الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله
وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإنَّ من أصول أهل السنة والجماعة التي تميزوا بها
عن الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة: أنَّ أهل المعاصي يحبون ويوالون من جهة، ويبغضون
ويعادون من جهة أخرى، فلا يعطون المحبة والموالاة كلها كما تزعم المرجئة، ولا يسلبون
المحبة والموالاة كلها كما تزعم الخوارج، وإنما يحبون ويوالون من جهة إيمانهم، ويبغضون
ويعاودن من جهة ذنوبهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [المجموع
35/ 94-95]: ((والواجب على كل مسلم أن يكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته تابعاً لأمر
الله ورسوله، فيحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي من يوالي
الله ورسوله، ويعادي من يعادي الله ورسوله.
ومَنْ كان فيه ما يوالى عليه من حسنات وما يعادى
عليه من سيئات عومل بموجب ذلك، كفساق أهل الملة؛ إذ هم مستحقون للثواب والعقاب، والموالاة
والمعاداة، والحب والبغض؛ بحسب ما فيهم من البر والفجور، فإنَّ "من يعمل مثقال
ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة،
بخلاف الخوارج والمعتزلة، وبخلاف المرجئة والجهمية؛ فإنَّ أولئك يميلون إلى جانب، وهؤلاء
إلى جانب، وأهل السنة والجماعة وسط)).
وقد استغل مميعة العصر هذا الأصل استغلالاً فاسداً
يدخل من باب تحريف الكلم عن موضعه، فزعموا أنَّ أهل البدع يُحبون ويوالون ويمدحون ويكرمون
من جهة موافقتهم للسنة، ويبغضون ويعادون ويذمون ويهانون من جهة ابتداعهم ومخالفة السنة،
وزعموا أنَّ هذا من باب القياس على أهل المعاصي الشهوانية، أو أنه لا فرق بين المبتدع
والعاصي في ذلك لكونهم جميعاً يدخلون في فسَّاق أهل الملة.
ثم لما أصَّلوا هذا الأصل الفاسد ذهبوا يبحثون في
الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والعلماء من سلف الأمة الصالح ليستدلوا به فلم يجدوا ما
يؤيد باطلهم!، فأكثروا البحث في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فما وجدوه إلا
مبغضاً لأهل البدع معاد لهم منكِّلاً بهم محذِّراً منهم على وجه الإطلاق والتعيين.
لكنهم وجدوا له كلاماً مشتبهاً في موضع ما ففرحوا
به كثيراً ونشروه في مواطن عديدة على اختلاف أصنافهم وأشكالهم، وهذا الكلام هو قوله
رحمه الله في [المجموع 28/ 209]: ((وليعلم أنَّ المؤمن تجب
موالاته وإنْ ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإنْ أعطاك وأحسن إليك.
فإنَّ الله سبحانه بعث
الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله؛ فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام
لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.
وإذا اجتمع في الرجل الواحد:
خير وشر، وبر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة؛ استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق
من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة،
فيجتمع له من هذا وهذا،
كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي
اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومَنْ وافقهم عليه؛ فلم يجعلوا
الناس إلا مستحقاً للثواب فقط، وإلا مستحقاً للعقاب فقط)).
وأيده بعضهم بكلام آخر
له رحمه الله وهو قوله [المجموع 10/ 366]: ((وإنه كثيراً ما يجتمع في الفعل الواحد
أو في الشخص الواحد الأمران؛ فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما فلا
يغفل عما فيه من النوع الآخر، كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما
فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد
يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره
على فعل بعض الحسنات السنية البرية،
فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومَنْ سلكه كان قائماً بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب
والميزان)).
فحمل أهل التمييع هذين
النقلين على أهل البدع!، وزعموا أنَّ المبتدع الذي يوافق أهل السنة في بعض المسائل
يحب ويوالى ويمدح من هذه الجهة، ويبغض ويعادى ويذم من جهة ابتداعه ومخالفة السنة.
وليس لهم في ذلك حجة إلا
الهوى أو الجهل!.
وإنما كلام شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله فيمَنْ كان من أهل السنة وعنده بدعة وقعت منه عن اجتهاد أو تأويل
أو شبهة؛ مثل أبي إسماعيل الهروي صاحب "منازل السائرين"، قال شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله [منهاج السنة 5/ 241]: ((وهذا الذي ذمه الجنيد رحمه الله وأمثاله
من الشيوخ العارفين وقع فيه خلق كثير حتى من أهل العلم بالقرآن وتفسيره والحديث والآثار
ومن المعظمين لله ورسوله باطناً وظاهراً المحبين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذابين عنها، وقعوا في هذا غلطاً لا تعمداً، وهم يحسبون أنَّ هذا نهاية التوحيد كما
ذكر ذلك صاحب منازل السائرين؛ مع علمه وسنته ومعرفته ودينه، وقد ذكر في كتابه منازل
السائرين أشياء حسنة نافعة وأشياء باطلة)).
وقال [المصدر السابق 5/
249]: ((أما الفناء الذي يذكره "صاحب المنازل" فهو الفناء في توحيد الربوبية
لا في توحيد الإلهية، وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي الأسباب والحكم كما تقول القدرية
المجبرة كالجهم بن صفوان ومن اتبعه والأشعري وغيره. وشيخ الإسلام وإنْ كان رحمه الله
من أشدِّ الناس مباينة للجهمية في الصفات وقد صنَّف كتابه "الفاروق" في الفرق
بين المثبتة والمعطلة، وصنف كتاب "تكفير الجهمية" وصنف كتاب "ذم الكلام
وأهله"، وزاد في هذا الباب حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات؛ لكنه في القدر
على رأي الجهمية نفاة الحكم والأسباب)).
قلتُ:
فشيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله يتكلَّم عن شخص واحد تجتمع فيه السنة والبدعة، وهذا الوصف لا يُطلق إلا على
مَنْ كان من أهل السنة لكنه وقع في بدعة عن اجتهاد سائغ، لأننا لو جوَّزنا إطلاق هذا
الوصف على أهل البدع أيضاً؛ لما خرج أحدٌ منهم من السنة؛ مهما كانت بدعته ما لم تكن
مكفِّرة. فما من صاحب بدعة إلا وله موافقة للسنة في أشياء قلَّت أو كثرت، فهل يُقال:
أنَّ أهل البدع - غير المكفِّرة - كلَّهم يوالون ويحبون من جهة!؛ ما دامت عندهم موافقة
للسنة ولو كانت يسيرة؟!
فإنْ قال أهل التمييع:
نعم!
فنقول لهم:
إذاً هنيئاً للشيعة والمعتزلة
والخوارج والقدرية والجبرية والمرجئة والأشاعرة والصوفية وغيرهم من الطوائف والفرق
قديماً وحديثاً بهذه المحبة والموالاة منكم!!!.
وهذا هو أصل التمييع وحقيقته
الذي يحاربه السلفيون اليوم، فليفطن الشباب السلفي لذلك.
وهذا الأصل عندهم تنبني عليه آثار سيئة:
منها: الموازنة بين المحاسن والمساوئ عند ذكر أهل
البدع!.
ومنها: التعاون والتعامل مع أهل البدع!.
ومنها: الدفاع عن أهل البدع والانتصار لهم!.
ومنها: إدخال أهل البدع في إطار أهل السنة!؛ وأنهم
يقبل منهم ما وافقوا فيه الحق ويرد عليهم ما خالفوا فيه الحق، وهذا هو المنهج الواسع الأفيح الذي ينادي به أهل التمييع
اليوم.
ومنها: التهوين من مسائل الاختلاف مع أهل البدع!.
ومنها: إغلاق باب التبديع والتجريح!.
إلى غير ذلك من التأصيلات الفاسدة المتفرعة من ذلك
التأصيل الباطل.
أقول:
ولا بد للسلفي النبه أن يعرف الفرق بين المبتدع
والعاصي في هذه المسألة من خلال هذه الوجوه:
الوجه الأول: أنَّ
السنة والإجماع قد فرَّقا بين المبتدع والعاصي، فجعلا المبتدع أشد من العاصي، فلا يُقاس
الأول على الثاني؛ لأنه قياس مع الفارق، وهو قياس باطل.
قال شيخ الإسلام رحمه الله
كما في [المجموع 20/ 103-105]: ((إنَّ أهلَ البدع شرٌّ من أهل المعاصي الشهوانية
بالسنة والإجماع؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال الخوارج ونهى عن قتال
أئمة الظلم، وقال في الذي يشرب الخمر: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"،
وقال في ذي الخويصرة: "يخرج من ضئضئ هذا أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم
يمرقون من الدين - وفي رواية: من الإسلام - كما يمرق السهم من الرمية، يحقر أحدكم صلاته
مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في
قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة"، وقد قررتُ هذه القاعدة بالدلائل
الكثيرة مما تقدم من القواعد.
ثم إنَّ أهل المعاصي ذنوبهم
فعل بعض ما نهوا عنه؛ من سرقة أو زنا أو شرب خمر أو أكل مال بالباطل، وأهل البدع
ذنوبهم ترك ما أمروا به من إتباع السنة وجماعة المؤمنين؛ فإنَّ الخوارج أصل بدعتهم
أنهم لا يرون طاعة الرسول وإتباعه فيما خالف ظاهر القرآن عندهم؛ وهذا ترك واجب. وكذلك
الرافضة لا يرون عدالة الصحابة ومحبتهم والاستغفار لهم؛ وهذا ترك واجب. وكذلك القدرية
لا يؤمنون بعلم الله تعالى القديم ومشيئته الشاملة وقدرته الكاملة؛ وهذا ترك واجب.
وكذلك الجبرية لا تثبت قدرة العبد ومشيئته وقد يدفعون الأمر بالقدر؛ وهذا ترك واجب.
وكذلك مقتصدة المرجئة - مع أنَّ بدعتهم من بدع الفقهاء ليس فيها كفر بلا خلاف عند أحد
من الأئمة ومن أدخلهم من أصحابنا في البدع التي حكى فيها التكفير ونصره فقد غلط في
ذلك - وإنما كان لأنهم لا يرون إدخال الأعمال أو الأقوال في الإيمان؛ وهذا ترك واجب.
وأما غالية المرجئة الذين يَكفرون بالعقاب ويزعمون أنَّ النصوص خوفت بما لا حقيقة له
فهذا القول عظيم؛ وهو ترك واجب. وكذلك الوعيدية لا يرون اعتقاد خروج أهل الكبائر من
النار ولا قبول الشفاعة فيهم؛ وهذا ترك واجب.
فإن قيل: قد يضمون إلى
ذلك اعتقاداً محرماً؛ من تكفير وتفسيق وتخليد؟
قيل: هم في ذلك مع أهل
السنة بمنزلة الكفار مع المؤمنين؛ فنفس ترك الإيمان بما دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع
ضلالة؛ وإنْ لم يكن معه اعتقاد وجودي، فإذا انضمَّ إليه اجتمع الأمران، ولو كان
معهم أصل من السنة لما وقعوا في البدعة)).
وقال رحمه الله في موضع آخر [المجموع 10/ 7-10]: ((وأما الظالم
لنفسه من أهل الإيمان: فمعه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه كما معه من ضد ذلك بقدر
فجوره؛ إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب والسيئات المقتضية للعقاب
حتى يمكن أن يثاب ويعاقب وهذا قول جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة
الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون: إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال
ذرة من إيمان.
وأما القائلون بالتخليد كالخوارج والمعتزلة القائلين إنه
لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة وإنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر
لا قبل دخول النار ولا بعده: فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب؛ وحسنات وسيئات،
بل من أثيب لا يعاقب ومن عوقب لم يثب. ودلائل هذا الأصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف
الأمة كثير ليس هذا موضعه وقد بسطناه في مواضعه، وينبني على هذا أمور كثيرة.
ولهذا من كان معه إيمان حقيقي: فلا بد أن يكون معه من هذه
الأعمال بقدر إيمانه وإنْ كان له ذنوب؛ كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أنَّ رجلاً كان يسمى حماراً، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يشرب الخمر،
ويجلده النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي به مرة فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى
به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا
تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"، فهذا يبين أنَّ المذنب بالشرب وغيره قد يكون
محباً لله ورسوله، وحب الله ورسوله أوثق عرى الإيمان.
كما أنَّ العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق
مسخوطاً عليه عند الله ورسوله من ذلك الوجه؛ كما استفاض في الصحاح وغيرها من حديث
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أنه ذكر الخوارج فقال: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته
مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية،
أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإنَّ في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن
أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد".
وهؤلاء قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه
وسلم فيهم في الحديث الصحيح: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى
الطائفتين إلى الحق".
ولهذا قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره: "إنَّ
البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأنَّ البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها"،
ومعنى قولهم: "إنَّ البدعة لا يتاب منها"، أنَّ المبتدع الذي يتخذ ديناً
لم يشرعه الله ولا رسوله قد زُيِّن له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه
حسناً، لأنَّ أول التوبة العلم بأنَّ فعله سيء ليتوب منه، أو بأنه ترك حسناً مأموراً
به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسناً وهو سيء في نفس الأمر
فإنه لا يتوب، ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق
كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال، وهذا
يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم)).
قلتُ:
من هذين النقلين يتبين لنا الفرق بين المبتدع والعاصي:
- فالعاصي
اعتقاده وإيمانه صحيح وفعله مخالف للشريعة، ولهذا يُمدح من جهة إيمانه بتحريم المعصية،
ويُذم من جهة فعله للمعصية.
- وأما
المبتدع فاعتقاده فاسد وهو تارك للإيمان الحقيقي في مخالفته تلك، لأنه يعتقد مشروعية
هذه المخالفة؛ وحقيقة أمره: أنه مستدرك ومضاد ومضاه للشريعة كما ذكر ذلك العلامة الشاطبي
رحمه الله في الاعتصام، هذا مع مخالفة فعله للشريعة.
فمن
أي جهة يحب ويوالى هذا المبتدع؛ وليس له اعتقاد صحيح يحب من أجله ولا فعل مشروع؟!
- وأهل المعاصي فعلوا بعض ما نهوا عنه، بينما أهل
البدع تركوا ما أمروا به من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وإتباعه، وهذا ترك للإيمان
الواجب، وقد يضمون إليه فعلاً منهياً كالاعتقادات الفاسدة، فيزداد ضلالهم أكثر.
- وأهل المعاصي يعلمون أنهم مذنبون مخالفون للشرع،
وأنه يجب عليهم التوبة؛ وإنما غلبة الشهوة قاهرة لهم مع ضعف إيمانهم، بينما أهل البدع
زُيِّن لهم سوء أعمالهم فرأوها محاسن وحسنات، ولا يرون التوبة عليهم واجبة، لأنهم لا
يرون أنهم مخالفون للشريعة، ولهذا كانت البدعة أحب إلى إبليس من المعصية.
ورحم الله الإمام البربهاري الذي قال في شرح السنة:
((وإذا ظهر لك من إنسان شيء من البدع فاحذره، فإنَّ الذي أخفى عنك أكثر مما أظهر. وإذا
رأيت الرجل رديء الطريق والمذهب فاسقاً فاجراً صاحب معاص ظالماً وهو من أهل السنة فاصحبه
واجلس معه فإنه ليس تضرك معصيته، وإذا رأيت الرجل عابداً مجتهداً متقشفاً محترفاً بالعبادة
صاحب هوى: فلا تجلس معه ولا تسمع كلامه ولا تمشي معه في طريق، فإني لا آمن أن تستحلي
طريقه فتهلك معه)).
الوجه الثاني: أنَّ
أئمة أهل السنة كانوا يذكرون في مصنفات العقيدة بغض ومعاداة أهل البدع، ولم يذكروا
محبتهم وموالاتهم من وجه مطلقاً؛ كما ذكروا ذلك في أهل المعاصي والذنوب الشهوانية.
وصنيع الأئمة هذا إنما يدل على الفرق بين الأمرين،
فمَنْ لم يفرِّق بينهما فهو على غير سبيل الأئمة الأوائل.
قال الإمام ابن بطه في الإبانة الكبرى: ((ولا تشاور
أحداً من أهل البدع في دينك ولا ترافقه في سفرك، وإن أمكنك أن لا تقربه في جوارك. ومن
السنة مجانبة كل من اعتقد شيئاً مما ذكرناه وهجرانه والمقت له، وهجران مَنْ والاه ونصره
وذب عنه وصاحبه؛ وإن كان الفاعل لذلك يظهر السنة)).
وقال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله في عقيدة
السلف وأصحاب الحديث: ((واتفقـوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخزائهم
وإبعادهم، وإقصائهم والتباعد منهم ومن مصاحبتهم، ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عز وجل
بمجانبتهم ومهاجرتهم)).
وقال: ((ويتجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون
أصحاب الأهواء والجهالات، ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا
يحبونهم ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم)).
وقال الإمام البغوي في شرح السنة: ((وقد مضت الصحابة
والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم)).
وقال الشيخ حمود التويجري رحمه الله في [القول البليغ
في التحذير من جماعة التبليغ ص 31 – 33]: ((وقد كان السلف الصالح يحذرون من أهل البـدع
ويبالغون في التحذير منهم، وينهون عن مجالستهم ومصاحبتهم وسماع كلامهم، ويأمرون بمجانبتهم
ومعاداتهم وبغضهم وهجرهم)).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في [شرح لمعة الاعتقاد
ص110]: ((والمراد بهجران أهل البدع: الابتعاد عنهم وترك محبتهم وموالاتهم والسلام عليهم
وزيارتهم وعيادتهم ونحو ذلك، وهجران أهل البدع واجب لقوله تعالى: "لا تجد قوماً
يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون مَنْ حادَّ الله ورسوله")).
فأهل البدع ممن حادَّ الله ورسوله لا يحبون ولا
يوالون، وهذا ما اتفق عليه سلف الأمة، فالواجب السير على نهجهم وعدم مخالفتهم.
وقد يقول مستدرك: إذا
كان المبتدع لا يوالى ولا يحب ولا يُكرم ولا يثنى عليه من وجه؛ أليس في هذا تشبيه له
بالكافر؟! أو هل هو كافر حتى لا يحب ولا يوالى من وجه؟!
والجواب عنه:
إنَّ بغض ومعاداة أهل البدع هو من باب الزجر والتعزير
وليس من باب الردة والتكفير؛ ومثله: عدم السلام عليه، وعدم مصاحبته ومجالسته، وترك
زيارته إذا مرض، وترك الصلاة عليه إذا مات؛ فهل يُقال فيمن يعمل بهذه الأحكام: إنه
يكفِّر صاحب البدعة؟!
فكذلك يُقال فيمن لا يحب ولا يوالي المبتدع من وجه،
هو لا يكفِّره إنْ كانت بدعته غير مكفِّرة، وإنما يفعل ذلك من باب الزجر والتعزير.
فأهل البدع غير المكفِّرة وإنْ كانوا من فسَّاق
الملة، وقد يجتمع فيهم ما يوجب المدح والموالاة وما يوجب الذم والمعادة كصاحب المعصية،
لكنَّ المبتدع يُمنع من الثناء عليه وموالاته من باب العقوبة والنصيحة للمسلمين والتحذير
من إتباع سبيل المجرمين، لأنَّ الناس يغترون بصاحب البدعة ولا يغترون بصاحب المعصية.
والله الموفِّق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.