الجمعة، 18 يناير 2013

تنبيـه الإخوان حول ظاهرة الجماعة الثانية لصلاة التراويح فـي رمضان


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد:
فإنَّ مما اعتاد عليه كثير من الشباب المسلم في أثناء ليالي رمضان وبالأخص العشر الأواخر منه؛ أنهم يتركون صلاة التراويح مع المصلين بعد وقت العشاء مباشرة، ثم يتجمَّعون عن اتفاق مسبق في وقت متأخر من الليل فيصلون جماعة ثانية في نفس المسجد، والأعظم من هذا أن يقوم أحدهم إماماً في الناس فيصلي التروايح بعد العشاء مباشرة ثم يترك الوتر، فلا يوتر بالناس!؛ لأنه يريد أن يكمل صلاة التراويح مع الجماعة الثانية!.
وهذه الظاهرة قد انتشرت في بلاد كثيرة من بلدان المسلمين، وصار من الشباب مَنْ يرغِّب لها ويستدل لها بأدلة عامة، والبعض يقول الأمر فيه سعة، حتى آل الأمر أن قلَّت جماعة التراويح التي تصلى بعد العشاء مباشرة، وصار الذي يعتادها أكثرهم من عوام المسلمين!، أما الشباب فيظنون أنَّ الأجر أكثر في الجماعة الثانية، وأنَّ العبادة فيها أعظم عند الله تعالى!.
وهذا الأمر بالتالي أدَّى إلى تصدُّر أئمة يصلون بالناس في الجماعة الأولى قد لا يجيدون الصلاة ولا أحكامها ولا يملكون حفظاً لكتاب الله عزَّ وجل، فتجد قلة القراءة في الصلاة، أو تكرر السور المقروءة، وتجد الإساءة في الأركان والواجبات، حتى إنَّ الناظر لصلاة القوم ليعجب ويتألم من هذا الأمر، وبهذا استهان الناس بالجماعة الأولى من أجل الجماعة الثانية!؛ وصدق سلفنا الصالح حين قالوا: ((ما أُحدِثت بدعة إلا وأُميتت سنةٌ)).
والذي ينبغي أن نعرفه أنَّ جماعة التراويح بعد صلاة العشاء مباشرة هي سنة المسلمين التي اعتادوا عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا في عهد القرون الثلاثة المفضلة:
فقد ذكر الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في [المسائل ص62]: ((سمعتُ أحمد - الإمام أحمد بن حنبل - قيل له: يعجبك أن يصلي الرجل مع الناس في رمضان أو وحده؟! قال: يصلي مع الناس. وسمعته أيضاً يقول: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له بقية ليلته"، ثم قال أبو داود: "قيل لأحمد وأنا أسمع: يؤخِّر القيام - يعني التراويح - إلى آخر الليل؟! قال: لا، سنة المسلمين أحبُّ إليَّ)).
فمع إنَّ الصلاة في آخر الليل أفضل من الصلاة في أول الليل؛ لكنَّ الإمام أحمد رحمه الله دعا إلى الصلاة مع الناس في أول الليل؛ لماذا؟ لأنها سنة المسلمين.
وليعلم الإخوة الأفاضل الذين يسوِّغون الجماعة الثانية في صلاة التراويح أنهم قد خالفوا المقصد الذي رأه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، حين رأى الناس يصلون متفرقين فجمعهم على قارئ واحد:
فقد روى الإمامان مالك والبخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون؛ يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال: ((والله إني لأرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل))، ثم عزم فجمعهم على أُبَيَّ بن كعب، قال: ثم خرجتُ معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: ((نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون)).
أما الشباب المسلم اليوم فيفرقون الجماعة الواحدة التي تُصلى بقارئ واحد إلى جماعتين، فلا ندري هل رأى هؤلاء الشباب ما لم يره عمر رضي الله عنه؟!
فكيف وقد وافقه الصحابة كآفة بلا نكير ولا مخالف؟!
والبعض يستدل بأدلة عامة تدل على أفضيلة الصلاة في جوف الليل، وأنَّ الثلث الأخير من الليل وقت مبارك.
وجواب ذلك: أنَّ هذا الأمر معلوم عند عمر رضي الله عنه وهو القائل: ((والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون))، أي الصلاة في جوف الليل - التي ينامون عنها - أفضل من الصلاة في أول الليل، والصحابة رضي الله عنهم يعلمون ذلك، ولم ير أحدٌ منهم أن تقام صلاة التراويح جماعة في آخر الليل، بل بقي الأمر على ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو كانت صلاة التراويح جماعة في المسجد أفضل في جوف الليل لما تأخَّر عن هذه الفضيلة الصحابة الكرام؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره [4/ 157]: ((وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كلِّ فعلٍ وقولٍ لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هو بـدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنَّهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا بادروا إليها)).
ومن أجل ذلك قال حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: ((كل عبادة لم يتعبـَّدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوها؛ فإنَّ الأول لم يدع للآخر مقالاً))، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، وعليكم بالأمر العتيق)).
وأنا أخشى أنَّ مَنْ يعتقد في نفسه أو يصرِّح بلسانه: أنَّ الجماعة الثانية أكثر أجراً وأعظم عبادة من الجماعة الأولى يشابه حال القوم الذين تقالَّوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء فيهم قوله صلى الله عليه وسلم: ((والله إني لأخشاكم لله واتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
بل وأخشى أن يلزم هؤلاء الشباب أنفسهم بالصلاة جماعة في المسجد في هذا الوقت المتأخِّر من الليل ويتركوا الرخصة التي سنَّها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إذا تقادم بهم العمر تثاقلوا عنها وندموا، كما ندم عبد الله بن عمرو رضي الله عنه حين ترك رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد جاء في أحد طرق حديثه في مسند الإمام أحمد:
قال حصين في حديثه: ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((فإنَّ لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة؛ فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك))، قال مجاهد: فكان عبد الله بن عمرو حيث ضعف وكبر يصوم الأيام كذلك؛ يصل بعضها إلى بعض يتقوى بذلك ثم يفطر بعد تلك الأيام، قال: وكان يقرأ في كل حزبه كذلك؛ يزيد أحياناً وينقص أحياناً غير أنه يوفي العدد إما في سبع وإما في ثلاث، قال: ثم كان يقول بعد ذلك: ((لأن أكون قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي مما عدل به –أو عدل- لكني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره)).
وقد قيل: قليل دائم خير من كثير منقطع.
وليحذر هؤلاء الشباب من أن يكونوا ممن يُشار إليهم بالأصابع؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فإن كان صاحبها سدد أو قارب فارجوه، وإنْ أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه)).
ثم ليعلموا أنَّ صلاة التراويح جماعة الأصل فيها التيسير على عامة الناس، وليس المراد منها الإطالة حتى بزوغ الفجر؛ إلا في ليلة السابع والعشرين كما فعل صلى الله عليه وسلم، أو إلا في حال الصلاة مع جماعة في أول الليل يوافقون الإمام على الصلاة بهم إلى بزوغ الفجر كما كان يصنع الصحابة الكرام في عهد عمر رضي الله عنهم، أما عامة الناس فلا يصلي الإمام بهم إلى بزوغ الفجر؛ لأنَّ فيه مشقة على كثير منهم، وفيهم ذو الحاجة والضعيف والكبير، وقد قال صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء: (لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَخَّرْتُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِ اللَّيْلِ)، لأنَّ هذين الوقتين أفضل، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك.
ومع هذا فالذي يصلي التراويح مع الإمام حتى ينصرف يتفضَّل الله تعالى عليه فيكتبها له قيام ليلة وإنْ نام بعدها إلى طلوع الفجر!؛ فقد أخرج أصحاب السنن وغيرهم عن جبير بن نفير عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صمنا مع رسول الله رمضان، فلم يقم بنا شيئاً من الشهر، حتى بقي سَبْعٌ فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شَطْرُ الليل، فقلتُ: يا رسول الله لو نَـفَّـلتنا قيام هذه الليلة، فقال: (إنَّ الرجل إذا صلَّى مع الإمام حتى ينصرف حُسِبَ له قيام ليلة)، فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفَلاح. قال جبير: قلتُ: ما الفلاح؟ قال: السحور، ثم لم يقم بنا بقية الشهر.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يستجب لما طلبه أبو ذر رضي الله عنه من الإطالة إلى الفجر؛ مع أنَّ ليلة الخامس والعشرين من الليالي المباركة التي أمرنا صلى الله عليه وسلم فيها أن نتحرَّ ليلة القدر، وأخبره أنَّ صلاة التراويح جماعة مع الناس تقوم مقام ليلة عند الله عزَّ وجل وإنْ لم يصلوها إلى الفجر.
قد يقول قائل: صلاة التراويح في أول الوقت مع الناس قد قصَّروا فيها في هذا الزمان بسبب بعض أئمة المساجد الذين أخلّوا فيها من جهة التخفيف جداً في القراءة ومن جهة عدم الخشوع والاطمئنان والإهمال في باقي أركان الصلاة، فما لنا من سبيل إلا إقامتها مرة أخرى في آخر الليل مع الاجتهاد في القراءة وأداء الأركان فيها.
والجواب: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن نفارق جماعة الصلاة مع أئمة الناس في المساجد؛ ولو أخلُّوا بشيء من واجباتها أو أركانها، بل ولو أخروها عن وقتها، وأمرنا أن نصلي الفرض في وقتها ثم نصلي مع الناس نافلة، وأخبرنا أنهم إن أحسنوا في صلاتهم فلهم ولنا وإن أساؤوا فلنا وعليهم، وكل هذا في حال الفرض؛ فكيف لو كانت الصلاة التي أساؤوا فيها نافلة مثل التراويح؟! لا شك أنَّ النهي عن مفارقتهم يكون أوكد.
وكل ذلك من باب لزوم الجماعة ونبذ الفرقة، وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم يحرص على تحقيق هذا الأصل في أشياء كثيرة دون ذلك، فقد كان يراهم صلى الله عليه وسلم إذا خرجوا في سفر ونزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال لهم: (إنَّ تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان)، يقول الراوي: فلم ينـزل بعد ذلك منـزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال لو بسط عليهم ثوب لعمهم. ولما رآهم صلى الله عليه وسلم يأكلون متفرقين قال لهم: (كلوا جميعاً ولا تفرقوا فإنَّ البركة مع الجماعة)، وكان صلى الله عليه وسلم يمسح على عواتقهم قبل تكبيرة الإحرام ويقول لهم: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، وكان يقول: (الجماعة رحمة والفرقة عذاب)، ويقول: (البركة في ثلاثة في الجماعة والثريد والسحور)، ويقول لهم: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى).
وشبابنا اليوم يفرِّقون جماعة التراويح إلى جماعتين؛ فأين هم من ملاحظة هذا الأصل العظيم؟!
وقد يقول قائل: النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الليل في أوله وآخره ووسطه، فالأمر فيه سعة.
والجواب عنه: لكنه صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ في الناس التراويح جماعة إلا في أول الليل، فعل ذلك صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال، وسار الصحابة الكرام من بعده على هذه السنة، ومن بعدهم التابعين ومن تبعهم بإحسان، كلهم كانوا يصلون بالناس جماعة في أول الليل، ورحم الله الإمام مالك حيث قال: ((لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً)).
ثم الأمر قد يشرع في موطن لحال معين ولا يشرع في حال آخر؛ قال العلامة ابن رجب البغدادي رحمه الله تعالى في [جامع العلوم والحِكَم ص60]: ((ليس كل ما كان قربة في موطِن يكون قربة في كل المواطِن؛ وإنما يتبع في ذلك كله ما وردت به الشريعة في مواضعها؛ وكذلك مَنْ تقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها؛ كمن صام يوم العيد أو صلى وقت النهي. وأما مَنْ عمل عملاً أصله مشروع وقربة ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع أو أخلَّ فيه بمشروع: فهذا أيضاً مخالف للشريعة بقدر إخلاله بما أخلَّ به، أو إدخاله ما أدخل فيه)).
والله عزَّ وجل يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً).
وممن أفتى ببدعية تقسيم صلاة الليل جماعة في المسجد الواحد في رمضان إلى قسمين (تراويح وتهجُّد) أو إلى وقتين (أول الليل وآخر الليل) العلامة الشيخ الألباني رحمه الله تعالى كما في [سلسلة الهدى والنور/ الشريط (719)]:
السائل: ما يحدث الآن يا شيخ في رمضان في العشر الأواخر؛ يقسِّمون الصلاة صلاة القيام في أول الليل وفي أخره، وأصبح هذا يعني نظام دائم؟
فأجاب الشيخ رحمه الله: بدعة.
السائل: كيف يكون؟ يعني إذا أردنا أن نقيم السنة ونخفِّف عن الناس فكيف نفعل؟
الشيخ رحمه الله: تفكرون كما قال عمر: والتي يؤخِّرونها أفضل، يعني هو أمر أبي بن كعب أن يقيم صلاة القيام بالناس بعد صلاة العشاء ففعل، ولما خرج يتحسس قال: "نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل".
السائل: يعني يبقى الحال على ما هو قبل العشر؟
الشيخ رحمه الله: اي نعم.

وهنا مسألة أخرى؛ يكثر السؤال عنها وهي: كيف يصنع الذي يحضر إلى العمرة في رمضان؛ هل يصلي في المسجد الحرام أكثر من إحدى عشرة ركعة أم لا؟!
بعض الإخوة يصلون في بلادهم إحدى عشرة ركعة، فإذا حضروا في شهر رمضان إلى المسجد الحرام صلوا فيه أكثر من ذلك؛ ويحتجون بأثر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ((الخلافُ شرٌّ))، لما صلى خلف عثمان رضي الله عنه صلاة السفر تماماً لا قصراً، ولا يصح هذا الاستدلال هنا، لأنَّ عثمان رضي الله عنه كان خليفة للمسلمين، وهو الذي يصلي بهم الصلوات، فلا ينبغي مخالفته، لأنَّ هذه المخالفة تفتح باباً من الشر يدخل منه الخوارج وغوغاء الناس فتثار الفتنة على الخليفة بسببه، ولهذا قال ابن مسعود: ((الخلافُ شرٌّ))، وأما الصلوات اليوم فإنها تقام بأئمة مساجد لا بخلفاء أو ملوك أو أمراء، وصلاة التراويح في بلاد الحرمين وغيرهم تصلى بإحدى عشرة ركعة في بعض المساجد وتصلى بأكثر من ذلك في مساجد أخرى، فالأمر عندهم فيه سعة، ولا تثريب ولا إنكار على المخالف، فانتفى المقصود من أثر ((الخلافُ شرٌّ))، لأنَّ الخلاف في مسألتنا هذه واقع أصلاً.
يبقى السؤال: ماذا يفعل المصلي في المسجد الحرام؟ هل يبقى معهم إلى أن ينصرفوا من صلاة التهجد؟ أم يصلي معهم عشر ركعات ويكمل الركعة الأخيرة في سكنه؟ أم يبحث عن مسجد حوله يصلي الناس فيه صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة؟
الجواب: إنْ كان حوله مسجدٌ يصلي بإحدى عشرة ركعة فينبغي أن يصلي فيه ولا يختار عليه مسجداً آخر يُصلى فيه أكثر من إحدى عشرة ركعة؛ ولو كان له فضل كثير مثل المسجد الحرام والمسجد النبوي، لأنَّ مراعاة السنة آكد وأعظم من مراعاة الأجر، ومما يدلُّ على ذلك: ما أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود واللفظ له عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: ((أصبت السنة وأجزأتك صلاتك))، وقال للذي توضأ وأعاد: ((لك الأجر مرتين))، فإصابة السنة أعظم وأفضل من مضاعفة الأجر كما هو معلوم.
وأما إن لم يكن حوله مسجدٌ يصلي على السنة (إحدى عشرة ركعة)، فيصلي في المسجد الحرام عشر ركعات ثم يخرج منه فيصلي الأخيرة في سكنه، ولا يصليها منفرداً في المسجد الحرام؛ لأنه ((لا صلاة لمنفرد خلف الصف))، ولا يبقى جالساً والناس يصلون في المسجد؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى ذلك، كما أخرج أحمد والنسائي وأبو داود والترمذي وغيرهم عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال: شهدتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم حجته، فصليتُ معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته وانحرف؛ إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه، فقال: علي بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يارسول الله؛ إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: ((فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة)).
هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم، وهو سبحانه الموفِّق.


كتبه
أبو معاذ رائد آل طاهر
غفر الله له ولوالديه ومشايخه وإخوانه السلفيين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.