الثلاثاء، 12 فبراير 2013

تبصير كل ذي عينين بحقيقة المنهج المنشود في سلسلة حلقات "بين منهجين"[8]


مع حلقته الثامنة: (المدح والثناء على المخالفين من أهل البدع والأهواء)

قال الكاتب في أول حلقته هذه: ((إنَّ مسألة المدح والثناء مبنية على أصل الولاء والبراء؛ وهو التقريب والمحبة والمناصرة والثناء على قدر ونوع الطاعات, والإبعاد والمخالفة والكره والذم على قدر ونوع المخالفات))
قلتُ: لاشكَّ أنَّ المسلم يثنى عليه في حال طاعته، ويذم في حال معصيته، وقد يجتمع فيه الثناء من جهة ما قام به من الطاعة، والذم من جهة ما قام به من المعصية؛ وهذا هو منهج أهل السنة، خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين كانوا يقولون: مَنْ استحق الذم لم يستحق الثواب!، بينما أهل السنة يقولون: قد يُثاب من جهة، ويُعاقب من جهة أخرى؛ وهذا يتحقق في فسَّاق هذه الملة، يُثاب من جهة إيمانه، ويُعاقب من جهة معصيته، وبقدر ما قام به من الطاعات والمعاصي يوالى ويعادى ويحب ويبغض ويقرب ويبعد.
وقد يُمدح الرجل على ما عنده من محاسن مع أنَّ له مخالفات أخرى؛ وذلك بالنسبة لظلمة العصر الذي كان يعيش فيه وقلة نور العلم الموروث من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يُمدح بالنسبة لغيره ممن هم دونه وأكثر مخالفات.
لكن هذا في جانب، والمنع من ذكر حسنات المبتدعة في حال التحذير والنقد في جانب آخر؛ ذلك أنَّ المبتدع وإنْ كان يدخل في باب الفسق، ويجتمع فيه ما يوجب الثناء عليه وما يوجب الذم كصاحب الكبيرة، لكنَّ المبتدع يُمنع من الثناء عليه من باب العقوبة ومن باب النصيحة، وهذا كحال الذين لا يُصلى عليهم صلاة الجنازة من أهل الإسلام عقوبة لهم وليس كونهم لا يمدحون مطلقاً ولا يستحقون الثواب كما تقول الخوارج والمعتزلة، والبدعة أشد من المعصية كما تقدَّم، وقد قال الكاتب: ((ذلك أنَّ مدح أهل البدع والأهواء وذكر محاسنهم ولو كان بحق, يمنع منه بقصد إخماد بدعته وإطفاء ناره)).
ثم ذكر الكاتب بعض أقوال أهل العلم في المنع من ذكر حسنات أهل البدع لما في ذلك من التغرير والمفسدة الظاهرة، ثم قال: ((وليس معنى ما تقدم: أنه يمنع من ذكر محاسن وممادح المخالفين ولو كانوا من المبتدعة منعاً عاماً مطلقاً، ذلك أنَّ المنع من مدحهم خروج عن الأصل، فالأصل هو أنَّ كل مسلم يمدح بما فيه من طاعات, ويذم لما وقع فيه من مخالفات، والمنع من مدح أهل البدع والأهواء خروج عن هذا الأصل, وقيل به سداً لذريعة الترويج للبدعة, وما منع منه سداً للذريعة يقال بجوازه لمصلحة الراجحة؛كما هو مقرر عند المحققين من أهل العلم)).
قلتُ: لا يلزم من كون المسلم يُمدح لما قام فيه من الطاعات ويذم لما قام فيه من المعاصي والمخالفات أن تذكر حسناته وسيئاته في حال الكلام عنه وبيان حاله!، فضلاً أن يكون الأصل في حال الكلام عن أهل البدع أن تذكر حسناتهم وسيئاتهم، أو أنَّ المنع من ذكر سيئاتهم خروجاً عن ذلك الأصل!!.
ثم ذكر الكاتب حالات الثناء على أهل البدع منعاً وإباحة؛ وهي:
الحالة الأولى: المنع من مدح المخالف في معرض نقده والتحذير من أخطائه
الحالة الثانية: مدح المخالف في معرض ترجمته
الحالة الثالثة: مدح المخالف في معرض تقويمه
الحالة الرابعة: الإخبار عن أهل البدع بما قام فيهم من أحوال موجبة للمدح عند قيام المقتضى لذلك.
الحالة الخامسة: الثناء على أهل البدع في معرض مقارنتهم بمن هم دونهم.
الحالة السادسة: الدفاع عن المخالفين؛ برد ما نسب إليهم أو وقع عليهم ظلماً من الأقوال والأفعال.
قلتُ: ما الفرق بين مدح المخالف في معرض الترجمة ومعرض التقويم؟! لا فرق بينهم إلا إذا أراد الكاتب أنَّ الثانية أوسع من الأولى، ولهذا قال: ((في حالة التقويم ومعرفة حقيقة حال الرجال؛ فلا بد من ذكر ما للرجل وما عليه للموازنة بينهما, ومعرفة حاله الراجح))، ثم ذكر مثالاً منقولاً عن أحد أهل العلم المعاصرين في الكلام عن "الأشاعرة" وأنهم أهل السنة فيما وافقوا أهل السنة فيه، وليسوا من أهل السنة فيما خالفوا أهل السنة فيه!!.
فأقول للكاتب: ما هو الراجح –الذي ظهر لك بعد هذه الموازنة- في الحكم على الأشاعرة؟!!!
ثم أليس كثير من الطوائف المبتدعة لهم موافقات لأهل السنة ولهم مخالفات؛ فهل تقبل فيهم هذا التفصيل؟!
وأعيان المبتدعة كذلك؛ أليس لهم موافقات لأهل السنة مع ما لهم من مخالفات، فما هو الراجح في معرفة أحوالهم؟ هل يصح فيهم التفصيل المذكور؟!
أما مراد العالم من ذلك المثال؛ فواضح أنه أراد تفصيل القول فيمن نسب من أهل العلم الأشاعرة إلى أهل السنة ومَنْ نفاهم، وهذا أمر خاص، فتعميم القول بعده غلط ظاهر!.
وإلا فماذا تقول في قول نفس العالم في [مجموع فتاواه ورسائله المجلد الأول/ السؤال الخمسون] حين سُئل: هل تقسيم أهل السنة إلى قسمين: مدرسة ابن تيمية وتلاميذه، ومدرسة الأشاعرة والماتريدية تقسيم صحيح؟
فأجاب بقوله: ((من المعلوم أنَّ بين هاتين المدرستين اختلافاً بيناً في المنهاج فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، فالمدرسة الأولى يقرر معلموها وجوب إبقاء النصوص على ظواهرها فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، مع نفي ما يجب نفيه عن الله تعالى من التمثيل أو التكييف، والمدرسة الثانية يقرر معلموها وجوب صرف النصوص عن ظواهرها فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته؛ وهذان المنهاجان متغايران تماماً، ويظهر تغايرهما بالمثال التالي: قال الله تعالى: "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"، وقال فيما حكاه عن معاتبة إبليس حين أبى أن يسجد لآدم بأمر الله: "يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي"، فقد اختلف معلمو المدرستين في المراد باليدين اللتين أثبتهما الله تعالى لنفسه.
فقال أهل المدرسة الأولى: يجب إبقاء معناهما على ظاهره، وإثبات يدين حقيقيتين لله تعالى، على وجه يليق به.
وقال أهل المدرسة الثانية: يجب صرف معناهما عن ظاهره، ويحرم إثبات يدين حقيقيتين لله تعالى، ثم اختلفوا في المراد بهما هل هو القوة، أو النعمة؟.
وبهذا المثال يتبين أنَّ منهاج أهل المدرستين مختلفان متغايران، ولا يمكن بعد هذا التغاير أن يجتمعا في وصف واحد، هو أهل السنة.
إذاً فلابد أن يختص وصف أهل السنة بأحدهما دون الآخر، فلنحكم بينهما بالعدل، ولنعرضهما على ميزان القسط وهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة، والتابعين لهم بإحسان من سلف الأمة وأئمتها.
وليس في هذا الميزان ما يدل بأي وجه من وجوه الدلالة، المطابقة، أو التضمن، أو الالتزام صريحاً أو إشارة على ما ذهب إليه أهل المدرسة الثانية، بل في هذا الميزان ما يدل دلالة صريحة، أو ظاهرة، أو إشارية على ما ذهب إليه أهل المدرسة الأولى، وعلى هذا فيتعين أن يكون وصف أهل السنة خاصاً بهم لا يشاركهم فيه أهل المدرسة الثانية، لأنَّ الحكم بمشاركتهم إياهم جور، وجمع بين الضدين، والجور ممتنع شرعاً، والجمع بين الضدين ممتنع عقلاً)).
أما الحالة الرابعة والخامسة ففيها توسع في العبارة ظاهر، لأنَّ "قيام المقتضى" و"المقارنة" يدَّعيهما كل أحد، وليس الحال هكذا على الإطلاق!، ولا في واقع الناس!، نعم قد يقتضي المقام ويُحتاج إلى المقارنة في بعض المجالس، لكن لا يكون بقصد الموازنة ولا يُجعل أصلاً.
ثم إنَّ إثبات ما عند المخالفين من صفات المدح ونفي ما يُنسب إليهم من صفات الذم ليس هو من باب ذكر الحسنات والسيئات عند الكلام على أهل البدع؛ وإنما هو من باب الإخبار بالواقع نفياً وإثباتاً، فلا يقصد به الثناء على أهل البدع ولا الدفاع عنهم!.
أما قول أحد أهل العلم: ((لكن المقصود التحذير من أخطائهم، الجهمية... المعتزلة... الرافضة... وما أشبه ذلك؛ فإذا دعت الحاجة إلى بيان ما عندهم من حق يبين))، فمراده إما في باب الترجمة، وإما أنه يبين الحق الذي وافقوا فيه أهل السنة لئلا يظن ظآن أنَّ كل ما قالوه باطل.
وقوله نفسه: ((ولكن متى ذكرها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لمن وقعت البدعة أو المنكر منه تذكيراً له بأعماله الطيبة، وترغيباً له في التوبة، فذلك حسن، ومن أسباب قبول الدعوة والرجوع إلى التوبة))، أي يذكِّره بحسناته في نصيحته له، لا أثناء الرد أو النقد أو التحذير، وهذه النصيحة خاصة بينه وبين المنصوح وليست عامة أو معلنة.
وأما قول العالم الآخر في أثناء جوابه: ((وهذا يختلف باختلاف المجالس, فإن وجد مجال بان يذكر الحسنات حسناً يفعل؛ ومن الممكن أن يذكر الحسنات فتضيع الفائدة بذكر الحسنات عن الحسنة الكبرى))، فليس ذكر حسناتهم أصلاً، وإنما قد يُحتاج له، ثم أين موقع هذا الاستدراك في تعميم الكاتب وتأصيله؟!
ومثله قول العالم الثالث: ((ولكن إذا تحدثتَ عنه في أي مجلس من المجالس فإنْ رأيتَ في ذكر محاسنه فائدة فلا بأس أن تذكرها، وإنْ خفتَ من مضرة فلا تذكرها)).
ثم أنَّ الكاتب قد أسهب عفا الله تعالى عنه في ذكر الأمثلة من الثناء على جملة من الكفار والمبتدعة والطوائف المنحرفة بما يؤدي إلى التغرير بهذا المنهج الحادث وببعض مَنْ ذكر!!، وأنا أعلم أنه نقله أو تلقطه من هنا وهناك وهنالك من كلام أهل العلم، لكني كذلك أعلم أنَّ جمع كلامهم بهذه الصورة التي فعلها الكاتب لا يرتضيه أحد منهم قطعاً!.
ولما كان مسلك الكاتب ما ذكرناه آنفاً لهذا قال: ((لا يعني بدعية القول بوجوب ذكر حسنات المنقود, أنَّ ذكر الحسنات محرم, فنفي الوجوب لا يستلزم منه إثبات التحريم, والأدلة على مشروعية ذكر حسنات المنقود إذا اقتضت الحاجة والمصلحة كثيرة)).
وقال: ((ولهذا فقد نص كبار علماء أهل السنة والجماعة على مشروعية ذكر حسنات المنقود إذا اقتضت الحاجة والمصلحة ذلك)).
وقال: ((ينبغي أن يراعى في جانب ذكر محاسن المنقود اختلاف المجالس والمصالح, فإنْ اقتضت مصلحة النقد ذكر الحسنات فعل, وإنْ لم يقتضها فلا يفعل))
قلتُ: فمع أنه يتكلم عن "حال النقد" إلا أنه فتح هذا الباب على مصراعيه بدعوى اقتضاء "المصلحة" و"الحاجة"!!، وكل أحد يُحسن هذه الدعوى كما هو معلوم.
ثم قال مدافعاً بشدة: ((أثارت قضية مدح بعض المشايخ السلفيين لبعض مَنْ وقعوا في البدعة, أو لبعض من اتهموا بالبدعة حفيظة بعض الغلاة في تجريح المسلمين؛ فعدوا هذا المدح مما يوجب قدح المادح؛ بل وبلغ الغلو ببعضهم إلى أن يلحق المادح بالممدوح, جاهلاً أو متجاهلاً إلى أنَّ للمادح أعذاراً توجب عدم الحكم عليه بأنه ممن يمدح المبتدعة المدح المذموم))
قلتُ: فما هي الأعذار؟ وهل لها ضابط شرعي؟ أم قناعة النفس؟! وهل تقبل الأعذار على الإطلاق؟
ثم بعد هذه الحالات الستة في جواز ذكر حسنات أهل البدع؛ متى يُذم مادح أهل البدع وهو لا يحتار في ادعاء أحد هذه الحالات؟ والله المستعان.

يتبعه الحلقـــ (9) ــة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.