثمن.
- ومنهم مَنْ ضعفها ولم يأخذ بتفسير سماك؛ وإنما معنى الحديث عنده بمعنى بيع وشرط أو بيع وسلف؛ فعلة النهي عندهم الغرر.
- ومنهم من صحح الزيادة ولم يأخذ بتفسير سماك راوي الحديث وإنما فسَّر البيعتين في بيعة ببيع العينة.
- ومنهم مَنْ زعم أنها منسوخة، وأنَّ النهي مطلق يدخل فيه كل صور البيعتين في بيعة المتقدِّمة، ولا يُباح هذا البيع ولو كان بأقل الثمنين، وأنَّ علة النهي مبنية على التعدي والغصب.
- ومنهم مَنْ صحح الزيادة و أخذ بتفسير سماك على أنَّ المراد منه أن يعرض المتاع بسعرين مختلفين من حيث النقد والنسيئة، وأنَّ الزيادة في الثمن بسبب الأجل ربا؛ وهو علة النهي، وأنَّ البيع صحيح إذا كان بأقل الثمنين.  

وإليك أيها القارئ الكريم تبسيط القول في هذه المسالك من كلام أئمة العلم:
قال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في سننه: ((وقد فسر بعض أهل العلم قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة وبنسيئة بعشرين ولا يفارقه على أحد البيعين؛ فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما، قال الشافعي: ومن معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا فإذا وجب لي غلامك وجب لك داري، وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم، ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته))
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في المحلى [9/ 15]: ((مسألة: ولا يحل بيعتان في بيعة؛ مثل: أبيعك سلعتي بدينارين على أن تعطيني بالدينارين كذا وكذا درهماً، أو كمن ابتاع سلعة بمائة درهم على أن يعطيه دنانير كل دينار بعدد من الدراهم، ومثل: أبيعك سلعتي هذه بدينارين نقداً أو بثلاثة نسيئة، ومثل: أبيعك سلعتي هذه بكذا وكذا على أن تبيعني سلعتك هذه بكذا وكذا؛ فهذا كله حرام، مفسوخ أبداً، محكوم فيه بحكم الغصب))
ثم ذكر الحديث بزيادة ((فله أوكسهما أو الربا)) فعلَّق عليه بقوله: ((هذا خبر صحيح إلا أنه موافق لمعهود الأصل؛ وقد كان الربا وبيعتان في بيعة والشروط في البيع كل ذلك مطلقاً غير حرام إلى أن حُرِّم كلُّ ذلك، فإذا حُرِّم كلُّ ما ذكرنا فقد نُسخت الإباحة بلا شك، فهذا خبر منسوخ بلا شك، بالنهي عن بيعتين في بيعة بلا شك، فوجب إبطالهما معاً، لأنهما عمل منهي عنه)).
وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى في التمهيد بعد أن ذكر حديث النهي عن البيعتين في بيعة بجميع ألفاظه وطرقه: ((معنى هذا الحديث عند أهل العلم: أن يبتاع الرجل سلعتين مختلفتين إحداهما بعشرة والأخرى بخمسة عشر قد وجب البيع في إحدى السلعتين بأيهما شاء المشتري هو في ذلك بالخيار بما سمى من الثمن ورد الأخرى، ولا يعين المأخوذة من المتروكة؛ فهذا من بيعتين في بيعة عند مالك وأصحابه.
 فإنْ كان البيع على أنَّ المشتري بالخيار فيهما جميعاً بين أن يأخذ أيتهما شاء وبين أن يردهما جميعاً ولا بيع بينهما فذلك جائز؛ وليس من باب بيعتين في بيعة.
ومن ذلك: أن يبتاع الرجل من آخر سلعة بعشرة نقداً أو بخمسة عشر إلى أجل قد وجبت للمشتري بأحد الثمنين وافترقا على ذلك؛ وهكذا فسره مالك وغيره، وقال مالك: هذا لا ينبغي لأنه إنْ أخر العشرة كانت خمسة عشر إلى أجل وإنْ نقد العشرة كان كأنه اشترى بالخمسة عشر إلى أجل.
قال مالك: وكذلك إذا باع رجل سلعة بدينار نقداً أو بشاة موصوفة إلى أجل قد وجب البيع عليه بأحد الثمنين؛ ذلك مكروه لا ينبغي لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة؛ وهذا من بيعتين في بيعة.
قال مالك: ومن ذلك أيضاً أن يشتري منه العجوة خمسة عشر صاعاً بدينار، والصيحاني عشرة أصوع، قد وجبت إحداهما؛ فهذا من المخاطرة ويفسخ عند مالك هذا البيع أبداً، فإن فات البيع ضمن المبتاع قيمته يوم قبضه لا يوم البيع بالغاً ما بلغ إلا أن يكون مكيلاً غير رطب فيرد مكيلته، وإن قبض السلعتين وفاتتا ردا جميعا إلى القيمة يوم قبضهما المشتري بالغا ما بلغت. وأما إذا كان ما قدمنا ذكره في السلعتين على وجه المساومة من غير إيجاب أو كان البيع على أن المشتري بالخيار فيهما جميعاً بين أن يأخذ أيتهما شاء وبين أن يردهما جميعاً ولا بيع بينهما فلا بأس بذلك؛ لأنَّ المشتري بالخيار في أي الثمنين شاء وبالخيار أيضاً في الأخذ أو الترك.
وقال الشافعي: هما وجهان:
أحدهما: أن يقول قد بعتك هذا العبد بألف دينار نقداً أو بألفين إلى سنة قد وجب لك البيع بأيهما شئت أنا أو شئت أنت؛ فهذا بيع، الثمن فيه مجهول.
والثاني: أن يقول قد بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف إذا وجب لك عبدي وجبت دارك لي؛ لأنَّ ما نقص كل واحد منهما مما باع ازداده فيما اشتراه، فالبيع في هذا كله مفسوخ، فإن فات ففيه القيمة حين قبض.
ومثل هذا عند الشافعي: أن يبيعه سلعة بكذا على أن يبيعه بالثمن كذا؛ كرجل قال لآخر: أبيعك ثوبي هذا بعشر دنانير على أن تبيعني بالعشرة دنانير دابة كذا أو سلعة كذا أو مثاقيل عدد كذا؛ هذا كله من باب بيعتين في بيعة عند الشافعي وجماعة.
قال: ومن هذا الباب نهيه عليه السلام عن بيع وسلف؛ لأنَّ من سنته أن تكون الأثمان معلومة والبيع معلوماً، وإذا انعقد البيع على السلف، والمنفعة بالسلف مجهولة، فصار الثمن غير معلوم.
كلٌّ يخرج للحديث معنى على أصله؛ ومن أصل مالك مراعاة الذرائع، ومن أصل الشافعي ترك مراعاتها، وللكلام في ذلك موضع غير هذا، والله الموفق للصواب))
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى الكبرى [6/ 44]: ((وكذلك النسيئة هي أعظم الربا وأكبره؛ يؤيد هذا المعنى ما صح عن ابن عباس أنه قال: "إذا استقمت بنقد فبعت بنقد فلا بأس، وإذا استقمت بنقد فبعته بنسيئه فلا خير فيه؛ تلك ورق بورق" رواه سعيد وغيره، يعني: إذا قومتها بنقد ثم بعتها نسيئاً كان مقصود المشتري اشتراء دراهم معجلة بدراهم مؤجلة؛ وهذا شأن المورقين، فإنَّ الرجل يأتيه فيقول أريد ألف درهم فيخرج له سلعة تساوي ألف درهم وهذا هو الاستقامة؛ يقول أقمت السلعة وقومتها واستقمتها بمعنى واحد وهي لغة مكية معروفة بمعنى التقويم، فإذا قومتها بألف قال اشتريتها بألف ومائتين أو أكثر أو أقل، فقول ابن عباس يوافق قول عمر بن عبد العزيز، وكذلك قال محمد بن سيرين: "إذا أراد أن يبتاعه بنقد فليساومه بنقد، وإن كان يريد أن يبتاعه بنسأ فليساومه بنسأ" كرهوا أن يساومه بنقد ثم يبيعه بنسأ؛ لئلا يكون المقصود بيع الدراهم بالدراهم، وهذا من أبين دليل على كراهتهم لما هو أشد من ذلك، وكذلك ما قد حفظ عن ابن عمر وابن عباس وغير واحد من السلف أنهم كرهوا بيع ده بدوازده؛ لأنَّ لفظه: أبيعك العشرة باثني عشر، فكرهوا هذا الكلام لمشابهته الربا.
ومما يجوز أن يقصد به ذلك ما روى أبو داود في سننه عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"، فإنَّ للناس في تفسير البيعتين في بيعة تفسيرين :
أحدهما: أن يقول هو لك بنقد بكذا وبنسيئة بكذا؛ كما رواه سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة" قال سماك: الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسأ بكذا وبنقد بكذا وكذا رواه الإمام أحمد.
وعلى هذا فله وجهان :
أحدهما: أن يبيعه بأحدهما مبهماً ويتفرقا على ذلك؛ وهذا تفسير جماعة من أهل العلم، لكنه بعيد من هذا الحديث، فإنه لا مدخل للربا هنا، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واحدة بثمن مبهم.
والثاني: أن يقول هي بنقد بكذا أبيعكها بنسيئة بكذا؛ كالصورة التي ذكرها ابن عباس فيكون قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة، وجعل النقد معياراً للنسيئة، وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: "فله أوكسهما أو الربا"، فإنَّ مقصوده حينئذ هو بيع دراهم عاجلة بآجلة، فلا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، وهو مقدار القيمة العاجلة، فإن أخذ الزيادة فهو مربٍ.
التفسير الثاني: أن يبيعه الشيء بثمن على أن يشتري المشتري منه ذلك الثمن، وأولى منه أن يبيعه السلعة على أن يشتريها البائع بعد ذلك؛ وهذا أولى بلفظ "البيعتين في بيعة"، فإنه باع السلعة وابتاعها أو باع بالثمن وباعه، وهذا صفقتان في صفقة حقيقة، وهذا بعينه هو العينة المحرمة، وما أشبهها مثل أن يبيعه نسأ ثم يشتري بأقل منه نقداً، أو يبيعه نقداً ثم يشتري بأكثر منه نسأ، ونحو ذلك، فيعود حاصل هاتين الصفقتين إلى أن يعطيه دراهم ويأخذ أكثر منها، وسلعته عادت إليه، فلا يكون له إلا أوكس الصفقتين وهو النقد، فإن ازداد فقد أربا.
ومما يؤيد أنه قصد بالحديث هذا ونحوه؛ أنَّ في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وببع" رواه الإمام أحمد، وكلا هذين العقدين يؤولان إلى الربا، وفي النهي عن هذا كله أوضح دلالة عن النهي عن الحيل التي هي في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا.
ومما يبين أنَّ هذا المعنى مقصود من الأحاديث أنه في حديث ابن مسعود: "لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له" قال: "ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله" فدل على أنَّ الربا والزنا قرينان في الاحتيال عليهما، وفي أنَّ ذلك يوجب العقوبة كما تقدم بيانه))
وقال العلامة ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود: ((وقوله في الحديث المتقدم: "مَنْ باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" هو منزل على العينة بعينها قاله شيخنا؛ لأنه بيعان في بيع واحد، فأوكسهما الثمن الحال، وإن أخذ بالأكثر وهو المؤجل أخذ بالربا، فالمعنيان لا ينفكان من أحد الأمرين؛ إما الأخذ بأوكس الثمنين أو الربا، وهذا لا يتنزل إلا على العينة)).
وقال في موضع آخر: ((حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" وللعلماء في تفسيره قولان:
أحدهما: أن يقول بعتك بعشرة نقداً أو عشرين نسيئة؛ وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك ففسره في حديث ابن مسعود قال: "نهى رسول الله عن صفقتين في صفقة" قال سماك: الرجل يبيع الرجل فيقول هو علي نساء بكذا وبنقد بكذا؛ وهذا التفسير ضعيف، فإنه لا يدخل الربا في هذه الصورة، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين.
والتفسير الثاني: أن يقول أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالة؛ وهذا معنى الحديث الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله: "فله أوكسهما أو الربا" فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما، وهو مطابق لصفقتين في صفقة؛ فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها، ولا يستحق إلا رأس ماله وهو أوكس الصفقتين، فإنْ أبى إلا الأكثر كان قد أخذ الربا، فتدبر مطابقة هذا التفسير لألفاظه وانطباقه عليها. ومما يشهد لهذا التفسير ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن بيعتين في بيعة، وعن سلف وبيع" فجمعه بين هذين العقدين في النهي لأنَّ كلا منهما يؤول إلى الربا، لأنهما في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا))
وقال في موضع ثالث: ((فنقول: نظير هذا نهيه عن صفقتين في صفقة وعن بيعتين في بيعة؛ فروى سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة"، وفي السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ باع بيعتين في بيعه فله أوكسهما أو الربا".
وقد فُسِّرت البيعتان في البيعة بأن يقول أبيعك بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة؛ هذا بعيد من معنى الحديث من وجهين:
أحدهما: أنه لا يدخل الربا في هذا العقد.
الثاني: أنَّ هذا ليس بصفقتين، إنما هو صفقة واحدة بأحد الثمنين، وقد ردده بين الأوليين أو الربا، ومعلوم أنه إذا أخذ بالثمن الأزيد في هذا العقد لم يكن ربا؛ فليس هذا معنى الحديث.
وفُسِّر بأن يقول: خذ هذه السلعة بعشرة نقداً وآخذها منك بعشرين نسيئة؛ وهي مسألة العينة بعينها، وهذا هو المعنى المطابق للحديث.
فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله وهو أوكس الثمنين، فإنْ أخذه أخذ أوكسهما، وإنْ أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا، فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا، ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى، وهذا هو بعينه الشرطان في بيع؛ فإنَّ الشرط يطلق على العقد نفسه، لأنهما تشارطا على الوفاء به فهو مشروط، والشرط يطلق على المشروط كثيراً، كالضرب يطلق على المضروب، والحلق على المحلوق، والنسخ على المنسوخ، فالشرطان كالصفقتين سواء، فشرطان في بيع كصفقتين في صفقة.
وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى فتأمل نهيه في حديث ابن عمر عن "بيعتين في بيعه وعن سلف وبيع" رواه أحمد، ونهيه في هذا الحديث عن "شرطين في بيع وعن سلف في بيع"؛ فجمع السلف والبيع مع الشرطين في البيع ومع البيعتين في البيعة، وسر ذلك أنَّ كلا الأمرين يؤول إلى الربا وهو ذريعة إليه.
أما البيعتان في بيعة فظاهر؛ فإنه إذا باعه السلعة إلى شهر ثم اشتراها منه بما شرطه له كان قد باع بما شرطه له بعشرة نسيئة ولهذا المعنى حرم الله ورسوله العينة.
وأما السلف والبيع؛ فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك؛ فظهر سر قوله "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع" وقول ابن عمر "نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وبيع" واقتران إحدى الجملتين بالأخرى لما كانا سُلَّماً إلى الربا.
ومَنْ نظر في الواقع وأحاط به علماً فهم مراد الرسول من كلامه ونزله عليه، وعلم أنه كلام مَنْ جُمعت له الحكمة وأوتي جوامع الكلم؛ فصلوات الله وسلامه عليه، وجزاه أفضل ما جزى نبياً عن أمته))
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في النيل: ((قوله: "فله أوكسهما" أي أنقصهما؛ قال الخطابي: "لا أعلم أحداً قال بظاهر الحديث وصحح البيع بأوكس الثمنين إلا ما حُكي عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد" انتهى؛ ولا يخفى أنَّ ما قاله هو ظاهر الحديث، لأنَّ الحكم له بالأوكس يستلزم صحة البيع به.
 قوله: "أو الربا" يعني أو يكون قد دخل هو وصاحبه في الربا المحرم إذا لم يأخذ الأوكس بل أخذ الأكثر؛ وذلك ظاهر في التفسير الذي ذكره ابن رسلان.
وأما في التفسير الذي ذكره أحمد عن سماك وذكره الشافعي ففيه متمسك لمن قال يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء؛ وقد ذهب إلى ذلك زين العابدين بن علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى.
وقالت الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور: إنه يجوز لعموم الأدلة القاضية بجوازه؛ وهو الظاهر لأنَّ ذلك المتمسك هو الرواية الأولى من حديث أبي هريرة وقد عرفت ما في راويها من المقال، ومع ذلك فالمشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره وهو النهي عن بيعتين في بيعة، ولا حجة فيه على المطلوب.
ولو سلمنا أنَّ تلك الرواية التي تفرد بها ذلك الراوي صالحة للاحتجاج لكان احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع كما سلف عن ابن رسلان قادحاً في الاستدلال بها على المتنازع فيه، على أنَّ غاية ما فيها الدلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة وهي أن يقول نقداً بكذا ونسيئة كذا، لا إذا قال من أول الأمر: نسيئة بكذا فقط وكان أكثر من سعر يومه، مع أنَّ المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة، ولا يدل الحديث على ذلك، فالدليل أخص من الدعوى، وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسميناها "شفاء العلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل" وحققناها تحقيقاً لم نسبق إليه، والعلة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين)).
قلتُ: وفي كلام الشوكاني الأخير رد على مَنْ نفى الخلاف فقال: ((لا خلاف بين العلماء في جواز بيع الأجل ولو زاد عن سعر السوق))!، بل وزاد المشار إليه فقال: ((أنَّ من استشكل هذا البيع أو قال بتحريمه فقوله باطل بالإجماع))!!، فالخلاف موجود في هذه الصورة كذلك، ودعوى الإجماع مردودة.
وأخيراً ننقل كلاك الشيخ الألباني رحمه الله تعالى الذي رجَّح صحة الزيادة ونصر تفسير سماك بن حرب، وكتب في ذلك مبحثاً قوياً في بيان أنَّ علة النهي هي الربا، وذلك في السلسلة الصحيحة تحت حديث رقم (2326)، من ذلك أنه قال: ((وأقول: تعليلهم النهي عن بيعتين في بيعة بجهالة الثمن مردود؛ لأنه مجرد رأي مقابل النص الصريح في حديث أبي هريرة و ابن مسعود أنه الربا؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى: أنَّ هذا التعليل مبني على القول بوجوب الإيجاب والقبول في البيوع، وهذا مما لا دليل عليه في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل يكفي في ذلك التراضي وطيب النفس، فما أشعر بهما ودلَّ عليهما فهو البيع الشرعي وهو المعروف عند بعضهم ببيع المعاطاة؛ قال الشوكاني في [السيل الجرار3/ 126]: "وهذه المعطاة التي تحقق معها التراضي وطيبة النفس هي البيع الشرعي الذي أذن الله به، والزيادة عليه هي من إيجاب ما لم يوجبه الشرع". وقد شرح ذلك شيخ الإسلام في "الفتاوي" (29 /  5 - 21) بما لا مزيد عليه، فليرجع إليه من أراد التوسع فيه.
قلت: وإذا كان كذلك؛ فالشاري حين ينصرف بما اشتراه: فإما أن ينقد الثمن، وإما أن يؤجِّل، فالبيع في الصورة الأولى صحيح، وفي الصورة الأخرى ينصرف وعليه ثمن الأجل - و هو موضع الخلاف -؛ فأين الجهالة المدعاة؟ وبخاصة إذا كان الدفع على أقساط، فالقسط الأول يدفع نقداً، والباقي أقساط حسب الاتفاق؛ فبطلت علة الجهالة أثراً ونظراً))
وذكر الألباني أنَّ تفسير البيعتين في بيعة بما قاله سماك بن حرب لم يتفرد به سماك، فقال ((وقال البيهقي: "قال عبد الوهاب (يعني: ابن عطاء): "يعني: يقول: هو لك بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين"، وبهذا فسره الإمام ابن قتيبة، فقال في "غريب الحديث" (1 / 18): "ومن البيوع المنهي عنها... شرطان في بيع: وهو أن يشتري الرجل السلعة إلى شهرين بدينارين وإلى ثلاثة أشهر بثلاثة دنانير؛ وهو بمعنى بيعتين في بيعة"))
قلتُ: وعبد الوهاب بن عطاء أحد تلاميذ محمد بن عمرو راوي الحديث كما سيأتي.
ثم بيَّن الألباني رحمه الله تعالى أنَّ الأخذ بتفسير سماك متعيّن وبخاصة أنَّ جمعاً من أهل العلم قد وافقه على ذلك فقال: ((قلت: وسماك هو ابن حرب وهو تابعي معروف، قال: أدركت ثمانين صحابياً. فتفسيره للحديث ينبغي أن يقدم - عند التعارض - ولاسيما وهو أحد رواة هذا الحديث، والراوي أدرى بمرويه من غيره؛ لأنَّ المفروض أنه تلقى الرواية من الذي رواها عنه مقروناً بالفهم لمعناها، فكيف وقد وافقه على ذلك جمع من علماء السلف وفقهائهم:
1- ابن سيرين، روى أيوب عنه: أنه كان يكره أن يقول: أبيعك بعشرة دنانير نقداً، أو بخمسة عشر إلى أجل. أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (8 /  137 /  14630) بسند صحيح عنه. وما كره ذلك إلا لأنه نهي عنه.
2 - طاووس، قال: إذا قال: هو بكذا وكذا إلى كذا وكذا، وبكذا وكذا إلى كذا وكذا، فوقع المبيع على هذا، فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين. أخرجه عبد الرزاق أيضا (14631) بسند صحيح أيضاً. ورواه هو (14626) وابن أبي شيبة (6 /  120) من طريق ليث عن طاووس به مختصراً ، دون قوله: "فوقع البيع .." و زاد : " فباعه على أحدهما قبل أن يفارقه، فلا بأس به" فهذا لا يصح عن طاووس لأنَّ ليثاً - وهو ابن أبي سليم - كان اختلط.
3 - سفيان الثوري، قال: إذا قلت: أبيعك بالنقد إلى كذا، وبالنسيئة بكذا وكذا، فذهب به المشتري، فهو بالخيار في البيعين ما لم يكن وقع بيع على أحدهما، فإن وقع البيع هكذا فهو مكروه؛ وهو بيعتان في بيعة، وهو مردود وهو منهي عنه، فإن وجدت متاعك بعينه أخذته، وإن كان قد استهلك فلك أوكس الثمنين وأبعد الأجلين. أخرجه عبد الرزاق (14632) عنه. 4- الأوزاعي، نحوه مختصراً، وفيه: "فقيل له: فإن ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين? فقال: هي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين"، ذكره الخطابي في "معالم السنن" (5 /  99).
ثم جرى على سنتهم أئمة الحديث واللغة؛ فمنهم:
5 - الإمام النسائي، فقال تحت باب "بيعتين في بيعة": "وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمئة درهم نقداً، وبمئتي درهم نسيئة". وبنحوه فسر أيضاً حديث ابن عمرو: "لا يحل شرطان في بيع"، وهو مخرج في "الإرواء" (1305) وانظر "صحيح الجامع" (7520).
6 - ابن حبان، قال في "صحيحه" (7 /  225 - الإحسان): "ذكر الزجر عن بيع الشيء بمئة دينار نسيئة، وبتسعين ديناراً نقدا ". ذكر ذلك تحت حديث أبي هريرة باللفظ الثاني المختصر.
7 - ابن الأثير في "غريب الحديث"، فإنه ذكر ذلك في شرح الحديثين المشار إليهما آنفاً))
ثم قال الشيخ الألباني في آخر المبحث: ((فإذن الربا هو العلة، وحينئذ فالنهي يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فإذا أخذ أعلى الثمنين فهو ربا، وإذا أخذ أقلهما فهو جائز؛ كما تقدم عن العلماء الذين نصوا أنه يجوز أن يأخذ بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، فإنه بذلك لا يكون قد باع بيعتين في بيعة، ألا ترى أنه إذا باع السلعة بسعر يومه وخير الشاري بين أن يدفع الثمن نقداً أو نسيئة أنه لا يصدق عليه أنه باع بيعتين في بيعة كما هو ظاهر، وذلك ما نص عليه صلى الله عليه وسلم في قوله المتقدم: "فله أوكسهما أو الربا"، فصحح البيع لذهاب العلة، و أبطل الزيادة لأنها ربا؛ وهو قول طاووس والثوري والأوزاعي رحمهم الله تعالى كما سبق.
ومنه تعلم سقوط قول الخطابي في "معالم السنن" (5 /  97): "لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث وصحح البيع بأوكس الثمنين؛ إلا شيء يُحكى عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد، وذلك لما تتضمنه هذه العقدة من الغرر و الجهل" قلت: يعني الجهل بالثمن كما تقدم عنه، وقد علمت مما سلف: أنَّ قوله هو الفاسد لأنه أقامه على علة لا أصل لها في الشرع، بينما قول الأوزاعي قائم على نص الشارع كما تقدم، ولهذا تعقبه الشوكاني بقوله في "نيل الأوطار" (5 /  129): "ولا يخفى أنَّ ما قاله الأوزاعي هو ظاهر الحديث؛ لأنَّ الحكم له بالأوكس يستلزم صحة البيع"
قلت: الخطابي نفسه قد ذكر أنَّ الأوزاعي قال بظاهر الحديث، فلا فرق بينه وبين الخطابي من هذه الحيثية إلا أنَّ الخطابي تجرأ في الخروج عن هذا الظاهر ومخالفته لمجرد علة الجهالة التي قالوها برأيهم خلافاً للحديث.
والعجيب حقاً أنَّ الشوكاني تابعهم في ذلك بقوله: "والعلة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين .."، وذلك لأنَّ هذه المتابعة تتماشى مع الذين يوجبون الإيجاب والقبول في البيوع، والشوكاني يخالفهم في ذلك، ويقول بصحة بيع المعاطاة، وفي هذه الصورة (أعني المعطاة) الاستقرار متحقق كما بينته آنفاً.
ثم إنه يبدو أنَّ الشوكاني - كالخطابي - لم يقف على مَنْ قال بظاهر الحديث - كالأوزاعي -، و إلا لما سكت على ما أفاده كلام الخطابي من تفرد الأوزاعي، وقد روينا لك بالسند الصحيح سلفه في ذلك - وهو التابعي الجليل طاووس - وموافقة الإمام الثوري له، وتبعهم الحافظ ابن حبان، فقال في "صحيحه" (7 /  226): "ذكر البيان بأنَّ المشتري إذا اشترى بيعتين في بيعة على ما وصفنا وأراد مجانبة الربا كان له أوكسهما"، ثم ذكر حديث الترجمة، فهذا مطابق لما سبق من أقوال أولئك الأئمة، فليس الأوزاعي وحده الذي قال بهذا الحديث.
أقول: هذا بيانا للواقع، و لكي لا يقول بعض ذوي الأهواء أو مَنْ لا علم عنده فيزعم أنَّ مذهب الأوزاعي هذا شاذ! وإلا فلسنا - و الحمد لله - من الذين لا يعرفون الحق إلا بكثرة القائلين به من الرجال، و إنما بالحق نعرف الرجال)) انتهى كلام الألباني.
فقول طاووس والأوزاعي وسفيان الثوري وابن حبان صريح في صحة البيع إذا كان بأقل الثمنين؛ وهذا يعني أنهم لا يرون علة النهي جهالة الثمن، لأنه لو كانوا يذهبون إلى هذا الأمر لما صححوا البيع في حال أقل الثمنين، فلا فرق في فساد العقد بسبب جهالة الثمن بين أن ينعقد فيما بعد على أقل الثمنين أو على أكثرهما، ويتبين من كلامهم أنهم يرون أنَّ زيادة الثمن من أجل الأجل هي علة النهي؛ على ما دلَّ عليه ظاهر الحديث، ولهذا أباحوا البيع بأقل الثمنين ومنعوا البيع بأكثر الثمنين؛ وبهذا يظهر بجلاء بطلان دعوى الإجماع على جواز بيع التقسيط على الصورة المذكورة آنفاً.

أما الكلام حول صحة الزيادة:
فحديث: ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، رواه عنه أبو سلمة، ورواه عن أبي سلمة محمد بن عمرو، ورواه عن محمد بن عمرو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ولما كان للحديث لفظ آخر ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)) بدون الزيادة من طريق محمد بن عمرو كذلك عن أبي سلمة عن أبي هريرة به، ولما كان الذي رواه عن محمد بن عمرو جماعة من الحفاظ وهم عبدة بن سليمان ويحي بن سعيد القطان ويزيد بن هارون وعبد الوهاب بن عطاء، وكذلك رواه غيرهم مثل إسماعيل بن جعفر، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، ومعاذ بن معاذ، لهذا رجح بعض أهل العلم أنَّ هذه الزيادة شاذة، وأنَّ يحيى بن زكريا وإنْ كان من الحفاظ إلا أنه خالف جماعة من الحفاظ كذلك، فروايتهم محفوظة وروايته شاذة.
والحكم في هذه المسألة مبني على قاعدة حكم تفرُّد الثقة؛ متى يكون شاذاً ومتى لا يكون؟ ومتى تقبل زيادة الثقة ومتى لا تقبل؟
بمعنى آخر: هل زيادة ((فله أوكسهما أو الربا)) التي تفرد بها يحيى بن زكريا منافية لما رواه الآخرون أم أنه روى ما لم يروه غيره؟ فإن كانت منافية فالترجيح بحسب القرائن، وإن كانت غير منافية –وهذا هو الواقع- فالأصل قبولها مطلقاً، قال الحافظ في نزهة النظر [ص 39] في بيان زيادة الثقة: ((الزيادة إما أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها فهذه تقبل مطلقاً؛ لأنها في حكم الحديث المستقل الذي ينفرد به الثقة ولا يرويه عن شيخه غيره. وإما أن تكون منافية بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى فهذه التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها؛ فيُقبل الراجح ويُردُّ المرجوح))
وفصَّل الحافظ ابن الصلاح رحمه الله تعالى في مسألة حكم تفرد الثقة أكثر في مقدِّمته عند كلامه عن الشاذ ص14 فقال: ((بل الأمر في ذلك على تفصيل نبينه فنقول: إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه:

فإن كان ما انفرد به مخالفاً لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذاً مردوداً.

وإنْ لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره؛ إنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره، فينظر في هذا الراوي المنفرد:
فإنْ كان عدلاً حافظاً موثوقاً بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به، ولم يقدح الانفراد فيه، كما فيما سبق من الأمثلة. وإنْ لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراداً خارماً له مزحزحاً عن حيز الصحيح.
ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال:
فإنْ كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف.
وإنْ كان بعيداً عن ذلك رددنا ما انفرد به، وكان من قبيل الشاذ المنكر.
فخرج من ذلك أنَّ الشاذ المردود قسمان:
أحدهما: الحديث الفرد المخالِف.
والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجب التفرد والشذوذ من النكارة والضعف، و الله أعلم))
وزاد الحافظ ابن الوزير في [توضيح الأفكار 1/ 383] بعد نقله كلام ابن الصلاح المتقدِّم قيداً فقال: ((قلت: أما مَنْ تفرد من الرواة عن العالم الحريص على نشر ما عنده من الحديث وتدوينه، ولذلك العالم كتب معروفة وقد قُيـِّدَ حديثه فيها، وتلاميذه الآخذون عنه حفاظ حراص على ضبط حديثه وكتبه حفظاً وكتابة؛ فكلام المحدثين الذي نقله الخليلي من التوقف في رواية الثقة معقول يقبله العقل؛ لأنَّ في شذوذه ريبة قد توجب زوال الظن بحفظه على حسب القرائن، وهو موضع اجتهاد رداً وقبولاً))
بعد تثبيت هذه القاعدة وضبط فهمها يُقال: زيادة ((فله أوكسهما أو الربا)) غير منافيه، إنما روى يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو ما لم يروه عنه الآخرون، ويحيى ممن يحتمل تفرده لأنه ثقة متقن من رجال الصحيحين كما قال الحافظ في التقريب، فإذا كان كذلك؛ تعيَّن قبول هذه الزيادة بحسب القواعد الحديثية.
وهناك مثال على قبول زيادة الثقة من الحافظ المتقن إذا لم تكن منافية لرواية الثقات نذكره هنا من باب التأكيد؛ فقد أخرج مسلم من حديث المغيرة بن شعبة بلفظ: ((أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته [وعلى العمامة] وعلى الخفين)).
فزعم بعض أهل العلم أنَّ لفظة [وعلى العمامة] شاذة؛ قال الحافظ ابن حجر في الفتح 1/ 308-309: ((وأغرب الأصيلي -فيما حكاه ابن بطال- فقال: ذكر "العمامة" في هذا الحديث من خطأ الأوزاعي؛ لأنَّ شيبان وغيره رووه عن يحيى بدونها، فوجب تغليب رواية الجماعة على الواحدة!!))
ثم ردَّ الحافظ ذلك بقوله: ((وعلى تقدير تفرد الأوزاعي بذكرها لا يستلزم ذلك تخطئته؛ لأنها تكون زيادة من ثقة حافظ غير منافية لرواية رفقته فتقبل، ولا تكون شاذة، ولا معنى لرد الروايات الصحيحة بهذه التعليلات الواهية)).
لكـن لحديث "بيعتين في بيعة" علة أخرى؛ وهي أنَّ محمداً بن عمرو مع أنَّ فيه كلاماً يسيراً في حفظه كما قال الألباني، فهو ممن كان الناس يتقون حديثه، وقد بيَّن سبب ذلك يحيى بن معين كما جاء في تهذيب الكمال للمزي قال: ((وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سُئل يحيى بن معين عن محمد بن عمرو؟ فقال: ما زال الناس يتقون حديثه. قيل له: وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة)).
ويُمكن أن يُجاب عن ذلك:
بأنَّ اللفظ الأول من الحديث وهو النهي عن بيعتين في بيعة له شواهد من غير طريق أبي هريرة كما تقدَّم:
الأول عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بلفظ: ((مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبعه، ولا تبع بيعتين في بيعة)) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم.
والثاني عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بلفظ: ((أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شرطين في البيع)) أخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد وغيرهم، وعند أحمد كذلك بلفظ ((ونهى عن بيعتين في بيعة)).
والثالث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عند أحمد من طريق شريك عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة واحدة))، وقد خالف شريك مع سوء حفظه سفيان الثوري وشعبة فرفعه وأوقفاه؛ وحديثهما في سماك صحيح مستقيم، فالصحيح أنه موقوف عن ابن مسعود، وانظر ما قاله الشيخ الألباني في الإرواء تحت حديث [1307].
 قلتُ: وبهذا يثبت هذا اللفظ بما تقدَّم مرفوعاً وموقوفاً.
أما زيادة ((فله أوكسهما أو الربا)) فقد تكون من رأي أبي سلمة ووهم محمد بن عمرو في رفعها؛ وهذا مما يستدعي الريب في ثبوتها.
لكن هذا الريب يمكن دفعه بما قاله الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: ((ولعل في معنى الحديث قول ابن مسعود: "الصفقة في الصفقتين ربا" أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (8 /  138 - 139) و ابن أبي شيبة أيضا (6 /  199) و ابن حبان (163 و 1111) و الطبراني (41 /  1) و سنده صحيح، و في سماع عبد الرحمن من أبيه ابن مسعود خلاف، و قد أثبته جماعة، والمثبت مقدم على النافي.
ورواه أحمد (1 /  393) وهو رواية لابن حبان (1112) بلفظ: "لا تصلح سفقتان في سفقة (و لفظ ابن حبان: لا يحل صفقتان في صفقة) وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه" وسنده صحيح أيضاً.
وكذا رواه ابن نصر في "السنة" (54) و زاد في رواية: "أن يقول الرجل: إنْ كان بنقد فبكذا وكذا، وإنْ كان إلى أجل فبكذا وكذا"، وهو رواية لأحمد (1 /  398)، وجعله من قول سماك الراوي عن عبد الرحمن بن عبد الله.
ثم إنَّ الحديث رواه ابن نصر (55) وعبد الرزاق في "المصنف" (8 /  137 /  14629) بسند صحيح عن شريح قال: فذكره من قوله مثل لفظ حديث الترجمة بالحرف الواحد)) انتهى كلامه.
فحكم ابن مسعود على (بيعتين في بيعة) أنها ربا، واستشهاده بحديث لعن الله آكل الربا مع تفسير سماك يدل على أنَّ زيادة الثمن من أجل التأخير هو العلة في فهم الحديث.
وهذا يذكرنا بطريقة شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الاستدلال على تحريم بيع العينة [الفتاوى الكبرى 6/ 44] حيث قال: ((وقول السائلة لعائشة: أرأيتِ إنْ لم آخذ إلا رأس مالي؟، ثم تلاوة عائشة عليها: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} دليل بيِّن أنَّ التغليظ إنما كان لأجل أنه ربا لا لأجل جهالة الأجل؛ فإنَّ هذه الآية إنما هي في التأنيب من الربا)).
وكذلك ورد الحديث بلفظ الزيادة من غير طريق أبي هريرة؛ وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف الحديث لكنه ليس بمتروك فيُكتب حديثه، وقد قال المزي في التهذيب في ترجمته: ((وقال صالح بن أحمد بن حنبل عن علي بن المديني سمعت يحيي يعني القطان وسُئل عن إسماعيل بن مسلم المكي قيل له: كيف كان في أول أمره؟ قال: لم يزل مخلطاً؛ قال يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب، قال وروى عن ابن سيرين عن أنس: "مَنْ باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"))
ثم أنَّ اتفاق راويين من رواة الحديث باللفظ المختصر وهما سماك بن حرب من طريق ابن مسعود، وعبد الوهاب بن عطاء من طريق أبي هريرة على تفسير البيعتين في بيعة على أن يقول البائع للمشتري: أبيعك هذا المتاع بكذا نقداً وبكذا وكذا نسيئة؛ يدل على أنَّ هذا البيع فيه ثمنان؛ أحدهما قليل والآخر أكثر منه، وأنَّ العلة سببها زيادة الثمن من أجل الأجل، وهذا يوافق معنى الزيادة ((فله أوكسهما أو الربا))، فتطابق تفسير الراويين مع معنى الزيادة يدل على ثبوتها أيضاً؛ والله تعالى أعلم.
ومما يزيد الأمر قوة أيضاً؛ أنَّ مذهب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يدل على أنَّ الاختلاف في الثمن بين تقويم السلعة نقداً ونسيئة من صور الربا؛ فقد أخرج عبد الرزاق في مصنَّفه قال: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس قال: ((إذا استقمت بنقد وبعت بنقد فلا بأس به، وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا؛ إنما ذلك ورق بورق))، قال شيخ الإسلام في [المجموع 29/ 306-307]: ((إذا قال: هذا يساوي الساعة كذا وكذا وأنا أبيعكه بكذا أكثر منه إلى أجل: فهذا ربا؛ كما قال ابن عباس رضي الله عنه: "إذا قوَّمت نقداً وبعت نقداً فلا بأس، وإذا قومت نقداً وبعت إلى أجل فتلك دراهم بدراهم")).
وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنَّفه فقال: نا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن أشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال: ((لا بأس أن يقول للسلعة هي بنقد بكذا وبنسيئة بكذا؛ ولكن لا يفترقا إلا عن رضا)) مما يدل على أنَّ العلة جهالة الثمن، فهذه الرواية لا تثبت عن ابن عباس، قال الشيخ الألباني في الإرواء [5/ 152]: ((وهذا إسناد ضعيف؛ من أجل أشعث هذا وهو ابن سوار الكندي وهو ضعيف كما في "التقريب"، وإنما أخرج له مسلم متابعة)).
وبهذا يجتمع قول عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما في بيان أنَّ علة التحريم من هذا البيع هي الربا وليست الجهالة.

وخلاصة القول في هذه المسألة:
أنَّ زيادة ((فله أوكسهما أو الربا)) صحيحة، وقد صححها وعمل بها جمع من أهل العلم، وهي تبين علة النهي من البيعتين في بيعة؛ وهي الربا.
وأنَّ تفسير سماك لم ينفرد به وإنما وافقه عليه عبد الوهاب بن عطاء، وتفسيرهما أولى من تفسير غيرهما؛ لأنهما راويان من رواة الحديث، وقد قبلا تفسيرهما جمع من الأئمة كذلك.
أما قول مَنْ قال بأنَّ علة النهي جهالة الثمن مع الافتراق في المجلس فمردود؛ لأنَّ الثمن في هذه الصورة غير مجهول على الحقيقة، فهو معلوم في حال النقد بكذا وفي حال النسيئة بكذا وكذا، ((فالشاري حين ينصرف بما اشتراه: فإما أن ينقد الثمن، وإما أن يؤجِّل، فالبيع في الصورة الأولى صحيح، وفي الصورة الأخرى ينصرف وعليه ثمن الأجل وهو موضع الخلاف؛ فأين الجهالة المدعاة؟)) كما قال الألباني وقد تقدَّم.
وإنما توجد الجهالة في مثل هذه الصورة من البيع عند من يقول بالإيجاب والقبول في صحة البيوع، أما من يقول بمجرد المعاطاة فلا يُتصور وجودها حينئذ، والغريب أنَّ هؤلاء قد تابعوا أولئك من غير تمحيص لقولهم.
ثم أنَّ الشارع جعل سبب النهي كون الأزيد ربا وصحح بيع الأقل؛ وهذا يُناقض دعوى بطلان البيع على كل حال لجهالة الثمن كما زعم أولئك.
وبهذا يتضح بأنَّ أصحاب المسلك الأول قولهم مردود شرعاً ونظراً.
وأما مسلك مَنْ قال: معنى بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا فإذا وجب لي غلامك وجب لك داري، ونحو ذلك، فمردود كذلك؛ لأنه بعيد عن تفسير راويي الحديث.
وأما دعوى أنَّ تصحيح البيع بأقل الثمنين منسوخ، فهذا مبني على أنَّ الناقل عن الأصل مقدَّم على الأصل، لكن هذا عند التعارض وتعذر الجمع، ولا تعارض بين حديث ((نهى عن بيعتين في بيع)) وحديث ((من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا))؛ لأنَّ الأول في محل حكم البيع بهذه الصورة، والثاني في محل المخرج منها بعد وقوع البيع، فاختلف المحلان فلا تعارض.
ويبقى قولان؛ قول مَنْ فسَّر البيعتين في بيعة بتفسير سماك بن حرب وأنَّ علة النهي اختلاف الثمن بين النقد والنسيئة، وقول مَنْ لم يقبل تفسير سماك وإنما فسَّر البيعتين في بيعة ببيع العينة نفسه؛ وهما قولان قويان لأنهما مبنيان على أنَّ تعليل النهي بالربا، وصورتهما عند النظر بيعتين في بيعة، فوافقا الشرع والنظر.
والقول الأخير نصره العلامة ابن القيم كما تقدَّم النقل عنه، ولو رجعنا إلى ذلك النقل وتأمَّلنا فيه وجدنا أنَّ كلام ابن القيم قد خرج من مشكاة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وقد تقدم النقل عنه كذلك، لكن بين القولين وطريقة الاستدلال فروق بيِّنة.
-فابن القيم رحمه الله تعالى نقل أنَّ تفسير "البيعتين في بيعة" ببيع العينة هو قول شيخه وهو مطابق لمعنى الحديث، بل إنَّ معنى الحديث لا يتنزل إلا على العينة، بينما نجد في كلام شيخه رحمه الله تعالى أنه يفسِّره بثلاثة تفاسير، يستبعد الأول، ويجعل الثاني مطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فله أوكسهما أو الربا"، ويجعل الثالث أولى بلفظ "البيعتين في بيعة"، والثاني عند شيخ الإسلام هو أن يقول هي بنقد بكذا أبيعكها بنسيئة بكذا، بينما الثالث عنده هو بيع العينة.
-وابن القيم يعتقد أنَّ تفسير سماك بن حرب للحديث تفسير ضعيف مطلقاً، وهو بعيد عن معنى الحديث، وأنَّ الربا المشار إليه في الحديث لا يدخل في الصورة التي ذكرها سماك، بل الصورة التي ذكرها سماك صفقة واحدة بأحد الثمنين وليست صفقتين، بينما قال ذلك شيخ الإسلام في الوجه الأول من تفسير سماك حيث قال: ((أحدهما: أن يبيعه بأحدهما مبهماً ويتفرقا على ذلك؛ وهذا تفسير جماعة من أهل العلم، لكنه بعيد من هذا الحديث، فإنه لا مدخل للربا هنا، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واحدة بثمن مبهم))؛ أي على وجه جهالة الثمن، بينما جعل الوجه الثاني لتفسير سماك وهو اختلاف الثمن بين النقد والنسيئة مطابق لمعنى الحديث كما تقدَّم.
-وابن القيم يقول في بيان رد الوجه الأول لتفسير سماك على حسب تعداده: ((ومعلوم أنه إذا أخذ بالثمن الأزيد في هذا العقد لم يكن رباً)) أي أنَّ زيادة الثمن في حال النسيئة ليست من الربا، بينما جعلها شيخه من الربا فقال: ((فإنْ أخذ الزيادة فهو مربٍ)). 
والذي يبدو لي – والله تعالى أعلم – أنَّ سبب هذا الاختلاف في تنزيل الكلام على تلك الوجوه بين شيخ الإسلام وتلميذه مع اتفاق ألفاظهما في الغالب، أنَّ العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر أنَّ لتفسير البيعتين في بيعة قولين؛ الأول تفسير سماك بن حرب واستبعده، والثاني بيع العينة ونصره، بينما شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى ذكر أنَّ لتفسير البيعتين في بيعة قولين كذلك؛ لكن القول الأول وهو تفسير سماك له وجهان؛ استبعد الأول وهو المبني على جهالة الثمن، وقوَّى الثاني وهو المبني على زيادة الثمن في حال النسيئة، ثم ذكر القول الثاني لتفسير البيعتين في بيعة وهو بمعنى بيع العينة.
والصحيح في ذكر الأقوال ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، لأنَّ قول مَنْ قال بحرمة هذا البيع لأجل جهالة الثمن قول مشهور عند كثير من أهل العلم، فما كان للعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى أن يتجاوزه أو يهمله، وأعظم من ذلك أنه ما كان له أن ينزِّل كلام شيخه رحمه الله تعالى على غير الوجه الذي أراده، ولعله وقع منه ذلك عن غفلة وخطأ، نسأل الله تعالى أن يتجاوز عنا وعنه وعن جميع المسلمين بمنِّه ورحمته.
وعلى هذا؛ فما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى من استدلالات في نصرة قول مَنْ فسَّر البيعتين في بيعة بالعينة وتضعيف ما سواه يُجاب عنها بكلام شيخه رحمه الله تعالى، وبما تقدَّم، والله تعالى أعلم.     
وأما الاستدلال بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع واحد، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن)) الذي أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم؛ على أنه جمع بين سلف وبيع وبين شرطين في بيع لأنهما يؤولان إلى الربا، ثم في رواية عند أحمد بلفظ: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، وعن بيع وسلف، وعن ربح ما لم يضمن، وعن بيع ما ليس عندك)) التي جمع بها بين بيعتين في بيعة وبيع وسلف، فكانت البيعتين في بيعة بمعنى الشرطين في بيع، وعلتهما الربا.
استدلال فيه نظر؛ لأنَّ الشارع جمع معهما كذلك "بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن" وعلتهما الغرر والجهالة كما هو ظاهر، فللمقابل أن يستدل بهذا على أنَّ علة النهي عن بيعتين في بيعة هي الجهالة أو الغرر.
لكـن مطابقة البيعتين في بيعة للشرطين في بيع مطابقة صحيحة؛ لأنَّ الروايات يبين بعضها بعضاً. 
وإنْ جاز لأحد أن يُفسِّر البيعتين في بيعة أو الشرطين في بيع ببيع العينة حصراً، لجاز لآخر أن يُفسِّر النهي عن بيع وسلف بالعينة كذلك، لأنَّ العينة صورتها بيع وحقيقتها قرض ربوي، ولكن التأسيس في الألفاظ أولى من التأكيد.
فالأرجح أنَّ بيعتين في بيعة هي غير بيع العينة، ولو صح دخول العينة في البيعتين في بيعة فهذا لا يمنع من دخول غيرها في ذلك كدخول البيع الذي يجمع بين صفقتي النقد والنسيئة؛ كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ونقله عن ابن عباس وغيره، وإنما يبقى الخلاف في أولوية المعنيين في الدخول في تلك الصورة المنهي عنها، والأمر عند هذا الحد هيِّن؛ لأنَّ كلاً منهما قد ورد تفسير البيعتين في بيعة بهما عن السلف الصالح، فلا ضير.
وبيع السلعة بالآجل بأكثر من ثمنها في الحال داخل في صورة صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة كما تقدَّم عن أهل العلم آنفاً، بل هو أولى من صورة التورق، لأنَّ في التورق لا يتصور معنى الحديث ((فله أوكسهما))؛ لأنه لا يعقل لمن أراد الدراهم أن يبيح له الشرع البيع بمثلها، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [الفتاوى الكبرى 6/ 54]((فإنه لا يبيع درهماً بدرهم يساويه من كل جهة نسيئة؛ فإنَّ العاقل لا غرض له في مثل هذا))، وإنما يُعقل ذلك في بيع السلعة مع الاختلاف بين ثمن النقد وهو الأقل وبين ثمنها في الآجل وهو الأكثر، ولذا فهذه الصورة داخلة في حديث: ((مَنْ باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)).
بل تفسير سماك للحديث بقوله: ((الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنقد بكذا وبنسأ بكذا وكذا)) ظاهر في التقسيط المعروف، بعيد عن التورق، ولهذا فهم منه جمهور أهل العلم: أنَّ البائع يبيع السلعة بثمنين أحدهما نقداً والآخر نسيئة بأكثر منه ولم يفهموا منه تقويم السلعة نقداً ثم شراؤها في الآجل بأكثر من ذلك ثم بيعها بسعر النقد، ولكنهم عللوا النهي بجهالة الثمن؛ وقد تقدَّم الجواب عنه.
 وبهذا يتبين لنا من هذا البحث: تحريم بيع التقسيط؛ إذا كان البائع يعرضه ببيعتين إحداهما في الحال بثمن النقد والأخرى في الآجل بأكثر منه، وأنه لو وقع فليس للبائع أن يأخذ الثمن الأكثر لأنه ربا، ولا يخرج من ذلك إلا ببيعه بالثمن الأقل، والله تعالى أعلم.

مذهب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في المسألة:
الظاهر من مذهب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في زيادة الثمن من أجل الزيادة في الأجل أنه يجيزه لكن لا على الإطلاق، بل مع مراعاة الشروط الشرعية؛ فقد جاء في [المجموع 29/ 499-500]: ((وسئل رحمه الله: عن رجل محتاج إلى تاجر عنده قماش فقال: اعطني هذه القطعة؟ فقال التاجر: مشتراها بثلاثين، وما أبيعها إلا بخمسين إلى أجل؛ فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
المشتري على ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يكون مقصوده السلعة ينتفع بها للأكل والشرب واللبس والركوب وغير ذلك.
والثاني: أن يكون مقصوده التجارة فيها.
فهذان نوعان جائزان بالكتاب والسنة والإجماع؛ كما قال تعالى: "وأحل الله البيع" وقال تعالى: "إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم".
لكن لابد من مراعاة الشروط الشرعية؛ فإذا كان المشتري مضطراً لم يجز أن يباع إلا بقيمة المثل؛ مثل أن يضطر الإنسان إلى مشترى طعام لا يجده إلا عند شخص فعليه أن يبيعه إياه بالقيمة؛ قيمة المثل، وإنْ لم يبعه إلا بأكثر: فللمشتري أن يأخذه بغير اختياره بقيمة المثل، وإذا أعطاه إياه لم يجب عليه إلا قيمة المثل، وإذا باعه إياه بالقيمة إلى ذلك الأجل؛ فإنَّ الأجل يأخذ قسطاً من الثمن.
النوع الثالث: أن يكون المشتري إنما يريد به دراهم مثلاً ليوفي بها ديناً واشترى بها شيئاً؛ فيتفقان على أن يعطيه مثلاً المائة بمائة وعشرين إلى أجل؛ فهذا كله منهي عنه، فإن اتفقا على أن يعيد السلعة إليه فهو "بيعتان في بيعة"، وإن أدخلا ثالثاً يشتري منه السلعة ثم تعاد إليه فكذلك، وإن باعه وأقرضه فكذلك، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان المشتري يأخذ السلعة فيبيعها في موضع آخر يشتريها بمائة ويبيعها بسبعين لأجل الحاجة إلى دراهم؛ فهذه تسمى مسألة التورق، وفيها نزاع بين العلماء، والأقوى أيضاً أنه منهي عنها، وأنها أصل الربا كما قال ذلك عمر بن عبد العزيز وغيره والله أعلم))
قوله: ((فهذان نوعان جائزان بالكتاب والسنة والإجماع)) يقصد بهما شراء السلعة للاتجار والانتفاع، أما النوع الثالث وهو شراؤها من أجل الدراهم؛ ففيه نزاع.
وأما قوله: ((وإذا باعه إياه بالقيمة إلى ذلك الأجل؛ فإنَّ الأجل يأخذ قسطاً من الثمن)) فظاهره إباحة الزيادة في حال النسيئة.
وإنما قلتُ (الظاهر) لأنَّ لفظ السؤال يحتمل غير ذلك، فقول التاجر: ((مشتراها بثلاثين، وما أبيعها إلا بخمسين إلى أجل)) قد يٌفهم منه أنه لا يبيعها إلا بالآجل لكونه أكثر ثمناً من البيع في الحال، وهذا ليس فيه بيعتان في بيعة، بل بيعة واحدة في الآجل، ولا نهي حينئذ، فقول شيخ الإسلام: ((فإنَّ الأجل يأخذ قسطاً من الثمن)) قد يتنزَّل على هذه الصورة.
بل والجواب يحتمل كذلك؛ فقوله: ((وإذا باعه إياه بالقيمة إلى ذلك الأجل)) واضح من سياق الكلام في قيمة المِثل بلا زيادة، وقوله بعده: ((فإنَّ الأجل يأخذ قسطاً من الثمن)) أي وما دام أنه باعه إياه بالآجل فإنَّ له بهذا التأجيل أن يُطالبه بجزء من الثمن في أوقات معينة؛ قال رحمه الله تعالى في بيان معنى التقسيط [المجموع 30/ 26]: ((وله أن يطلب منه كل وقت ما يقدر عليه؛ وهو التقسيط)).
فلا يُمكن الجزم بمذهبه من هذه العبارة.
ثم أنه قد جاء عنه رحمه الله تعالى في المجموع [المجموع 29/ 438-439]:((وسئل: عن رجل له مع رجل معاملة، فتأخر له معه دراهم فطالبه، وهو معسر، فاشترى له بضاعة من صاحب دكان وباعها له بزيادة مائة درهم حتى صبر عليه؛ فهل تصح هذه المعاملة؟
فأجاب: لا تجوز هذه المعاملة؛ بل إنْ كان الغريم معسراً فله أن ينتظره، وأما المعاملة التي يزاد فيها الدَّين والأجل فهي معاملة ربوية؛ وإنْ دخلا بينهما صاحب الحانوت، والواجب أنَّ صاحب الدَّين لا يطالب إلا برأس ماله، لا يطالب بالزيادة التي لم يقبضها)).
فقوله: ((وأما المعاملة التي يزاد فيها الدَّين والأجل فهي معاملة ربوية)) وإنْ كان ظاهره في ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية؛ الذي صورته كما قال شيخ الإسلام [المجموع20/ 349]: ((وكذلك ربا النسأ؛ فإنَّ أهل ثقيف الذين نزل فيهم القرآن، أنَّ الرجل كان يأتي إلى الغريم عند حلول الأجل فيقول: أتقضي أم تربي؟ فأنْ لم يقضه وإلا زاده المدين في المال وزاده الطالب في الأجل، فيضاعف المال في المدة لأجل التأخير؛ وهذا هو الربا الذي لا يشك فيه باتفاق سلف الأمة، وفيه نزل القرآن، والظلم والضرر فيه ظاهر)).
إلا أنه يحتمل عموم الذم في المعاملات التي يُزاد فيها المال المؤجَّل مع زيادة الأجل، وهذا عين مسألة زيادة الثمن من أجل الزيادة في الأجل؛ كما هو واضح.
ثم أنَّ البيع بالآجل - عند تصوِّره - عاقبته قرضٌ من البائع ودينٌ في ذمة المشتري؛ وهذا إذا اقترن به زيادة الثمن صار قرضاً بزيادة وهو ربا، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [الفتاوى الكبرى 6/ 159]: ((وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو وغيره أنه قال: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك" رواه الإمـام أحمـد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه؛ وما ذاك - والله أعلم - إلا أنه إذا باعه شيئاً وأقرضه فإنه يزيد في الثمن لأجل القرض، فيصير القرض بزيادة، وذلك ربا.
فمن تدبر هذا؛ علم أنَّ كل معاملة كان مقصود صاحبها أن يقرض قرضاً بربح واحتال على ذلك بأن اشترى من المقترض سلعة بمائة حالة ثم باعها إياها بمائة وعشرين إلى أجل، أو باعه سلعة بمائة وعشرين إلى أجل ثم ابتاعها بمائة حالة، أو باعه سلعة تساوي عشرة بخمسين وأقرضه مع ذلك خمسين، أو واطأ مخادعاً ثالثاً على أن يشتري منه سلعة بمائة ثم يبيعها المشتري للمقترض بمائة وعشرين ثم يعود المشتري المقترض فيبيعها للأول بمائة إلا درهمين، وما أشبه هذه العقود يقال فيها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلا أفردت أحد العقدين عن الآخر ثم نظرت" هل كنت مبتاعها أو بايعه بهدا الثمن أم لا؟ فإذا كنتَ إنما نقصت هذا وزدت هذا لأجل هذا: كان له قسط من العوض؛ وإذا كان كذلك فهو ربا))
فقوله: ((كل معاملة كان مقصود صاحبها أن يقرض قرضاً بربح)) يفيد عموم المعاملات قطعاً؛ ومنه البيع بالدَّين مع زيادة الثمن، والله تعالى أعلم.

شبهة وجوابها:
يستدل بعض أهل العلم على جواز زيادة الثمن من أجل التأخير في تسديده بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهِّز جيشاً؛ قال عبد الله بن عمرو: وليس عندنا ظهر، قال: فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتاع ظهراً إلى خروج المصدق، فابتاع عبد الله بن عمرو البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى خروج المصدِّق؛ بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وأحمد وأبو داود والطحاوي والحاكم والدارقطني والبيهقي. والحديث حسَّنه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في الإرواء 5/ 206-207 حديث رقم (1358).
معنى الحديث:
أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يجهز جيشاً من إبل الصدقة، فأمر عبد الله بن عمرو بذلك، فلم يجد إبلاً في الصدقات، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يشتري إبلاً ويكون تسديد الثمن في وقت خروج عمال الصدقات حين يجمعونها من الأغنياء، ويكون ثمن البعير الذي يشتريه للجيش بمقدار بعيرين من إبل الصدقة أو أكثر لكن في وقت خروج عمال الصدقات. 
فقال المستدل بهذه الحادثة: فهذه الزيادة في الأبعرة من أجل التأخير في تسديد الثمن، وهذه هي حقيقة بيع التقسيط.
والجواب عن ذلك:
أنَّ هذا الحديث يُعارضه حديث: ((نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة))؛ قال الصنعاني [سبل السلام 4/ 181]: ((رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن الجارود وأخرجه أحمد وأبو يعلى والضياء في المختارة كلهم من حديث الحسن عن سمرة؛ وقد صححه الترمذي، وقال غيره: رجاله ثقات إلا أنَّ الحفاظ رجحوا إرساله لما في سماع الحسن من سمرة من النزاع؛ لكن رواه ابن حبان والدارقطني من حديث ابن عباس ورجاله ثقات أيضاً إلا أنه رجَّح البخاري وأحمد إرساله، وأخرجه الترمذي عن جابر بإسناد لين، وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن جابر بن سمرة، والطحاوي والطبراني عن ابن عمر، وهو يعضد بعضه بعضاً، وفيه دليل على: عدم صحة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)).
والحديث صححه الشيخ الألباني في الصحيحة برقم (2416).
ويوضِّحه حديث: ((لا بأس بالحيوان واحد باثنين يداً بيد)) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي بزيادة: ((لا يصلح نسيئاً)) وابن ماجه وزاد: ((وكرهه نسيئة)) وحسَّنه الألباني في الصحيحة بالحديث السابق.
فالحديثان ظاهرهما التعارض، ومسألة بيع الحيوان بالحيوان من المسائل التي اختلف فيها الأئمة، وقد توسَّع الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى في بيان الخلاف وأقوال المختلفين وأدلتهم في كتاب الاستذكار.
وأقرب هذه الأقوال:
أنه يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة مع التفاضل بالعدد إذا اختلفا في الغرض فيهما والمنفعة بهما، أما إنْ تشابها في ذلك فلا يجوز؛ وهذا قول مالك وأصحابه، وبه تجتمع الأدلة.
قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله تعالى [الاستذكار 6/ 265-266]: ((مذهب مالك الذي لا اختلاف فيه عنه وعن أصحابه هو معنى ما رسمه ها هنا وفي باب "ما يجوز من بيع الحيوان بعضه ببعض والسلف فيه" من الموطأ.
وجملة ذلك: بأنه لا بأس عنده العبد بالعبدين والفرس بالفرسين والبعير بالبعيرين وكذلك سائر الحيوان إذا اختلفا في الغرض فيهما والمنفعة بهما، ويجوز إذا كانت المنافع والأغراض مختلفة، وسنبين ذلك في باب "بيع الحيوان بعضه ببعض" إنْ شاء الله عز وجل))
وفي باب بيع الحيوان بعضه ببعض ذكر ابن عبد البر اختلاف العلماء وأقوالهم وأدلتهم، وقال في آخره [الاستذكار 6/ 419]: ((يحتمل أن يحتج لمذهب مالك بالحديثين المرفوعين في هذا الباب حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وحديث سمرة؛ فيكون المعنى في حديث عبد الله بن عمرو: وإذا اختلفت الأغراض والمنافع على ما وصفنا من مذهبه في ذلك. ويكون معنى حديث سمرة: إذا لم تختلف فلا يجوز بيع طعامها يقع بعضها ببعض نسيئة؛ فيستعمل الحديثان على هذا.
إلا أنَّ الأصل في البيوع أنها حلال إذا كانت تجارة عن تراض إلا ما حرمه الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم نصاً أو كان في معنى النص فإنَّ ذلك حرام وإنْ تراضى به المتبايعان، وإذا تعارضت الآثار في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة سقطت، وكانت الحجة في عموم ظاهر القرآن لأنها تجارة عن تراض، وبالله التوفيق))
قلتُ: التساقط بين الأدلة يكون إذا تعذَّر الجمع والترجيح، وإلا فكم من الآثار قد تعارضت ولم تتساقط؟! ولو قيل بتساقط الأدلة كلما تعارضت لتعطَّلت أحكام كثيرة في الشرع، فكيف والجمع المنقول عن الإمام مالك تجتمع به الأدلة والآثار ولا تتعارض؟!
وتكلَّم في هذه المسألة كذلك العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في حاشيته على سنن أبي داود، وذكر أنَّ فيها أربعة مذاهب هي روايات عن الإمام أحمد، فذكرها حتى وصل إلى الثالثة فقال:
))والرواية الثالثة عنه: أنه يجوز فيه النساء إذا كان متماثلاً ويحرم مع التفاضل؛ وعلى هاتين الروايتين فلا يجوز الجمع بين النسيئة والتفاضل، بل إنْ وجد أحدهما حرم الآخر، وهذا أعدل الأقوال في المسألة وهو قول مالك، فيجوز عبد بعيدين حالاً وعبد بعبد نساء.
إلا أنَّ لمالك فيه تفصيلاً؛ والذي عقد عليه أصل قوله أنه: لا يجوز التفاضل والنساء معاً في جنس من الأجناس، والجنس عنده معتبر باتفاق الأغراض والمنافع، فيجوز بيع البعير البختي بالبعيرين من الحمولة ومن حاشية إبله إلى أجل لاختلاق المنافع، وإنْ أشبه بعضها بعضا اختلفت أجناسها أو لم تختلف فلا يجوز منها اثنان بواحد إلى أجل؛ فسر مذهبه أنه لا يجتمع التفاضل والنساء في الجنس الواحد عنده، والجنس ما اتفقت منافعه وأشبه بعضه بعضاً وإنْ اختلفت حقيقته، فهذا تحقيق مذاهب الأئمة في هذه المسألة المعضلة ومآخذهم، وحديث عبد الله بن عمرو صريح في جواز المفاضلة والنساء وهو حديث حسن)). ثم ختم رحمه الله تعالى هذه المبحث بقوله: ((فهذه نكتٌ في هذه المسألة المعضلة لا تكاد توجد مجموعة في كتاب؛ وبالله التوفيق)).
فمَنْ رام التحقيق في مسألة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فليرجع إلى حاشية العلامة ابن القيم وإلى غيره من كتب المذاهب.
وبهذا يتبيِّن لنا:
أنَّ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ((البعير بالبعيرين)) إنما أجاز ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أصل التحريم في حديث سمرة لأنه كان صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى أبعرة شديدة تتحمَّل الغزو والسفر، وإبل الصدقة كانت ضعيفة لا تصلح للغزو والسفر، فجاز البيع من هذه الجهة، فالزيادة هنا من أجل النوع والمنفعة لا من أجل الأجل؛ فلا يصلح الاستدلال بحديث ابن عمرو على جواز الزيادة لأجل الأجل!!؛ والذي هو محل النزاع في بيع التقسيط.
وقد أشار ابن عباس رضي الله عنه إلى علة المنفعة والغرض في بيع الأبعرة فقال: ((قد يكون البعير خيراً من البعيرين)) علَّقه البخاري ووصله الحافظ ابن حجر في الفتح فقال: ((وصله الشافعي من طريق طاووس: أنَّ ابن عباس سئل عن بعير ببعيرين فقاله))، وكذلك ابن عمر رضي الله عنه أشار إلى ذلك؛ قال الحافظ في الفتح: ((ورواه ابن أبي شيبة من طريق أبي بشر عن نافع: أنَّ ابن عمر اشترى ناقة بأربعة أبعرة بالربذة، فقال لصاحب الناقة: اذهب فانظر فإنْ رضيت فقد وجب البيع))
فقوله: ((اذهب فانظر فإنْ رضيت فقد وجب البيع)) بـيِّن في وقوع البيع بعد النظر والرضى، ولم يكتفِ بذكر العدد إلى أجل.
ثم لو كانت الزيادة في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص من أجل الأجل (التأخير في سداد الثمن) لا من أجل اختلاف المنفعة والغرض؛ لما جاز أن نعمِّم الحكم إلى غير بيع الحيوان بالحيوان، فقصة عمرو حادثة عين لا يُقاس عليها إلا مثيلاتها، وإلا للزم منه التعارض مع حديث النهي عن بيع الجنسين من الأصناف الربوية إلا يداً بيد، ولعلَّ من أجل ذلك قال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: ((لا ربا في الحيوان؛ البعير بالبعيرين والشاة بالشاتين إلى أجل)) علَّقه البخاري ووصله الحافظ ابن حجر فقال: ((أما قول سعيد فوصله مالك عن ابن شهاب عنه: "لا ربا في الحيوان"، ووصله بن أبي شيبة من طريق أخرى عن الزهري عنه: "لا بأس بالبعير بالبعيرين نسيئة")).
فقوله: ((لا ربا في الحيوان)) يدل على أنَّ غيره يختلف.

وشبهة أخرى:
أنَّ البعض يستدل على جواز البيع إلى أجل بزيادة الثمن عن ثمن الحال بالقياس على بيع السلم.
وجوابها:
أنَّ قياس (البيع بزيادة الثمن لأجل التأجيل في تسديده) على (بيع السلم أو السلف الذي يجوز فيه تأجيل تسليم المبيع ودفع الثمن نقداً) قياس شبه؛ علته مجرد التشابه في التأجيل؛ مع أنَّ الأول يفرق عن الثاني أنَّ التأجيل يصحبه زيادة في الثمن، وهذا النوع من القياس مردود لم يذكره الله تعالى إلا على لسان المبطلين في كتابه الكريم [انظر إعلام الموقعين (1/ 148-150) لمعرفة حكم هذا القياس]؛ ومثاله: قوله تعالى: (قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، وقوله تعالى (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ)، فمجرد التشابه من وجه لا يستلزم المساواة، والقياس الصحيح: المساواة بين الأصل والفرع في الحكم لعلة جامعة مناسبة.
فبيع السلم تأجيل تسليم المبيع (المحصول أو المتاع) إلى أجل من غير زيادة في المبيع، بل الوزن أو الكيل معلوم عند العقد ولا يتغير بعده، أما بيع التقسيط المحرَّم فهو زيادة الثمن لأجل الأجل؛ فكيف يُقاس هذا على ذلك؟!
نعم؛ لو كان بيع التقسيط مجرَّد تأجيل تسليم الثمن إلى أجل من غير شرط الزيادة كما أنَّ السلم تأجيل تسليم المبيع إلى أجل من غير زيادة لصحَّ القياس، بل لا نحتاج إلى قياس أصلاً، لأنَّ هذا التأجيل في تسليم الثمن من غير زيادة جائز بالنص والإجماع، بل وجاء بنصِّ القرآن مشروعية إنظار المعسر.
ثم لو صح هذا القياس فهو في مقابل النص؛ وهو فاسد، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في إباحة السلف: ((مَنْ أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم))، بينما قال في الزيادة لأجل الأجل: ((مَنْ باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)).
ثم أنَّ بيع السلم استثناء من أصل تحريم بيع المجهول رفعاً للحرج في نقل المحصول أو المتاع، فلا يُمكن أن نتوسَّع في هذا الاستثناء.
هذا؛ وممن يفرِّق بين السلف وبين البيع مع اختلاف الثمن بين النقد والنسيئة شيخ الإسلام رحمه الله تعالى حيث سئل في [المجموع 29/ 495-496]: ((عن رجل عنده قمح قيمته وزن ثمانية عشر درهماً باعه إلى أجل بخمسة وعشرين؛ هل يجوز؟ والسلم في الغلة حلال أم حرام؟)).
[فائدة: في لسان العرب: "والغَلَّة الدَّخْل الذي يحصل من الزرع والثمر واللبن والإِجارة والنِّتاج ونحو ذلك"]
فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ((أما السلف فإنه جائز بالإجماع كما قال النبي صلى الله عليه و سلم: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"، وأما إذا قوَّم السلعة بقيمة حالة وباعها إلى أجل بأكثر من ذلك فهذا منهي عنه في أصح قولي العلماء؛ كما قال ابن عباس: "إذا استقمت بنقد ثم بعت بنقد فلا بأس وإذا استقمت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم" ومعنى قوله: "استقمت" أي: قوَّمت، والله أعلم)).

وأخيراً:
أحب أن أختم هذا المبحث بكلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى حين تكلم عن خلاف أهل العلم في بيع العينة واختلافهم في تفسير بيعتين في بيعة، قال بعده محذِّراً من الوقوع فيما اشتبه فيه الأمر من البيوع بين البيع المشروع وبين الربا؛ [الفتاوى الكبرى 6/ 44]: ((ومما يؤيد هذا المعنى والمعنى المذكور في الوجه الذي قبله ما روى الشعبي عن ابن عمر أنَّ عمر قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بعد؛ أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل، وثلاث وددت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهنَّ عهداً ينتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا" رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
فإنَّ هذا دليل على أنَّ عمر رضي الله عنه قصد بيان الأسماء التي فيها إجمال، ورأى أنَّ منها الخمر والربا، فإنَّ منهما ما لا يستريب أحد في تسميته رباً وخمراً، ومنهما ما قد يقع فيه الشبهة، وكان عنده علم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ اسم الخمر يعم كل ما خامر العقل وهي كلمة جامعة لكل شراب مسكر.
وأما الربا فلم يكن يحفظ فيه لفظاً جامعاً فقال فيما لم يتبينه: "وأبواب من أبواب الربا" فعلم أنَّ كثيراً مما يحسبه الناس بيعاً هو رباً؛ فإنَّ آية الربا من آخر القرآن نزولاً، فلم يعرف جميع أبواب الربا كثير من العلماء، ولهذا قام عمر رضي الله عنه خطيباً في الناس فقال: "ألا إنَّ آخر القرآن كان تنزيلاً آية الربا ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبين لنا - وفي لفظ: قبل أن يفسِّرها لنا - فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم" وفي لفظ آخر: "فدعوا الربا والريبة" وهذا مشهور محفوظ صحيح عن عمر؛ أي: اتقوا ما تعلمون أنه الربا وما تستريبون فيه، وهذا من فقهه رضي الله عنه، فإنَّ الله أحل البيع وحرم الربا.
فما استيقن أنه داخل في حد البيع دون الربا أو الربا دون البيع فلا ريب فيه، وما جاز أن يكون داخلاً في أحدهما دون الآخر فقد اشتبه أمره وهو الريبة؛ فليس هنا أصل متيقن حتى يرد إليه المشتبه، لأنا قد تيقنا أنَّ الربا محرم، وهو اسم مجمل، ومنه ما هو مستثنى من جملة ما يسمى في اللغة بيعاً، واستثناء المجهول من المعلوم يوجب الجهالة في المستثنى؛ إلا فيما علم أنه لا ربا فيه.
ويشهد لهذا حديث - لا أحفظ الآن إسناده – "ليأتينَّ على الناس زمان لا يبقى فيهم إلا من أكل الربا فمن لا يأكل منه أصابه من غباره"، ثم وجدت إسناده: روينا في مسند الإمام أحمد قال: حدثنا هشيم عن عباد بن راشد عن سعيد بن أبي حبرة وحدثنا الحسن منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة عن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا" قال: قيل له: الناس كلهم؟ قال: "مَنْ لم يأكل منهم ناله من غباره"، وما ذاك إلا لظهور المعاملات التي تستباح باسم البيع أو الهبة أو القرض أو الإجارة أو غير ذلك، ومعناها معنى الربا.
وبؤيد هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن مسروق عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات الأواخر من سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاهنَّ في المسجد، وحرَّم التجارة في الخمر.
فإنَّ تحريمه التجارة في الخمر عقيب نزول هذه الآيات لا بد أن يكون لمناسبة بين المنزَّل والمحرَّم، وهذا - والله أعلم - لأنَّ الخمر كانت قد حُرِّمت قبل ذلك، وقد يتأول الناس فيها أنَّ المحرَّم عينها لا ثمنها كما تأولت اليهود في الشحوم؛ وقد وقع ذلك لبعض المتقدمين فيستحلون المحارم بنوع من التأويل.
والربا كذلك؛ فإنَّ كثيراً من الناس يتأول في استحلال كثير من المعاملات أنها بيع ليست رباً مع أنَّ معناها معنى الربا، فكان تحريمه للتجارة في الخمر إذ ذاك حسماً لمادة التأويل في استحلال المحرمات، وكان هذا البيان عقيب آية الربا مناسب؛ لأنَّ الربا آخر ما حرمه الله سبحانه فذكر النبي صلى الله عليه وسلم عقيبه ما دلَّ الأمة على المنبر من التأويلات التي يستباح بها الخمر والربا والزنا وغيرها.
ثم إنه أخبر في الحديث أنَّ الذين يستحلون هذه المحارم ينحلونها أسماء غير الأسماء الحقيقية يمسخون قردة وخنازير، وكذلك عمر رضي الله عنه أمر بترك الأشربة المسكرة كلها، وبترك الريب التي لا يعلم أنها بيع حلال بل يمكن أنها ربا، وهذا كله يدل على تشابه معاني هذه الأحاديث وتوافقها أمراً وأخباراً.
وهذه الآثار كلها إذا تأملها الفقيه تبين أنها مشكاة واحدة، وعلم أنَّ الاعتبار بحقيقة العقود ومقاصدها التي تؤول إليها والتي قصدت بها، وأنَّ الاحتيال لا يرفع بهذه الحقيقة، وهذا بيِّن إنْ شاء الله تعالى)) انتهى بطوله وحروفه.
أسأل الله تعالى أن يجنِّبنا وإياكم الربا بجميع أبوابه وصوره، وأن يغفر لنا ما قد سلف بمنِّه وعفوه، وأن يُبصِّرنا بأمور ديننا، وأن يرزقنا الإخلاص والسداد فيما نقول ونعمل ونكتب؛ والله الموفِّق.

كتبه: أبو معاذ رائـد آل طـاهر


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.