مع حلقته الرابعة عشر: (المفهوم الواضح الجلي لحقيقة معنى المنهج السلفي)
قلتُ: وهذه آخر حلقات الكاتب التي بين يدي؛ وقد وصلتني متأخرة، واستغربتُ من عنوانها، وفي لحظتها قلتُ: ألهذه الدرجة أصبح الخلاف بين المنهجين؛ كما يصوِّره هذا الكاتب؟! وصل الخلاف في مفهوم معنى "المنهج السلفي"!!، إذن المسألة مخطط لها من قبل، والغاية من هذا الخلاف –في ظني- هو إحداث منهج جديد للسلفيين المعاصرين في الموقف من المخالفين!، وقد صرَّح البعض بهذا!، ولا زال البعض الآخر ينتظر فرصة أخرى للتصريح؛ نسأل الله تعالى الثبات على المنهج السلفي الأصيل.
وبعد قراءة هذه الحلقة؛ وجدتُ
أنَّ الكاتب أراد أن يصل إلى مقصوده –وهو توسيع مفهوم السلفية- بطريقة اللف
والدوران والمقدمات التي لا خلاف فيها والعبارات المجملة التي تحتمل الحق والباطل
وتحميل كلام أهل العلم ما لا يحتمل وعدم الوقوف مع نصوصهم الصريحة التي لا تحتمل
أكثر من وجه؛ ومع هذا خرجت منه العبارات التي ظل يكتمها بجهد خشية النقد، والله
الهادي إلى سواء السبيل.
قال الكاتب في أول حلقته هذا
بعد لمز وتعريض في عالم من علماء السلفيين لا يخفى على أحد: ((ولهذا جاء مقالنا اليوم ليوضح
حقيقة معنى (المنهج السلفي)، وبعض ما هو داخل في هذا المعنى، وبعض
ما هو
خارج عنه))
قلتُ: إذن
المقال ليس المراد به –كما قد يُغتر من ظاهر عنوانه- دعوة المخالفين للمنهج السلفي
إلى هذا المنهج المبارك!!، وإنما مفهوم جديد لحقيقة هذا المنهج!، ثم إدخال (بعض
الناس) فيه!!، وإخراج (بعض الناس) منه!!، بحسب ذلك المفهوم الجديد.
وقال
الكاتب: ((فلا فرق بين السلفية والإسلام لا من قريب ولا من بعيد))
قلتُ: لا
فرق من حيث أنَّ المنهج السلفي والإسلام الحق قبل حدوث الفرق شيء واحد، لكن لا
يُفهم من ذلك أنَّ كل من كان من أهل الإسلام بعد ظهور الفرق فهو سلفي!، ولا أنَّ
مَنْ لم يكن سلفياً فهو خارج عن الإسلام!! فلينتبه لهذا.
وقال
الكاتب: ((لما كان السلف هم: أصحاب القرون الثلاثة الخيرية من الصحابة والتابعين
وتابعيهم, كان من جاء بعدهم خارجاً عن حد "السلف" اصطلاحاً؛ الذين أمرنا
بأن نكون على طريقتهم ومقتفين لمنهجهم -وإنْ كان داخلاً في معناهم لغة, أو على الاصطلاح
الخاص-. وكان ما يأتينا من جهتهم من أقوال وأفعال ومذاهب خارجة عن أقوال ومذاهب
السلف؛ داخلة في باب أقوال أهل العلم التي تعامل كما تعامل غيرها؛ ولو كان
المتكلم
بها هو الإمام أحمد رحمه الله))
قلتُ: لكن
إنْ كانت أقوالهم حقاً دلَّ عليه الدليل فإنها تنسب إلى مذهب السلف؛ وقد قلتَ في
حلقتك هذه: ((الوجه الثاني: إنَّ القول الحق الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وأجمع
عليه سلف الأمة لا يصح أن ينسب إلى شخص بعينه بإطلاق!، بل لا بد أن ينسب إلى السلف
جميعاً, ومَنْ خالفه من كبار علماء السلف رد عليه
قوله))
وقد تقدَّم
معنا أنَّ لفظة ((القرآن كلام الله غير مخلوق)) لم ترد في نص ولا في أثر ولا في
إجماع في القرون الأولى؛ وإنما لما ظهرت الجهمية والمعتزلة وتكلموا في مسألة خلق
القرآن، قال الإمام أحمد: ((القرآن كلام الله غير مخلوق))، ومع هذا فإنَّ هذه
اللفظة تنسب إلى عقيدة السلف وهي مدونة في كتب الاعتقاد السلفية؛ أليس كذلك؟!
بل لقد
قلتَ في حلقتك الأولى: ((وبعد هذا
العرض الموجز؛ علمنا حقيقة الفرق بين المنهجين, منهج السلف الذي قرره شيخنا وسار عليه, ومنهج بعض المعاصرين
الممتهنين لتصنيف المسلمين والسلفيين, وأي المنهجين هو الحادث؟!))
قلتُ: فهل منهج السلف قرره
شيخك؟! أم هي زلة لسان منك؟
وقال الكاتب: ((ومن المعلوم أنَّ الكلام فيمن
خالف الحق من الجماعات والرجال ليس من مسائل المنهج الأصلية؛ بل ولا الفرعية, لأنه
ليس من مسائل الشرع، ولا يوجد في أدلة الشرع ما يدل على هذه المسائل
بخصوصها,
وهذا الباب هو من مسائل المنهج التبعية اللازمة له, ومعرفتها فرض على الكفاية، وهو
داخل في باب إنكار المنكر, حالها في ذلك حال معرفة سائر مقالات أهل
البدع
والضلال. ومما يدل على أنَّ هذه المعرفة بمسالك أهل الشر (مناهج وأفراد)
ليست من
مسائل الشرع الأصلية حديث حذيفة بن اليمان فيما رواه عنه سبيع بن خالد وفيه قال
حذيفة: إنَّ الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله
عن الشر؛ فأحدقه القوم بأبصارهم؛ فقال: إني قد أرى الذي تنكرون))
قلتُ: كيف
يكون الكلام
فيمن خالف الحق من الجماعات والرجال ليس من مسائل المنهج الأصلية؛ بل ولا الفرعية,
لأنه ليس من مسائل الشرع، ولا يوجد في أدلة الشرع؟!!
وكيف تكون المعرفة بمسالك أهل الشر
(مناهج وأفراد) ليست من مسائل الشرع الأصلية
ولا الفرعية ولا توجد في أدلة الشرع؟!
ألم يقل
الله عز وجل: ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))؟ أليس
الإيمان متوقف على البراءة من الطواغيت التي عبدت من دون الله؟
لو أنَّ
رجلاً آمن بالله عز وجل ولم يكفر بمن دونه هل يصح إيمانه؟
وكيف له أن
يكفر بالطواغيت وهو لا يعرفها ولا يعرف مسائل الجاهلية وصور الشرك والكفر؟
أليس من
الطواغيت رجال متبوعون مطاعون في أقوامهم؟
أليس من الواجب بيان هؤلاء؟
أم ماذا؟!!
ألم يقل
الله عز وجل: ((وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ))؟
فالتحذير
من المجرمين وكشف تلبيساتهم أليس هو من تبيان سبيلهم؟
ما معنى
"سبيل المجرمين"؟ وهل بينه وبين (مسالك أهل الشر) الذي عبَّرتَ عنه
فرق؟!!
والله عز
وجل جعل بيان "سبيل المجرمين" غاية من تنزيل وتفصيل الآيات، وأنت جعلتَ
معرفة (مسالك أهل الشر) ليست من مسائل الشرع ولم يدل عليها دليل، بل هي تبع
لغيرها!!، فلا نقول إلا: ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً)).
والعجيب
أنَّ الكاتب ينسب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم الذي أحدقوا بأبصارهم إلى حذيفة
رضي الله عنه حين سأل عن الشر؛ ينسبهم أنهم فهموا كما يفهم هو: أنَّ معرفة مسالك
أهل الشر ليست من مسائل الشرع!، ولهذا استنكروا سؤال حذيفة!!، قال الكاتب: ((فلما استغربوا السؤال عنها
واستنكروه؛ دل هذا على أنَّ معرفتها لم تكن أصلية في منهجهم، وإنْ كانت تبعية
لازمة لمنهجهم على جهة الكفاية)).
قلتُ:
وإنما استغرابهم لأنَّ الأصل بالمسلم أن يسأل عن الخير وأسبابه وثمرته وصفات أهله،
لأنه يبتغي بذلك الجنة والرضوان، فلما كان حذيفة رضي الله عنه يسأل على خلاف هذا
الأصل المعهود استنكر الصحابة سؤاله.
وقال
الكاتب: ((طائفة زعمت: "أنَّ فلاناً من أعرف الناس بالمنهج السلفي"
بسبب سعة معرفته بالاتجاهات البدعية الباطلة وشخوصها المنحرفين؛ وهو زعم باطل من
وجهين؛ الأول: أنَّ كون زيد أو عبيد هو أعلم الناس بأحوال الجماعات والأفراد لا
يستلزم منه أن يكون أعلم الناس بأحكام هذه الجماعات وتلكم الأفراد, بل
أعلم
الناس بأحكامهم هم أعلم الناس بشرع الله وأحكام دينه؛ والذين لا يصدرون أحكامهم في
النوازل إلا بعد أن يفقهوا واقع النازلة، ويحققوا مناط الحكم فيها في الشرع، ثم يصدر
عنهم الحكم المناسب لها))
قلتُ: كنا
نسمع قديماً مَنْ يصف علماءنا بأنهم يعرفون الشرع ولكنهم لا يفقهون الواقع!،
واليوم الكاتب يصف طائفة منهم بأنهم يعرفون واقع الجماعات والأفراد ولكنهم يجهلون
حكم الشرع فيه!!، وكلا الوصفين نابع من تصنيف العلماء إلى علماء شرع وعلماء واقع!!،
فتنبَّه.
ثم قال
الكاتب: ((الوجه الثاني: لا تلازم بين المعرفة المفصلة بمسالك أهل الباطل,
والمعرفة المفصلة بطرائق أهل الحق, فكم من عارف بطرائق أهل الشر على جهة التفصيل،
وعلمه بحق أهل السنة لا يتعدى مجملات, ولا أدل على هذا من حال أبي الحسن الأشعري))
قلتُ: أبو
الحسن الأشعري عاش أكثر عمره على عقيدة الاعتزال ثم عقيدة الأشاعرة المعروفة اليوم
ثم في الجزء الأخير من عمره رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ولهذا تراه متضلعاً
بمعرفة مذاهب المتكلمين ومقالات الفرق، لأنه عاش أكثر حياته يتذبذب بين مذاهب أهل
الباطل إلى أن هداه الله تعالى إلى الحق، فكيف يُقارن عالم من علماء السلفية اليوم
ممن عاش طول حياته على عقيدة أهل السنة والجماعة ولم يُعرف له غلط فيها وعاش وهو
يدعو إلى هذه العقيدة ويجاهد مخالفيها ويحرص كل الحرص على نشرها حتى شهد له أئمة
العصر بالعلم والمكانة العالية، كيف يُقارن مثل هذا العالم بأبي الحسن الأشعري
الذي كان يجهل جملة من مقالات أهل الحق بسبب ما تقدَّم عنه؟!
قال
الكاتب: ((إنَّ أحكام الولاء والبراء في المنهج السلفي هي نفس أحكام الولاء والبراء
في شرع الله ودينه, وذلك بأن يوالي آحاد المسلمين كل منهم بحسب ما معه من موافقات
للمنهج السلفي –دين الله الحق-, ويفاصل بحسب ما معه من مخالفات لهذا
المنهج
سواء نسب نفسه إلى السلفية أو لم ينسب نفسه إليها؛ فالعبرة هي بما يقوم به
العبد من
معنى السلفية في نفسه؛ فقد يوالى مَنْ لم ينسب نفسه للمنهج السلفي أكثر بكثير من
بعض مَنْ يتشدق بكونه سلفياً أثرياً بحسب قيام كل منهم بطاعة الله واجتنابه
لمعصية
الله... ولا يخرج من هذه القاعدة أحدٌ لا أهل
الفسق
ولا أهل المعاصي ولا حتى أهل البدع))
قلتُ: قد
يكون الرجل سلفياً في معتقده ولكنه مسرف بالذنوب ومقصر في الطاعات، وقد يكون الرجل
مبتدعاً ولكنه من أعبد الناس؛ فعلى مقياس الكاتب يوالى الثاني أكثر من الأول!!،
بينما على مقياس أئمة السنة أنَّ الواجب موالاة الأول بحسب ما عنده من العمل، وأما
الثاني فيبغض ويهجر ويحذَّر منه.
قال
الإمام البربهاري في شرح السنة: ((وإذا ظهر لك من إنسانٍ شيء من البدع: فاحذره؛
فإنَّ الذي أخفى عنك أكثر مما أظهر!!، وإذا رأيتَ الرجلَ رديء الطريق والمذهب
فاسقاً فاجراً صاحبَ معاصٍ ظالماً وهو من أهل السنة: فاصحبه واجلس معه!!، فإنَّه
ليس تضرك معصيته، وإذا رأيتَ الرجلَ عابداً مجتهداً متقشفاً محترفاً بالعبادة صاحبَ
هوى: فلا تجلس معه ولا تسمع كلامه ولا تمشي معه في طريق!!، فإني لا آمن أن تستحلي
طريقه فتهلك معه))
[وفي
طبقات الحنابلة 1/ 234]: ((قال علي بن أبي خالد: قلتُ لأحمد بن حنبل: إنّ هذا
الشيخ – لشيخ حضر معنا – هو جاري، وقد نهيته عن رجل،
ويحب أن يسمع قولك فيه: "حارث القصير"؟ – يعني حارثاً المحاسبي –، وكنتَ رأيتني معه منذ سنين كثيرة، فقلتَ لي:
لا تجالسه، فما تقول فيه؟! فرأيتُ أحمد قد احمرّ لونه، وانتفخت أوداجه وعيناه، وما
رأيته هكذا قط، ثم جعل ينتفض، ويقول: "ذاك؛ فعل الله به وفعل، ليس يعرف ذاك
إلا من خَبَره وعرفه، أوّيه، أوّيه، أوّيه، ذاك لا يعرفـه إلا مَنْ قد خبره وعرفه،
ذاك جالسه المغازلي ويعقوب وفلان، فأخرجهم إلى رأي جهم، هلكوا بسببه!!"، فقال
له الشيخ: يا أبا عبـد الله، يروي الحديث، ساكنٌ، خاشعٌ، من قصته، ومن قصته. فغضب
أبو عبد الله، وجعل يقول: "لا يغرّك خشوعه ولِينه، ويقول: لا تغتر بتنكيس
رأسه، فإنه رجل سـوء ذاك لا يعرفه إلا مَـنْ خبره، لا تكلمه، ولا كرامة له، كل
مَنْ حدّث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مبتدعاً تجلس إليه؟! لا، ولا
كرامة ولا نُعْمَى عين، وجعل يقول: ذاك، ذاك")).
بل النبي
صلى الله عليه وسلم فرق في التعامل بين أهل البدع ولو كانوا من أعبد الناس
كالخوارج، وبين التعامل مع الظلمة والعصاة؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
[المجموع 20/ 103-104]: ((إنَّ أهلَ البدع
شرٌ من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم
أمر بقتال الخوارج، ونهى عن قتال أئمة الظلم، وقال في الذي يشرب الخمر: "لا
تلعنه؛ فإنَّه يحب الله ورسوله"، وقال في ذي الخويصرة: "يخرج من ضئضئ
هذا أقوام؛ يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين -وفي رواية: من
الإسلام- كما يمرق السهم من الرمية، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع
صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، أينما لقيتموهم: فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجراً عند
الله لمن قتلهم يوم القيامة"، وقد قُرِّرَت هذه القاعدة بالدلائل الكثيرة مما
تقدَّم من القواعد. ثم إنَّ أهل المعاصي ذنوبهم فعل بعض ما نهوا عنه من سرقة أو
زنا أو شرب خمر أو أكل مال بالباطل، وأهل البدع ذنوبهم ترك ما أُمِروا به من إتباع
السنة وجماعة المؤمنين...)).
وقال
الكاتب: ((ومن خلال ما تقدَّم نعلم بطلان ما زعمه (بعض الناس) من أنه
"لا تتحقق السلفية والسنية في أحد حتى يفارق أهل البدع والتحزب قلباً
وقالباً"؛ فهذا القول بهذا الإطلاق ليس من المنهج السلفي في شيء، بل هو من
جنس أقوال الخوارج كما ألمح إلى هذا المعنى شيخ الإسلام في
النقل السابق عنه))
قلتُ: أمقولة
"لا تتحقق السلفية والسنية في أحد
حتى يفارق أهل البدع والتحزب قلباً وقالباً" من جنس أقوال الخوارج؟!
ماذا تريد أيها الكاتب؟
هل تريد من السلفي أن يُفارق
أهل البدع والتحزب قلباً لا قالباً كالمكره؟! أم يفارقهم قالباً لا قلباً
كالمنافق؟!
نعم لاشك أنَّ مفارقة
المبتدعة قلباً وقالباً تختلف عن مفارقة الكفار قلباً وقالباً؛ وهذا لا خلاف فيه
بين السلفيين!!، وليس مقصود قائل تلك المقولة أن يفارق المبتدعة كمفارقة الكفار
حتى يُقال أنَّ مقولته من جنس مقولة الخوارج!.
وقال الكاتب: ((وعليه: فكل مَنْ كان على مثل ما
كان عليه السلف علماً وعملاً كان سلفياً فيما وافق فيه منهجهم, ومَنْ خالفه كان
مبتدعًا فيما خالف فيه الحق وإنْ كان سلفيًّا فيما سواه، فلا يوصف المسلم بأنه
مبتدع باعتبار الاسم المطلق, ولا بأنه سلفي باعتبار الاسم المطلق؛ ولكن لاعتبار
(مطلق الاسم) بمعنى أنه يوصف بأنه سلفي فيما وافق السلف، مبتدع فيما خالفهم))
قلتُ: هذا المسلم الذي ((يوصف بأنه سلفي فيما وافق
السلف، مبتدع فيما خالفهم)) هل يُنسب إلى السلفية أم إلى البدعة؟! أم يقال فيه: سلفي
مبتدع؟!!
ثم ما من مبتدع إلا ويوافق
السلفية في بعض معتقدهم؛ فعلى هذا لا يُقال: فلان مبتدع على الإطلاق؟! ولا يُخرج
أحد من السلفية على الإطلاق؟!!
وجماعة من أئمة السلفيين قد
غلطوا في مسألة أو مسألتين وقالوا فيها بخلاف معتقد السلف عن اجتهاد فهل يُقال
فيهم: سلفي في كذا وكذا وكذا... مبتدع في كذا وكذا؟! وهل يُسلب عنهم وصف السلفية
من حيث الإطلاق؟!
ثم هناك من
الطوائف مَنْ توافق عقيدة السلف الصالح في جملة من المسائل، بل في أغلب المسائل!؛
ومع هذا صُنِّفت في الطوائف الضالة، ولم يُقال فيها التفصيل الذي ذكرته، وقد نقلتَ
أنت قبل كلامك المتقدِّم مباشرة عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أنه قال في [مجموع الفتاوى 4\155]: ((وأما متكلمة أهل
الإثبات من الكُلاَّبية، والكُرَّامية، والأشعرية، مع الفقهاء والصوفية، وأهل
الحديث،
فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم، لكن
كل مَنْ كان بالحديث من هؤلاء أعلم، كان بمذهب السلف أعلم وله أَتْبَع؛ وإنما يوجد
تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها، وقلة ابتداعها))
فالطوائف المشار إليها في
كلام شيخ الإسلام مع إنهم لا يطعنون بالسلف بل يعظمونهم!، ويوافقونهم في أكثر جمل
مقالاتهم!!؛ ومع هذا صُنِّفت بـ(الكلابية)، و(الكرامية)، و(الأشعرية)، و(الصوفية)!!،
فكيف لا يُصنَّف ولا يوصف بالبدعة مَنْ يوافق اعتقاد السلف في مسائل ويخالفهم في
أخرى؟!
وأما استدلال الكاتب بكلام
الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في الحافظين (النووي وابن حجر) رحمهما الله
تعالى فمن تتبع الرخص؛ وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ((مَنْ خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو
ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع؛ فعائشة
أم المؤمنين رضي الله عنها قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أنَّ محمداً رأى
ربه، وقالت: مَنْ زعم أنَّ محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية، وجمهور
الأمة على قول ابن عباس؛ مع أنهم لا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين رضي
الله عنها))، وقال رحمه الله تعالى [المجموع 6/ 71]: ((إذا رأيتَ المقالة المخطئة قد صدرت
من إمام قديم فاغتُفرت لعدم بلوغ الحجة له، فلا يُغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول؛
فلهذا يُبدَّع مَنْ بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك، ولا تبدَّع عائشة
ونحوها ممن لم يعرف بأنَّ الموتى يسمعون في قبورهم؛ فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع))،
وقد
تقدَّم الكلام في التفريق بين غلط علماء أهل السنة المجتهدين وبين غلط غيرهم.
وقال
الكاتب: ((فالسلفية ليست ختماً بيد أحد من البشر يثبته لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء؛
بل هي دين الله؛ فهي ليست محصورة على فئة معينة))
قلتُ: وصف
أهلُ العلم لمَنْ يحتاج إلى تزكية بـ(السلفية) في حق من يستحقه، ومنع هذا الوصف من
إطلاقه على مَنْ لا يستحقه؛ شهادة منهم، وشهادة أهل العلم معتبرة عند الله عز وجل
ومرْضية؛ قال تعالى: ((شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ
وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))، وقد سمى العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى العلماء
من أهل الاجتهاد والفتيا بالموقعين عن رب العالمين وقال في كتابه [إعلام الموقعين
1/ 10-11]:
((ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه؛ لم تصلح مرتبة
التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما بلغ صادقاً
فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر
والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله. وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا
ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات؛ فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض
والسموات؟! فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن
يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به؛ فإنَّ
الله ناصره وهاديه))
وقال عن قلم أهل العلم في كتابه [التبيان في
أقسام القرآن ص129]: ((قلم التوقيع عن الله ورسوله: وهو قلم الفقهاء والمفتين؛ وهذا
القلم أيضاً حاكم غير محكوم عليه، فإليه التحاكم في الدماء والأموال والفروج والحقوق،
وأصحابه مخبرون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده، وأصحابه حكام وملوك على أرباب
الأقلام، وأقلام العالم خدم لهذا القلم))
وقال في قلم الشهادة [التبيان في أقسام القرآن
ص130]: ((قلم الشهادة: وهو القلم الذي تحفظ به الحقوق، وتصان عن الإضاعة، وتحول بين
الفاجر وإنكاره، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويشهد للمحق بحقه، وعلى المبطل بباطله،
وهو الأمين على الدماء والفروج والأموال والأنساب والحقوق، ومتى خان هذا القلم فسد
العالم أعظم فساد، وباستقامته يستقيم أمر العالم، ومبناه على العلم وعدم الكتمان))
فشهادة
العلماء معتبرة، وقلمهم يوقع عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن
عدَّلوه فهو العدل ومَنْ جرَّحوه فهو المجروح، وهذا لا يلزم منه وجوب الأخذ بتعديل
كل عالم أو بتجريح كل عالم، بل منهم المتشددون ومنهم المتساهلون ومنهم المعتدلون،
منهم مَنْ يؤخذ تجريحه بلا سبب، ومنهم مَنْ يتساهل في توثيق المجاهيل ويتشدد في
التجريح إلى غير ذلك من أقسامهم، والجرح منه المعتبر ومنه ما لا يعتبر، وكل ذلك
منضبط بقواعد وضعها أهل الشأن لا بالتشهي ولا بالهوى ولا بالقناعة النفسية.
قال
الكاتب: ((فالانتساب إلى السلفية أمر مشروع, وتحقيق معنى السلفية في النفوس واجب
على كل مسلم, وبهذا يعلم بطلان قول طوائف من الناس؛ الطائفة الأولى: أوجبت
الانتساب إلى منهج السلف بأن يخبر المسلم عن نفسه بأنه (سلفي), وهذا قول باطل
مردود من وجهين؛ الأول: لا دليل على هذا الوجوب؛ فلا واجب إلا ما أوجبه الله
ورسوله, ومن المعلوم أنَّ هذه النسبة هي نسبة اصطلاحية حادثة بعد انقضاء عصر
القرون الخيرية الثلاثة، فليس في نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف
ما يثبتها, فإيجاب ما لم يوجبه الشرع تقول على الشرع, ورحم الله شيخ الإسلام ابن
تيمية حيث يقول في مجموع الفتاوى (29\345): "وأصل الدين: أنه لا واجب إلا ما
أوجبه اللّه ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه اللّه ورسوله، ولا مكروه إلا ما كرهه
اللّه ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله اللّه ورسوله، ولا مستحب إلا ما أحبه اللّه
ورسوله. فالحلال ما حلله اللّه ورسوله، والحرام ما حرمه اللّه ورسوله، والدين ما
شرعه اللّه ورسوله؛ ولهذا أنكر اللّه على المشركين وغيرهم ما حللوه أو حرموه أو
شرعوه من الدين بغير إذن من اللّه"، الوجه الثاني: إنَّ النسبة الدينية
الوحيدة التي يجب على العبد أن ينتسب إليها هي النسبة إلى
الإسلام؛ كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (3\415): "وكذلك التفريق بين
الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله: مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي، أو
قرفندي، فإنَّ هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا
سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا
قرفندي. والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي؛ بل
أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله. وقد روينا عن معاوية بن أبي سفيان: أنه سأل
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: أنت على ملة علي أو ملة عثمان؟ فقال: لست
على ملة علي ولا على ملة عثمان بل أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكذلك كان كل من السلف يقولون: كل هذه الأهواء في النار، ويقول أحدهم: ما أبالي أي
النعمتين أعظم؟ على أن هداني الله للإسلام أو أن جنبني هذه الأهواء، والله تعالى
قد سمانا في القرآن المسلمين المؤمنين عباد الله؛ فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا
الله بها إلى أسماء أحدثها قوم وسموها هم
وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان"))
قلتُ: هذا
الكلام من الكاتب فيه مغالطات بل تناقضات!!:
الأولى:
قال: ((فالانتساب
إلى السلفية أمر مشروع))، ثم قال: ((أنَّ هذه النسبة هي نسبة
اصطلاحية حادثة بعد انقضاء عصر القرون الخيرية الثلاثة، فليس في
نصوص
الكتاب والسنة وآثار السلف ما يثبتها))، فجعل النسبة للسلفية
مشروعة بلا نص ولا أثر!!، مع أنَّ الدين ما شرعه اللّه ورسوله!.
الثانية: أيضاً سوَّغ العدول
من التسمي بالإسلام إلى التسمي بالسلفية؛ وهذا عدول منه من الأسماء التي سمانا
الله بها إلى أسماء أحدثها قوم وسموها -هم وآباؤهم- ما أنزل الله بها من سلطان!!
الثالثة: جعل مَنْ يوجب
الانتساب إلى السلفية متقوِّل على الشرع؛ لأنَّ إيجاب ما لم يوجبه الشرع تقول على الشرع،
مع أنه جعل النسبة للسلفية مشروعة، ولا مستحب إلا ما أحبه اللّه ورسوله!!
الرابعة: أنه أوجب النسبة إلى
الإسلام ولم يوجب النسبة إلى السلفية؛ مع أنَّ الكاتب لا يفرِّق بينهما لا من قريب
ولا من بعيد كما تقدَّم عنه!!، فعجباً من قوله بعد: ((أنَّ النسبة الواجبة هي النسبة
للإسلام؛ وأما النسبة للسلفية فهي مشروعة لا باس بها
إن كانت بحق؛ لكن لا على جهة الوجوب)).
الخامسة: أنه قال: ((وتحقيق معنى السلفية في النفوس واجب
على كل مسلم))، ثم أبطل بعدها مباشرة قول مَنْ يوجب الانتساب إلى منهج السلف؛
فلا أدري كيف يوجب تحقيق معنى السلفية في نفس كل مسلم مَنْ يرى جواز الانتساب لغير
منهج السلف؟!!
فإذا تبين
تناقض أو تناقضات الكاتب في هذه الأسطر القليلة؛ فلنبين مسألتين مهمتين:
الأولى:
أنَّ الانتساب
إلى منهج السلف ليس محدثاً وله أصل في كلام
النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الصالح.
ويكفينا ما أجاب به الشيخ الألباني رحمه الله
تعالى حين سُئل "لماذا التسمي بالسلفية"؟.
فقال
كما في [مجلة الأصالة العدد التاسع ص 86 ـ90 ]: ((إنَّ كلمة السلف معروفة في لغة العرب
وفي لغة الشرع؛ وما يهمنا هنا هو بحثها من الناحية الشرعية؛ فقد صح عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال في مرض موته للسيدة فاطمة رضي الله عنها: "فاتقي الله واصبري؛
ونعم السلف أنا لك"، ويكثر استعمال العلماء لكلمة السلف، وهذا أكثر من أن يعد
ويحصى، وحسبنا مثالاً واحداً وهو ما يحتجون به في محاربة البدع: وكل خير في إتباع من
سلف... وكل شر في ابتداع من خلف، ولكن هناك مِن مدَّعي العلم من ينكر هذه النسبة زاعماً
أنْ لا أصل لها! فيقول: لا يجوز للمسلم أن يقول: أنا سلفي، وكأنه يقول: لا يجوز أن
يقول مسلم: أنا متبع للسلف الصالح فيما كانوا عليه من عقيدة وعبادة وسلوك، لا شك أنَّ
مثل هذا الإنكار لو كان يعنيه يلزم منه التبرؤ من الإسلام الصحيح الذي كان عليه سلفنا
الصالح، وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم كما يشير الحديث المتواتر الذي في الصحيحين
وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
يلونهم"، فلا يجوز لمسلم أن يتبرأ من الانتساب إلى السلف الصالح، بينما لو تبرأ
من أية نسبة أخرى لم يمكن لأحد من أهل العلم أن ينسبه إلى كفر أو فسوق، والذي ينكر
هذه التسمية نفسه، ترى ألا ينتسب إلى مذهب من المذاهب؟! سواء أكان هذا المذهب متعلقاً
بالعقيدة أو بالفقه؟ فهو إما أن يكون أشعرياً أو ماتريدياً، وإما أن يكون من أهل الحديث،
أو حنفياً أو شافعياً أو مالكياً أو حنبلياً؛ مما يدخل في مسمى أهل السنة والجماعة،
مع أنَّ الذي ينتسب إلى المذهب الأشعري أو المذاهب الأربعة، فهو ينتسب إلى أشخاص غير
معصومين بلا شك، وإنْ كان منهم العلماء الذين يصيبون، فليت شعري هلا أنكر مثل هذه الانتسابات
إلى الأفراد غير المعصومين؟. وأما الذي ينتسب إلى السلف الصالح، فإنه ينتسب إلى العصمة
على وجه العموم، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من علامات الفرقة الناجية أنها تتمسك
بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه، فمَنْ تمسك به كان
يقيناً على هدى من ربه... ولا شك أنَّ التسمية الواضحة الجلية المميزة البينة هي أن
نقول: أنا مسلم على الكتاب والسنة وعلى منهج سلفنا الصالح، وهي أن تقول باختصار: "أنا
سلفي"))
المسألة
الثانية: أنَّ الانتساب إلى منهج السلف واجب.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مقام الرد
على مَنْ عاب مقولة "أنا على مذهب السلف" وزعم أنَّ قائلها يتظاهر بها
[المجموع 4/ 149]: ((فيقال له: لا عيب على مَنْ أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى
إليه؛ بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق، فإنَّ مذهب السلف لا يكون إلا حقاً؛ فإنْ كان
موافقاً له باطناً وظاهراً فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطناً وظاهراً، وإنْ
كان موافقاً له في الظاهر فقط دون الباطن فهو بمنزلة المنافق؛ فتقبل منه علانيته وتوكل
سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم))
قلتُ: فإذا كان قبول انتساب مَنْ انتسب إلى
مذهب السلف واجباً!، أفلا يكون الانتساب إلى مذهب السلف واجباً؟! أم أنَّ شيخ
الإسلام يلزم بما ليس بواجب؟!
وإذا كان مذهب السلف لا يكون إلا حقاً؛ أفلا
يجب على المسلم أن ينتسب إلى الحق؟! أم يستحب؟!
وقال
الشيخ الألباني رحمه الله تعالى [سلسلة الهدى والنور/ 1]: ((إذن إذا عرفنا هذا المعنى في السلفية، وأنها تنتمي
إلى جماعة السلف الصالح، وأنهم العصمة فيما إذا تمسك المسلم بما كان عليه هؤلاء السلف
الصالح؛ حينئذٍ يأتي الأمر الثاني الذي أشرتُ إليه آنفاً ألا وهو: أنَّ كل مسلم يعرف
حينذاك هذه النسبة وإلى ماذا ترمي من العصمة فيستحيل عليه بعد هذا العلم والبيان أن
- لا أقول أن - يتبرأ، هذا أمرٌ بدهي، لكني أقول: يستحيل عليه إلا أن يكون سلفياً،
لأننا فهمنا أنَّ الانتساب إلى السلفية، يعني: الانتساب إلى العصمة))
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: ما تقول فيمن
تسمى بالسلفي والأثري؛ هل هي تزكية؟
فأجاب [محاضرة بعنوان"حق المسلم"]: ((إذا
كان صادقاً أنه أثري أو أنه سلفي لا بأس، مثل ما كان السلف يقول: فلان سلفي، فلان أثري،
تزكية لا بد منها، تزكية واجبة)).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في شرح
الأربعين نووية عند شرحه لحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء": ((ولا شك أنَّ
الواجب على جميع المسلمين أن يكون مذهبهم مذهب السلف؛ لا الانتماء إلى حزب معين يسمى
"السلفيون"، والواجب أن تكون الأمة الإسلامية مذهبها مذهب السلف الصالح لا
التحزب إلى من يسمى "السلفيون"، فهناك طريق السلف وهناك حزب يسمى "السلفيون"،
والمطلوب إتباع السلف، إلا أنَّ الإخوة السلفيين هم أقرب الفرق إلى الصواب))
والشيخ رحمه الله تعالى يُعرِّض في كلامه ببعض
مَنْ نظَّم جماعة وسمَّاها بالسلفيين؛ مثل الشيخ محمد نسيب الرفاعي الذي يصف نفسه
بمؤسس الدعوة السلفية بحلب!!، فلا يوهم البعض أنَّ الشيخ يفرق بين الانتساب إلى
السلف وبين الانتساب إلى السلفية، وقد قال رحمه الله تعالى في شرح العقيدة السفارينية
الشريط الأول ما نصه: ((مَنْ هم أهل الأثر؟ هم الذين اتبعوا الآثار، اتبعوا الكتاب
والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وهذا لا يتأتى في أي فرقة من الفرق إلا على السلفيين
الذين التزموا طريق السلف)).
وقال الشيخ محمد أمان الجامي في جواب لسؤال في
[شريط "الأجوبة الذهبية على الأسئلة المنهجية" س35]: ((ولكنَّ السلفية
منهج، والسلفية ليست كالألقاب الحديثة التي تجددت الآن؛ الإخوان المسلمين، السروريين، والتحريري،
والتبليغي؛ لا، فهذه أساليب حديثة رخيصة جاءت ووفدت على هذه
المنطقة محدثة، ولكنَّ السلفية منهج، فهي منهج قديم، لذلك كونك سلفي واجب؛ لأنَّ السلفية هي المفهوم
الصحيح للإسلام)).
وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى في كتابه
[البيان ص 156]: ((كيف يكون التمذهب بالسلفية بدعة، والبدعة ضلالة؟! وكيف يكون بدعة
وهو إتباع لمذهب السلف؟، وإتباع مذهبهم واجب بالكتاب والسنة، وحق وهدى، قال تعالى:
"والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم"،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"، فالتمذهب
بمذهب السلف سنة وليس بدعة، وإنما البدعة التمذهب بغير مذهبهم)).
- أما اعتراض البعض على مشروعية هذه التسمية
بأنها عدول عما سمَّانا الله تعالى به في قوله: ((هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ
مِن قَبْلُ))، وعدول عما سمَّانا به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "فدعوا
بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله"؟
فهذه التسمية كانت قبل الافتراق، وأما بعد ظهور
الفرق التي تنتسب جميعها إلى الإسلام فلا يُمكن أن يتميز أهل الحق بقولهم (نحن
مسلمون)!، ولهذا صار لقب أهل السنة ضرورياً بعد الفتنة والفرقة والانتساب إليه
واجب وبه يتميز أهل الحق عن أهل الأهواء؛ فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله تعالى في
مقدمة صحيحه عن الإمام ابن سيرين رحمه الله تعالى أنه قال: ((لم يكونوا يسألون عن الإسناد؛
فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم؟ فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر
إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم))، ثم لما صار لقب أهل السنة قد يُطلق ويُراد به طوائف
غير أهل الحق، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى [منهاج السنة النبوية
1/ 204]: ((فلفظ "أهل السنة" يراد به مَنْ أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة؛ فيدخل
في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة. وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه
إلا مَنْ يثبت الصفات لله تعالى ويقول إنَّ القرآن غير مخلوق وإنَّ الله يرى في الآخرة
ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة))، لهذا صار
الانتساب إلى مذهب السلف الصالح واجباً لأنه لا يمكن أن يحصل التمايز بين أهل الحق
وبين غيرهم ممن ينتسب إلى السنة إلا بهذا الانتساب، والتمايز مطلوب شرعاً لأنَّ
بخلافه يلتبس الحق بالباطل.
- فإنْ قيل: وكيف لو ظهرت جماعة تنتسب إلى
السلفية زوراً وهي على خلاف منهج السلف على الحقيقة؟
قيل: الانتساب إلى منهج السلف الصالح يعني وجوب
الرجوع إلى فهم السلف الصالح للنصوص في مسائل الدين كلها؛ وهذا المفهوم يعرفه
الموافق والمخالف والمتقدِّم والمتأخر، فمَنْ انتسب إلى مذهب السلف ثم ظهر من حاله
أنه لا يرجع إلى فهمهم في التلقي والتأصيل والاستدلال عُرِفَ أنه يدَّعي هذا
المنهج كذباً وزوراً، وأما تظاهر البعض بهذا المنهج فلا يمنع وجوب الانتساب إليه
كما تقدَّم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ولما عرف أهل البدع ذلك لم ينتحل
أحد منهم مذهب السلف.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 4/ 153-164]:
((ثم إنه يدل على قلة الخبرة بمقالات الناس من أهل السنة والبدعة؛ فإنه قال: "وكذا
جميع المبتدعة يزعمون أنهم على مذهب السلف"!!، فليس الأمر كذلك، بل الطوائف المشهورة
بالبدعة كالخوارج والروافض لا يدَّعون أنهم على مذهب السلف... إلى أن قال: فالمقصود
هنا أنَّ المشهورين من الطوائف بين أهل السنة والجماعة العامة بالبدعة ليسوا منتحلين
للسلف، بل أشهر الطوائف بالبدعة الرافضة حتى إنَّ العامة لا تعرف من شعائر البدع إلا
الرفض، والسني في اصطلاحهم مَنْ لا يكون رافضياً، وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث
النبوية ولمعاني القرآن، وأكثر قدحاً في سلف الأمة وأئمتها وطعناً في جمهور الأمة من
جميع الطوائف، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة، فعُلم أنَّ شعار
أهل البدع هو ترك انتحال إتباع السلف...إلى أن قال: ولهذا قال الإمام أحمد في رسالة
عبدوس بن مالك: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم"، وأما متكلمة أهل الإثبات من الكلابية والكرامية والأشعرية مع الفقهاء والصوفية
وأهل الحديث فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم،
لكن كل من كان بالحديث من هؤلاء أعلم كان بمذهب السلف أعلم وله أتبع، وإنما يوجد تعظيم
السلف عند كل طائفة بقدر استنانها وقلة ابتداعها، أما أن يكون انتحال السلف من شعائر
أهل البدع فهذا باطل قطعاً؛ فإنَّ ذلك غير ممكن إلا حيث يكثر الجهل ويقل العلم...إلى
أن قال: وأيضاً فيقال لهؤلاء الجهمية الكلابية كصاحب هذا الكلام أبي محمد وأمثاله؛
كيف تدَّعون طريقة السلف وغاية ما عند السلف أن يكونوا موافقين لرسول الله فإنَّ عامة
ما عند السلف من العلم والإيمان هو ما استفادوه من نبيهم الذي أخرجهم الله به من الظلمات
إلى النور وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد؟!.... إلى أن قال: فإنَّ المقصود هنا؛
أنَّ هؤلاء النفاة للعلو وللصفات الخبرية كصاحب اللمعة وأمثاله يقولون في الرسول من
جنس قول هؤلاء: "إنَّ الذي أظهره ليس هو الحق الثابت في نفس الأمر لأن ذلك ما
كان يمكنه إظهاره للعامة"، فإذا كانوا يقولون هذا في الرسول نفسه!؛ فكيف قولهم
في أتباعه من سلف الأمة من الصحابة والتابعين؟!!، ومن كان هذا أصل قوله في الرسول والسابقين
الأولين من المهاجرين والأنصار كان مخالفاً لهم لا موافقاً!؛ لاسيما إذا أظهر النفي
الذي كان الرسول وخواص أصحابه عنده يبطنونه ولا يظهرونه فإنه يكون مخالفاً لهم أيضاً.
وهذا المسلك يراه عامة النفاة كابن رشد الحفيد وغيره، وفي كلام أبي حامد الغزالي من
هذا قطعة كبيرة، وابن عقيل وأمثاله قد يقولون أحياناً هذا؛ لكن ابن عقيل الغالب عليه
إذا خرج عن السنة أن يميل إلى التجهم والاعتزال في أول أمره بخلاف آخر ما كان عليه
فقد خرج إلى السنة المحضة، وأبو حامد يميل إلى الفلسفة لكنه أظهرها في قالب التصوف
والعبارات الإسلامية، ولهذا رد عليه علماء المسلمين حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي
فإنه قال: "شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر"،
وقد حكى عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه، ورد عليه العلماء
المذكورون قبل))
فبين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أنَّ انتساب
المبتدعة إلى مذهب السلف غير ممكن إلا حيث يكثر الجهل ويقل العلم، أي لا يعلم
الناس عقائد السلف ويجهلون مقالات المبتدعة، فحينئذ يدَّعي المبتدع أنه على مذهب
السلف ولا يجد مَنْ يردَّ عليه ويزيِّف دعواه ويكشف حقيقته!!.
وبيَّن أنَّ ترك الانتساب إلى مذهب السلف من
شعار المبتدعة؛ فكيف يدَّعي الكاتب أنَّ الانتساب إلى مذهب السلف لا يجب؟!!
وقد قال الشيخ عبيد الجابري حفظه الله تعالى تحت
عنوان "الانتساب إلى السلفية" من كتابه [أصول وقواعد في المنهج السلفي ص
7/ 8]: "فإن كثيرًا ممن يَدَّعُون أنهم أهل السنة والجماعة وأنهم على الهدى يَشْمَئِزُّون
من الانتساب إلى السلفية؛ وحتى تطمئنَّ قلوبهم إلى هذه النسبة؛ أعني الانتساب إلى السلفية،
وتقوَى عزيمتُهم؛ لأنَّ ما وقر في قلوبهم من الاشمئزاز منها فهي وسوسة شيطانية، وقوَّاها
في قلوبهم ضعفُ العزيمة وقلَّة الفقه في الدين؛ فلو كانت عزائمهم قوية، وتحصيلهم من
الفقه في الدين قويًّا ما اشمئزُّوا من ذلك، ولم يجدوا في أنفسهم غضاضة منه. فنقول
لهم: أولاً: جاء من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على ذلك؛ من ذلكم: قوله
عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة رضي الله عنها: ((فنعم السلف أنا لك)). الأمر الثاني:
أنَّ هذه النسبة لم تكن محدَثة، بل هي من عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيقال
لهم: السلف. وكلمة (السلف) دارجةٌ عند أئمة هذه الملة أهل السنة والجماعة؛ ويزيد هذا
وضوحاً: الإجماع على صحة الانتساب إلى السلفية، وأنه لا غضاضة في ذلك؛ واسمعوا حكاية
الإجماع؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: "لا عيبَ على مَنْ أظهر مذهب السلف،
وانتسب إليه، واعتزى إليه؛ بل يجب قَبول ذلك منه اتفاقاً؛ فإنَّ مذهب السلف لا يكون
إلا حقاً …)) إلخ العبارة. وراجعوها إن شئتم في الصفحة التاسعة والأربعين بعد المائة،
من المجلد الرابع من ((مجموع الفتاوى)) لابن قاسم؛ فهذا عَلَمٌ من أعلام منهجنا المشهود
لهم بجلالة القدْر والسابقة في الفضْل ينقل الإجماع؛ ومَن هو ابن تيميه إذا نقل الإجماع؟،
إنه حجة في نقل الإجماع، ضمن قِلة من أهل العلم يُحتج بهم في نقل الإجماع؛ فيا شباب
الإسلام خاصة ويا أيها المسلمون عامة لا يكوننَّ في صدوركم حرجٌ من الانتساب إلى السلفية،
بل ارفعوا بها رؤوسكم، واصدعوا بها، ولا تأخذكم في ذلك لومة لائم. وأزيدُكم شيئاً آخر:
ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه في المصدر السابق وبالتحديد في الصفحة على ما أظنّ الخامسة
والخمسين بعد المائة أنَّ: "من علامات البدع: ترك انتحال السلف الصالح"؛
فلا تجد خَلَفِيًّا لا سيما المنتسبون إلى الجماعات الدعويَّة الحديثة الظاهرة في الساحة
اليوم والمناوئة لأهل السنة والجماعة إلاَّ وهو يكره السلفية، ويكره الانتساب إلى السلفية؛
لأنَّ السلفية ليست مجرَّد نسبة، بل السلفية: تجريد إخلاص لله وتجريد متابعة للنبي
صلى الله عليه وسلم؛ فالناسُ يا بَنِيَّ حزبان: حزب الرحمن، وحزب الشيطان؛ فحزب الشيطان:
الكفار والمنافقون نفاقاً اعتقادياً، وحزب الرحمن هم المسلمون اللذين لم يَرْكَبوا
ما يُخرجهم من مسمى الإيمان إخراجاً كاملاً، وخالصوا حزب الرحمن: اللذين لم يَضلوا
ولن يَضلوا ولم يتنكبوا جادة الهدى والحق في كل زمان ومكان، ولم يجتمعوا على ضلالة
هم "السلفيون"، أهل السنة والجماعة، الطائفة المنصورة، الفرقة الناجية")).
وقال الكاتب: ((إنَّ أخراج العبد من دائرة
السلفية الحقة أهل السنة والجماعة لا يكون بمخالفة زيد أو عبيد, وإنما يكون في حال
مخالفة العبد للأصول الكبرى في الاعتقاد, ...وقد تقدم معنا: أنَّ هذا الخروج أو
الإخراج ليس مطلقاً، وإنما هو مما خالف به طريقة السلف وأصولهم. وأما مَن خالف في
فروع الاعتقاد مع إثباته للأصل فلا يعد خارجاً
عن الأصول السلفية لأهل السنة والجماعة))
قلتُ: ولكن كثرة
المخالفة في الفروع أو الجزئيات يُنبئ عن خلاف في أصل كلي تندرج تحته تلك الجزئيات؛
كما قال الشاطبي في الاعتصام: ((ويجرى مجرى القاعدة الكلية: كثرة الجزئيات؛
فإنَّ المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من
الشريعة بالمعارضة كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً))، والكاتب
قد أشار إلى هذا في أحد حلقاته المتقدمة.
وقال
الكاتب: ((كما أنَّ المسلم لا يُلزم إلا بإلزام الشارع له؛ كما قال شيخ الإسلام
في مجموع الفتاوى [29/ 346]: "أصل الشرع أنه لا يلزمه إلا بإلزام الشارع له
أو بالتزامه إياه", فكذلك هو الحال بالنسبة للمنهج السلفي الذي لا إلزام فيه
إلا بالشرع, وفي هذا إبطال لمن يزعم أنه يتعين الالتزام بأقوال زيد أو عبيد من
علماء المنهج السلفي بل وبالإلزام بها, وكذلك إبطال لزعم البعض أنَّ من مقالات أهل
الأهواء "إذا اختلفت اجتهادات العلماء فلا يلزمني قول فلان وفلان", بل
هذه المقالة قد ثبتت تقرير معناها بأوجه عدة ومنها: الأول: لا يعرف في المأثور عن
السلف أنهم كانوا يلزمون بما ليس في الكتاب والسنة من المعاني))
قلتُ:
قاعدة "لا يلزمني" الأخذ باجتهادات العلماء سواء كانت في الأحكام
الفقهية أو النقدية مطلقاً، قاعدة غير صحيحة، وقد تقدَّم الكلام عنها.
وختم
الكاتب حلقته هذه بقوله في معرض ذمه لما يُسمَّى بـ"السلفية السياسية":
((والسلفية
السياسية: تنتسب عند التحقيق إلى مفاهيم الانخراط في التكتلات الحزبية, والدخول في
معامع التحالفات السياسية؛ البعيدة عن ضوابط الولاء والبراء المقررة في المنهج
السلفي, وسعيهم في تحصيل ما يمكن تحصيله من مكتسبات سياسية بأي وسيلة ممكنة؛ بعيداً
عن الضوابط السلفية المعتبرة لاستجلاب المصالح الشرعية وسد ذرائع
الوقوع
في المخالفات))
قلتُ:
ولكنَّ الكاتب في حلقته العاشرة رغب في المشاركة بالعمل السياسي في الحكومات
المعاصرة من ترشيح وتولي المناصب؛ مع إنه لا يخلو من المخاطر التي أشار إليها هنا!!.
هذا ما
عندي من التعليقات على حلقات الكاتب؛ وكما قال شيخ الإسلام في [المجموع 4/ 7]: ((فمن كان قصده
الحق وإظهار الصواب اكتفى بما قدمناه، ومن كان قصده الجدال والقيل والقال والمكابرة
لم يزده التطويل إلا خروجاً عن سواء السبيل؛ والله الموفق))
وأسأل الله تعالى لي وللكاتب ولجميع المسلمين التوفيق والسداد.
وقبل أن
أختم هذا الرد؛ إليكم إخواني القراء خلاصة المنهج الذي ينشده الكاتب من خلال سلسلة
حلقاته "بين منهجين":
1- الطعن
الصريح في أحد أعلام الدعوة السلفية المعاصرة ممن شهد له كبار علماء الدعوة بالعلم
والفضل والاستقامة والبصيرة؛ ألا وهو العلامة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه
الله تعالى، وفرق كبير بين الرد والنقد والتخطئة الذي يدَّعيه الكاتب ومَنْ وافقه
وبين الطعن والتشويه والتسقيط الذي سلكه في مقالاته.
2- وصف المخالفين له من السلفيين بأنهم فرقة؛ وسماهم بـ(فرقة
التبديع والإقصاء)، وأدخل فيها بعض كبار أهل العلم وطلبتهم، والتهويل في وصف
واقعهم ومقالاتهم وأحكامهم.
3- التأصيل لحماية المنحرفين والمجروحين من أحكام التبديع والتحذير
والهجر، والتهوين من انحرافاتهم والتشكيك في ضلالاتهم، مع الدفاع عنهم والجدل
والمخاصمة.
4- أنَّ (أقوال أهل العلم) و(المسائل الاجتهادية) و(مسائل الحكم
على الأعيان) لا إلزام بها ولا إنكار على المخالف فيها مطلقاً؛ إلا إذا جاءت بنص
أو إجماع!!.
5- لا يشرع
لمن اقتنع بالجرح المفسر أن يلزم غيره به؛ إنْ كان المجروح مختلفاً فيه بين أهل
العلم.
6-
لا
ينبغي أن يكون خلافنا في غيرنا سبباً للاختلاف بيننا.
7- أنَّ
الطريقة القرآنية هي بيان الأخطاء دون التعرض للذوات والأعيان.
8- لا إلزام في تجريح سيد قطب، مع نصيحة
بترك الاشتغال بشخصه، والاهتمام بآثاره وما فيها من حق وباطل.
9- أنَّ
التشديد في توبة المبتدع من صفات المتعالمين، ولا يُشترط في قبول توبة المبتدع أن
يرجع عن كل مخالفاته ولا أن يرد على ما كان منه، بل يكفي في توبته أن يقرر مسائل
الحق، أو يكفيه أن يقرر خلاف ما كان يتبناه؛ ولو لم يصرح بتوبة أو رجوع أو تضليل
ما كان منه.
10- إنَّ اشتراط كتابة توبة بعض المبتدعة أو إعلانها أو تسجيلها أو
نشرها غلو وتنطع من جنس بدع الخوارج!.
11- قبول توبة مَنْ تكررت منه المخالفة والتوبة في نفس البدعة أكثر
من مرة؛ ومَنْ وصف هذا التائب بالمتلاعب فقد شابه مذهب الخوارج المكفرين بالذنب.
12- أنَّ مَنْ
استدل بقصة عمر مع صبيغ بن عسل على أنه لابد من تأجيل قبول توبة بعض
أهل البدع وبخاصة المراوغين والمتلونين والمتلاعبين إلى سنة حتى يتبين صدقهم؛ فقد
افترى على عمر رضي الله عنه؛ فليس في القصة أنه أجَّله لمدة محدودة لا عام ولا أقل ولا أكثر.
13- اعتبار
مفصل الأحوال والأقوال للمعروفين بالاستقامة والاعتدال
وعدم مؤاخذتهم بمجمل أقوالهم المنحرفة مطلقاً.
14- التفريق
في قبول خبر الثقة؛ بين المسائل الشرعية العلمية والعملية فيقبل من غير تثبت، وبين
الأحكام النقدية على الأعيان فلابد من التثبت.
15- الإكثار من وضع الضوابط والقيود لهجر المبتدعة حتى أنَّ
مراعاتها جميعاً يلزم منه لا محال ترك الهجر مطلقاً.
16- جواز
الجلوس ومكالمة أهل البدع إلا إذا تكلموا في باطلهم أو كان من شأنه المخالطة
والمعاشرة لهم فلا يجوز.
17- يجوز
ذكر حسنات أهل البدع في خمسة حالات:
الترجمة، التقويم، ذكرهم بما قام فيهم من أحوال موجبة للمدح عند قيام
المقتضى لذلك، وذكرهم في معرض مقارنتهم بمن هم
دونهم،
وفي حال الدفاع عنهم برد ما نسب إليهم أو وقع عليهم ظلماً من الأقوال
والأفعال. وأما حالة المنع من ذكر حسنات المبتدعة
فواحدة وهي في موضع النقد والتحذير، ثم أجاز ذكر حسنات المبتدع في هذه الحالة
أيضاً إذا اقتضت المصلحة والحاجة!.
18- ادّعاء أنَّ
أئمة الدعوة السلفية الثلاثة الكبار (الألباني
وابن باز وابن عثيمين رحمهم الله تعالى) يختارون تفصيل القول في مسألة الموازنة
بين محاسن المبتدع ومخالفاته - وكذا الطائفة المنحرفة - في معرض
النقد والتحذير منه؛ وهو أنه إذا اقتضت الحاجة والمصلحة فيجوز أن تذكر محاسنهم.
19- إنَّ
وصف (بعض الناس) بـ"الحزبية" أو "حزبي" أو "متحزب"
أو "من الحزبيين" ليس مما يوجب مدحاً أو ذماً بذاته!.
20- مشروعية
التحزب إنْ
اجتمع أصحابه على البر والتقوى.
21- يجب موالاة أهل الإيمان بغض النظر عن انتسابهم
المنهجي ونصرتهم ومعاونتهم في البر والتقوى.
22- وصف الصحابة الذين اجتمع بعضهم مع علي واجتمع الآخرون مع
معاوية -رضي الله عنهم أجمعين- بأنهم وقعوا في مظاهر الحزبية المذمومة.
23- الاستدلال بفتاوى بعض أهل العلم القديمة بإقرار الانتساب إلى
الإخوان المسلمين وأنصار السنة وجماعة التبليغ بشرط أن يوافقهم على ما عندهم من
الحق، وأنَّ هذه الجماعات لا يُحكم عليها بحكم عام بل لابد من التفصيل؛ بقدر ما
وافقت المنهج السلفي وما خالفته.
24- استنكار تصنيف العلماء للمخالفين في هذا العصر.
25- جواز
أن يبتدئ المسلم بترشيح نفسه وتولي الولايات في ظل الحكومات
المعاصرة لاستلام المناصب المؤثرة في سياسة المجتمع وقيادته نحو الأصلح أو
الأقل ضرراً وشراً.
26- من
قال بكل ما امتازت به الطائفة المنحرفة نسب إليها مطلقاً, ومَنْ خالفها في بعض
خصائصها لم تصح نسبته إليها بإطلاق؛ بل يقال: هو منها فيما وافقها فيه مما
اختصت
به, وليس منها فيما خالفها فيه مما امتازت به عن غيرها.
27- الاختلاف في مسألة اعتبار شروط التكفير وموانعه في
حق المعينين أو عدم اعتبارها اختلاف سائغ.
28- إنَّ
الخلاف في كفر المصر على المعصية هو اختلاف اجتهادي محض.
29- لا
يخرج من السلفية الخروج المطلق مَنْ وقع بقليل من الأخطاء
العقدية،
المغتفرة إلى جانب كثير حسناته وإصابته لمعتقد السلف؛ بل يخشى أن يكون من
أخرجه
منها هو الخارج عن السلفية في هذا الباب لمفارقته طريقة السلف في الحكم على
الرجال.
30- ضرورة
الموازنة بين المصالح والمفاسد في نقد المعين من أهل العلم والفضل، ومراعاة نوع
الخطأ، وحجمه، ومجاله، وعواقب الأمور، ومآلات الأحكام؛ فقد يسكت عن نقد
المعين
مع قيام ما يوجب النقد في حقه، والمتعين هو حسن الظن بهم،
وتحميل كلامهم على أحسن محامله؛ وإن ترجح خطؤهم في قولهم فيرد عليه مع التماس
الأعذار لهم, لا أن يحكم عليهم مباشرة بالانحراف والخروج عن دائرة أهل
السنة
والجماعة، وعلى فرض ثبوت وقوع الانحراف الحقيقي في الجانب العقدي؛ فلا بد أن يعلم
أنَّ التحريف والانحراف في الجانب العقدي
ليس على مرتبة واحدة؛ وهكذا يؤصِّل الكاتب ويقعِّد
ويكثر من القيود والضوابط التي يُحال بعدها الحكم بالبدعة على المنحرفين!!.
31- الامتحان
المشروع بالأقوال هو بما كان في الكتاب والسنة أو أجمع عليه السلف،
وأما الامتحان
بأقوال أهل العلم مما ليس في الكتاب والسنة والإجماع فهو من صنيع أهل البدع!، ومثله
الامتحان بما لم تتفق عليه كلمة أهل السنة والجماعة
من الأعيان!.
32- الكلام
فيمن خالف الحق من الجماعات والرجال ليس من مسائل المنهج الأصلية؛ بل ولا الفرعية,
لأنه ليس من مسائل الشرع، ولا يوجد في أدلة الشرع ما يدل على هذه المسائل
بخصوصها,
وإنما هو من مسائل المنهج التبعية اللازمة له, ومعرفتها فرض على الكفاية.
33- قد
يُوالى مَنْ لم ينسب نفسه للمنهج السلفي أكثر بكثير من بعض مَنْ يتشدق بكونه سلفياً
أثرياً بحسب قيام كل منهم بطاعة الله واجتنابه لمعصية الله.
34-قول مَنْ قال "لا تتحقق السلفية والسنية في
أحد حتى يفارق أهل البدع والتحزب قلباً وقالباً" هو من جنس أقوال الخوارج.
35- كل
مَنْ كان على مثل ما كان عليه السلف علماً وعملاً كان سلفياً فيما وافق فيه
منهجهم, ومَنْ خالفه كان مبتدعًا فيما خالف فيه الحق وإنْ كان سلفيًّا فيما سواه،
فلا يوصف المسلم بأنه مبتدع باعتبار الاسم المطلق, ولا بأنه سلفي باعتبار الاسم
المطلق؛ ولكن لاعتبار مطلق الاسم؛ بمعنى أنه يوصف بأنه (سلفي) فيما وافق السلف، (مبتدع)
فيما خالفهم.
36- السلفية
ليست ختماً بيد أحد من البشر يثبته لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء.
37- بطلان قول مَنْ أوجب الانتساب إلى منهج السلف، وأنَّ نسبة (سلفي) هي نسبة
اصطلاحية حادثة بعد انقضاء عصر القرون الخيرية الثلاثة، وليس في
نصوص
الكتاب والسنة وآثار السلف ما يثبتها.
38- أنَّ
مَن خالف في فروع الاعتقاد مع إثباته للأصل فلا يعد
خارجاً عن الأصول السلفية لأهل السنة والجماعة؛ على الإطلاق.
أقول:
فهذا هو المنهج المنشود في سلسلة حلقات "بين منهجين"؛ وهو منهج حادث،
وعواقبه خطيرة، وهو تفصيل للمنهج الواسع الأفيح الذي أنشأه المأربي وتأثر به مَنْ
اغتر به، والكاتب أكثر طعونه في الشيخ ربيع وردوده مأخوذة من مقالات المأربي؛
وكأنه مفتونٌ به!، هذا مع ما امتازت به مقالات الكاتب من تتبع لرخص العلماء، والتلفيق
بين أقوالهم، وتحميل كلامهم ما لا يحتمل، ووضعه في غير محله، ومناقشة المخالفين له
في غير محل النزاع، وكثرة التناقضات والاختلافات بين أقواله، إلى أمور كثيرة
يبصرها الذي يطلع على مقالاته.
أسأل
الله تعالى أن يبصِّرنا طريق الحق ويثبتنا عليه، وأن يجنبنا شبهات أهل الباطل
وطريقهم.
وكتبه
أبو
معاذ رائد آل طاهر
2
صفر 1431ﻫ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.