الجمعة، 18 يناير 2013

الـنذارة من خطورة التوسع في الحج عن الغير خصوصاً إذا قُصد به الكسب والتجارة


إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً  يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
فإنَّ خير الكلام كلام الله عزَّ وجلَّ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فإنَّ من المسائل التي اختلف فيها العلماء سلفاً وخلفاً مسألة "الحج عن الغير"، ويُمكن لنا أن نلخص ذلك الخلاف وتفريعاته وأسبابه، وأقوال المختلفين واستدلالاتهم وردودهم، من خلال هذين النقلين:
قال الحافظ النووي رحمه الله في [شرح صحيح مسلم 9/ 98]: ((ومذهب الجمهور: جواز الحج عن العاجز بموت أو عضب؛ وهو الزمانة والهرم ونحوهما، وقال مالك والليث والحسن بن صالح: لا يحج أحدٌ عن أحدٍ إلا عن ميت لم يحج حَجَّةَ الإسلام؛ قال القاضي: وحُكي عن النخعي وبعض السلف: لا يصح الحج عن ميت ولا غيره - وهي رواية عن مالك - وإنْ أوصى به، وقال الشافعي والجمهور: يجوز الحج عن الميت عن فرضه ونذره سواء أوصى به أم لا، ويجزئ عنه، ومذهب الشافعي وغيره: أنَّ ذلك واجب في تركته، وعندنا يجوز للعاجز الاستنابة في حجِّ التطوع على أصح القولين، واتفق العلماء على: جواز حج المرأة عن الرجل؛ إلا الحسن بن صالح فمنعه، وكذا يمنعه من منع أصل الاستنابة مطلقاً)).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في [الفتح 4/ 69-70] تعليقاً على حديث الخثعمية: ((وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز الحج عن الغير؛ واستدل الكوفيون بعمومه على جواز صحة حج مَنْ لم يحج نيابة عن غيره، وخالفهم الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه؛ واستدلوا بما في السنن وصحيح بن خزيمة وغيره من حديث ابن عباس أيضاً: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يلبي عن شبرمة، فقال: أحججت عن نفسك؟ فقال: لا، قال: "هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة"، واستدل به على أنَّ الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس، وعكس بعض المالكية فقال: مَنْ لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب، وأجابوا عن حديث الباب: بأنَّ ذلك وقع من السائل على جهة التبرع وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب، وبأنها عبادة بدنية فلا تصح النيابة فيها كالصلاة، وقد نقل الطبري وغيره: الإجماع على أنَّ النيابة لا تدخل في الصلاة، قالوا: ولأنَّ العبادات فرضت على جهة الابتلاء وهو لا يوجد في العبادات البدنية الا بإتعاب البدن؛ فبه يظهر الانقياد أو النفور، بخلاف الزكاة فإنَّ الابتلاء فيها بنقص المال وهو حاصل بالنفس وبالغير، وأجيب: بأنَّ قياس الحج على الصلاة لا يصح لأنَّ عبادة الحج مالية بدنية معاً، فلا يترجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة، ولهذا قال المازري: من غَلَّبَ حكم البدن في الحج ألحقه بالصلاة ومن غَلَّبَ حكم المال ألحقه بالصدقة، وقد أجاز المالكية: الحج عن الغير إذا أوصى به، ولم يجيزوا ذلك في الصلاة، وبأنَّ حصر الابتلاء في المباشرة ممنوع؛ لأنه يوجد في الآمر مِن بذلهِ المال في الأُجرة، وقال عياض: لا حُجَّةَ للمخالف في حديث الباب؛ لأنَّ قوله "أنَّ فريضة الله على عباده" الخ معناه: أنَّ إلزام الله عباده بالحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبي بصفة منْ لا يستطيع؛ فهل أحج عنه؟ أي هل يجوز لي ذلك؟ أو هل فيه أجر ومنفعة؟ فقال: نعم، وتعقِّب بأنَّ في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء فيتم الاستدلال، وتقدم في بعض طرق مسلم: "أنَّ أبي عليه فريضة الله في الحج"، ولأحمد في رواية "والحج مكتوب عليه"، وادَّعى بعضهم أنَّ هذه القصة مختصة بالخثعمية كما اختصَّ سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير حكاه ابن عبد البر؛ وتعقِّب بأنَّ الأصل عدم الخصوصية، واحتج بعضهم لذلك بما رواه عبد الملك بن حبيب صاحب الواضحة بإسنادين مرسلين فزاد في الحديث: "حج عنه وليس لأحد بعده"، ولا حجة فيه لضعف الإسنادين مع إرسالهما، وقد عارضة قوله في حديث الجهنية الماضي في الباب "اقضوا الله فالله أحق بالوفاء"، وادَّعى آخرون منهم: أنَّ ذلك خاص بالابن يحج عن أبيه؛ ولا يخفى أنه جمود، وقال القرطبي: "رأى مالك أنَّ ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن فرجَّح ظاهر القرآن، ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره ومن جهة أنَّ القول المذكور قول امرأة ظنتْ ظناً، قال: ولا يقال قد أجابها النبي صلى الله عليه وسلم على سؤالها ولو كان ظنها غلطاً لبينه لها؛ لأنا نقول: إنما أجابها عن قولها "أفاحج عنه" قال: "حجي عنه"، لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها" اهـ، وتُعقِّب بأنَّ في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لها على ذلك حجة ظاهرة، وأما ما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس فزاد في الحديث: "حُجَّ عن أبيك: فإنْ لم يزده خيراً لم يزده شراً"، فقد جزم الحفاظ بأنها رواية شاذة، وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها للمخالف.
ومن فروع المسألة: أنْ لا فرق بين من استقرَّ الوجوب في ذمته قبل العضب أو طرأ عليه؛ خلافاً للحنفية، وللجمهور ظاهر قصة الخثعمية، وأنَّ مَنْ حَجَّ عن غيره وقع الحج عن المستنيب خلافاً لمحمد بن الحسن؛ فقال: يقع عن المباشر وللمحجوج عنه أجر النفقة، واختلفوا فيما أذاعوا في المعضوب، فقال الجمهور: لا يجزئه لأنه تبين أنه لم يكن ميئوساً منه، وقال أحمد وإسحاق: لا تلزمه الإعادة لئلا يفضى إلى إيجاب حَجَّتين، واتفق من أجاز النيابة في الحج: على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضب، فلا يدخل المريض لأنه يُرجى برؤه، ولا المجنون لأنه تُرجى إفاقته، ولا المحبوس لأنه يُرجى خلاصه، ولا الفقير لأنه يمكن استغناؤه، والله أعلم)).
أقول:
وأصل الكلام في هذه المسألة مبني على ثلاثة مباحث:
الأول: الكلام في النصوص التي تدل على أنَّ العبد ليس له إلا ما كسبت يداه، ولا يُجزى إلا بعمله، وإذا مات انقطع عمله إلا من أمور محدودة نصَّ الشارع عليها.
الثاني: الكلام في الأحاديث التي تجيز الحج عن الغير.
الثالث: حكم أخذ الأجرة على القرب والعبادات والأعمال الصالحة؛ ومنها الحج، هل يجوز الحج للأجرة؟.
المبحث الأول
الكلام في النصوص التي تدل على أنَّ العبد ليس له إلا ما كسبت يداه، ولا يجزى إلا بعمله، وإذا مات انقطع عمله إلا من أمور محدودة نصَّ الشارع عليها

إنَّ البحث في مثل هذه المسألة يحتاج أولاً إلى تقرير القول في مثل قوله تعالى: (وَأَنْ لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى))، وقوله: ((فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، وقوله: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) رواه مسلم وغيره.
فالملاحظ في هذه النصوص أنها وردت بأقوى صيغ الحصر والقصر، إما بالنفي والاستثناء، وإما بتقديم ما حقه التأخير، مما يدل هذا على أنَّ الإنسان ليس له إلا ما كسبت يداه ولا يجزى إلا بعمله، وأنه إذا مات انقطع عمله إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.
وهذه الثلاثة المذكورة في الحديث لا تخالف ظاهر الآيات المتقدمة، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: (("وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى" أي: كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومَنْ اتبعه: أنَّ القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم؛ ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما، وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به" فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: "إنَّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنَّ ولده من كسبه"، والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وقد قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم)، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضاً من سعيه وعمله، وثبت في الصحيح: "مَنْ دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، مَنْ غير أن ينقص من أجورهم شيئاً")).
لكن هناك نصوص كثيرة تدل على أنَّ الإنسان ينتفع بعمل غيره، وقد جمع ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في [المجموع 24/ 306-313] في جواب له لما سُئل: ((عن قوله تعالى: "وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"؛ فهل يقتضي ذلك إذا مات لا يصل إليه شيء من أفعال البر؟)).
فكان جوابه رحمه الله مفصَّلاً: ((الحمد لله رب العالمين؛ ليس في الآية ولا في الحديث: أنَّ الميت لا ينتفع بدعاء الخلق له وبما يُعمل عنه من البر؛ بل أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بذلك، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمَنْ خالف ذلك كان من أهل البدع، قال الله تعالى: "الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته" فقد أخبر سبحانه أنَّ الملائكة يدعون للمؤمنين بالمغفرة ووقاية العذاب ودخول الجنة، ودعاء الملائكة ليس عملاً للعبد، وقال تعالى: "واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات"، وقال الخليل عليه السلام: "ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب"، وقال نوح عليه السلام: "رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات"، فقد ذكر استغفار الرسل للمؤمنين، أمراً بذلك وإخباراً عنهم بذلك، ومن السنن المتواترة التي من جحدها كفر: صلاة المسلمين على الميت ودعاؤهم له في الصلاة، وكذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فإنَّ السنن فيها متواترة، بل لم ينكر شفاعته لأهل الكبائر إلا أهل البدع، بل قد ثبت أنه يشفع لأهل الكبائر، وشفاعته دعاؤه وسؤاله الله تبارك وتعالى، فهذا وأمثاله من القرآن والسنن المتواترة، وجاحد مثل ذلك كافر بعد قيام الحجة عليه.
والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، مثل ما في الصحاح عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنَّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ أمي توفيت، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم، قال: إنَّ لي مخرفاً - أي بستاناً - أشهدكم أني تصدقت به عنها"، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلَّمتْ تصدَّقتْ، فهل لها أجر إنْ تصدَّقتُ عنها؟ قال: نعم"، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أنَّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ أبي مات ولم يوص، أينفعه إن تصدقت عنه؟ قال: نعم"، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: "أنَّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بدنة، وأنَّ هشام بن العاص نحر حصته خمسين، وأنَّ عَمراً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت عنه، أو تصدقت عنه نفعه ذلك"، وفي سنن الدارقطني: "أنَّ رجلاً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ لي أبوين، وكنتُ أبرهما حال حياتهما، فكيف بالبر بعد موتهما؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ من بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدق لهما مع صدقتك"، وقد ذكر مسلم في أول كتابه عن أبي إسحاق الطالقاني، قال: قلتُ لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن، الحديث الذي جاء "إنَّ البر بعد البر، أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك"؟ قال عبد الله: يا أبا إسحاق، عمن هذا؟ قلت له: هذا من حديث شهاب بن خراش، قال: ثقة، قلت: عمن؟ قال عن الحجاج بن دينار، فقال: ثقة، عمن؟ قلت: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، "يا أبا إسحاق إنَّ بين الحجاج وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاوز تقطع فيها أعناق المطي، ولكن ليس في الصدقة اختلاف"، والأمر كما ذكره عبد الله بن المبارك، فإنَّ هذا الحديث مرسل، والأئمة اتفقوا على أنَّ الصدقة تصل إلى الميت، وكذلك العبادات المالية، كالعتق، وإنما تنازعوا في العبادات البدنية: كالصلاة، والصيام، والقراءة.
ومع هذا ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه"، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه: "أنَّ امرأة قالت يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت، وعليها صيام نذر، قال: أرأيت إن كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدى ذلك عنها؟ قالت: نعم، قال: فصومي عن أمك"، وفي الصحيح عنه "أنَّ امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنَّ أختي ماتت، وعليها صوم شهرين متتابعين، قال: أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضيه؟ قالت: نعم، قال فحق الله أحق"، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن بريدة بن حصيب عن أبيه: "أنَّ امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنَّ أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفيجزي عنها أن أصوم عنها، قال: نعم".
فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في أنه يصام عن الميت ما نذر، وأنه شبَّه ذلك بقضاء الدَّين، والأئمة تنازعوا في ذلك، ولم يخالف هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة مَنْ بلغته، وإنما خالفها مَنْ لم تبلغه، وقد تقدم حديث عمرو بأنهم إذا صاموا عن المسلم نفعه.
وأما الحج؛ فيجزي عند عامتهم، ليس فيه إلا اختلاف شاذ، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنَّ امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال: حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته عنها؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء"، وفي رواية البخاري: "إنَّ أختي نذرت أن تحج"، وفي صحيح مسلم عن بريدة: "أنَّ امرأة قالت: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت ولم تحج، أفيجزي - أو يقضى - أن أحج عنها، قال: نعم"، ففي هذه الأحاديث الصحيحة أنه أمر بحج الفرض عن الميت وبحج النذر كما أمر بالصيام، وأنَّ المأمور تارة يكون ولداً، وتارة يكون أخاً، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالدَّين يكون على الميت، والدَّين يصح قضاؤه من كل أحد، فدلَّ على أنه يجوز أن يفعل ذلك من كل أحد، لا يختص ذلك بالولد، كما جاء مصرحاً به في الأخ.
فهذا الذي ثبت بالكتاب والسنة والإجماع عِلمٌ مفصَّل مبين، فعلم أنَّ ذلك لا ينافي قوله: "وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى"، "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، بل هذا حق، وهذا حق.
أما الحديث فإنه قال: "انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، فذكر الولد ودعاؤه له خاصين ؛ لأنَّ الولد من كسبه، كما قال: "ما أغنى عنه ماله وما كسب"، قالوا: إنه ولده، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنَّ ولده من كسبه"، فلما كان هو الساعي في وجود الولد كان عمله من كسبه، بخلاف الأخ والعم والأب ونحوهم فإنه ينتفع أيضا بدعائهم بل بدعاء الأجانب، لكن ليس ذلك من عمله، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "انقطع عمله إلا من ثلاث" لم يقل: إنه لم ينتفع بعمل غيره، فإذا دعا له ولده كان هذا من عمله الذي لم ينقطع، وإذا دعا له غيره لم يكن من عمله لكنه ينتفع به.
وأما الآية؛ فللناس عنها أجوبة متعددة، كما قيل: إنها تختص بشرع من قبلنا، وقيل: إنها مخصوصة، وقيل: إنها منسوخة، وقيل: إنها تنال السعي مباشرةً وسبباً؛ والإيمان من سعيه الذي تسبَّب فيه، ولا يحتاج إلى شيء من ذلك، بل ظاهر الآية حق لا يخالف بقية النصوص، فإنه قال: "ليس للإنسان إلا ما سعى"، وهذا حق، فإنه إنما يستحق سعيه، فهو الذي يملكه ويستحقه، كما أنه إنما يملك من المكاسب ما اكتسبه هو، وأما سعي غيره فهو حق ومِلك لذلك الغير، لا له، لكن هذا لا يمنع أن ينتفع بسعي غيره، كما ينتفع الرجل بكسب غيره، فمن صلى على جنازة فله قيراط، فيثاب المصلي على سعيه الذي هو صلاته، والميت أيضاً يرحم بصلاة الحي عليه، كما قال: "ما من مسلم يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة ويروى أربعين، ويروى ثلاثة صفوف، ويشفعون فيه، إلا شفعوا فيه - أو قال إلا غفر له –"، فالله تعالى يثيب هذا الساعي على سعيه الذي هو له، ويرحم ذلك الميت بسعي هذا الحي لدعائه له وصدقته عنه وصيامه عنه وحجه عنه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يدعو لأخيه دعوة إلا وكَّلَ الله به مَلكاً كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك الموكَّل به: آمين ولك بمثله"، فهذا من السعي الذي ينفع به المؤمن أخاه يثيب الله هذا، ويرحم هذا، "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى"، وليس كل ما ينتفع به الميت أو الحي أو يرحم به يكون من سعيه، بل أطفال المؤمنين يدخلون الجنة مع آبائهم بلا سعي، فالذي لم يجز إلا به أخص من كل انتفاع؛ لئلا يطلب الإنسان الثواب على غير عمله، وهو كالدَّين يوفِّيه الإنسان عن غيره، فتبرأ ذمته، لكن ليس له ما وفَّى به الدَّين ؛ وينبغي له أن يكون هو الموفِّي له، والله أعلم)).
قلتُ:
ليس ثمة تعارض بين كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وبين كلام العلماء الذين يستدلون بهذه النصوص في منع أن يحج العبد عن الغير مثلاً؛ لأنَّ شيخ الإسلام رحمه الله يثبت في كلامه السابق انتفاع العبد بعمل الغير، وهذا لا ينازع فيه أحدٌ من أهل السنة كما ذكر هو، وإنما محل النزاع بينهم: هل يكون هذا العمل للغير، أم لفاعله وينتفع به هذا الغير؟، وفي مثالنا المضروب: هل يكون الحج عن الغير حجاً له يسقط به عنه الفرض ويكتب له به الأجر ويُكتب حاج يوم القيامة؟ أم ينتفع به الغير من باب إهداء ثواب العمل وأجره له، ولا يكون حاجاً؟.
إنَّ ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله من نصوص واستدلال بها لا يتعدَّى مسألة الانتفاع بعمل الغير، ولا خلاف فيه من حيث الجملة، وإنما قد يختلف العلماء في بعض أفراد الأعمال، هل ينتفع بها العبد من قبيل إهداء الثواب أم لا؟ وليس هذا موضعه.
ولتلميذ شيخ الإسلام العلامة ابن قيم الجوزية رحمهما الله كلام موسَّع في ذكر مذاهب وأفهام العلماء من النصوص المتقدِّمة، بيَّن فيه ضعفَ كل مذهب من هذه المذاهب بالحجة القوية، ثم رجَّح قولاً آخر في فهم هذه النصوص، لهذا سأنقل كلامه بطوله لأهميته، ثم نعلِّق عليه بما يخص مسألتنا المطروحة.
 قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه [الروح ص125-129] أثناء رده على أدلة المانعين من إهداء الثواب للأموات: ((قال أصحاب الوصول: ليس في شيء مما ذكرتم ما يعارض أدلة الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ومقتضى قواعد الشرع، ونحن نجيب عن كل ما ذكرتموه بالعدل والإنصاف:
أما قوله تعالى: "وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى" فقد اختلفت طرق الناس في المراد بالآية:
1- فقالت طائفة: المراد بالإنسان ها هنا الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى وما سُعي له؛ بالأدلة التي ذكرناها، قالوا: وغاية ما في هذا التخصيص، وهو جائز إذا دلَّ عليه الدليل، وهذا الجواب ضعيف جداً، ومثل هذا العام لا يراد به الكافر وحده، بل هو للمسلم والكافر، وهو كالعام الذي قبله، وهو قوله تعالى: "أنْ لا تزر وازرة وزر أخرى"، والسياق كله من أوله إلى آخره كالصريح في إرادة العموم، لقوله تعالى: "وأنَّ سعيه سوف يرى. ثم يجزاه الجزاء الأوفى" وهذا يعم الشر والخير قطعاً، ويتناول البر والفاجر والمؤمن والكافر، كقوله تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"، وكقوله له في الحديث الإلهي: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها: فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه"، وهو كقوله تعالى: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه"، ولا تغتر بقول كثير من المفسرين في لفظ "الإنسان" في القرآن، الإنسان ها هنا أبو جهل، والإنسان ها هنا عقبة ابن أبى معيط، والإنسان هاهنا الوليد ابن المغيرة، فالقرآن أجل من ذلك، بل الإنسان هو الإنسان من حيث هو من غير اختصاص بواحد بعينه، كقوله تعالى: "إنَّ الإنسان لفي خسر"، و "إنَّ الإنسان لربه لكنود"، و "إنَّ الإنسان خلق هلوعاً"، و "إنَّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"، وإنَّ الإنسان لظلوم كفار"، و "وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً"، فهذا شأن الإنسان من حيث ذاته ونفسه وخروجه عن هذه الصفات بفضل ربه وتوفيقه له ومنته عليه، لا من ذاته، فليس له من ذاته إلا هذه الصفات، وما به من نعمة فمن الله وحده، فهو الذى حبب إلى عبده الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، وهو الذي كتب في قلبه الإيمان، وهو الذي يثبت أنبياءه ورسله وأولياءه على دينه، وهو الذي يصرف عنهم السوء والفحشاء، وكان يرتجز بين يدي النبي: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا. وقد قال تعالى: "وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله"، وقال تعالى: "وما يذكرون إلا أن يشاء الله"، "وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين"، فهو رب جميع العالم، ربوبية شاملة لجميع ما في العالم من ذوات وأفعال وأحوال.
2- وقالت طائفة: الآية إخبار بشرع من قبلنا، وقد دلَّ شرعنا على أنه له ما سعى وما سُعي له، وهذا أيضاً أضعف من الأول أو من جنسه، فإنَّ الله سبحانه أخبر بذلك إخبار مقرر له محتج به، لا إخبار مبطل له، ولهذا قال: "أم لم ينبأ بما في صحف موسى"، فلو كان هذا باطلاً في هذه الشريعة لم يخبر به إخبار مقرر له محتج به.
3- وقالت طائفة: اللام بمعنى على، أي: وليس على الإنسان إلا ما سعى، وهذا أبطل من القولين الأولين، فإنه قول موضوع الكلام إلى ضد معناه المفهوم منه، ولا يسوغ مثل هذا، ولا تحتمله اللغة، وأما نحو "ولهم اللعنة" فهي على بابها أي نصيبهم وحظهم، وأما أنَّ العرب تعرف في لغاتها لي درهم بمعنى علي درهم فكلا.
4- وقالت طائفة: في الكلام حذف، تقديره: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى أو سُعي له، وهذا أيضاً من النمط الأول، فإنه حذف ما لا يدل السياق عليه بوجه، وقول على الله وكتابه بلا علم.
5- وقالت طائفة أخرى: الآية منسوخة بقوله تعالى: "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم"، وهذا منقول عن ابن عباس رضى الله عنهما، وهذا ضعيف أيضاً، ولا يرفع حكم الآية بمجرد قول ابن عباس رضى الله عنهما ولا غيره أنها منسوخة، والجميع بين الآيتين غير متعذر ولا ممتنع؛ فإنَّ الأبناء تبعوا الآباء في الآخرة كما كانوا تبعاً لهم في الدنيا، وهذه التبعية هي من كرامة الآباء وثوابهم الذي نالوه بسعيهم، وأما كون الأبناء لحقوا بهم في الدرجة بلا سعي منهم فهذا ليس هو لهم، وإنما هو للآباء، أقر الله أعينهم بإلحاق ذريتهم بهم في الجنة، وتفضل على الأبناء بشيء لم يكن لهم، كما تفضل بذلك على الوالدان والحور العين، والخلق الذين ينشؤهم للجنة بغير أعمال، والقوم الذين يدخلهم الجنة بلا خير قدموه ولا عمل عملوه، فقوله تعالى: "أن لا تزر وازرة وزر أخرى"، وقوله: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" آيتان محكمتان يقتضيهما عدل الرب تعالى وحكمته وكماله المقدَّس، والعقل والفطرة شاهدان بهما، فالأول تقتضي أنه لا يعاقب بجرم غيره، والثانية تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله وسعيه، فالأولى تؤمِّن العبد من أخذه بجريرة غيره كما يفعله ملوك الدنيا، والثانية تقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، فتأمل حسن اجتماع هاتين الآيتين، ونظيره قوله تعالى: "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً"، فحكم سبحانه لأعدائه بأربعة أحكام هي غاية العدل والحكمة؛ أحدها: إنَّ هدى العباد بالإيمان والعمل الصالح لنفسه لا لغيره، الثاني: أنَّ ضلاله بفوات ذلك وتخلفه عنه على نفسه لا على غيره، الثالث: أنَّ أحداً لا يُؤاخذ بجريرة غيره، الرابع: أنه لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه برسله، فتأمل ما في ضمن هذه الأحكام الأربعة من حكمته تعالى وعدله وفضله، والرد على أهل الغرور والأطماع الكاذبة، وعلى أهل الجهل بالله وأسمائه وصفاته.
6- وقالت طائفة أخرى: المراد بالإنسان ها هنا الحي دون الميت، وهذا أيضاً من النمط الأول في الفساد، وهذا كله من سوء التصرف في اللفظ العام، وصاحب هذا التصرف لا ينفذ تصرفه في دلالات الألفاظ وحملها على خلاف موضوعها وما يتبادر إلى الذهن منها، وهو تصرف فاسد قطعاً يبطله السياق والاعتبار وقواعد الشرع وأدلته وعرفه، وسبب هذا التصرف السيىء أنَّ صاحبه يعتقد قولاً ثم يرد كلَّ ما دلَّ على خلافه بأي طريق اتفقت له، فالأدلة المخالفة لما اعتقده عنده من باب الصائل لا يبالي بأي شيء دفعه، وأدلة الحق لا تتعارض ولا تتناقض، بل يصدق بعضها بعضاً.
7- وقالت طائفة أخرى، وهو جواب أبي الوفاء بن عقيل قال - الجواب الجيد عندي - : أن يقال الإنسان بسعيه وحسن عشرته: اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس، فترحموا عليه وأهدوا له العبادات، وكان ذلك أثر سعيه كما قال: "إنَّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإنَّ ولده من كسبه"، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر: "إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به من بعده، وصدقة جارية عليه، أو ولد صالح يدعو له"، ومن هنا قول الشافعي: إذا بذل له ولده طاعة الحج كان ذلك سبباً لوجوب الحج عليه؛ حتى كأنه في ماله زاد وراحلة، بخلاف بذل الأجنبي، وهذا جواب متوسِّط يحتاج إلى تمام.
فإنَّ العبد بإيمانه وطاعته لله ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله، فإنَّ المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها؛ كالصلاة في جماعة فإنَّ كل واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفاً لمشاركة غيره له في الصلاة، فعمل غيره كان سبباً لزيادة أجره، كما أنَّ عمله سبب لزيادة أجر الآخر، بل قد قيل: إنَّ الصلاة يضاعف ثوابها بعدد المصلين، وكذلك اشتراكهم في الجهاد، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه".
ومعلوم أنَّ هذا بأمور الدين أولى منه بأمور الدنيا، فدخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم، وقد أخبر الله سبحانه عن حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم، وأخبر عن دعاء رسله واستغفارهم للمؤمنين كنوح وإبراهيم ومحمد، فالعبد بإيمانه قد تسبب إلى وصول هذا الدعاء إليه؛ فكأنه من سعيه.
يوضحه: أنَّ الله سبحانه جعل الإيمان سبباً لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم؛ فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصِل إليه، وقد دلَّ على ذلك قول النبي عليه السلام لعمرو بن العاص: "إنَّ أباك لو كان أقر بالتوحيد نفعه ذلك" يعنى العتق الذي فعل عنه بعد موته، فلو أتى بالسبب لكان قد سعى في عمل يوصل إليه ثواب العتق، وهذه طريقة لطيفة حسنة جداً.
8- وقالت طائفة أخرى: القرآن لم ينفِ انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى مِلكه لغير سعيه؛ وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعى غيره فهو مِلكٌ لساعيه، فإنْ شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه، وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى، وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها.
فصل؛ وكذلك قوله تعالى: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" وقوله: "ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون"، على أنَّ هذه الآية أصرح في الدلالة، على أنَّ سياقها [سقط في الكلام] وإنما ينفي عقوبة العبد بعمل غيره وأخذه بجريرته، فإنَّ الله سبحانه قال: "فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون"، فنفى أن يُظلم بأن يزاد عليه في سيئاته أو ينقص من حسناته أو يعاقب بعمل غيره، ولم ينف أن ينتفع بعمل غيره؛ لا على وجه الجزاء فإنَّ انتفاعه بما يُهدى إليه ليس جزاء على عمله، وإنما هو صدقة تصدَّق الله بها عليه وتفضل بها عليه من غير سعي منه، بل وهبه ذلك على يد بعض عباده لا على وجه الجزاء.
فصل؛ وأما استدلالكم بقوله: "إذا مات العبد انقطع عمله"، فاستدلال ساقط، فإنه لم يقل: انقطع انتفاعه وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله هو، فالمنقطع شيء والواصل إليه شيء آخر، وكذلك الحديث الآخر وهو قوله: "إنَّ مما يلحق الميت من حسناته وعمله" فلا ينفي أن يلحقه غير ذلك من عمل غيره وحسناته)).
قلتُ:
والذي يظهر من كلام شيخ الإسلام وتلميذه رحمهما الله أنهما يقران أنَّ العمل المهدى أو المنتفع به إنما هو لعامله الذي عمله، وإنما ينتفع المهدى إليه بثوابه؛ وهذا في غير الولد عن والديه، وأما في حال الولد عن والديه فيكون المهدى عملاً وثواباً لهما، لأنَّ الولد من كسب أبيه، وإلى هذا أشار شيخ الإسلام رحمه الله بقوله: ((فإذا دعا له ولده كان هذا من عمله الذي لم ينقطع، وإذا دعا له غيره لم يكن من عمله لكنه ينتفع به))، وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: ((وأما استدلالكم بقوله: "إذا مات العبد انقطع عمله"، فاستدلال ساقط، فإنه لم يقل: انقطع انتفاعه وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإنْ وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله هو، فالمنقطع شيء والواصل إليه شيء آخر)).
ومعلوم أنَّ محل الخلاف في مسألتنا المطروحة هنا يدور حول: هل يكون المهدى - في غير الولد عن والديه - عملاً وثواباً للمهدى إليه؟! هذا الأمر الذي لم يذكره الشيخان رحمهما الله، بل ظاهر كلامهما المتقدِّم أنَّ العمل من كسب المهدي لا المهدى إليه.
ولهذا فنحتاج أنَّ نتأمَّل في الأدلة التي وردت في الحج عن الغير، لنتعرف من خلالها على جواب السؤال:
هل يحج غير الولد عن الغير ويكون عملاً له؟!
قال شيخ الإسلام رحمه الله في [شرح العمدة 2/ 143]: ((فقول السائل: "أدركته فريضة الله في الحج" يجوز أن يعني به أنه حر عاقل بالغ من أهل الوجوب؛ لكن هو عاجز عن الأداء، فإنْ إستناب، فهل يقوم فعل النائب مقام فعله بحيث يكون بمنزلة مَنْ فعل؟ أم لا يصح ذلك فيبقى غير فاعل؟)).

المبحث الثاني
الكلام في الأحاديث التي تجيز الحج عن الغير

وردت عدة أحاديث في مشروعية الحج عن الغير، منها ما هو متعلِّق بفريضة الحج، ومنها ما هو متعلِّق بالنذر، ومنها ما هو متعلِّق بالوصية، ومنها مطلق، ومن جهة الحاج والمحجوج عنه: وردت أحاديث منها حج الابن أو البنت عن الأب أو الأم، ومنها حج الأخ عن أخته، ومنها حج الأخ عن أخيه أو قريبه، ومنها مطلق أيضاً، ولهذا سنذكر هذه الأحاديث ونبيِّن سندها أولاً، ثم نناقش دلالتها وما يُستفاد منها من معاني واستدلالات.

الحديث الأول: حديث الخثعمية
أخرج الشيخان وغيرهما عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وفي لفظ عند مسلم: "فَحُجِّي عَنْهُ"، وعند ابن ماجه بلفظ: إنَّ أبي شيخ كبير قد أفند وأدركته فريضة الله على عباده في الحج، ولا يستطيع أداءها؛ فهل يجزئ عنه أن أؤديها عنه؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، وفي لفظ آخر عند أحمد والدارمي وابن ماجه: "قال: نعم؛ فإنه لو كان على أبيك دين قضيته".
وقد ورد في هذه القصة غير ذلك، فورد أنَّ المرأة الخثعمية سألت عن أمها، وفي رواية أنَّ رجلاً من خثعم سأل عن أبيه، وفي أخرى عن أمه، وغير ذلك، ومن أهل العلم مَنْ جعل هذه الروايات شاذة وأنَّ الرواية الأولى هي المحفوظة، ومنهم مَنْ حاول الجمع بينها وأنها وقعت عدة مرات أو وقع السؤال من أكثر من سائل في واقعة واحدة، والخلاف في ذلك لا يؤثِّر في مسألتنا هنا، لهذا سنعرض عنه.

الحديث الثاني: حديث الجُهينية
أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا؛ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ، فاقْضُوا اللهَ  الَّذِي لَهُ، فَاللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ".

الحديث الثالث: حديث بريدة
أخرج مسلم وغيره عن بريدة رضي الله عنه قال: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ: "وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: "صُومِي عَنْهَا"، قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ؛ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: "حُجِّي عَنْهَا".

الحديث الرابع: حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه
أخرج أصحاب السنن عن أبي رزين أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إنَّ أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن؟ قال: "حجَّ عن أبيك واعتمر".

الحديث الخامس: حج الرجل عن أخته التي نذرت الحج وماتت
أخرج البخاري وغيره عن عبدالله بن عباس أنه قال: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِي قَدْ نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ".
وهو عند ابن حبان بلفظ: إِنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرَأَيْتَ لَوَ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ" أي مطلق غير مقيد بالنذر!، وقد نبَّه الشيخ الألباني رحمه الله في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان: أنَّ هذه القصة في حج النذر خاصة فقال: ((فإنَّ ظاهرها أنها لم تحج حَجَّة الإسلام، وليس كذلك، وإنما هي حَجَّةُ نَذْرٍ، فقد أخرج أحمد (1/  345) عن وكيع ... بلفظ: "إنَّ أختي نذرت أن تَحُجَ وقد ماتت"، وكذلك أخرجه البخاري (6699) والطيالسي (2621) وأحمد أيضاً (1/  239-240) والطبراني في ((المعجم الكبير)) (12/ 50/ 12443) من طرقٍ أُخرَ عن شعبة ... به، وكذلك أخرجه النسائي (2/  4) وابن الجارود (501) وابن خزيمة (4/  346/ 3041))).

الحديث السادس: حجُّ الرجل عن أبيه الميت أو الحي الذي لا يستطيع الحج
أخرج النسائي وابن حبان والطبراني وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أَفَأَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوَ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "حُجَّ عَنْ أَبِيكَ".
وأخرج ابن ماجه - من طريق عبدالرزاق صاحب المصنَّف - عن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحجُّ عن أبي؟ قال: "نعم حج عن أبيك؛ فإنْ لم تزده خيراً لم تزده شراً"، وهذه الزيادة منكرة أو شاذة؛ قال الشيخ الألباني رحمه الله في الضعيفة (5967): ((وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، لكن المتن منكر، أو على الأقل شاذ؛ لِمُخَالِفَتِهِ كل الطرق المروية عن ابن عباس رضي الله عنهما في السؤال المذكور، ومع أنه وقع الخلاف فيها: أكان السائل رَجُلًا أم امرأة، والثاني هو الراجح الموافق لما في الصحيحين، وهو مخرج في الإرواء (992)، وجلباب المرأة المسلمة؛ أقول: ومع ذلك - فليس في شيء منها هذه الزيادة: "إن لم تزده خَيْرًا، لم تزده شَرًّا"، فدل ذلك على نكارتها أو شذوذها. فإن قيل: فممن العلة؟ قلتُ: قد بينها الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في كتابه القيم "التمهيد" ؛ فقال (9 /  129) بعد أن ذكره من طريق عبد الرزاق: "أما هذا الحديث؛ فقد حملوا فيه على عبد الرزاق؛ لانفراده به عن الثوري من بين سائر أصحابه، وقالوا: هذا حديث لا يوجد في الدنيا عند أحد بهذا الإسناد إلا في كتاب عبد الرزاق!، أو في كتاب من أخرجه من كتاب عبد الرزاق!، ولم يروه أحد عن الثوري غيره، وقد خطأوه فيه، وهو عندهم خطأ، فقالوا: هذا لفظ منكر، لا يشبه ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر بما لا يدري هل ينفع أم لا!"، ثم روى بإسناده عن عبيد بن محمد الكشوري أنه قال: "لم يروه أحد غير عبد الرزاق عن الثوري، ولم يروه عن الثوري لا كوفي ولا بصري ولا أحد"، والحديث لم أره في "مصنف عبد الرزاق" المطبوع، وفيه خرم كبير في بعض كتبه مثل "المناسك" و "الطهارة"، وليس في "مسند أحمد" ؛ فالظاهر أنه رواه في بعض كتبه الأخرى، ولا هو في "مجمع الزوائد" مع أنه على شرطه!، فلعله لم يورده؛ لأنَّ الجملة الأولى منه في "الصحيحين " كما تقدم، والله أعلم. ثم رأيت الحديث قد عزاه الحافظ في "الفتح" (4 / 70) لعبد الرزاق، ثم ضعفه بقوله: "جزم الحفاظ بأنها رواية شاذة")) انتهى كلام الألباني.
وعند ابن أبي شيبة في مصنفه وغيره عن ابن الزبير رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: "أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَحُجَّ عَنْ أَبِيكَ، أَفَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ؟"، وفيه (يوسف بن الزبير) لم يوثِّقه غير ابن حبان، وقال فيه ابن حجر: مقبول، وذكر الألباني رحمه الله هذا الحديث في الضعيفة.
وعند ابن ماجه عن حصين بن عوف رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْحَجُّ وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحُجَّ إِلاَّ مُعْتَرِضًا؟ فَصَمَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: "حُجَّ عَنْ أَبِيكَ"، ضعَّفه الألباني أيضاً.
أقـول:
ومما يُستفاد من هذه الأحاديث:
1- التفريق بين إهداء الثواب والنفع للغير، وبين وقوع الحج عن الغير فعلاً وعملاً؛ فهؤلاء لم يحجوا عن أنفسهم ابتداء ثم أهدوا ثواب حجتهم إلى آبائهم أو أمهاتهم تبعاً، وإنما حجوا عن آبائهم وأمهاتهم أصالة، والنبي صلى الله عليه وسلم سماه حجاً عن الأب أو الأم، وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في [شرح العمدة 2/ 238]: ((وإذا استناب رجلاً في الحج أو ناب عنه في فرضه، فإنَّ الحج يقع عن المحجوج عنه كأنه هو الذي فعله بنفسه سواء كان من جهة المنوب مال أو لم يكن؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شبَّه الحج بالدَّين، وجعل فعله عن العاجز والميت كقضاء الدَّين عنه، وقال لأبي رزين: "حج عن أبيك واعتمر"، وقال للخثعمية: "حجي عنه"، وكذلك قال لغير واحد: "حج عنه"، والشيء إذا فعل عن الغير كان الفاعل بمنزلة الوكيل والنائب، ويكون العمل مستحقاً للمعمول عنه، ولهذا لو وجب على الإنسان عمل في عقد أجارة فعمله عنه عامل كان العمل للأجير لا للعامل، ولأنه ينوي الإحرام عنه ويلبي عنه؛ ولو لم يكن للمحجوج عنه إلا ثواب النفقة كان بمنزلة من أعطى غيره مالاً يحج عن نفسه أو يجاهد الكفار، فلم يجز أن يلبي عنه)).
2- أنَّ المطالبة بالحج على مَنْ وجب عليه لا يسقط بعدم استطاعة العبد بنفسه ولا ينقطع بالموت، بل هو دَينٌ في ذمة العبد المكلَّف كما قضى فيه الشارع؛ فإنْ أمكن حصول الاستطاعة فيجب عليه أن يؤدِّيه بنفسه ولا يحج عنه غيره أبداً، وإن استحالت الاستطاعة إلى آخر العمر بسبب كبر سنه أو سبب لا يُرجى زواله: فيجب أن يوكِّل أو ينيب غيره في حياته، أو يوصي مَنْ يؤدِّيه عنه بعد موته، وإنْ مات ولم يفعل ذلك من غير تفريط فهو في ذمته لا يسقط عنه، وهذا معنى الدَّين المذكور في هذه الأحاديث، ويجب الحج عنه بعد موته من ماله وتركته قبل تقسيم الميراث، أو بأداء وصيته إنْ أوصى قبل الموت، قال تعالى: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)، وإذا لم يكن له تركة ولم يوص: فيجب على الولد أن يحج عنه إنْ كان مستطيعاً - بعد أن يقوم بالحج عن نفسه أولاً كما سيأتي بيان هذا الشرط في حديث شبرمة – لأنَّ الولد وماله لأبيه، فهو وماله امتدادٌ له.
وأما إنْ كان قد وجب عليه الحج وكان مستطيعاً ولم يحج تفريطاً، ولم يتداركه بوصية ولا بتوكيل حتى مات؛ فهذا قد اختلف العلماء في قضاء الدَّين عنه، هل يجزئ ويخفَّف في عقوبته - وقد يُغفر له مع استحقاقه للعقاب وقد يُعذَّب - أم لا يجزئ عنه الحج أبداً؟
والملاحظ في الأحاديث السابقة أنَّ أغلبها مقيدة بعدم الاستطاعة أو وجود العذر المانع من الحج، وهذا يقوي القول الثاني، ومنها مطلقة في الحج عن الميت من غير ذكر للمانع من الحج كالحديث الثالث والخامس، وهذه يستدل بعمومها أصحاب القول الأول، ويُحتمل أن تكون الواقعة واحدة، فيكون الإطلاق فيهما مقيداً بعدم الاستطاعة في الأحاديث الأخرى لكنَّ بعض الرواة ذكره مختصراً، ويُحتمل أنَّ الأحاديث المقيدة بعدم الاستطاعة مسبوقة بتفريط من المحجوج عنه، ثم لما تاب وأناب لم يستطع الحج بنفسه، ويُحتمل أنَّ فريضة الحج أدركت المسؤول عنه  - والحجُّ شُرِّع في السنة العاشرة للهجرة على أرجح الأقوال – أو أسلم وهو شيخ كبير لا يستطيع الحج، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من السائل، هل كان مفرِّطاً من قبل أم لا؟ والمقام يحتمل مثل هذه الحالة، وبعض العلماء يقول: "تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ"، فوجوب الحج عن الغير غير مشروط بعدم التفريط، بل بمجرد بذل الولد واستطاعته أن يحج عن أبيه،  قال شيخ الإسلام رحمه الله في [ شرح العمدة 2/ 136]: ((فقد أقر النبيَّ صلى الله عليه وسلم هؤلاء السؤال، على أنَّ المعضوب عليه فريضة الله في الحج، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفعلها عنه، وشبهها بالدَّين، ولم يستفصل: هل له مال يحج به أو ليس له مال؟ وترك الإستفصال دليل على عموم الجواب؛ لاسيما والأصل عدم المال، بل أوجب الحج بمجرد بذل الولد أن يحج، فدلَّ ذلك على أنَّ بذل الابن موجب، وإنما أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على الإخبار بفرض الحج على المعضوب لما رأى الولد قد بذل الحج)).
قلتُ:
وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله الاستدلال بالأحاديث السابقة على وجوب الحج على المفرِّط، وردَّ استدلالات المانعين عن الحج عن المفرِّط، فقال رحمه الله في [شرح العمدة 2/ 138]: ((مسألة: "فمَنْ فرَّط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة" وجملة ذلك: أنَّ مَنْ وجب عليه أن يحج بنفسه أو نائبه في حياته ففرَّط في ذلك حتى مات - وله تركة - وجب أن تخرج من ماله حَجة وعمرة؛ إذا قلنا بوجوبها (أي وجوب العمرة) وهو المشهور في المذهب، وكذلك مَنْ وجب عليه ولم يفرِّط وهو مَنْ كان به مرض يُرجى برؤه أو كان محبوساً أو ممنوعاً أو كان بطريقه عاقة أو ضاق الوقت عن حجته وعمرته أو لم يكن للمرأة محرم - إذا قلنا بوجوب الحج في ذمتهم -، ويكون هذا الحج ديناً عليه يخرج من رأس ماله مقدَّماً على الوصايا والمواريث؛ هذا مذهب أحمد نصَّ عليه في موضع وأصحابه، كما قلنا مثل ذلك في الزكاة والصيام، لأنَّ الحجَّ دَينٌ من الديون بدليل...)) ثم ذكر رحمه الله الأحاديث المتقدمة في أول هذا المبحث.
ثم قال (2/ 186): ((فوجه الدلالة من هذه الأحاديث من وجوه:
 أحدها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر بفعل حَجة الإسلام والحَجة المنذورة عن الميت، وبين أنها تجزيء عنه، وهذا يدلُّ على بقائها في ذمته، وأنها لم تسقط بالموت، وأنها تؤدَّى عنه بعد الموت، وكل ما يبقى من الحقوق بعد الموت - ويُؤدَّى بعد الموت - فإنه يجب فعله بعد الموت إذا كان له ما يفعل منه، وذلك لأنَّ من يقول: لا يجب فعله بعد الموت يزعم أنَّ حَجة الإسلام قد سقطت بالموت، وأنَّ الذي يفعل عنه حج تطوع له أجره وثوابه؛ لأنَّ الواجب زعم لا يفعل إلا بإذنه؛ حتى لو أوصى بذلك، فإنَّ الذي يوصي به ليس هو حَجة الإسلام عنده، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أنَّ نفس الواجب هو الذي يُقضى عنه .
 والثاني: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنَّ الحج دين في ذمته، وكل مَنْ عليه دين فإنه يجب أنه يُقضى عنه من تركته بنصِّ القرآن.
 الثالث: قوله "اقضوا الله فالله أحق بالوفاء"، وقوله في حديث آخر عن الصوم "فحقُّ الله أحق"؛ إما أن يكون معناه: أنَّ قضاء دين الله أوجب من قضاء دين الآدمي كما فسره بذلك القاضي وغيره من أصحابنا لأنَّ وجوبه أوكد وأثبت، ويرجح هذا المعنى أنَّ وجوب الحج والزكاة آكد من وجوب قضاء دين الآدمي لأنهما من مباني الإسلام، مع ظاهر قوله: "فالله أحق بالوفاء"، فعلى هذا إذا وجب قضاء دين الآدمي من تركته فإنْ يجب قضاء دين الله أولى وأحرى، وإما أن يكون معناه: إذا كان قضاء دين الآدمي يجزئ عنه بعد الموت فدين الله أحق أن يجزئ؛ لأنَّ الله تعالى كريم جواد، ومن يكون أحرى بقبول القضاء فحقه أولى أن يقضى، لأنه أجدر أن يحصل بقضائه براءة الذمة، ويرجِّح هذا المعنى: أنَّ القوم إنما سألوه عن جواز القضاء عن الميت لا عن وجوبه عليهم، فعلى هذا إذا وجب فعل الدَّين عنه لبقائه وكونه يجزئ عنه بعد الموت وجب قضاء الحج ونحوه عنه لبقائه وكونه يجزئ بعد الموت؛ لأنَّ معناهما واحد.
 الرابع: أنَّ هذه الأحاديث تقتضي جواز فعل الحج المفروض عن الميت سواء وصَّى بذلك أولم يوص، وسواء كان له تركة أو لم يكن، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يسألهم عن تركة خلَّفوها، وتقتضي أنَّ ذلك يجزئ عنه ويُؤدَّى عنه ما وجب عليه، وهذه الأحكام بعينها أحكام ديون الآدميين.
 الخامس: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر الولي أن يحجَّ عنه، والأمر يقتضي الوجوب؛ لا سيما وقد شبَّهه بالدَّين الذي يجب قضاؤه من تركته، ولما كان الدَّين يجب قضاؤه إنْ كانت له تركة ويستحب قضاؤه إذا لم يكن له تركة فكذلك الحج.
وأيضاً: فقد تقدَّم إجماع الصحابة أنه إذا مات وعليه صيام من رمضان أطعم عنه كما يطعم عن نفسه إذا كان شيخاً كبيراً، فإذا وجب الإطعام في تركته فكذلك يجب الحج من تركته، ولا فرق.
وأيضاً: فإنَّ الحجَّ حقٌّ مستقرٌّ في حياته تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كديون الآدمي، ولأنه حقٌّ واجبٌّ تصح الوصية به فلم يسقط بالموت كديون الآدميين.
- فإنْ قيل: إذا مات قبل الحج فقد لحقه الوعيد، بدليل قوله: "يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله" إلى قوله: "وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين"، وقوله: "حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون. لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون"، ولأنه إذا مات قبل أن يحج مات عاصياً على كبيرة من الكبائر، بل تُخوِّفَ عليه أن يموت على غير الإسلام كما يذكر إن شاء الله في مسألة الفور، فلو كان الحج يجب أن يفعل عنه بعد موته ويجزؤه كما يجزؤه لو فعله في حياته لكان يجوز للرجل أن يؤخِّره الحج إلى ما بعد الموت، كما له أن يؤخِّره إلى آخر حياته عند من يجوز تأخيره، والذي يبين ذلك أنَّ الحج وغيره من العبادة ابتلاء للعبد وامتحان له وأمر له بأن يعبد الله؛ وهذا القدر لا يحصل إلا بأن يقصد العبادة ويفعلها بنفسه، أو يأمر مَنْ يفعلها، وبالموت قد تعذَّر ذلك، ولهذا لو حجَّ عنه في حياته غيره بغير إذنه لم يجز عنه، وهذا بخلاف دَين العبد فإنه لا يفتقر إلى النية، ويصح بدون إذنه لو أداه عنه غيره بغير إذنه جاز، ولو اقتضاه الغريم من ماله بدون إذنه برئت ذمته، وإذا كان كذلك فيجب أن تحمل الأحاديث على قوم لم يحجوا ولم يجب عليهم الحج؛ لكونهم لم يملكوا زاداً وراحلة، أو على أنه وإنْ وجب عليهم لكن لهم ثواب وأجر ما يفعل عنهم، لا أنَّ الواجب نفسه يسقط، وإذا لم يسقط الواجب لم يجب على الورثة شيء؟
 قلنا: لا ريب أنه يموت عاصياً معرضاً للوعيد، لكن هذا لا يوجب سقوطه عنه وعدم صحته ووجوبه بعد موته، كمن أخَّر الصلاة عامداً حتى خرج وقتها، أو أفطر في رمضان عمداً، فإنَّ ذلك من الكبائر وإن وجب عليه القضاء وأجزأ عنه، وكذلك من مطل الغرماء بديونهم مع اليسار حتى مات فإنه يأثم بهذا المطل والتأخير ويؤدى عنه بعد موته ويجزؤه، بل عندنا لو أخَّره لغير عذر ثم فعله في آخر عمره أجزأ عنه وأثم بالتأخير؛ إلا أن يتوب ويستغفر.
وهذا لأنَّ الله سبحانه وتعالى أوجب عليه أن يحج وأن يكون الحج بنفسه، كما أوجب عليه أن يصلي ويصوم وأن يفعل الصلاة والصوم في وقتهما، فمتى تعذر عليه فعله بنفسه وهو أحد الواجبين لم يسقط الواجب الآخر وهو مطلق الحج الذي يمكن أن يفعل عنه، وإذا تعذَّر فعل العبادة في وقتها لم يسقط نفس الفعل، بل يفعل بعد الوقت، فهذا الذي أخَّر الحج حتى مات إنْ لم يُفعَل عنه لحقه وعيد ترك الحج بالكلية، وإنْ فُعِلَ عنه أجزأ عنه نفس الحج وبقي إثم تأخيره وتفريطه فيه وترك فعله، كما يبقى على مَنْ يقضي الدَّين إثم المطل وأشد.
وسؤاله الرجعة وكونه يخاف عليه الموت على غير الإسلام حق؛ لأنَّ ذلك لأجل تركه الحج بنفسه وتفريطه فيه، كما أنَّ مَنْ ترك صلاة العصر متعمداً حبط عمله وإنْ قضاها، وكما يلحق الوعيد الذين هم عن صلاتهم ساهون وإنْ صلوها بعد الوقت، وهنا قد قضوها بأنفسهم، فكيف بمن يقضي عنه غيره بغير إذنه، ولأنَّ هذا النكال وهذا الخطر والعذاب الشديد يكون حين الموت قبل أن يحج عنه، فإذا حج عنه خفف عنه ذلك بدليل. ولأنه ليس كل من مات يحج عنه؛ إما لأنه قد لا يخلف مالاً أو لأنه قد يتهاون الورثة في الإخراج عنه، فمن كان في علم الله أنه يحج عنه يكون أمره أخف.
وأما كون الفرائض لا يصح فعلها إلا بنية المكلَّف وأمره، لأنَّ امتثال الأمر بدون ذلك محال؛ فذلك فيما وجب أن يفعله بنفسه، ولهذا لو حجَّ عنه غيره حَجة الإسلام في حياته بدون أمره لم يصح، فإذا مات صار المخاطب بالوجوب غيره وهم الورثة، ثم إنَّ الله تعالى بكرمه وجوده أقام فعلهم عنه مقام فعله بنفسه، وإن كان لم يفرِّط في التأخير لكونه معذوراً، وإن كان فرَّط قام مقامه في نفس الفعل وبقي إثم الترك عليه هو إلى الله تعالى إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له، وهذا لأنَّ ما وجب أن يفعله بنفسه يستحيل أن ينويه غيره، فأما إذا كان الوجوب على غيره مثل أداء الزكاة من مال اليتيم؛ فإنَّ المخاطب بها هو الولي.
يبقى الحج عن المعضوب؛ هل يجزئ عنه بدون إذنه؟ قال أصحابنا: لا يجزئ عنه بدون إذنه ويتوجَّه، وأيضاً فإنَّ ذلك ما دام إذنه ممكناً، فعند تعذر إذنه يجوز أن يجعل الله فعل غيره قائماً مقام فعله في الواجبات وامتثال الأوامر كما قد يقوم فعل غيره مقام فعله في المندوبات وحصول الثواب كما تقدم في مسألة إهداء الثواب للموتى، وتقدم تقرير هذه القاعدة، وأنَّ من زعم أنَّ العمل لا ينفع غير عامله في جميع المواضع فقد خرج عن دين الإسلام)).
قلتُ:
قياس قضاء الحج من المفرِّط على مَنْ ترك الصلاة عامداً أو أفطر رمضان عمداً، وأنَّ الجميع عليه القضاء: بعيد وغير ظاهر، وإنما يلزم شيخ الإسلام رحمه الله بكلامه السابق الفقهاء الذين يلزمون بقضاء الصلاة والصيام ولا يرون لزوم قضاء الحج، ومعلوم أنَّ بعض أهل العلم يقيسون ترك الصلاة عمداً أو إفطار يوم من رمضان عمداً على أحاديث الحج، وليس العكس، لأنَّ القضاء ورد في الحج على وجه الخصوص، وليس الموضع هنا موضعاً للنقاش حول قضاء الصلاة والصيام، وإنما المقصود أنَّ قضاء الحج لا يقاس عليهما، بل هو أصل، وهما فروع عليه سواء؛ صح القياس أو لم يصح.
ومن جهة أخرى؛ تختلف الصلاة والصيام عن الحج، قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله [الطرق الحكمية ص392]: ((وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى: بدني، وإلى مالي، وإلى مركب منهما، فالعبادات البدنية كالصلاة والصيام، والمالية كالزكاة، والمركبة كالحج))، فالصلاة والصيام عبادتان بدنيتان، فموضع الابتلاء فيها يكون على محض البدن، ولهذا لا يصم أحدٌ عن أحد ولا يصلي أحدٌ عن أحد، بينما الزكاة عبادة مالية محضة، فتؤخذ الزكاة من الممتنع عنوة، وأما الحج فليس عبادة بدنية محضة، ولا عبادة مالية محضة، وإنما عبادة مركبة بدنية ومالية، والمالية هي الزاد والراحلة أو الوصية والإنابة أو بذل الولد المستطيع، فموضع الابتلاء يكون في البدن والمال أو في المال وحده، فإنْ قصَّر في أحدهما (البدن) لم يسقط الحق الذي في الثانية (المال)، وأجوبة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على عدم سقوط الحج عند العجز أو الموت، وأنه دَينٌ من حقوق الله، فيجب الوفاء به سواء بفعل العبد نفسه أو بوصية منه أو بوكالة ونيابة إلى غيره؛ وهذا كله من كسبه كما لا يخفى، أو ببذل الولد المستطيع الطاعة عنه، ومعلوم أنَّ الولد وماله من كسب أبيه، فالوالد سبب لوجود الولد، والولد امتداد للوالد، ولعلَّ الوالد إذا علم أنَّ الولد يحج عنه فلا ريب أنه سيقوم بتربيته على الطاعة والصلاح والبر، فموضع الابتلاء في حج الولد عنه من هذه الجهة.
ومحل الإشكال بعد ذكر الأحاديث السابقة وبيان الاستفادة منا:
هل يحج غير الولد حَجةَ الإسلام عن العاجز الذي لم يوكِّله، أو عن الميت الذي لم يوص أو لم يخرج ورثتُه من تركته ما يحج به؟
وما هو الدليل على ذلك إنْ جاز؟
وأين يكون موضع الابتلاء في هذه الحالة؟!
الذي يظهر أنَّ الأحاديث التي تقدمت ليس فيها إلا حج الولد والبنت عن الأم والأب، فلا دليل على حج غير الولد والبنت، لكن قد يقول قائل: هذا جمود مذموم أو ظاهرية مردودة بما ورد في بعض هذه الأحاديث: (أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ؛ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ فاقْضُوا اللهَ  الَّذِي لَهُ، فَاللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ)، فسمى الحج ديناً لله في ذمة العبد، وشبَّهه بدَين الآدمي، فكما أنَّ دين الآدمي يقوم به كل أحد - ولو كان من غير الأبناء والورثة والأقارب والأولياء - ويسقط به الطلب وتبرأ به الذمة، فكذلك دين الله - وهو الحج - يقوم به كل أحد.
والجواب عن هذا الاستدلال:
أنَّ التشبيه بين دين الله ودين الآدمي لا يستلزم المساواة من كل وجه بينهما، لأنَّ المساواة قد تكون من وجه واحد، وقد تكون من أغلب الوجوه، وقد تكون من كل الوجوه، فالحالة الأولى النظير، والثانية الشبيه، والثالثة المثيل.
ومن الفروق بينهما: أنَّ في دين الآدمي يجوز قضاء الدين عن الغير قبل قضاء دينه، بينما يُشترط في الحج كما سيأتي بيانه أن يحج الرجل عن نفسه قبل أن يحج عن الغير، كما أنَّ دين الآدمي لا يشترط فيه النية لأنه يجب من باب المصالح ولو أداه الغير بدون إذنه وعلمه برئت ذمته وسقط الطلب، بينما الحج من العبادات التي يُشترط فيها النية، ولا تُؤدَّى إلا بعلم وإذن المحجوج عنه، إلا حج الولد عن أبيه، لأنه من كسبه كما تقدَّم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في [المجموع 7/ 314-315]: ((وَمِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ أَنَّهُ: إذَا كَانَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ؛ فَلِمَاذَا قَالَ: الْإِسْلَامُ هَذِهِ الْخَمْسُ؟ وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ النَّاسِ: بِأَنَّ هَذِهِ أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمُهَا وَبِقِيَامِ الْعَبْدِ بِهَا يَتِمُّ إسْلَامُهُ، وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِانْحِلَالِ قَيْدِ انْقِيَادِهِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الدِّينَ الَّذِي هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مُطْلَقًا، الَّذِي يَجِبُ لِلَّهِ عِبَادَةً مَحْضَةً عَلَى الْأَعْيَانِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لِيَعْبُدَ اللَّهَ بِهَا مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ؛ وَهَذِهِ هِيَ الْخَمْسُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَسْبَابِ لِمَصَالِحَ فَلَا يَعُمُّ وُجُوبُهَا جَمِيعَ النَّاسِ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إمَارَةٍ وَحُكْمٍ وَفُتْيَا؛ وَإِقْرَاءٍ وَتَحْدِيثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِسَبَبِ حَقٍّ لِلْآدَمِيِّينَ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ وَجَبَ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَقَدْ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ، وَإِذَا حَصَلَتْ الْمَصْلَحَةُ أَوْ الْإِبْرَاءُ إمَّا بِإِبْرَائِهِ وَإِمَّا بِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ.
فَحُقُوقُ الْعِبَادِ مِثْلُ قَضَاءِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الغصوب وَالْعَوَارِيّ وَالْوَدَائِعِ وَالْإِنْصَافِ مِنْ الْمَظَالِمِ مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ؛ إنَّمَا هِيَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ وَإِذَا أُبْرِئُوا مِنْهَا سَقَطَتْ، وَتَجِبُ عَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، لَمْ تَجِبْ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ قَادِرٍ، وَلِهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، بِخِلَافِ الْخَمْسَةِ فَإِنَّهَا مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُقُوقِ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالْجِيرَانِ وَالشُّرَكَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَمَا يَجِبُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ؛ كُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ بِأَسْبَابِ عَارِضَةٍ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لِجَلْبِ مَنَافِعَ وَدَفْعِ مَضَارَّ لَوْ حَصَلَتْ بِدُونِ فِعْلِ الْإِنْسَانِ لَمْ تَجِبْ، فَمَا كَانَ مُشْتَرِكًا فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَمَا كَانَ مُخْتَصًّا فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى زَيْدٍ دُونَ عَمْرٍو، لَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي وُجُوبِ عَمَلٍ بِعَيْنِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ قَادِرٍ سِوَى الْخَمْسِ، فَإِنَّ زَوْجَةَ زَيْدٍ وَأَقَارِبِهِ لَيْسَتْ زَوْجَةَ عَمْرٍو وَأَقَارِبِهِ، فَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَى هَذَا مِثْلَ الْوَاجِبِ عَلَى هَذَا.
بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ - فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا مَالِيًّا فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ لِلَّهِ، وَالْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ مَصَارِفُهَا - وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِيهَا النِّيَّةُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهَا الْغَيْرُ عَنْهُ بِلَا إذْنِهِ، وَلَمْ تُطْلَبْ مِنْ الْكُفَّارِ.
وَحُقُوقُ الْعِبَادِ؛ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا النِّيَّةُ، وَلَوْ أَدَّاهَا غَيْرُهُ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَيُطَالَبُ بِهَا الْكُفَّارُ، وَمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالْكَفَّارَاتِ هُوَ بِسَبَبِ مِنْ الْعَبْدِ وَفِيهَا شَوْبُ الْعُقُوبَاتِ)).
وقال القِرافي في [الأمنية في إدراك النية ص13-14]: ((الباب الخامس فيما يفتقر إلى النية الشرعية: ويتحرر ذلك بتقسيمين:
التقسيم الأول: الشريعة كلها إما مطلوب أو غير مطلوب، وغير المطلوب لا يتقرب به إلى الله تعالى فلا معنى للنية فيه، والمطلوب إما نواهٍ أو أوامر، فالنواهي كلها يخرج الإنسان عن عهدتها بتركها وإنْ لم يشعر بها فضلاً عن القصد إليها؛ فمثاله: زيد المجهول لنا حرم الله علينا قتله وماله وعرضه، وقد خرجنا عن عهدة ذلك النهي وإن لم نشعر به، وكذلك سائر المجهولات لنا من المحرمات، نعم إنْ شعرنا بالمحرم ونوينا تركه لله تعالى حصل لنا مع الخروج عن العهدة الثواب لأجل النية، فهي شرط في الثواب لا في الخروج عن العهدة، والأوامر قسمان: قسم تكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون والودائع والغصوب ونفقات الزوجات والأقارب، فإنْ المصلحة المقصودة من فعل هذه الأمور انتفاع أربابها بها، وذلك لا يتوقف على النية من حهة الفاعل، فيخرج الإنسان عن عهدتها وإنْ لم ينوها، والقسم الثاني: الأوامر التي لا تكون صورتها كافية في تحصيل مصلحتها المقصودة منها كالصلوات والطهارات والصيام والنسك، فإنَّ المقصود منها تعظيم الرب سبحانه وتعالى بفعلها والخضوع له في إتيانها، وذلك إنما يحصل إذا قُصدت من أجله سبحانه وتعالى، فإنَّ التعظيم بالفعل بدون قصد المعظَّم محال؛ كمن صنع ضيافة لإنسان فانتفع بها غيره من غير قصد، فإنا نجزم بأن المعظَّم بها الذي قصد بالكرامة دون من انتفع بها من غير قصد، فهذا القسم هو الذي أمر فيه صاحب الشرع بالنية)).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في [الفتح 1/ 135]: ((وأما الصلاة فلم يختلف في اشتراط النية فيها، وأما الزكاة فإنما تسقط بأخذ السلطان ولو لم ينو صاحب المال لأنَّ السلطان قائم مقامه، وأما الحج فإنما ينصرف إلى فرض مَنْ حج عن غيره لدليل خاص وهو حديث ابن عباس في قصة شبرمة، وأما الصوم فأشار به إلى خلاف من زعم أنَّ صيام رمضان لا يحتاج إلى نية لأنه متميز بنفسه كما نقل عن زفر، وقدم المصنف الحج على الصوم تمسكاً بما ورد عنده في حديث بني الإسلام، وقد تقدم قوله، والأحكام أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها، وكل صورة لم يشترط فيها النية فذاك لدليل خاص، وقد ذكر ابن المنير ضابطاً لما يشترط فيه النية مما لا يشترط فقال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة وتعاطته الطبيعة قبل الشريعة لملائمة بينهما فلا تشترط النية فيه؛ إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب، قال: وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة)).
قلتُ:
فإذا تبين ثمة فروق بين دين الله (الحج) وبين دين الآدمي (حقوق العباد المالية والأمانات)، فأين الدليل على كون دين الله (الحج) يُقضى من كل أحد كما أنَّ دين الآدمي (الحقوق) يُقضى من كل أحد، والمساواة لا تستلزم المماثلة كما تقدَّم؟!
قد يقول قائل: لكن قد ورد الحج عن الغير من غير الأبناء، وذلك في حديث شبرمة الذي قال فيه: لبيك اللهم عن شبرمة، فلما سأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن شبرمة، قال: أخ لي أو قريب لي؟
وهذا الدليل هو أقوى أدلة المجيزين للحج عن الغير من غير الأبناء، والكلام فيه يحتاج إلى تحقيق القول في سنده ومتنه، وهذا أوان الشروع في ذلك:

الحديث السابع: حديث شبرمة
أخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والطبراني والبيهقي والدارقطني عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: "مَنْ شُبْرُمَةَ؟"، قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ: "حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ"، قَالَ: لاَ، قَالَ: "حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ".
وحديث شبرمة هذا قد من أربع روايات:

ـ الأولى: من رواية ابن عباس رضي الله عنه
رواه عنه كل من: سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وأبو قلابة، وطاووس.
1- أما رواية سعيد بن جبير؛ فقد جاءت من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عنه، ورواه عن سعيد بن أبي عروبة ستة: محمد بن بشير عند ابن أبي شيبة في مصنفه (حديث 1350) والدارقطني في السنن (حديث 2663)، والقاضي أبو يوسف وغُنْدَر وحسن بن صالح في سنن الدارقطني أيضاً (حديث 2662، 2664، 2665)؛ والأخيران روياه موقوفاً عن ابن عباس، ورواه عن سعيد بن عروبة كذلك مرفوعاً عبدة بن سليمان كما في مسند أبي يعلى (حديث 2440) بلفظ: (أخ لي أو نسيب لي)، وعنه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (حديث 260)، وأبي داود (باب الرجل يحج عن غيره) من طريقين: إسحاق بن إسماعيل وهناد بن السري، وابن ماجه (باب الحج عن الميت)، وابن خزيمة (باب النهي عن أن يحج عن الميت من لم يحج عن نفسه)، وابن حبان (باب الحج والاعتمار عن الغير)، والدارقطني في سننه (حديث 2658)، (حديث 2659)، والطبراني في الكبير (حديث 12249)، والبيهقي في السنن الكبرى (باب من ليس له أن يحج عن غيره) من طريقين: ابن نمير وهارون بن إسحاق الهمداني، والطحاوي في مشكل الآثار (حديث 2547) من طريق: محمد بن طريف البجلي، وذكر البيهقي في معرفة السنن والآثار [7/ 29 تحت حديث (2797)] أنَّ محمد بن عبدالله الأنصاري ممن رواه مرفوعاً عن ابن أبي عروبة أيضاً.
وأُعِلَّ هذا الطريق بثلاث علل:
الأولى: عزرة المذكور في هذا الحديث؛ اختلف أهل العلم في تعيينه، سماه البخاري عزرة بن عبدالرحمن الخزاعي (وهو ثقة) ذكره عنه البغوي في شرح السنة (7/ 30)، وسماه الطحاوي في مشكل الآثار (6/  375) عزرة بن تميم (وهو مقبول)؛ وذكر أنَّ يحيى بن سعيد كان لا يرضاه، ورجَّح البيهقي في السنن بأنه عزرة بن يحيى فقال: ((وعزرة هذا هو عزرة بن يحيى، أخبرنا أبو عبدالله الحافظ قال: سمعتُ أبا علي الحافظ يقول ذلك، قال: وقد روى قتادة أيضاً عن عزرة بن تميم وعن عزرة بن عبدالرحمن))، وسماه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة عزرة بن ثابت (وهو ثقة).
قلتُ:
جاء في تهذيب الكمال للمزي (20/ 52) في ترجمة (عزرة بن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي): ((وَقَال عَباس الدُّورِيُّ عن يحيى بن مَعِين: عزرة الذي يروي عنه قتادة ثقة)).
وفي نفس المصدر (20/ 48) جاء في ترجمة (عزرة بن تميم): ((قال أبو الحسن الميموني عن أحمد بن حنبل: عزرة بن تميم وعزرة الأَعور؛ قد روى عنهما قتادة وخالد، وَقَال النَّسَائي: عزرة الذي يروي عنه قتادة ليس بذاك القوي)).
وقال ابن حجر في التهذيب: ((وعزرة بن يحيى لم أر له ذكراً في تاريخ البخاري)).
الثانية: الاختلاف في رفعه ووقفه بين تلاميذ سعيد بن أبي عروبة؛ فقد رفعه أربعة منهم، وأوقفه اثنان، قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (7/ 30): ((قال أحمد: إنْ صحَّ حديث ابن جبير عن ابن عباس مرفوعاً ففيه الدلالة، وكان بعض الرواة نصَّ برفعه، وإن لم يصح مرفوعاً فهو عن ابن عباس صحيح برواية غندر وغيره، ورويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وإذا انضمَّ إلى هذا الحديث المرسل قول صحابي كانت فيه الحجة عند الشافعي رحمه الله، مهما ذكر الشافعي بعد هذا من الاستدلال بالإهلال مطلقاً، وبما أهلَّ به فلان، ومفارقته بذلك الإحرام بالصلاة، وحديث نبيشة باطل، وإنما رواه الحسن بن عمارة، ثم رجع عنه، فرواه كما رواه الناس، قال أبو الحسن الدارقطني رحمه الله: الحسن بن عمارة متروك)).
وقال ابن القطان الفاسي [الوهم والإيهام 5/ 453]: ((فأصحاب سعيد بن أبي عرُوبَة يَخْتَلِفُونَ، فقوم مِنْهُم يجعلونه مرفوعاً، مِنْهُم عَبدة بن سُلَيْمَان، وَمُحَمّد بن بشر، والأنصاري، وَقوم يقفونه، مِنْهُم غُنْدر، وَحسن بن صَالح، والرافعون ثِقَات، فَلَا يضرهم وقف الواقفين لَهُ؛ إِمَّا لأَنهم حفظوا مَا لم يحفظوا، وَإِمَّا لِأَنَّ الواقفين رووا عَن ابْن عَبَّاس رَأْيه، والرافعين رووا عَنهُ رِوَايَته)).
ومما يرجِّح القول بالوقف؛ أنَّ سعيد بن أبي عروبة - وهو شيخ الرواة المختلفين في الرفع والوقف - رواه نفسه في كتابه [المناسك ص19 حديث (13)] موقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنه.
وكذلك ورد موقوفاً من غير طريق ابن أبي عروبة؛ فقد أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10139) من طريق عمرو بن الحارث [وهو ثقة فقيه حافظ كما قال ابن حجر في التقريب] عن قتادة بن دعامة أنَّ سعيد بن جبير حدثه أنَّ عبدالله بن عباس مرَّ به رجل يهلُّ يقول: لبيك بحجة عن شبرمة، فقال: ومن شبرمة؟ قال: أوصى أن يحج عنه، فقال: أحججت أنت؟، قال: لا، قال: فابدأ أنت فاحجج عن نفسك ثم احجج عن شبرمة.
والذي يظهر - والله أعلم -  أنَّ العلة فيه من سعيد بن أبي عروبة نفسه لأنه اختلط في آخره، ومما يدل على اختلاطه في هذا الحديث على وجه الخصوص أنه يرويه مرة بواسطة قتادة عن عزرة، ومرة عن عزرة بدون واسطة؛ وهو من طريق عبدة بن سليمان كما في سنن الدارقطني (حديث 2658).
قال ابن عدي في الضعفاء في ترجمة ابن أبي عروبة: ((ثنا علان ثنا بن أبي مريم قال: سمعتُ يحيى بن معين يقول: "سعيد بن أبي عروبة اختلط بعد هزيمة إبراهيم بن عبدالله بن حسن بن حسن؛ فمن سمع منه سنة اثنتين وأربعين فهو صحيح السماع، وسماع مَنْ سمع من بعد ذلك فليس بشئ، وأما يزيد بن هارون فصحيح فهو كان يسمع منه بواسط وهو يريد الكوفة، وأثبت الناس سماعاً منه عبدة بن سليمان)).
وقال أيضاً: ((سمعتُ عبدان يقول: سمعتُ عمرو بن العباس يقول: كتبتُ عن غندر حديثه كله إلا حديث سعيد بن أبي عروبة؛ فإنَّ عبدالرحمن بن مهدي نهاني أن أكتبه، وقال: "سمع غندر من سعيد بعد الاختلاط"، قال الشيخ: ذكرتُ قول بن مهدي هذا لابن مكرم، فقال لي: كيف يكون هذا؟! وقد سمعتُ عمرو بن علي يقول: سمعتُ غندر يقول: ما أتيتُ شعبة حتى فرغتُ من سعيد بن أبي عروبة)).
قلتُ:
قول يحيى بن معين في ابن أبي عروبة: ((وأثبت الناس سماعاً منه عبدة بن سليمان))، لا يعني أنه يوافق على رفع الحديث، فقد جاء في رسالة [من كلام أبي زكريا يحيى بن معين في الرجال رواية طهمان ص13 مسألة (355)]: ((قيل ليحيى وأنا أسمع: روى عبدة عن سعيد عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يلبي عن شبرمة، ليس يوافقه الناس عليه، فقال: هو موقوف عن سعيد إنْ شاء الله)) وجاء بعدها مسألة (356): ((سمعتُ يحيى يقول: سماع عبدة من سعيد بالكوفة قبل الاختلاط بدهر، وعبدة ثقة)).
ومما قد يقوِّي المرفوع، أنَّ الحديث ورد عن ابن عباس من غير طريق سعيد بن جبير مرفوعاً ومرسلاً، كما سيأتي بيانه، قال الحافظ في التلخيص: ((ورواه سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفه ابن أبي ليلى ورواه عن عطاء عن عائشة، وخالفه الحسن بن ذكوان فرواه عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس، وقال الدارقطني إنه أصح، قلتُ: وهو كما قال، لكنه يقوي المرفوع، لأنه عن غير رجاله)).
العلة الثالثة: عنعنة قتادة، وهو معروف بالتدليس.
فبعد أن ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في التلخيص اختلاف العلماء في وقف الحديث ورفعه، ورجَّح الرفع، قال: ((فيجتمع من هذا صحة الحديث، وتوقَّف بعضهم على تصحيحه بأنَّ قتادة لم يصرِّح بسماعه من عزرة؛ فينظر في ذلك)).
2- وأما رواية عطاء بن أبي رباح؛ فقد جاءت من أربعة طرق: من طريق عمرو بن دينار؛ رواه عنه الحسن بن عمارة [وهو متروك الحديث قاله الدارقطني] كما في سنن الدارقطني (حديث 2642، 2643) وسنن البيهقي (حديث 8942)، والحسن بن ذكوان كما في سنن الدارقطني (حديث 2649) والحسن بن دينار كما في سنن الدارقطني (2650) [وفي طريقهما أبو بكر الكليبي؛ وهو عباد بن صهيب البصري قال ابن سعد في الطبقات: كان قدرياً داعية فترك حديثه]، وحماد بن سلمة كما عند الطبراني في الأوسط (حديث 4495) والصغير (630) [ورجال إسناده ثقات محتج بهم في الصحيح؛ إلا عبدالرحمن بن خالد الرقي قال فيه ابن حجر: صدوق، وإلا ابن سندة الأصبهاني شيخ الطبراني قال فيه أبو الشيخ في طبقات الأصبهانيين: كان ثقة صدوقاً، وانظر الإرواء للشيخ الألباني 4/ 172]، والطريق الثاني من رواية محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلي كما في سنن الدارقطني (حديث 2653) [قال فيه الحافظ في التقريب: أبو عبدالرحمن صدوق سيء الحفظ جداً]، والطريق الثالث من رواية عبدالله بن حبيب بن أبي ثابت في سنن الدارقطني (حديث 2654)، [ورواته ثقات معروفون إلا سورة بن الحكم القاضي الكوفي لم أجد مَنْ وثَّقه إلا الحاكم كما في سؤالات السجزي] والطريق الرابع من رواية يعقوب بن عطاء كما في سنن الدارقطني (حديث 2651) وسنن البيهقي (حديث 8940، 8941) [ويعقوب هذا ضعيف، وقال أحمد فيه: منكر الحديث كما في تهذيب الكمال].
3- وأما رواية أبي قِلابة؛ فقد رواه عنه كل من: خالد بن مهران الحذاء وأيوب السختياني، كما في مصنف ابن أبي شيبة (حديث 13541) وشرح السنة للبغوي (باب الصرورة لا يحج عن الغير) موقوفاً عن ابن عباس، وأخرجه الدارقطني (حديث 2657) وأخرجه الطبراني في الأوسط (حديث 1440) مرفوعاً، ولفظ الطبراني: ((مَنْ شبرمة؟ فقال: أبي، قال: أحجج عن نفسك ثم حج عن أبيك))، بينما لفظ الأئمة الثلاثة: (فذكر قرابة له)، وفي سند الطبراني (عثمان بن حفص التومني) وهو شيخ شيخ الطبراني، لم أجد مَنْ ترجم له غير ابن حبان في الثقات وقال: ((يُغرِبُ))، وليس هذا تضعيفاً، قال الشيخ عبدالرحمن المعلمي رحمه الله في التنكيل ترجمة [علي بن صدقة]: ((ذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يُغرِبُ"، وابن حبان قد يقول مثل هذا لمن يستغرب له حديثاً واحداً أو زيادة في حديث)).
وعلة هذه الرواية الانقطاع بين أبي قلابة وابن عباس؛ قال الطحاوي في مشكل الآثار (4/ 15): ((وأبو قلابة لا سماع له من ابن عباس؛ فعاد ذلك الحديث منقطعاً، ولم يجز للمحتج به على أصله أن يحتج بمثله، إذا كان مثله عنده لا تقوم به حجة))، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: ((أبو قلابة البصري ثقة فاضل كثير الإرسال))، وقال في تلخيص الحبير تعليقاً على هذه الرواية: ((قال ابن المغلس: أبو قلابة لم يسمع عن ابن عباس)).
4- وأما رواية طاووس؛ فقد رواه عنه عبدالملك بن ميسرة، وتفرد بالرواية عن عبدالملك الحسن بن عمارة تارة بلفظ: ((سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يلبي عن نبيشة، فقال: أيها الملبي عن نبيشة هذه عن نبيشة، واحجج عن نفسك)) كما في سنن الدارقطني (حديث 2645، 2646، 2647) وسنن البيهقي (8945)، وأخرى بلفظ ((شبرمة)) كما عند الدارقطني (حديث 2648) وعنه البيهقي (حديث 8946)، قال الدراقطني: ((هذا هو الصحيح عن ابن عباس، والذي قبله وهم، يقال إنَّ الحسن بن عمارة كان يرويه ثم رجع عنه إلى الصواب، فحدث به على الصواب موافقاً لرواية غيره عن ابن عباس، وهو متروك الحديث على كل حال)).
ـ الثانية: من رواية جابر رضي الله عنه
تفرد بها ثمامة بن عبيدة عن أبي الزبير عنه كما في سنن الدارقطني (حديث 2655)، والطبراني في الأوسط (6130)، وثمامة هذا قال فيه الشيخ الألباني في الإرواء (4/ 173): ((وبه أعلَّه الهيثمي فقال في المجمع (3/ 283): "وهو ضعيف"، قلتُ: بل واه جداً، قال في الميزان: "قال أبو حاتم: منكر الحديث، وكذَّبه ابن المديني")).
ـ الثالثة: من رواية عائشة رضي الله عنها
رواه محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عنها، كما عند الدارقطني (حديث 2656)، ومعرفة السنن للبيهقي (حديث 2796)، وقد تقدَّم عن الحافظ ابن حجر أنَّ ابن أبي ليلى صدوق لكنه سيء الحفظ جداً.
ـ الرابعة: من رواية عطاء مرسلاً
كما في مصنف ابن أبي شيبة (حديث 13539) ومعرفة السنن للبيهقي (حديث 2795).
قال البيهقي في السنن الكبرى (4/ 337): ((من روى حديث عطاء مرسلاً أصح)).
وقال في معرفة السنن (7/ 28) بعد أن ذكر الاختلاف في الوقف والرفع والوصل والإرسال في حديث شبرمة: ((وكذلك روي من أوجه ضعيفة موصولاً)).
قال الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (4/ 171): ((قال الأثرم قلتُ لأبي عبدالله يعني أحمد بن حنبل حديث قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس "لبيك عن شبرمة" رفعه عبدة يعني ابن سليمان؟ فقال: ذاك خطأ، رواه عدة موقوفاً، يعني على ابن عباس، ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر مهنا عن أبي عبدالله نحو هذا آخر)).
قال البيهقي في السنن (4/ 336): ((وكذلك روى عن محمد بن عبدالله الأنصارى ومحمد بن بشر عن ابن أبي عروبة، ورواه غندر عن سعيد بن أبي عروبة موقوفاً على ابن عباس، ومن رواه مرفوعاً حافظ ثقة فلا يضره خلاف من خالفه، وعزرة هذا هو عزرة بن يحيى، أخبرنا أبو عبدالله الحافظ قال: سمعتُ أبا علي الحافظ يقول ذلك، قال وقد روى قتادة أيضاً عن عزرة بن تميم وعن عزرة بن عبد الرحمن)).
قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية: ((وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي "الْإِمَامِ": "وَعُلِّلَ هَذَا الْحَدِيثَ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: الِاخْتِلَافُ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، فَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ يَرْفَعُهُ، وَهُوَ مُحْتَجٌّ بِهِ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، وَتَابَعَهُ عَلَى رَفْعِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، لَيْسَ فِي الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: أَصَحُّ وَأَثْبَتُ النَّاسِ سَمَاعًا مِنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَرَوَاهُ غُنْدَرٌ عَنْ سَعِيدٍ، فَوَقَفَهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ، فَذَكَرَهُ مَوْقُوفًا، وَفِيهِ مَعَ زِيَادَةِ الْوَقْفِ اسْتِبْعَادُ تَعَدُّدِ الْقَضِيَّةِ، بِأَنْ تَكُونَ وَقَعَتْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عليه السلام، وَفِي زَمَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَاتِّفَاقِ لَفْظٍ.
وَالثَّانِي: الْإِرْسَالُ، فَإِنَّ سَعِيدَ بن المنصور رَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا حَدَّثَنَا هُشَيْمِ أَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى ثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَتَادَةَ لَمْ يَقُلْ فِيهِ: حَدَّثَنَا، وَلَا سَمِعْتُ، وَهُوَ إمَامٌ فِي التَّدْلِيسِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُفْلِسِ فِي "كِتَابِهِ": وَقَدْ ضَعَّفَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: إنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ بِالْبَصْرَةِ، فَيَجْعَلُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا يُسْنِدُهُ إلَى النَّبِيِّ عليه السلام، وَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ بِالْكُوفَةِ، فَيَجْعَلُ الْكَلَامَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام، قَالُوا أَيْضًا: فَقَتَادَةُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ: حَدَّثَنَا، وَلَا سَمِعْتُ، وَهُوَ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ.
قَالُوا: وَأَيْضًا فَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ هُشَيْمِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ أَبِي لَيْلَى، فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ: عَنْ عَائِشَةَ، وَأَرْسَلَهُ، وَرَوَاهُ أَبُو قِلَابَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو قِلَابَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ شَيْئًا، قَالُوا: فَالْخَبَرُ بِذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ" انْتَهَى.
 وَقَالَ صَاحِبُ "التَّنْقِيحِ": وَقَدْ تَابَعَ عَبْدَةَ بْنَ سُلَيْمَانَ عَلَى رَفْعِهِ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ سَعِيدٍ بِهِ، وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حُيَيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ  مَوْقُوفًا، وَلَمْ يَذْكُرْ عَزْرَةَ فِي إسْنَادِهِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ سَعِيدَ بن جبير حدَّثه، وكذلك مَعْدُودٌ فِي أَوْهَامِهِ، فَإِنَّ قَتَادَةَ لَمْ يَلْقَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فِيمَا قَالَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَغَيْرُهُ"، انْتَهَى)).
وقال ابن الملقن في البدر المنير: ((وَقد أعلَّه الطَّحَاوِيّ بِالْوَقْفِ، وَالدَّارَقُطْنِيّ بِالْإِرْسَال، وَابْن الْمُغلس الظَّاهِرِي بالتدليس، وَابْن الْجَوْزِيّ بالضعف، وَغَيرهم بِالِاضْطِرَابِ والانقطاع، وَقد زَالَ ذَلِك كُله بِمَا أوضحناه فِي الأَصْل)).
خلاصة الكلام في حديث شبرمة:
1- أنَّ حديث شبرمة لا يثبت عن غير ابن عباس من الصحابة.
2- أنَّ رواية ابن عباس رضي الله عنه اختلف العلماء اختلافاً شديداً في وقفها ورفعها وفي وصلها وإرسالها، وكذلك ما في بعض طرقه من التدليس والإرسال، وما في متنه من الاضطراب في الألفاظ، فمنهم مَنْ ضعَّف الحديث لذلك، ومنهم مَنْ صححه.
3- أنَّ من خلال التحقيق الحديثي في روايات حديث شبرمة يتبين لنا: أنَّ الراجح صحة الحديث مرفوعاً، قال الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود: ((إسناده صحيح على شرط مسلم، وكذلك قال ابن الملقِّنِ، وصححه ابن الجارود، وابن حبان، والبيهقي، والضياء المقدسي، والعسقلاني)).
وأصح الطرق عن ابن عباس: طريق حماد بن سلمة وطريق عبدالله بن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعاً، ولا يُعل المسند الصحيح بالمرسل إلا بقرينة، ولا قرينة هنا.
وعند ملاحظة متن هذين الطريقين لا نجد فيهما ذكراً لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة شبرمة!، وإنما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فسأله: حججتَ عن نفسك؟ قال: لا، فقال له: ((حجَّ عن نفسك، ثم حجَّ عن شبرمة))، ولا حجة في هذا اللفظ أصلاً.
4- لو ثبت السؤال عن صفة شبرمة من بعض تلك الطرق أو بمجموعها، فالتردد الذي وقع في الجواب هو من قبل الرواة حتماً لا من قبل ذاك الصحابي الذي حجَّ عن شبرمة، لأنه لا يُمكن لأحد أن يجهل أو يتردد في معرفة صفة مَنْ يحج عنه!، فكيف يتصور أن يجيب ذاك الصحابي النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك الجواب؟!، ومما يدل على أنَّ الاختلاف هو من الرواة ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 337) من طريق الشافعي قال: حدثنا عبدالوهاب الثقفي عن أيوب بن أبى تميمة (وهو السختياني) وخالد الحذاء عن أبي قلابة عن ابن عباس موقوفاً أنه سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: ويلك وما شبرمة؟ فقال أحدهما: "قال: أخي"، وقال الآخر: "فذكر قرابة".
5- اختلف الجواب في مجموع الروايات على عدة ألفاظ:
(قريب لي أو أخ لي)، (قريب لي)، (أخ لي)، (أخ لي أو نسيب لي)، (أخي)، (فَذَكَرَ قرابةً له)، (أبي).
فهذا الاختلاف يحتمل ثلاثة أجوبة؛ إما أن يكون شبرمة أخاً له، أو قريباً له ويدخل فيه النسيب، أو أباً له، ولا قرينة تدل على تعيين أحد هذه الأجوبة، والقاعدة المعلومة: أنَّ كثرة الاحتمال يبطل الاستدلال، وبهذا لا يُمكن الاستدلال بحديث شبرمة على جواز الحج تبرعاً من غير الولد.
6- ثم لو صحَّ الجواب في غير الأب، أي الحج عن الأخ أو القريب، فهذا لا يلزم منه جواز الحج في الفريضة تبرعاً عن الميت من غير وصية، لاحتمال أن يكون حجته عن شبرمة أداء لوصيته قبل الموت، وهذا من كسبه، فقد جاء في بعض الطرق: ((فقال: ومَنْ شبرمة؟ قال: أوصى أن يحج عنه)).
قال الشيخ الألباني رحمه الله [السلسلة الصحيحة حديث (3047)]: ((والمهم أنَّ جوابه صلى الله عليه وسلم واحد في كل هذه الروايات، وسواء بعد ذلك أكان السائل رجلاً أو امرأة، والمسؤول عنه أباً أو أماً؛ فلا يلحق بهما غيرهما؛ إلا إذا كان معذوراً وأوصى كما هو مذهب مالك؛ وعليه يحمل حديث شبرمة)).
7- ولو جاز الاستدل بحديث شبرمة على مشروعية الحج عن غير الوالد من غير وصية إذا كان الحاج من أحد الأقارب؛ فأين الدليل على جوزاه عن الأجانب الأباعد؟!
نعم ورد في أحد طرق رواية عطاء عند الطبراني في الأوسط: ((قال: ومَنْ شبرمة؟ قال: رجل أمرني أن أحج عنه))، وهي رواية يعقوب بن عطاء عن أبيه، وتقدم أنَّ يعقوب هذا منكر الحديث كما قال الإمام أحمد، علماً أنَّ الدارقطني ذكر في سننه رواية يعقوب بن عطاء هذه من غير السؤال عن شبرمة، ثم لو صحت هذه اللفظة فصورتها في غير محل النزاع، لأنَّ شبرمة طلب من هذا الملبي أن يحج عنه وكالة ونيابة قبل موته، فهو من كسبه ولم ينقطع عمله بعد.
قلتُ:
وبعد هذا التحقيق العلمي في حديث شبرمة من جهة إسناده ومتنه وهذه الأمور والمعاني التي يحتملها؛ لا يمكن أن نستدل به على جواز أن يحج غير الولد عن الرجل على جهة التبرع والتصدق، لأنَّه ليس من كسبه، والأصل أنَّ الإنسان لا يُجزى إلا على ما كان يعمله، وليس له إلا ما سعى، والولد وماله من سعيه لحديث: ((أنت ومالك لأبيك، إنَّ أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإنَّ أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئاً))، فلا يُزحزح عن هذا الأصل إلا بمعارض راجح أقوى منه، وحديث شبرمة لا يقوى على هذا.
وأما الوصية والاستنابة فهي من كسب الرجل وسعيه أيضاً، ولا يجزئ أن يحجَّ أحدٌ عن أحد إلا أن يكون رجلاً حجَّ عن نفسه أولاً ويريد الحج عن الميت الذي وجب عليه الحج أو العاجز عن القيام به ببدنه، وأما مَنْ لا يقدر على الحج لأمر طارئ يُرجى زواله - وإنْ طال - فلا يحج عنه، ولا يجزئ إنْ وقع.
قال العلامة ابن قدامة المقدسي رحمه الله في [المغني 3/ 185]: ((لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب مَنْ يقدر على الحج بنفسه إجماعاً، قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أنَّ من عليه حَجة الإسلام وهو قادر على أن يحج لا يجزئ عنه أن يحج غيره عنه")).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في [فتح الباري 4/ 70]: ((واتفق مَنْ أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضَب، فلا يدخل المريض لأنه يرجى برؤه، ولا المجنون لأنه ترجى إفاقته، ولا المحبوس لأنه يرجى خلاصه، ولا الفقير لأنه يمكن استغناؤه)).
وقالت اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله [فتاوى اللجنة الدائمة (11/ 51)]: ((يجوز للمسلم الذي قد أدَّى حجَّ الفريضة عن نفسه أن يحجَّ عن غيره إذا كان ذلك الغير لا يستطيع الحج بنفسه لكبر سنِّه أو مرض لا يرجى برؤه أو لكونه ميتاً للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، أما إنْ كان مَنْ يُراد الحج عنه لا يستطيع الحج لأمر عارض يُرجى زواله كالمرض الذي يرجى برؤه، وكالعذر السياسي، وكعدم أمن الطريق، ونحو ذلك، فإنه لا يجزئ الحج عنه)).
وفي فتوى أخرى (11/ 52): ((قريبك المذكور لا يجب عليه الحج ما دام لا يستطيع الحج مالياً، ولا تصح النيابة عنه في الحج ولا في العمرة؛ لأنه قادر على أداء كل منهما ببدنه لو حضر بنفسه في المشاعر، وإنما تصح النيابة فيهما عن الميت، والعاجز عن مباشرة ذلك ببدنه)).
وفي فتوى ثالثة (11/ 50): ((لا يجوز للإنسان أن يحج عن غيره قبل حجه عن نفسه، والأصل في ذلك: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: "حججتَ عن نفسك؟"، قال: لا، قال: "حجَّ عن نفسك ثم عن شبرمة")).
ولا يحل للحاج عن الغير أن يوكِل غيره بهذا العمل إلا بإذن المحجوج عنه ورضاه؛ قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في إحدى خطبه [الضياء اللامع 3/ 88-89]: ((فمن كان قادراً على الحج بنفسه، فإنه لا يصح أن يوكِّل مَنْ يحج عنه، وقد تساهل كثيرٌ من الناس في التوكيل في حج التطوع حتى أصبح لا يحدِّث نفسه أن يحج إلا بالتوكيل؛ يوكِّل غيره أن يحج عنه، فيحرم نفسه الخير الحاصل له بالحج بنفسه من أجر تعب العبادة، وما يكون فيها من ذكر ودعاء وخشوع ومضاعفة أعمال ولقاءات نافعة وغير ذلك، اعتماداً على توكيله مَنْ يحج عنه، وقد منع الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايتين عنه من توكيل القادر من يحج عنه في التطوع، فلا ينبغي للمسلم أن يتساهل في ذلك، بل يحج بنفسه إن شاء، أو يعين الحجاج بشيء من المال ليشاركهم في الأجر من غير أن ينقص من أجورهم شيء)).
إلى أن قال: ((وكذلك يجب عليه أن ينوي العمرة والحج لمن وكَّله؛ لأنَّ هذا هو المعروف بين الناس إلا أن يشترط لنفسه أنَّ العمرة له، فله ما شرط، ولا يحل لمن أخذ النائبة أن يوكِّل غيره فيها لا بقليل ولا بكثير إلا برضا من صاحبها الذي أعطاه إياها، وثواب الأعمال المتعلِّقة بالنسك كلها لمن وكَّله، أما مضاعفة الأجر بالصلاة والطواف الذي يتطوع به خارجاً عن النسك وقراءة القرآن لمن حج لا للموكِل، ويجب على الوكيل في الحج والعمرة أن يجتهد في إتمام أعمال النسك القولية والفعلية؛ لأنه أمين على ذلك، فليتق الله تعالى فيها ما استطاع، ويقول في التلبية: "لبيك عن فلان"، فإن نسيه نواه بقلبه وقال: لبيك عمن أنابني في هذه العمرة أو في هذا الحج)).
قلتُ:
يبقى أمرٌ يحتاج إلى وقفة جادة، وقد اعتاد عليه الكثير من الناس، وهو حج الأجرة، أو حج البدل من أجل المال، أو الاستنابة في الحج بعوض وثمن، فما حقيقة الخلاف في هذه المسألة وهي "الاستئجار في الحج"؟ وما هو القول الراجح فيها؟، هذا هو مدار بحثنا القادم:

المبحث الثالث
حكم أخذ الأجرة على القرب والعبادات والأعمال الصالحة؛ ومنها الحج
هل يجوز الحج للأجرة؟

إنَّ من المسائل التي عمَّت بها البلوى منذ زمن بعيد حتى هرم عليها الكبير وربى عليها الصغير، واعتاد عليها الناس كأنها شريعة ثابتة أو سنة قائمة، وتوسَّعوا فيها كثيراً حتى خرجوا فيها عن المأذون ودخولوا في الممنوع؛ مسألة الاستئجار للحج عن الغير، هذه المسألة التي أصبحت من المعروف المألوف الذي لا يقبل الجدل والنقاش عند كثير من الناس فضلاً عن قبولهم الإنكار فيها، وبدلاً من أن تُعظَّم هذه الشعيرة (الحج والعمرة) التي هي من أعظم العبادات التي تدل على خضوع العبد وإنابته وإخلاص الدين لله عز وجل في أعظم بقاع الأرض وأعظم المساجد التي تهوي إليها القلوب وتشتاق لها النفوس، أصبحت هذه العبادة في ذلك المكان الشريف تجارة عند البعض يتكسَّب من ورائها المال الوفير، ثم لم يقف الأمر إلى هذا الحد حتى حاول البعض جاهداً أن يؤصِّل هذه المسألة ويستدل لها بالنصوص العامة والمقاصد الكلية والمتشابه من القول، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأصل المسألة مبني على مسألة "أخذ المال على القرب والعبادات" هل تجوز أم لا؟
وأهل العلم اختلفوا في هذه المسألة؛ فمنهم مَنْ أجاز الأجرة على فعل القربات، ومنهم من منع ذلك، ومنهم من أجاز في بعض القربات ومنع في البعض الآخر، ومنهم مَنْ أجازها في حالة الضرورة والحاجة، ومنهم مَنْ فرَّق بين الإنفاق (على قدر تحصيل المقصود من غير فضل ولا نقص ولا إسراف ولا تقتير)، والرزق (من بيت مال المسلمين أو غيرهم من أهل الصدقات على سبيل الإعانة)، وأخذ المال من غير مسألة ولا شرط، فجوَّز ذلك، وبين أخذ المال على سبيل الإجارة (بدفع الأثمان في تحصيل المنافع لا الأعيان المحسوسة) أو الجعالة (وهي محصورة في تحصيل المنافع المظنونة)، فلم يجوِّزه.
فمن أجاز الأجرة في فعل القربات أجاز ذلك في الحج؛ لأنها قربة كذلك، ومَنْ لم يجز ذلك أصلاً لم يجزه في الحج تبعاً، لكنَّ البعض قد يجيز الاستئجار للحج ولا يجيز الأجرة في فعل القربات، لكون الحج قد ثبتت فيه النيابة بالأدلة الصحيحة، وزعموا أنَّ مشروعية الاستئجار مبنية على مشروعية النيابة، فإذا جازت النيابة جاز الاستئجار فيها، وأنَّ الاستطاعة في الحج يدخل فيها القدرة بالبدن وكفاية المال وبذل الولد المستطيع ووجود النائب عن الغير، فإذا تحقق أحدها وجب الحج، والنائب قد يكون محسناً متبرعاً محتسباً وقد لا يوجد إلا الأجير بعوض، فعدم وجود النائب المتبرع لا يسقط وجوب الحج، لأنه دين يجب الوفاء به، وزعموا أنَّ هذا من باب مراعاة مقاصد الشريعة وما فيها من تيسير ورفع الحرج والمشقة، وما فيها من تحقيق المصالح التي تحفظ بها الشريعة وتكمل، فالنيابة بالحج لو لم تجز إلا بالتبرع والإحسان عن المحجوج عليه، فلا تحصل إلا قليلاً، لأنَّ القليل من الناس يقوم به، وكذلك قاسوا على جواز أخذ الأجرة على بناء المساجد وكتابة المصاحف وحفر القبور وعمَّال الزكاة والغنائم في الجهاد والقضاء والفتيا والإمامة والأذان، وهي من القرب والأعمال الصالحة، وأقوى ما استدل به هؤلاء المجيزون ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ، فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ إِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ فَبَرَأَ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللهِ أَجْرًا!، حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللهِ أَجْرًا؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ))، وكذلك ما أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا (فَشَفَوْا) لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ وَسَعَيْنَا (وَشَفَيْنَا) لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ؛ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ منْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ وَاللهِ، إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي، وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لَا تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ؛ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: ((وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟))، ثُمَّ قَالَ: ((قَدْ أَصَبْتُمُ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا؛ فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).
والجواب عن هذه الاستدلالات:
أنَّ هذه الأحاديث المذكورة هي في باب أخذ الأجرة على الرقية لا على تلاوة القرآن، فالصحابيان اللذين رقا في الحادثتين لم يقصدا في ذلك الوقت بتلاوة القرآن القربة، وإنما قصدا التطبيب والتداوي بالرقى، والحادثة الأولى ليس فيها سؤال الأجرة وطلبها، وإنما هو من باب أخذ المال من غير مسألة ولا استشراف، وقد أخرج الشيخان عن عمر رضي الله عنه: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: ((خُذْهُ، إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ))، وفي حديث خالد بن عدي الجهني رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد: ((مَنْ بلغه معروفٌ من أخيه من غير مسألة ولا إشراف نفس: فليقبله ولا يرده؛ فإنما هو رزقٌ ساقه الله عز وجل إليه))، والحادثة الثانية من باب الحاجة والاضطرار؛ فالصحابي الراقي لم يكن من عادته أخذ الأجرة على الرقية، ولهذا كره ذلك، ولم يقبل بالتقسيم إلا بعد سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لكونهم بحاجة إلى الطعام وهم في سفر فلم يضيفهم القوم، فاضطروا إلى وضع الجعل على هذه الرقية، فالاستدلال بهذين الحديثين على جواز أخذ المال لأعمال القرب لا يصح، فضلاً عن قياس الاستئجار في الحج عليه.
وإنَّ من أقوى ما يدل على النهي من التكسب في أعمال القرب والعبادات ما أخرجه ابن ماجه وغيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: عَلَّمْتُ رَجُلاً الْقُرْآنَ فَأَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ: ((إِنْ أَخَذْتَهَا أَخَذْتَ قَوْسًا مِنْ نَارٍ)) فَرَدَدْتُهَا، صححه الألباني رحمه الله في الإرواء (حديث 1493)، وما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي، فَقَالَ: ((أَنْتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لاَ يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْراً))، وفي رواية عند الترمذي: ((إِنَّ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِ اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لاَ يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا)) وصححه الألباني أيضاً في الإرواء (حديث 1492).
فإذا حرَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الهدية من أجل تعليم القرآن، فكيف بالتكسب به والأجرة عليه؟!!
وإذا كان صلى الله عليه وسلم لم يُرخِّص بالأجرة على التأذين مع كونه يتكرر في اليوم ستَّ مرات ويحتاج إلى مَنْ يتفرغ لذلك ويهتمَّ به، فهل يُرخِّص بالاستئجار على الحج الذي يقع مرة واحدة في السنة؟!
 وأما دعوى أنَّ الاستئجار في الحجِّ مبني على مشروعية النيابة فيه؛ فنعم النيابة ثبتت بعدة أدلة، لكن أين الدليل على جواز الاستئجار فيها؟! فالدعوى أوسع من الدليل، لأنَّ النيابة قد تكون من باب الإحسان على الغير والاحتساب والتبرع؛ وهذا هو ظاهر الأحاديث التي وردت في النيابة عن الأم والأب، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سماه ديناً يجب الوفاء به؛ لإبراء ذمة مَنْ وجب عليه الحج ولم يحج، فهل يجوز أن يدفع الرجل الدَّين عن رجل آخر من أجل الكسب والمال؟! وقد ثبت عن جمع من الصحابة قولهم: "كلُّ قرض جرَّ نفعاً فهو ربا".
 وقد تكون النيابة من باب الشوق إلى المشاعر والمناسك، وقد يُصرف المال في النيابة من جهة الحاج أو ورثته من باب النفقة على قدر ما يحتاجه النائب ذهاباً وإياباً وما يدخل في ذلك من سكن وطعام من غير فضل ولا إسراف ولا تقتير، وقد يكون من باب الرزق والإعانة أو أخذ المال من غير مسألة ولا استشراف، وقد يكون من باب الجعل بقدر مالي من غير عقد ومعاملة بين النائب والمحجوج عنه أو ورثته، فيقول الرجل: مَنْ يحج عني أو عن فلان وله كذا وكذا، فيقبل النائب من غير أن يتعامل معه كما يتعامل البائع مع المشتري، وقد يكون المال المصروف في النيابة من باب الإجارة التي يتعاقد فيها الطرفان ويتعاملان من جهة الشروط والأثمان كالبيع والشراء، لكنَّ الإجارة في المنافع المعلومة، والبيوع في الأعيان المحسوسة.
فإذا كان الأمر كذلك، فليس ثمة تضييق ولا تعسير ولا مخالفة لمقاصد الشريعة ومجانبة لمراعاة المصالح، بل إنَّ مراعاة المقاصد والمصالح يوجب التضييق في مثل هذه المسائل لئلا تتخذ الشرائع العظيمة والعبادات والقرب من قبيل السلع التي تباع وتشترى، فتمتهن، ويتساهل فيها الناس ويُفرِّطون اتكالاً على الغير، ويضيع التقرب إلى الله عز وجل في العبادات والذل والخضوع والإخلاص، وهذا ما يحصل في كثير من صور الاستئجار للحج كما لا يخفى، والعبرة للغالب لا للنادر.
وأما دعوى القياس على بعض الأعمال المذكورة، والتي يكون فيها التقرب إلى الله بإخلاص وصدق وأمانة وحرص من أعظم الأجور؛ فلا تصح أيضاً، فبناء المساجد وكتابة المصحف وحفر القبور، لا يُشترط فيه التعبد والقربة ولا يُشترط في فاعله الإيمان فضلاً عن قصد التقرب، فهذه الأعمال تجوز من الكافر، وتجوز ممن لم يقصد إلا الأجر والمال، ومَنْ أخلص نيته فيها ابتغاء الأجر الآخروي كُتب له وإلا فلا، بينما الحج لا يصح من الكافر ولا ممن لم يقصد التقرب والعبادة، وأما عُمَّال الزكاة فليس ثمة أجرة ولا تعامل على سبيل الإيجار والجعل، وإنما هو رزق يؤخذ من الصدقات الواجبة من باب الإعانة والجزاء الحسن على هذا العمل الصالح، مع أنَّ الزكاة من العبادات المالية، والأصل فيها والغاية منها إيصال المال من الأغنياء إلى مستحقيه من أهل مصارف الزكاة، ومنهم العاملون عليها، ولا يُشترط في عملهم هذا القصد والتقرب، فإنْ قصد هؤلاء المال فلا يُكتب لهم عمل صالح ويستحقون النفقة من الصدقات فليسوا هم أشد من السارق الفقير الذي يستحق الزكاة، أو ممن خلط عملاً صالحاً بآخر سيئاً، وإنْ قصد به الأجر عند الله عزَّ وجل ثم أُعطي مال على ذلك، فهم أجران، أجرٌ دنيوي ساقه الله إليه، وأجر آخروي يوم القيامة، وأما الجهاد وما يحصل للمجاهد من غنائم، فكما لا يخفى أنَّ الجهاد من أعظم العبادات التي يتقرب فيها العبد إلى ربه، وهو ذروة سنام الإسلام، والله عزَّ وجل لا يقبله إلا ممن قصد به أن تكون كلمة الله هي العليا، ومَنْ قصد به المغنم فليس في سبيل الله، وقد أخرج الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ؛ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قال: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
وأما قياس الاستئجار في الحج على الأجرة في القضاء والفتيا والإمامة والأذان، فهو قياس على المختلف فيه، فالأصل مختلف فيه فكيف يُقاس عليه؟! وقد تقدَّم الكلام في الأذان، وأشد منه الإمامة، ومثل الإمامة أو أشد القضاء والفتيا، فإنْ كان هؤلاء لم يقصدوا في وظائفهم الشرعية هذه إلا المال في أول أمرهم ونيتهم وغايتهم، واستمروا على هذا الحال أو لا يواظبون على هذه الأعمال ويحرصون فيها إلا في مقابل الكسب والمال، فليس لهم في الآخرة من خلاق، وإنْ كانوا قد قصدوا الأجر والطاعة في هذه الأعمال، ثم حبسوا أواقاتهم وتفرغوا لأجل الإحسان في تحقيقها على أكمل وجه، وأُعطوا الأجر والنفقة من المؤسسات الدينية التابعة للدولة جزاء هذا التفرغ وحبس الوقت والحرص والعناية على هذه الأعمال، فقد أجاز هذا بعض العلماء، لكن أين هذا من قصد الأجرة في الحج عن الغير؟!
وإليك أيها القارئ الكريم؛ بعض النقول عن العلماء واختلافهم واستدلالاتهم في مسألة الاستئجار في الحج:
قال الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله في [التمهيد 9/ 136-137]: ((وقال الشافعي: جائز أن يواجر نفسه في الحج ولستُ أكرهه، قال مالك: أكره أن يواجر نفسه في الحج فإنْ فعل جاز، وهو قول الشافعي في رواية، وعند أبي حنيفة: لا يجوز، ومن حجته: أنَّ الحج قربة إلى الله عز وجل ولا يصح أن يعمله غير المتقرب به، وقال بعض أصحابه: ألا ترى أنه لا يجوز بإجماع أن يستأجر الذمي أن يحج عن مسلم؟ وذلك لأنه قربة للمسلم، ومن حجة مالك والشافعي على جواز ذلك: إجماعهم على كتاب المصحف وبناء المساجد وحفر القبور، وصحة الاستئجار في ذلك وهو قربة إلى الله، فكذلك عمل الحج عن الغير، والصدقات قربة إلى الله عز وجل وقد أباح للعامل عليها أن يأخذ منها على قدر عمله، ولا معنى لاعتبار الإجماع على أنَّ الذمي لا يجوز استئجاره في ذلك؛ لأنهم قد أجمعوا أنَّ الذمي لا يحج عن المسلم تطوعاً، وأنَّ ذلك جائز في المسلم)).
وقال العلامة ابن قدامة المقدسي رحمه الله في [المغني 6/ 285-287]: ((فَصْلٌ: وَفِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ وَالْأَذَانِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهِ، مِمَّا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ، وَيَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقَ.
وَالْأُخْرَى: يَجُوزُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَخَذَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُعْلَ عَلَى الرُّقْيَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَوَّبَهُمْ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ، فَجَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ.
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى: أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ كَانَ يُعَلِّمُ رَجُلًا الْقُرْآنَ فَأَهْدَى لَهُ قَوْسًا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: "إنْ سَرَّك أَنْ تَتَقَلَّدَ قَوْسًا مِنْ نَارٍ، فَتَقَلَّدْهَا"، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: "وَاِتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا"، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَخْتَصُّ فَاعِلُهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي أَخْذِ الْجُعْلِ وَالْأُجْرَةِ، فَإِنَّمَا كَانَتْ فِي الرُّقْيَةِ، وَهِيَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، فَتَخْتَصُّ بِهَا.
وَأَمَّا بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ، فَلَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ قُرْبَةً وَغَيْرَ قُرْبَةٍ، فَإِذَا وَقَعَ بِأُجْرَةٍ لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً وَلَا عِبَادَةً، وَلَا يَصِحُّ هَا هُنَا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عِبَادَةٍ، وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِبَادَةِ، فَمَتَى فَعَلَهُ مِنْ أَجْلِ الْأُجْرَةِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ عِبَادَةً،لَمْ يَصِحَّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ أَخْذِ النَّفَقَةِ جَوَازُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ، بِدَلِيلِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْإِمَامَةِ، يُؤْخَذُ عَلَيْهَا الرِّزْقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ نَفَقَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا.
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ: أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا، فَلَا يَكُونُ إلَّا نَائِبًا مَحْضًا، وَمَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ يَكُونُ نَفَقَةً لِطَرِيقِهِ، فَلَوْ مَاتَ أَوْ أُحْصِرَ أَوْ مَرِضَ أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ لِمَا أَنْفَقَ؛ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، لِأَنَّهُ إنْفَاقٌ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْمَالِ، فَأَشْبَهُ مَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي سَدِّ بَثْقٍ فَانْبَثَقَ وَلَمْ يَنْسَدَّ.
وَإِذَا نَابَ عَنْهُ آخَرُ، فَإِنَّهُ يَحُجُّ مِنْ حَيْثُ بَلَغَ النَّائِبُ الْأَوَّلُ مِنْ الطَّرِيقِ، لِأَنَّهُ حَصَلَ قَطْعُ هَذِهِ الْمَسَافَةِ بِمَالِ الْمَنُوبِ عَنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ دَفْعَةً أُخْرَى، كَمَا لَوْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى.
وَمَا فَضَلَ مَعَهُ مِنْ الْمَالِ رَدَّهُ، إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي أَخْذِهِ، وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، وَلَيْسَ لَهُ التَّبَرُّعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي ذَلِكَ.
قَالَ أَحْمَدُ - فِي الَّذِي يَأْخُذُ دَرَاهِمَ لِلْحَجِّ - : لَا يَمْشِي، وَلَا يُقَتِّرُ فِي النَّفَقَةِ، وَلَا يُسْرِفُ.
وَقَالَ - فِي رَجُلٍ أَخَذَ حَجَّةً عَنْ مَيِّتٍ فَفَضَلَتْ مَعَهُ فَضْلَةٌ - : يَرُدُّهَا، وَلَا يُنَاهِدُ أَحَدًا إلَّا بِقَدْرِ مَا لَا يَكُونُ سَرَفًا، وَلَا يَدْعُو إلَى طَعَامِهِ، وَلَا يَتَفَضَّلُ.
ثُمَّ قَالَ: أَمَّا إذَا أُعْطِيَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ كَذَا وَكَذَا، فَقِيلَ لَهُ: حُجَّ بِهَذِهِ، فَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِيهَا، وَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لَهُ، وَإِذَا قَالَ الْمَيِّتُ: حُجُّوا عَنِّي حَجَّةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَدَفَعُوهَا إلَى رَجُلٍ، فَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِيهَا، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ لَهُ.
وَإِنْ قلْنَا: يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ، جَازَ أَنْ يَقَعَ الدَّفْعُ إلَى النَّائِبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْجَارٍ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَنْهُ أَوْ عَنْ مَيِّتٍ اعْتَبَرَ فِيهِ شُرُوطَ الْإِجَارَةِ؛ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأُجْرَةِ، وَعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَمَا يَأْخُذُهُ أُجْرَةً لَهُ يَمْلِكُهُ، وَيُبَاحُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَالتَّوَسُّعُ بِهِ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ أُحْصِرَ أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ أَوْ ضَاعَتْ النَّفَقَةُ مِنْهُ فَهُوَ فِي ضَمَانِهِ، وَالْحَجُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ تَلِفَ، فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ الْبَهِيمَةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ، وَيَكُونُ الْحَجُّ أَيْضًا مِنْ مَوْضِعٍ بَلَغَ إلَيْهِ النَّائِبُ، وَمَا لَزِمَهُ مِنْ الدِّمَاءِ فَعَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عَلَيْهِ)).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في [الاختيارات ص152-153]: ((والمستحب أن يأخذ الحاج عن غيره ليحج لا أن يحج ليأخذ، فمن أحب إبراء ذمة الميت أو رؤية المشاعر يأخذ ليحج، ومثله كل رزق أخذ على عمل صالح، ففرق بين من يقصد الدين والدنيا وسيلة، وعكسه، فالأشبه أنَّ عكسه ليس له في الآخرة من خلاق. والأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة؛ هل يجوز إيقاعها على غير وجه القربة؟ فمن قال: لا يجوز ذلك لم يجز الإجارة عليها؛ لأنها بالعوض تقع غير قربة "إنما الأعمال بالنيات"، والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، ومن جوَّز الإجارة جوَّز إيقاعها على غير وجه القربة، وقال: تجوز الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر. وأما ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرة؛ بل رزق للإعانة على الطاعة، فمن عمل منهم لله أثيب، وما يأخذه فهو رزق للمعونة على الطاعة، وكذلك المال الموقوف على أعمال البر، والموصى به كذلك، والمنذور كذلك، ليس كالأجرة، والجعل في الإجارة، والجعالة الخاصة)).
وقال رحمه الله في [شرح العمدة 2/  240-246]: ((ولا يجوز الإستيجار على الحج وغيره من الأعمال التي لا يجوز أن تفعل إلا على وجه التقرب مثل الأذان والإمامة وتعليم القران والحديث والفقه في إحدى الروايتين، فأما أن يأخذ نفقة يحج بها فيجوز؛ هذه طريقة القاضي وأصحابه ومن بعدهم، وقال ابن أبي موسى: في الإجارة على الحج روايتان، كره أحمد رضي الله عنه في إحداهما أن يأخذ دراهم فيحج بها عن غيره قال: إلا أن يكون متبرعاً بالحج عن أبيه أو عن أخيه أو عن أمه، وأجاز ذلك في موضع آخر، وعلى هذا يكره الأخذ نفقة وأجرة مع الجواز، وتجب على الكفاية، وإنما تكون الروايتان في الكراهة فقط، وأجاز أبو اسحق بن شاقلا الاستئجار على الحج وما يختص نفعه مما ليس بواجب على الكفاية دون ما يعم، فقال: لا يجوز أن يؤخذ على الخير أجر، ويجوز أن يؤخذ على الحج عن الغير أجر؛ لأنَّ أفعال الخير على ضربين: ما كان فرضاً على العامة وغيرهم مثل الأذان والصلاة وما أشبه ذلك لا يجوز أن يؤخذ عليه أجر، وما انفرد به من حج عنه فهو جائز مثل فعل البناء لبناء مسجد يجوز أن يأخذ عليه الأجرة، لأنه ليس بواجب على الذي يبني بناء المسجد.
فأما المنصوص عن أحمد؛ فقال في رواية أبي طالب: والذي يحج عن الناس بالأجر ليس عندنا فيه شيء، وما سمعنا أنَّ أحداً استأجر من حج عن ميت، وقال في رواية ابن منصور - وذكر له قول سفيان - : أكره أن يستأجر الرجل عن والديه يحج عنهما، فقال أحمد: نحن نكره هذا إلا أن يعينه، فقد نص على كراهة الأجرة ولم يكره النفقة، وقد نصَّ في مواضع كثيرة على مَنْ يأخذ مالاً يحج به عن ميت، وهل يكون له الفاضل أو لا يكون، وأما الرواية التي أخذ القاضي منها جواز الاستيجار فقال - في رواية عبدالله وقد سأله عمن يكري نفسه للحج ويحج – قال: لا بأس، وقال في رواية الكوسج: يكري نفسه ويحج، إلا أنَّ هذا إنما أراد به أن يكري نفسه للخدمة والعمل، ولهذا قال: يكري نفسه ويحج، وفي مثل هذا جاءت السنة، وقال - في رواية حنبل - : لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون الرجل متبرعاً بحجٍّ عن أبيه عن أمه عن أخته، قال النبي صلى الله عليه وسلم - للذي سأله: إنَّ أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه – قال: نعم.
والذي يأخذ دراهم الحج: لا يمشي، ولا يُقتِّر ولا يُسرف، إنما الحج عمن كان له زاد وراحلة، ويُنفق ولا يسرف ولا يقتر؛ إذا كان ورثته صغاراً، وقال في رواية الجرجرائي وقال في المعضوب: يحج عنه وليه، ووجه ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن أن يحج عن المعضوب والميت من يتبرع بالحج عنهم، أوجب قضاء دينهم وبراءة ذمتهم، وأيضاً فإن أخذه الدراهم يحج بها.
 وإنما كُرِهَت الإجارة لما ذكره أحمد: من أنَّ ذلك بدعة لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على عهد السلف؛ وقد كان فيهم مَنْ يحتاج إلى الحجِّ عنه ولم يَستأجر أحدٌ أحداً يحج عن الميت، ولو كان ذلك جائزاً حسناً لما أغفلوه، ولأنَّ الله تعالى يقول في كتابه: " مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ"، والأجير إنما يريد بهذه العبادة حرث الدنيا، وقال تعالى: "مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ"، وقال: "من كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ"، ولأنَّ ذلك أكل للدنيا بالدين، لأنه يبيع عمله الصالح  - الذي قد قيل فيه: "مَنْ حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" - ويشتري به ثمناً قليلاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن إستؤجر بدراهم يغزو بها: "ليس لك من دنياك وآخرتك إلا هذا وهذا"، لأنَّ الإجارة معاوضة على المنفعة يملك بها المستأجر المنفعة كما يملك المشتري الأعيان المبيعة، فالأجير للحج يبيع إحرامه وطوافه وسعيه ووقوفه ورميه لمن إستأجره بالأجر الذي أخذه، ولأنَّ أخذ العوض يبطل القربة المقصودة، كمن أعتق عبده على مال يأخذه منه لا يجزؤه عن الكفارة، ولأنَّ الحجَّ عملٌ من شرطه أن يكون قربة لفاعله فلا يجوز الاستيجار عليه كغيره من القرب، وهذا لأنَّ دخوله في عقد الإجارة يخرجه عن أن يكون قربة، لأنه قد وقع مستحقاً للمستأجر، وإنما كان من شرطه أن يقع قربة، لأنَّ الله تعالى أوجب على العبد أن يعمل مناسكه كلها لله ويعبده بذلك، فلو أنه عملها بعوض من الناس لم تجزه أجماعاً كمن صام أو صلى بالكرا، فإذا عجز عن ذلك بنفسه جعل الله تعالى عمل غيره قائماً مقام عمله بنفسه وساداً مسده رحمة ولطفاً، فلا بد أن يكون مثله ليحصل به مقصوده، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شبَّهه بالدين في الذمة وإنما تبرأ ذمة المدين إذا قضى عنه الدين من جنس ما عليه، فإذا كان هذا العامل عنه إنما يعمل للدنيا ولأجل العوض الذي أخذه لم يكن حجه عبادة لله وحده، فلا يكون من جنس ما كان على الأول، وإنما تقع النيابة المحضة ممن غرضه نفع أخيه المسلم لرحم بينهما أو صداقة أو غير ذلك، وله قصد في أن يحج بيت الله، فيكون حجه لله، فيقام مقام حج المستنب.
 والجعالة بمنزلة الإجارة إلا أنها ليست لازمة، ولا يستحق الجعل حتى يعمل، وأما الحج بالنفقة فإنما كرهه أحمد مرة لأنه قد يكون قصده الإنفاق على نفسه مدة الحج فلا يكون حجه لله، كما أنَّ الأجير قصده ملك الأجرة، وإن كانت شيئاً مقدراً مثل وصية ونحوها فقد يكون قصده استفضال شيء لنفسه فيبقى عاملا لأجل الدنيا، ووجه جواز ذلك: أنَّ الحج واجب على المستطيع بماله، فلا بد أن يخرج هذا المال في الحج)).
وقال رحمه الله في [أحاديث القصاص ص91]: ((نعم ثبت أَنه قال: "أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ"، لكنه قال هذا في حديث الرقية، وكان القومُ قد جعلوا لهم جُعْلًا على أَن يرقوا مريضهم، فتعافى، فكان الجُعْلُ على عافيته لا على التلاوة، فقال:  "لَعَمْرِي مَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ لَقَدْ أَكَلْتُمْ بِرُقْيَةِ حَقٍّ إِنَّ أَحقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ"، فلهذا فسَّر أكثر العلماءِ الحديث بهذا، لا بأخْذ الأجر على نفس التلاوة، فإنَّ هذا لا يجوز بالإِجماع، وفي المعلِّم نزاع)).
وقال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله [إعلام الموقعين 4/ 333]: ((وسأله صلى الله عليه وسلم عبادة بن الصامت، فقال: رجل أهدى إلي قوْساً ممن كنت أُعلِّمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله؟ فقال: "إن كنتَ تحب أن تطوَّق طوْقاً من نار فاقبلها"، ولا ينافي هذا قوله: "إنَّ أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" في قصة الرُّقية، لأنَّ تلك جُعالة على الطب؛ فطبَّه بالقرآن، فأخذ الأجرة على الطب لا على تعليم القرآن، وها هنا منعه من أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ فإنَّ الله تعالى قال لنبيه: "أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ، قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ"، وقال تعالى: "قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٍ"، وقال تعالى: "اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ"، فلا يجوز أخذ الأجرة على تبليغ الإسلام والقرآن)).
وقال شيخ الإسلام في [المجموع 26/  14-17]: ((فَصْلٌ: فِي الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ أَوْ الْمَعْضُوبِ بِمَالِ يَأْخُذُهُ إمَّا نَفَقَةً فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ بِالْإِجَارَةِ أَوْ بِالْجَعَالَةِ عَلَى نِزَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ الْمَحْجُوجُ بِهِ مُوصًى بِهِ لِمُعَيَّنِ أَوْ عَيْنًا مُطْلَقًا أَوْ مَبْذُولًا أَوْ مُخْرَجًا مِنْ صُلْبِ التَّرِكَةِ، فَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ مِنْ أَطْيَبِ الْمَكَاسِبِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ صَالِحًا وَيَأْكُلُ طَيِّبًا، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْرِفُ فِي السَّلَفِ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ هَذَا، وَعَدَّهُ بِدْعَةً، وَكَرِهَهُ، وَلَفْظُ نَصِّهِ مَكْتُوبٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يَكْرَهْ إلَّا الْإِجَارَةَ وَالْجَعَالَةَ.
قُلْتُ: حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ؛ أَنَّ الْحَاجَّ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ:
- الْإِحْسَانَ إلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ أَوْ نَفْسَ الْحَجِّ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ فَرْضًا فَذِمَّتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ، فَالْحَجُّ عَنْهُ إحْسَانٌ إلَيْهِ بِإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ قَضَاءِ دَيْنِهِ، كَمَا قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للخثعمية: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فقضيتيه أَكَانَ يُجْزِي عَنْهُ؟" قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: "فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ"، كَذَلِكَ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ بَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لِرَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ أَحَقُّ بِأَنْ يَقْبَلَ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَمَّنْ قُضِيَ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الْحَاجِّ قَضَاءَ هَذَا الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَنْ هَذَا، فَهَذَا مُحْسِنٌ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، فَيَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَهَذَا غَالِبًا إنَّمَا يَكُونُ لِسَبَبِ يَبْعَثُهُ عَلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِ مِثْلَ رَحِمٍ بَيْنَهُمَا أَوْ مَوَدَّةٍ وَصَدَاقَةٍ، أَوْ إحْسَانٍ لَهُ عَلَيْهِ يَجْزِيهِ بِهِ، وَيَأْخُذُ مِنْ الْمَالِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْحَجِّ عَنْهُ؛ وَعَلَامَةُ ذَلِكَ: أَنْ يَطْلُبَ مِقْدَارَ كِفَايَةِ حَجِّهِ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا نَفَقَةَ الْحَجِّ بِلَا نِزَاعٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَصَّى بِحَجَّةِ مُسْتَحَبَّةٍ وَأَحَبَّ إيصَالَ ثَوَابِهَا إلَيْهِ.
- وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُؤْثِرًا أَنْ يَحُجَّ مَحَبَّةً لِلْحَجِّ وَشَوْقًا إلَى الْمَشَاعِرِ وَهُوَ عَاجِزٌ، فَيَسْتَعِينُ بِالْمَالِ الْمَحْجُوجِ بِهِ عَلَى الْحَجِّ، وَهَذَا قَدْ يُعْطَى الْمَالَ لِيَحُجَّ بِهِ لَا عَنْ أَحَدٍ - كَمَا يُعْطَى الْمُجَاهِدُ الْمَالَ لِيَغْزُوَ بِهِ - فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ، فَيَكُونُ لِهَذَا أَجْرُ الْحَجِّ بِبَدَنِهِ وَلِهَذَا أَجْرُ الْحَجِّ بِمَالِهِ، كَمَا فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّهُ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا، وَقَدْ يُعْطَى الْمَالَ لِيَحُجَّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ مَقْصُودُ الْمُعْطَي الْحَجَّ عَنْ الْمُعْطَى عَنْهُ، وَمَقْصُودُ الْحَاجِّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِنَفْسِ الْحَجِّ لَا بِنَفْسِ الْإِحْسَانِ إلَى الْغَيْرِ، وَهَذَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ: الْحَجُّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ وَلِلْمُعْطِي أَجْرُ الْإِنْفَاقِ كَالْجِهَادِ، وَعَلَى أَصْلِنَا فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ وَالصَّائِمَ وَالْمُتَصَدِّقَ عَنْ الْغَيْرِ وَالْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ لَهُ قَصْدٌ صَالِحٌ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ وَقَصْدٌ صَالِحٌ فِي عَمَلِهِ عَنْ الْغَيْرِ، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: "الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ"، فَجَعَلَ لِلْوَكِيلِ مِثْلَ الْمُوَكِّلِ فِي الصَّدَقَةِ وَهُوَ نَائِبٌ، وَقَالَ: "إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِلزَّوْجِ أَجْرُهُ بِمَا اكْتَسَبَ وَلِلْخَادِمِ مِثْلُ ذَلِكَ"، فَكَذَلِكَ النَّائِبُ فِي الْحَجِّ وَسَائِرُ مَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ مِنْ الْأَعْمَالِ لَهُ أَجْرٌ، وَلِلْمُسْتَنِيبِ أَجْرٌ، وَهَذَا أَيْضًا إنَّمَا يَأْخُذُ مَا يُنْفِقُهُ فِي الْحَجِّ، كَمَا لَا يَأْخُذُ إلَّا مَا يُنْفِقُهُ فِي الْغَزْوِ، فَهَاتَانِ صُورَتَانِ مُسْتَحَبَّتَانِ، وَهُمَا الْجَائِزَتَانِ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ نَفَقَةَ الْحَجِّ وَيَرُدَّ الْفَضْلَ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الِاكْتِسَابَ بِذَلِكَ؛ وَهُوَ أَنْ يَسْتَفْضِلَ مَالًا، فَهَذَا صُورَةُ الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا لَا يُسْتَحَبُّ وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَعْمُولَ لِلدُّنْيَا لَيْسَ بِعَمَلِ صَالِحٍ فِي نَفْسِهِ إذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ إلَّا الْمَالُ فَيَكُونُ مِنْ نَوْعِ الْمُبَاحَاتِ، وَمَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.
وَنَحْنُ إذَا جَوَّزْنَا الْإِجَارَةَ وَالْجَعَالَةَ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَخْتَصُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهَا مِنْ أَهْلِ الْقُرَبِ لَمْ نَجْعَلْهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ إلَّا بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحَاتِ لَا نَجْعَلُهَا مِنْ بَابِ الْقُرَبِ، فَإِنَّ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةٌ: إمَّا أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، أَوْ يُثَابَ، أَوْ لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَكَذَلِكَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ: إمَّا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ، وَإِمَّا مُبَاحٌ، فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. لَكِنْ قَدْ رَجَحَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى... إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ الْمَالِ لِلنَّفَقَةِ مُدَّةَ الْحَجِّ وَلِلنَّفَقَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، فَيَقْصِدُ إقَامَةَ النَّفَقَةِ وَقَضَاءَ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَهُنَا تَصِيرُ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً: إمَّا أَنْ يَقْصِدَ الْحَجَّ وَالْإِحْسَانَ فَقَطْ، أَوْ يَقْصِدَ النَّفَقَةَ الْمَشْرُوعَةَ لَهُ فَقَطْ، أَوْ يَقْصِدَ كِلَيْهِمَا، فَمَتَى قَصَدَ الْأَوَّلَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنْ قَصَدَهُمَا مَعًا فَهُوَ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّهُمَا مَقْصُودَانِ صَالِحَانِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَقْصِدْ إلَّا الْكَسْبَ لِنَفَقَتِهِ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَسْأَلَةُ مَشْرُوحَةٌ فِي مَوَاضِعَ)).
وَسُئِلَ رحمه الله في الموضع نفسه: عَنْ امْرَأَةٍ حَجَّتْ وَقَصَدَتْ أَنْ تَحُجَّ عَنْ مَيِّتَةٍ بِأُجْرَةِ فَهَلْ لَهَا أَنْ تَحُجَّ؟
فَأَجَابَ: ((يَجُوزُ أَنْ تَحُجَّ عَنْ الْمَيِّتِ بِمَالِ يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد، إحْدَاهُمَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ هَذِهِ الْحَاجَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ قَصْدُهَا الْحَجَّ أَوْ نَفْعَ الْمَيِّتِ كَانَ لَهَا فِي ذَلِكَ أَجْرٌ وَثَوَابٌ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَقْصُودُهَا إلَّا أَخْذَ الْأُجْرَةِ فَمَا لَهَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)).
وَسُئِلَ في الموضع نفسه: عَمَّنْ حَجَّ عَنْ الْغَيْرِ لِيُوَفِّيَ دَيْنَهُ؟
فَأَجَابَ: ((أَمَّا الْحَاجُّ عَنْ الْغَيْرِ لِأَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَهُ؛ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَفْضَلَ التَّرْكُ، فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ يَحُجُّ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَفْضِلَ شَيْئًا مِنْ النَّفَقَةِ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ السَّلَفِ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: "مَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ يَحُجُّ عَنْ أَحَدٍ بِشَيْءِ"، وَلَوْ كَانَ هَذَا عَمَلًا صَالِحًا لَكَانُوا إلَيْهِ مُبَادِرِينَ، وَالِارْتِزَاقُ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الصَّالِحِينَ، أَعْنِي إذَا كَانَ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِالْعَمَلِ اكْتِسَابَ الْمَالِ، وَهَذَا الْمَدِينُ يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ مَا يُوَفِّي بِهِ دَيْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ دَرَاهِمَ يُوَفِّي بِهَا دَيْنَهُ، وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا يَحُجُّ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: إمَّا رَجُلٌ يُحِبُّ الْحَجَّ وَرُؤْيَةَ الْمَشَاعِرِ وَهُوَ عَاجِزٌ؛ فَيَأْخُذُ مَا يَقْضِي بِهِ وَطَرَهُ الصَّالِحَ وَيُؤَدِّي بِهِ عَنْ أَخِيهِ فَرِيضَةَ الْحَجِّ، أَوْ رَجُلٌ يُحِبُّ أَنْ يُبَرِّئَ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ عَنْ الْحَجِّ إمَّا لِصِلَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ لِرَحْمَةِ عَامَّةٍ بِالْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ مَا يَأْخُذُ لِيُؤَدِّيَ بِهِ ذَلِكَ، وَجِمَاعُ هَذَا: أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ لِيَحُجَّ لَا أَنْ يَحُجَّ لِيَأْخُذَ، وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْأَرْزَاقِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ، فَمَنْ ارْتَزَقَ لِيَتَعَلَّمَ أَوْ لِيُعَلِّمَ أَوْ لِيُجَاهِدَ فَحَسَنٌ، كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي وَيَأْخُذُونَ أُجُورَهُمْ مَثَلُ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعُ ابْنَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا"، شَبَّهَهُمْ بِمَنْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ رَغْبَةِ فِيهِ كَرَغْبَةِ أُمِّ مُوسَى فِي الْإِرْضَاعِ، بِخِلَافِ الظِّئْرِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى الرِّضَاعِ إذَا كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً، وَأَمَّا مَنْ اشْتَغَلَ بِصُورَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِأَنْ يَرْتَزِقَ فَهَذَا مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا، فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ الدِّينُ مَقْصُودَهُ وَالدُّنْيَا وَسِيلَةٌ، وَمَنْ تَكُونُ الدُّنْيَا مَقْصُودَهُ وَالدِّينُ وَسِيلَةٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا)).
وسُئل الشيخ ابن باز رحمه الله [مجموع فتاواه 16/ 423]: هل الحج عن الآخرين مشروع على الإطلاق أم خاص بالقرابة؟ ثم هل يجوز أخذ الأجرة على ذلك؟ ثم إذا أخذ الأجرة على حجة عن غيره فهل له أجر في عمله هذا؟
فكان جوابه: ((الحج عن الآخرين ليس خاصاً بالقرابة، بل يجوز للقرابة وغير القرابة؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم شبَّهه بالدَّين؛ فدلَّ ذلك على أنه يجوز للقرابة وغير القرابة. وإذا أخذ المال وهو يقصد بذلك المشاهدة للمشاعر العظيمة ومشاركة إخوانه الحجاج والمشاركة في الخير فهو على خير إن شاء الله وله أجر، أما إذا كان لم يقصد إلا الدنيا، فليس له إلا الدنيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" متفق على صحته)).
وسُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في [لقاء الباب المفتوح ص89]: ما حكم نيابة الحج بالعوض في المرض، وهل تنوب المرأة عن الرجل؟
فكان جوابه: ((النيابة في الحج جاءت به السنة، فإنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام سألته امرأة وقالت: إنَّ فريضة الله على عباده في الحج أدركتُ أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم، والاستنابة بالحج بعوض؛ إنْ كان الإنسان قصده العوض فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: مَنْ حج ليأكل فليس له في الآخرة من خلاق، أي: نصيبٌ، وأما من أخذ ليحج فلا بأس به، فينبغي لمن أخذ النائبة أن ينوي الاستعانة بهذا الذي أخذ على الحج، وأن ينوي أيضاً قضاء صاحبه؛ لأنَّ الذي استنابه محتاج، ويفرح إذا وجد أحداً يقوم مقامه، فينوي بذلك أنه أحسن إليه في قضاء الحج، وتكون نيته طيبة)).
وقال رحمه الله في خطبة جمعة له [الضياء اللامع من الخطب الجوامع 3/  90-92]: ((أيها الناس إنَّ الحج عبادة من العبادات يفعلها العبد تقرباً إلى الله تعالى وابتغاء لثواب الآخرة، فلا يجوز للعبد أن يصرفها إلى تكسب مادي يبتغي بها المال، وإنَّ من المؤسف أنَّ كثيراً من الناس الذين يحجون عن غيرهم إنما يحجون من أجل كسب المال فقط، وهذا حرام عليهم، فإنَّ العبادات لا يجوز للعبد أن يقصد بها الدنيا، يقول الله تعالى: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يبخسون. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، ويقول تعالى: "فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ"، فلا يقبل الله تعالى من عبد عبادة لا يبتغي بها وجهه، ولقد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أماكن العبادة من التكسب للدنيا فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك"، فإذا كان هذا فيمن جعل موضع العبادة مكاناً للتكسب يُدعى عليه: أن لا يربح الله تجارته، فكيف بمن جعل العبادة نفسها غرضاً للتكسب الدنيوي؛ كأنَّ الحج سلعة!، أو عمل حرفة لبناء بيت!، أو إقامة جدار!، تجد الذي تعرض عليه النيابة يكاسر ويماكس، هذه دراهم قليلة!، هذه لا تكفي!، زد!، أنا أعطاني فلان كذا!، أو أُعطي فلان حَجة بكذا، أو نحو هذا الكلام، مما يقلب العبادة إلى حرفة وصناعة، ولهذا صرح فقهاء الحنابلة رحمهم الله: بأنَّ تأجير الرجل ليحج عن غيره غير صحيح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: مَنْ حجَّ ليأخذ المال فليس له في الآخرة من خلاق، لكن إذا أخذ النيابة لغرض ديني مثل أن يقصد نفع أخيه بالحج عنه، أو يقصد زيادة الطاعة والدعاء والذكر في المشاعر، فهذا لا بأس به، وهي نية سليمة.
إنَّ على الذين يأخذون النيابة في الحج أن يخلصوا النية لله تعالى وأن تكون نيتهم قضاء وطرهم بالتعبد حول بيت الله وذكره ودعائه مع قضاء حاجة إخوانهم بالحج عنهم، وأن يبتعدوا عن النية الدنيئة بقصد التكسب بالمال، فإنْ لم يكن في نفوسهم إلا التكسب بالمال فإنه لا يحل لهم أخذ النيابة حينئذ، ومتى أخذ النيابة بنية صالحة فالمال الذي يأخذه كله له، إلا أن يشترط عليه رد ما بقي)).
وسُئل رحمه الله في [فقه العبادات/  السؤال (237)]: فضيلة الشيخ؛ ما حكم مَنْ أخذ نقوداً ليحج عن غيره، وليس في نيته إلا جمع الدراهم؟
فكان جوابه: ((يقول العلماء: إنَّ الإنسان إذا حجَّ للدنيا لأخذ الدراهم فإنَّ هذا حرام عليه، ولا يحل له أن ينوى بعمل الآخرة شيئاً من الدنيا لقوله تعالى: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من حج ليأخذ فليس له في الآخرة من خلاق، وأما إذا أخذ ليحج أو ليستعين به على الحج فإنَّ ذلك لا بأس به ولا حرج عليه، وهنا يجب على الإنسان أن يحذر من أن يأخذ الدراهم للغرض الأول، فإنه يخشى ألا يقبل منه وألا يجزئ الحج عمن أخذه عنه، وحينئذ يلزمه أن يعيد النفقة والدراهم إلى صاحبها؛ إذا قلنا: بأنَّ الحج لم يصح ولم يقع عن المستنيب، ولكن يأخذ الإنسان الدراهم والنفقة ليحج بها عن غيره، ليستعين بها على الحج، ويجعل نيته في ذلك أن يقضي غرض صاحبه، وأن يتقرب إلى الله تعالى بما يتعبد به في المشاعر وعند بيت الله)).
وأختم هذا المبحث بما قاله العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه [الروح ص131-132] وهو يتكلَّم حول إهداء الثواب للغير: ((على أنَّ الفرق بين الحي والميت: أنَّ الحي ليس بمحتاج كحاجة الميت؛ إذ يمكنه أن يباشر ذلك العمل أو نظيره، فعليه اكتساب الثواب بنفسه وسعيه، بخلاف الميت.
وأيضاً فإنه يفضي إلى إتكال بعض الأحياء على بعض، وهذه مفسدة كبيرة؛ فإنَّ أرباب الأموال إذا فهموا ذلك واستشعروه استأجروا مَنْ يفعل ذلك عنهم، فتصير الطاعات معاوضات!، وذلك يفضي إلى إسقاط العبادات والنوافل، ويصير ما يتقرب به إلى الله يتقرب به إلى الآدميين!، فيخرج عن الإخلاص!، فلا يحصل الثواب لواحد منهما!، ونحن نمنع من أخذ الأجرة على كل قربة!، ونحبط بأخذ الأجر عليها!: كالقضاء والفتيا، وتعليم العلم، والصلاة، وقراءة القرآن، وغيرها، فلا يثيب الله عليها إلا لمخلص أخلص العمل لوجهه، فإذا فعله للأجرة لم يثب عليه الفاعل ولا المستأجر!!، فلا يليق بمحاسن الشرع أن يجعل العبادات الخالصة له معاملات تقصد بها المعاوضات والأكساب الدنيوية!، وفارق قضاء الديون وضمانها!، فإنها حقوق الآدميين ينوب بعضهم فيها عن بعض، فلذلك جازت في الحياة وبعد الموت)).
فليحذر المسلم أن يكون قصده في الحجِّ عن الغير من أجل التكسب والمال، فليس هذا من شأن الصالحين، ولا من عمل السابقين، ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا أثر عن أحد الأصحاب، مع كونه من المسائل التي تتوافر الدواعي والهمم لها، ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يفعلونها، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فليس لصاحبه في الآخرة من نصيب، بل مثله متوعَّد بالعقاب، فليتب مَنْ يقوم بهذا الفعل، وليستغفر الله تعالى، وهو الغفور الرحيم.

وفي ختام هذه الرسالة، يُمكن أن نستخلص أهم المسائل والأحكام المستفادة منها:
1- أنَّ مسألة الحج عن الغير من المسائل الخلافية بين أهل العلم، وقد دلَّ الدليل على جواز حج الابن أو البنت حَجَّة الإسلام عن الأم أو الأب، وكذا جواز حج غيرهما عن غير الوالدين حجة النذر. 
2- أنَّ الحج دَينٌ فيجب على العبد الوفاء به: بنفسه إن استطاع ببدنه وماله، ولا يجزئ حج غيره عنه في هذه الحالة، وإنْ وجب عليه ولم يستطع بنفسه لموت أو سبب لا يُرجى زواله فبولده المستطيع؛ وهو من سعيه، أو بنائب عنه بوصية منه أو توكيل، وهذا من عمله الذي لم ينقطع بعد، وبهذا تجتمع النصوص التي تبين أنَّ العبد ليس له إلا ما سعى ولا يُجزى إلا على ما عمل، وبين الأحاديث التي تدل على جواز النيابة في الحج.
3- أنَّ حديث شبرمة قد وقع الخلاف في سنده ومتنه، لكنه يصح مرفوعاً بغير السؤال عن صفة شبرمة، فلا يصح الاستدلال به أصلاً على الحج عن غير الوالدين، والحديث يدل على عدم جواز الحج عن الغير إلا بعد أن يحج عن نفسه أولاً.
4- أنَّ الحج عن الغير حَجَّة الإسلام من غير الابن أو البنت على وجه التبرع والإحسان، لا دليل عليه صحيح، ولا يصح التعميم أو القياس على حديث الخثعمية، لأنَّ تشبيه الحج بالدَّين لا يستلزم المساواة من كل الوجوه.
5- أنَّ الاستئجار في الحج لا دليل عليه ولا أثر عن صحابي، وقد توسَّع الناس في هذا الأمر بما لا تحمد عقباه في الدنيا والآخرة، وصارت هذه العبادة في نظر الكثيرين كالسلع التي تباع وتشترى ويُتاجر فيها، وقصَّر فيها الطرفان على حد سواء: مَنْ وجب عليه الحج ولم يعجز عنه فأناب غيره به، والنائب عنه الذي قصد بحجه كسب المال ومتاع الدنيا.

وهذا آخر ما توصلتُ إليه في هذه الرسالة، فإنْ أصبتُ فيها القول الراجح فالحمد لله على توفيقه، وإنْ أخطأتُ فيها أو في بعضها فاستغفر الله وأتوب إليه، وهو جهد المقل، والله الموفِّق.


كتبه
أبو معاذ رائد آل طاهر
غفر الله له ولوالديه ولعموم أهل الإيمان
ليلة الاثنين 26 من شهر ذي الحجة 1433 هـ
الموافق 11/  11 /  2012 بالإفرنجي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.