الثلاثاء، 12 فبراير 2013

تبصير كل ذي عينين بحقيقة المنهج المنشود في سلسلة حلقات "بين منهجين"[7]


مع حلقته السابعة: هجر أهل البدع والأهواء

في مقدمة هذه الحلقة؛ بيَّن الكاتب وفقه الله تعالى للسداد أنَّ الأصل بين المسلمين الإخاء والتواصل والولاء والمحبة، وأنَّ الهجر والتقاطع خروج عن الأصل، فقال: ((فهجر أهل البدع والأهواء خروج معتبر عن الأصل "أنَّ المسلم أخو المسلم"، وأنَّ للمسلم على المسلم حقوقاً؛ لكن هذا الخروج ليس عاماً مطلقاً, بل هو مضبوط بضوابط)).
ويؤكِّد كلامه قول العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في جواب سائل: ((الواجب على مَنْ كان له قرناء فيهم بدعة أن ينصحهم ويبين لهم أنَّ ما هم عليه بدعة، لعل الله أن يهديهم على يديه حتى ينال أجرهم فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم"، فإنْ أصروا على ما هم عليه من البدعة: فإنْ كانت البدعة مكفرة وجب عليه هجرهم والبعد عنهم، وإنْ لم تكن مكفرة: فلينظر هل في هجرهم مصلحة؟! إنْ كان في هجرهم مصلحة هجرهم، وإنْ لم يكن في هجرهم مصلحة فلا يهجرهم؛ وذلك لأنَّ الهجر دواء إنْ كان يرجى نفعه فليفعل، وإنْ لم يرجى نفعه فلا يفعل؛ لأنَّ الأصل أنَّ هجر المؤمن محرم، والعاصي من المؤمنين لا يرتفع عنه اسم الإيمان، فيكون هجره في الأصل محرماً، لكن إذا كان في هجره مصلحة لكونه يستقيم ويدع ما يوجب فسقه فإنه يهجر، وإلا فلا، هذا هو الضابط في الهجر الذي تجتمع فيه الأدلة)).
 ثم بنى الكاتب على هذا: أنَّ هذه المجانبة والمقاطعة لا تشرع إلا بدليل معتبر؛ لأنَّ الخروج عن الأصل لا يثبت إلا بمثل ذلك.
قلتُ: والدليل المعتبر على هجر المعلنين للبدع والمظهرين للمنكرات ثابت ومعلوم، مثل قوله تعالى: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))، وإنما الخلاف في تحقيق المناط!.
وأما الضوابط التي ذكرها الكاتب فهي مستفادة من كلام أهل العلم؛ وخلاصتها:
أن يكون قصد الهاجر مرضاة الله تعالى، وأن يكون المراد هجره مبتدعاً حقاً، وأنَّ الهجر لا يشرع من حيث الأصل إلا في أهل البدع المشتهرة عند أهل العلم كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة، وكذلك في حق الداعي إلى البدع لا الساكت أو المستتر، وأنَّ هذا الزمان لا ينفع فيه هجر المبتدعة، بل يُجالسون ويُخالطون من باب النصيحة، وحتى لو لم يستجيبوا فنبقى معهم حتى يستقيموا على الجادة، وأن يحقق الهجر مقصوده ولا ينتج عنه مفسدة أرجح من مصلحته، وأنَّ الهجر يختلف وجوداً وعدماً قوة وضعفاً تبعاً لنوع البدعة ودرجتها وحال أهل السنة من جهة التمكين والاستضعاف والحاجة إلى أهل البدع من عدمها، وأنه ضرورة التفريق بين هجر الوقاية والذي هو حق كل فرد في خاصة نفسه وبين الهجر العام والدعوة إليه وهذا من حق ولاة الأمر من الحكام أو الأئمة المقتدى بهم، وأنَّ أهل البدع يهجرون في الظاهر أما في الباطن فَيُحَبون لما معم من طاعة وسنة ويُبغضون لما معهم من معصية وبدعة؛ وأنَّ القول بالهجر المطلق لأهل البدع فهو من جنس صنيع الخوارج في هجر ومقاطعة أهل الكبائر من الملة.
وكذلك يُمكن أن يُتلخص لنا أنَّ التعامل مع أهل البدع ليس بمرتبة واحدة؛ بل يختلف ذلك لعدة أمور:
فيُفرَّق بين الداعي إلى بدعته المعلن لها وبين الساكت المستتر، ويفرق بين البدع المشتهرة والغليظة كبدعة الخوارج والمعتزلة والرافضة والمرجئة ونحوهم وبين البدع الخفية والخفيفة كمسألة اللفظ بالقرآن، ويفرق بين الابتداع الذي يسبب خلل في أصل كلي كبدعة التحسين والتقبيح العقليين التي تندرج تحتها فروع كثيرة وبين الابتداع الذي يسبب خلل في جزئي أو فرعي كالأذان والإقامة للعيد، ويفرق بين مَنْ وقع في بدعة اجتهاداً ولم تقع عليه الحجة وبين مَنْ كان ديدنه الابتداع وقامت عليه الحجة، ويفرق بين الهجر الوقائي الفردي الذي لكل مسلم حق فيه ولا يُلزم به الآخرين وبين الهجر العام الذي يجب على الجميع أن يمتثلوا له؛ وهو من حق أولياء الأمور من الأمراء والعلماء كهجر الثلاثة الذين خلفوا وكهجر صبيغ العراقي وكهجر عمرو بن عبيد رأس المعتزلة، ويفرق بين هجر الترك والانتهاء وهو أن يهجر المسلم السيئات ويهجر قرناء السوء الذين تضره صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة وبين هجر العقوبة والتعزير الذي يقصد به كف أذاه وردع الآخرين، ويفرق بين قوة الهاجرين وشوكتهم من حيث الزمان والمكان والحال وبين ضعفهم وهوانهم، ويفرق بين تحقق مقصود الهجر وهو زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله وبين عدم تحققه أو رجحان مفسدته على مصلحته، ويفرق بين الحاجة الملحة لأهل البدع المؤتمنين في الرواية وغيرها وبين عدم الحاجة لهم.
أقول: هذه الضوابط والفروق وإنْ ثبتت عن أهل العلم بالنقل المصدَّق عنهم لكنَّ هناك آثاراً مستفيضة عن سلف الأمة الأوائل لا يظهر فيها مثل تلك الفروق والضوابط!، بل الظاهر أنها على العموم تتنزل على كل صاحب بدعة!؛ وهنا منشأ الخلاف المعاصر في مسألة هجر المبتدعة؛ فليُعلم هذا.
ولنأخذ مثال من كلام السلف:
قال الإمام البربهاري في شرح السنة: ((وإذا ظهر لك من إنسانٍ شيء من البدع: فاحذره؛ فإنَّ الذي أخفى عنك أكثر مما أظهر، وإذا رأيتَ الرجلَ رديء الطريق والمذهب فاسقاً فاجراً صاحبَ معاصٍ ظالماً وهو من أهل السنة: فاصحبه واجلس معه؛ فإنَّه ليس تضرك معصيته، وإذا رأيتَ الرجلَ عابداً مجتهداً متقشفاً محترفاً بالعبادة صاحبَ هوى: فلا تجلس معه ولا تسمع كلامه ولا تمشي معه في طريق؛ فإني لا آمن أن تستحلي طريقه فتهلك معه))
وحتى لا أطيل في نقل كلامهم أدعو الكاتب إلى مطالعة كتاب [إجماع العلماء على الهجر والتحذير من أهل الأهواء] للأخ خالد الظفيري، أو قراءة مطوية جمعت تلك الأقوال بعنوان [موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع].
والملاحظ فيها: أنك لا ترى في أقوالهم تفريق بين البدع الغليظة المشتهرة وغيرها؟!
ولا ترى أنَّ المقصود بالهجر محصور بزجر المهجور وتأديبه؛ بل فيه تحصين للنفس من شبهاتهم، وتهوين شأنهم حتى لا يغتر بهم ولا بحالهم أحد، وكذلك فيه هجر مجالسة مَنْ سخط الله عليه، وهجر مجالسهم لئلا يصيبه سخط من الله ولعنة.
والذي يظهر لي –والله تعالى أعلم- أنَّ هجر المبتدعة في هذا العصر محل اجتهاد؛ لأنه مَنْ نظر إلى آثار السلف الأوائل رأى فيها تصريحاً وتلميحاً بهجر المبتدعة مطلقاً!، ومَنْ نظر إلى الضوابط التي أصَّلها المتأخرون في هذه المسألة وأراد مراعاتها وتطبيقها جميعاً رأى استحالة تنزيل الهجر في هذا العصر على أحد!؛ مع أنَّ أهل البدع في هذه العصور أكثر من العصور المتقدمة لقلَّة العلم والعلماء وكثرة الجهل والأئمة المضلين، ففتح باب الهجر مطلقاً غلط، وغلق بابه مطلقاً غلط كذلك، والصحيح النظر في كل حالة والاجتهاد فيها، ثم الحكم بالهجر أو عدمه، وليس هذا من اختصاص كل أحد، بل هو من حق أهل العلم الأمناء الراسخين، ولا يُشاركهم فيه أحد، وأما متابعتهم في التبديع فهي راجعة إلى مسألة الجرح والتعديل وقبول الجرح المفسَّر؛ وقد تقدَّم الكلام عنها في مسألة الحكم على الأعيان؛ وأنَّ مدارها: قوة الخلاف وضعفه من جهة، وظهور الحجة والبينة على صحة أحد القولين من جهة أخرى.
ولعلَّ كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيه إشارة إلى هذا حيث قال في [مجموع الفتاوى 28/ 212-213]: ((ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل؛ وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله أو خرج خطاباً لمعين قد علم حـاله؛ فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يثبت حكمها في نظيرها. فإنَّ أقواماً جعلوا ذلك عاماً فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به فلا يجب ولا يستحب؛ وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات!!. وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية بل تركوها ترك المعرض؛ لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره ولا ينهون عنها غيرهم ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها؛ فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاباً أو استحباباً!!؛ فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه؛ وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به؛ فهذا هذا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه. والله سبحانه أعلم))
وقول الكاتب: ((الشبهة الثانية: زعم بعض المتعالمين بالقول أنَّ "العلماء إذا تكلموا في مبتدع فيجب إتباعهم وإلا أُلحق بهم مَنْ لم يأخذ بقولهم بذلك المبتدع"، ثم استدل على زعمه بما رواه أبو داود السجستاني: "قلتُ لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلاً من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة؛ أترك كلامه؟ قال: لا؛ أو تعلمه أنَّ الرجل الذي رأيته صاحب بدعة، فإذا ترك كلامه فكلمه، وإلا ألحقه به" قلتُ: وهذه دعوى فارغة, واستدلال عليها في غير موضعه وبيان ذلك من وجوه ...))
قلتُ: ليس الأمر على إطلاقه نفياً ولا إثباتاً!؛ بل مدار القبول والرد هو الحجة وعدمها لا الهوى كما نقلتَ من قول الشيخ ربيع حفظه الله تعالى: ((بناءاً على قاعدتك في باب التبديع؛ يلزمك تبديع الإمام البخاري لأنَّ الإمام محمد بن يحيى الذهلي وأصحابه قد بدَّعوا الإمام البخاري وآذوه!؛ ولكنَّ العلماء وعلى رأسهم مسلم إلى يومنا هذا خالفوا الإمام محمد بن يحيى؛ فهل تبدعهم لأنهم لم يتبعوا محمد بن يحيى؟! وتقول: لماذا خالفوه؟! فأقول: لأنه ليس معه ولا مع أصحابه حجة؛ والإمام أحمد نفسه خالف الناس في شريك بن عبد الله النخعي وأبي نعيم، لأنه لم تقدم له الحجة على تبديعهما، ولو قدموها له لقبلها والتزمها كما عهدنا ذلك منه ومن أمثاله رحمهم الله؛ فمدار القبول والرد: هو الحجة وعدمها لا الهوى))
وقول الكاتب: ((إنَّ النهي عن مجالسة المبتدعة ليس على إطلاقه؛ بل هو مقيد بأحد حالين: الأول: أنه في حال تكلمهم بالبدعة وخوضهم في باطلهم من غير إنكار عليهم...، الحال الثاني: أنَّ النهي عن مجالسة أهل الأهواء والبدع محمول على مَنْ كان شأنه معاشرة ومخالطة أهل الأهواء والبدع...))
قلتُ: قال تعالى: ((َقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)) النساء/ 140، وقال: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) الأنعام/ 68
فقوله: ((حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)) في الآيتين واضح أنَّ النهي ينتهي في حال تغيير حديثهم الباطل، ثم إنْ كان في الجلوس معهم بعد تغير الحديث مصلحة راجحة فيؤمر بتحصيلها، وإنْ لم يكن فيه مصلحة راجحة فلا فائدة في الجلوس معهم!؛ قال العلامة السعدي في تفسيره: ((المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق؛ من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها، ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله. فأمر الله رسوله أصلاً وأمته تبعاً: إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل، والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره، فإذا كان في كلام غيره، زال النهي المذكور؛ فإنْ كان مصلحة كان مأموراً به، وإنْ كان غير ذلك كان غير مفيد ولا مأمور به. وفي ذم الخوض بالباطل: حث على البحث والنظر والمناظرة بالحق. ثم قال: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} أي: بأن جلست معهم، على وجه النسيان والغفلة {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يشمل الخائضين بالباطل، وكل متكلم بمحرم أو فاعل لمحرم، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر الذي لا يقدر على إزالته. هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله؛ بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم وعن الإنكار، فإنْ استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم؛ فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه: فهذا ليس عليه حرج ولا إثم)).
عرفنا أنه إنْ لم يخوضوا بالباطل ولم يكن في الجلوس معهم مصلحة راجحة؛ أنه لا فائدة في الجلوس معهم حينئذ؛ لكن هل يُنهى عنه أم يباح؟! قد يقول قائل: مفهوم المخالفة من قوله: ((حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)) يدل على الإباحة!!، فيُقال له: وهل الحديث الغير يراد به ما فيه مصلحة راجحة أم ما لا فائدة فيه؟! فإنْ كان المراد بالحديث الغير ما فيه مصلحة راجحة للجالس معهم فلا إشكال حينئذ؛ وهذا هو مفهوم المخالفة الصحيح من الآية، أما إنْ كان المراد به ما لا فائدة فيه، فهذا غير مراد من الآية؛ بدليل الآثار الواردة عن سلف الأمة التي تدل على التحذير من مجالسة المبتدعة بالعموم ولو كانت من باب زيارة المريض أو إتباع الجنازة أو إجابة الدعوة ونحوها؛ مع أنَّ هذه الحالات ليست من الحديث الباطل!!، فيبقى العمل بالآثار السلفية هو الواجب في مثل هذا الموضع، لأنّ فهم السلف الصالح مقدَّم على مَنْ سواهم كما هو معلوم.
بل في الجلوس معهم في غير حديثهم بالباطل ومن غير مصلحة راجحة: فيه مضرة على دين العبد، وفيه تغرير وتلبيس على الآخرين، وفيه إقرار للمبتدعة على ما هم عليه وتعظيم لشأنهم، وفيه تعرض للعنة الله تعالى وسخطه، وفيه اطمئنان وثقة بالنفس مع غفلة عن مكر الله تعالى.
وقد نقل ابن بطة في الإبانة عن حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((لا تجالس أهل الأهواء؛ فإنَّ مجالستهم ممرضة للقلوب)).
وقال الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: ((مَنْ جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار، وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلموا وإني واثق بنفسي؛ فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه))
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله تعالى: ((اعلموا إخواني أني فكرت في السبب الذي أخرج أقواماً من السنة والجماعة واضطرهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلية على أفئدتهم وحجب نور الحق عن بصيرتهم، فوجدت ذلك من وجهين: أحدهما: البحث والتنقير، وكثرة السؤال عما لا يعني ولا يضر العاقل جهله ولا ينفع المؤمن فهمه، والآخر: مجالسة مَنْ لا تؤمن فتنته، وتفسد القلوب صحبته))
وقال الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ((إنَّ لله ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع مَنْ يكون مجلسك، لا يكون مع صاحب بدعة؛ فإنَّ الله تعالى لا ينظر إليهم، وعلامة النفاق: أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة، وأدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة وهم ينهون عن أصحاب البدعة))، وقال: ((لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنـزل عليك اللعنة))، وقال: ((آكل مع يهودي ونصراني ولا آكل مع مبتدع!، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد)).
وقال رجل مبتدع للإمام أيوب السختياني رحمه الله تعالى: يا أبا بكر؛ أسألك عن كلمة؟! قال: فرأيته يشير بيده ويقول: ((ولا نصف كلمة، ولا نصف كلمة)).
وقال أيوب: رآني سعيد بن جبير جلستُ إلى طلق بن حبيب –قال فيه أيوب: ما أدركتُ بالبصرة أعبد منه!!- فقال لي: ((ألم أرك جلست إلى طلق بن حبيب؛ لا تجالسه)).
وقال: قال أبو قلابة: ((لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فاني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون)).
وكان الإمام ابن سيرين رحمه الله تعالى إذا سمع كلمة من صاحب بدعة وضع إصبعيه في أذنيه، ثم يقول: ((لا يحل لي أن أكلمه حتى يقوم من مجلسه))، وقال رجل له: إنَّ فلاناً يريد أن يأتيك ولا يتكلم بشيء!، فقال ابن سيرين: ((قل لفلان: لا ما يأتي، فإنَّ قلب ابن آدم ضعيف!، وإني أخاف أن أسمع منه كلمة فلا يرجع قلبي إلى ما كان!))، ودخل عليه رجلان من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر؛ نحدثك بحديث؟ قال: ((لا))، قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: ((لا؛ لتقومان عني أو لأقومنَّ))، فقام الرجلان فخرجا.
وقال معمر: كان ابن طاووس جالساً فجاء رجل من المعتزلة فجعل يتكلَّم، قال فأدخل ابن طاووس إصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: ((أي بني أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد، ولا تسمع من كلامه شيئاً)).
وقال الإمام مفضل بن مهلهل: ((لو كان صاحب البدعة إذا جلستَ إليه يحدثك ببدعته حذرته وفررتَ منه؛ ولكنه يحدثك بأحاديث السنّة في بدو مجلسه، ثم يدخل عليـك بدعته؛ فلعلها تلزم قلبك، فمتى تخرج من قلبك؟!!)).
وقال الإمام البربهاري: ((وإذا رأيتَ الرجل جالساً مع رجل من أهل الأهواء فحذِّره وعرِّفه، فإنْ جلس معه بعد ما علم فاتقه؛ فإنه صاحب هوى!!))
قلتُ: فهذا كلام أئمة السلف في مجالسة المبتدعة ومكالمتهم؛ هل تجد فيه تفريقاً بين الاستماع لكلامهم في حال حديثهم بالباطل وبين الاستماع لهم في غير ذلك ولو بكلمة ولو بحديث أو آية؟! وهل تجد فيه تفريقاً بين معاشرتهم ومخالطتهم التي تدل على كثرة مجالستهم وبين الجلوس معهم ولو لمرة أو لحظة؟! أما الجلوس معهم ومكالمتهم في ما ظهرت فيه مصلحة راجحة فلا حرج في ذلك، والله أعلم.
وأنا أتعجب من الكاتب كيف يتغافل عن هذه الآثار المستفيضة ثم يتلقط بعض العبارات من هنا وهناك لبعض أهل العلم على طريقته في تتبع الرخص ليستدل على ما ذهب إليه؟! ومع هذا لا نجد فيما ينقله حجة له:
فمثلاً: قال الكاتب في الاستدلال للحال الأول من حالات النهي عن مجالسة المبتدعة: ((قال الطبري في تفسيره لهذه الآية (9\320-321) :"وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفَسَقة، عند خوضهم في باطلهم"، قال ابن مفلح في الفروع (5/ 226) فيمن لا تجاب دعوته : "ومنع [ابن الجوزي] في "المنهاج" من ظالم وفاسق ومبتدع ومفاخر بها، أو فيها مبتدع يتكلم ببدعته إلا لراد عليه"، ولهذا نقل ابن مفلح عن الآداب الشرعية (1\312) عن ابن الجوزي تجويزه حضور الدعوة التي فيها مبتدع لا يتكلم ببدعته؛ بالقول: "إذا كان في الضيافة مبتدع يتكلم ببدعته لم يجز الحضور معه؛ إلا لمن يقدر على الرد عليه، وإنْ لم يتكلم المبتدع جاز الحضور معه مع إظهار الكراهة والإعراض عنه"))
فأما كلام الطبري فهو تفسير للآية وليس فيه تصريح بجواز الجلوس معهم إذا لم يخوضوا في باطلهم ولم توجد مصلحة راجحة في ذلك؛ وهذا هو محل النزاع!.
وأما النقل الأول عن ابن الجوزي فجوابه أنه كذلك في غير محل النزاع!.
وأما النقل الثاني؛ فمحله: حضور دعوة فيها مبتدع، وليس في مجالسة المبتدع أو حضور دعوته!!، ومع هذا أجاز له ابن الجوزي ذلك بشرط إظهار الكراهة والإعراض عنه؛ فأين هذا ممن يجالسهم ويأنس بهم؟!!
واستدلاله على الحال الثاني بما نقله عن الإمام القرطبي في تفسيره أنَّ النهي عن مجالسة المبتدعة هو على سبيل المعاشرة والمخالطة؛ وأنَّ هذا هو مذهب جماعة من الأئمة منهم أحمد والأوزاعي وابن المبارك رحمه الله تعالى.
قلتُ: بتكملة كلام القرطبي يتبين مراده، فإنه قال بعد النقل الذي نقله الكاتب مباشرة: ((وقد حمل عمر بن عبد العزيز الحد على مجالس شربة الخمر، وتلا: "إنكم إذا مثلهم"، قيل له: فإنه يقول إني أجالسهم لأباينهم وأرد عليهم؟ قال: يُنهى عن مجالستهم فإنْ لم ينته ألحق بهم))
إذن المسألة لها حالتان؛ حالة المجالس معهم للرد والإنكار عليهم، وحالة المجالس لهم للمعاشرة والمخالطة، فكان عمر بن عبد العزيز ينهى عن الحالتين، بينما أباح المشار إليهم الحالة الأولى، وجعلوا محل النهي في المعاشر والمخالط لا للرد ولا للمصلحة الراجحة، فهذا هو مراد القرطبي، والله أعلم.
أما ما جعله الكاتب أنموذجاً على جواز مجالسة أهل البدع ومثَّل بالشيخ ربيع حفظه الله تعالى عندما كان يُناصح بعض الأخوان المسلمين وحينما كان يُناصح عبد الرحمن عبد الخالق؛ حتى قال في آخر حلقته هذه: ((وهل يصح أن يقال: أنَّ الشيخ ربيع المدخلي كان إخوانياً بسبب مخالطته للإخوان المسلمين, أو تراثياً بسبب مخالطته لعبد الرحمن عبد الخالق. أم يقال: أنَّ تلك الآثار لم تكن تتناوله لأنَّ الشيخ ربيع المدخلي كان يراعي ضوابط شرعية في هجر المبتدعة؛ وهي التي تمنع من إلحاقه بهم, كما أنَّ الضوابط نفسها هي التي قد تمنع غير الشيخ ربيع من أن يلحق بأهل البدع لأنَّ مخالطته لهم أيضاً مضبوطة بضابطة الشرع)).

قلتُ: فهذا من عجائب تصرفات الكاتب!!، وأقول في رده كما قال الكاتب في أحد حلقاته: ((فما كل قول يلتفت للرد عليه, بل كثير من الأقوال الباطلة يكون ترك نقضها خيراً من الاشتغال بتعريتها)).


يتبعه الحلقـــ (8) ــة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.