الثلاثاء، 5 فبراير 2013

موضع الإجماع في كفر تارك الصلاة


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد:
فقد كثر الكلام قديماً وحديثاً في مسألة "حكم تارك الصلاة"؛ ولست بصدد بيان حقيقة ذلك الخلاف ولا أدلة المختلفين ومناقشتها – وإنْ كان ما يتصفحه طالب العلم من كتابات معاصرة في هذا الموضوع قد تضطره لمثل ذلك – ولكن هذه المسألة قد أُشبع الكلام فيها من أهل العلم قديماً وحديثاً فلا حاجة لتكراره.
لكن الباحث في هذه المسألة ينبغي أن يقف عند بعض كلام أهل العلم وقفات، ويتأمَّل فيه تأمّلات لعلَّها تنفعه في بحثه ذاك؛ ومن هذه الوقفات:
مسألة "إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة" هذا الإجماع الذي اختلف فيه أهل العلم بين مثبتٍ له وبين نافٍ وبين مؤوِّل؛ فمنهم من ينقل ذلك الإجماع مثبت له ومرجِّح لكفة أدلته به، ومنهم من ينفيه بل ويكذِّب مُدَّعيه، ومنهم من يؤوِّله كما تأوَّل الأحاديث التي استدلَّ بها خصمه على كفر تارك الصلاة؛ بأنَّ المراد بـ((الترك)): الجحود، أو المراد بـ((الكفر)): الأصغر أو العملي أو كفر دون كفر؟
والباحث في مسألة حكم تارك الصلاة؛ يعلم أنَّ هذا الترك له أربعة صور:
الأولى: أن يترك الصلاة ويصرِّح بالجحود والإنكار أو بالإستكبار والإستهزاء.
 الثانية: ترك بعض الصلوات تهاوناً وكسلاً.
الثالثة: ترك الصلاة مطلقاً.
الرابعة: أن يُدعى التارك للصلاة فيمتنع، ويختار القتل على أدائها.
والسؤال الذي لابدَّ من طرحه: في أي صورةٍ من هذه الصور يُنَزَّل إجماع الصحابة ؟
والجواب نجده في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى الآتي:
1- قال شيخ الإسلام [المجموع 22/ 48-49]: ((وإذا صبر حتى يُقتل؛ فهل يُقتل كافراً مرتداً أو فاسقاً كفسَّاق المسلمين؟ على قولين مشهورين؛ حكيا روايتين عن أحمد.
وهذه الفروع لم تنقل عن الصحابة؛ وهي فروع فاسدة، فإنَّ مَنْ كان مقراً بالصلاة فى الباطن معتقداً لوجوبها يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل وهو لا يصلي، هذا لا يعرف من بني أدم وعاداتهم، ولهذا لم يقع هذا قط فى الإسلام، ولا يعرف أنَّ أحداً يعتقد وجوبها ويقال له: إنْ لم تصلِّ وإلا قتلناك؟ وهو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قط فى الإسلام.
ومتى إمتنع الرجل من الصلاة حتى يُقتل لم يكن فى الباطن مقراً بوجوبها ولا ملتزماً بفعلها: وهذا كافر بإتفاق المسلمين؛ كما إستفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلَّت عليه النصوص الصحيحة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة" رواه مسلم، وقوله: "العهد الذى بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر"، وقول عبدالله بن شقيق: "كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة".
فمن كان مصراً على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط: فهذا لا يكون قط مسلماً مقراً بوجوبها، فإنَّ اعتقاد الوجوب وإعتقاد أنَّ تاركها يستحق القتل هذا داع تام إلى فعلها، والدَّاعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإذا كان قادراً ولم يفعل قط: علم أنَّ الداعي فى حقه لم يوجد، والإعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل، لكن هذا قد يعارضه أحياناً أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها، وتفويتها أحياناً.
فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك: فهذا لا يكون مسلماً؛ لكن أكثر الناس يصلون تارة ويتركونها تارة: فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي فى السنن حديث عبادة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد فى اليوم والليلة؛ من حافظ عليهن: كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له"، فالمحافظ عليها: الذى يصليها فى مواقيتها كما أمر الله تعالى، والذي يؤخرها أحياناً عن وقتها أو يترك واجباتها: فهذا تحت مشيئة الله تعالى؛ وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضة؛ كما جاء فى الحديث)).
2- وقال العلامة ابن القيم في نهاية بحثه عن حكم تارك الصلاة [الصلاة وحكم تاركها ص82]: ((ومن العجب: أن يقع الشك في كفر من أصرَّ على تركها، ودُعيَ إلى فعلها على رؤوس الملأ، وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك؟ فيقول: اقتلوني ولا أُصلي ابداً.
ومن لا يُكفِّر تارك الصلاة يقول: هذا مؤمن مسلم!!، يُغسَّل ويصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين، وبعضهم يقول: إنه مؤمن كامل الإيمان!!!، إيمانه كإيمانه جبريل وميكائيل؛ فلا يستحي مَنْ هذا قوله؛ من إنكاره تكفير مَنْ شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة، والله الموفِّق)).
فواضح من كلامهما رحمهما الله تعالى أنَّ الصورة التي جاءت النصوص والآثار عن الصحابة بل واتفاقهم هي: "فيمن دُعيَ إلى الصلاة فامتنع وآثر القتل على أدائها"؛ وهذا هو الصحيح المعتمد في كفر تارك الصلاة؛ ذلك لأنَّ مَنْ ترك الصلاة – لا غيرها من أعمال الجوارح -  استحق القتل؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إني نهيت عن قتل المصلين))، ولم يكن للتارك لها عند المسلمين عهدٌ يُعصم به دمه: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة: فمن تركها فقد كفر))، فمن ترك الصلاة يُخشى عليه الكفر واستحق القتل؛ لكن الأصل بقاء الإسلام وعصمة دم المسلم، فلا نُخرجه من ذلك إلا بيقين؛ لأنَّ ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين، فمتى يُحكم بكفر التارك للصلاة؟ ومَنْ هو الذي يقوم ويأمر بقتله؟ لابدَّ من حصول اليقين؛ ولا يُمكن أن نحصل على ذلك اليقين إلا بدعوته إلى الصلاة مع تهديده بالقتل إن لم يصلِّ؛ فإنْ أصرَّ وآثر القتل: حُكِمَ بكفره، واستُبيح دمه؛ فيقتل ردة؛ لأنَّه بهذا يخرج من الإسلام إلى الكفر بيقين: ((بين الرجل وبين الكفر: ترك الصلاة))، ثم أنَّ أبا بكر لمَّا قاس حكم الممتنع عن الزكاة على التارك للصلاة؛ لم يكن مجرد ترك الزكاة سبب للحكم عليهم بالردة؛ وإنَّما كان الامتناع عن الزكاة والاجتماع والقتال على ذلك هو سبب الردة، وهكذا الصلاة ليس مجرد تركها سبب للردة؛ وإنَّما إذا دعى وليُ الأمرِ التاركَ لها، فامتنع وآثر القتل على أدائها؛ فحينئذ يقتل ردة.
وهذا هو الموافق لواقع الخلافة الراشدة؛ فإننا لو افترضنا أنَّ رجلاً ترك الصلاة في عصر الصحابة؛ فماذا سيفعل الصحابة معه؟ هل سيحكمون بكفره، ويقومون بقتله؟ أم سيصل الأمر إلى ولي أمر المسلمين أو نائبه؛ فيستدعيه ويأمره بالصلاة، فإن امتنع مع التهديد بالقتل: وجب قتله ردة؛ لأنَّ هذا في حقيقته جاحداً لوجوب الصلاة، أو كارهاً لها مستكبراً عنها؛ والأول ناقض لقول القلب، والثاني ناقض لعمل القلب.
وهذا هو الواجب في هذا العصر؛ ينبغي على المسلم أن لا يحكم بكفر تارك الصلاة ولا يبني أحكام الكفر والردة عليه قبل استدعائه من قِبَل ولي الأمر أو نوابه من القضاة وغيرهم؛ فإن امتنع وآثر القتل على فعل الصلاة: وجب أن يُقتل ردة، وتُبنى عليه أحكام الردة المعروفة؛ وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في [الشرح الممتع 2/ 24- 25]: ((وعلى هذا فمذهب الإمام أحمد المشهور عند أصحابه: أنَّه لا يُمكن أن يُحكم بكفر أحد ترك الصلاة في زماننا؛ لأنَّه إذا لم يدعه الإمام لم نتحقق أنَّه تركها كسلاً؛ إذ قد يكون معذوراً، لكن إذا دعاه الإمام وأصرَّ: علمنا أنَّه ليس معذوراً))، مع أنَّ الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى ذهب إلى خلاف ذلك في المصدر نفسه.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ((مَنْ كفر بترك الصلاة؛ الأصوب: أن يصير مسلماً بفعلها، مِن غير إعادة الشهادتين؛ لأنَّه: كفره بالإمتناع، كإبليس)) [الأختيارات الفقهية ص32]، ونقل عنه ابن عثيمين في [الأخبار العلمية من الإختيارات الفقهية ص50-51] قوله: ((وقوله عليه السلام: "مَنْ تركها فقد كفر" خصصناه: بالإمتناع؛ لأنَّ الحديث مقيَّد بمن ليس له عذر بالإجماع؛ وعند ذلك: لا ندري هل له عذر أم لا؟! ومعنا يقين الإسلام فلا يزال بالشك ولا بالظاهر!!، بل بيقين الترك المذنب على الكفر)).
فمن قال: يَكفر بالترك أو بالإصرار عليه؛ نقول له: نعم، هو كذلك؛ لكن لا يتحقق الترك والإصرار إلا بالصورة التي ذكرناها؛ أي: أن يُدعى فيمتنع حتى يُقتل؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى [الصلاة وحكم تاركها ص38]: ((المسألة الثانية: أنه لا يُقتل حتى يُدعى إلى فعلها فيمتنع؛ فالدعاء إليها لا يستمر، ولذلك أذن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الصلاة نافلة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت، ولم يأمر بقتالهم، ولم يأذن في قتلهم؛ لأنهم لم يصروا على الترك، فإذا دُعيَ فامتنع لا من عذر  حتى يخرج الوقت: تحقق تركه وإصراره)).
أما إذا لم يُدع ولم يَمتنع؛ فقد قال فيه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بصريح العبارة التي قلَّ مَنْ ينقلها عنه مع كثرة الرسائل والبحوث في هذا الموضوع!!: ((فأما إذا لم يُدع ولم يَمتنع: فهذا لا يجري عليه شيء من أحكام المرتدين في شيء من الأشياء، ولهذا لم يعلم أنَّ أحداً من تاركي الصلاة تُرك غسله والصلاة عليه ودفنه مع المسلمين ولا منع ورثته ميراثه ولا إهدار دمه بسبب ذلك، مع كثرة تاركي الصلاة في كل عصر، والأمة لا تجتمع على ضلالة؛ وقد حمل بعض أصحابنا أحاديث الرجاء على هذا الضرب)) [ شرح العمدة 4/ 92]، ثم أورد شبهة تعارض هذا القول وهي: ((فإن قيل: فالأدلة الدالة على التكفير عامة عموماً مقصوداً؛ و إن حملتموها على هذه الصورة كما قيل؛ قلَّت فائدتها، وإدراك مقصودها الأعظم!!؛ و ليس في شيء منها هذه القيود!!)) وردَّ عليها بالتفصيل؛ فراجع الرد إن شئت، والله تعالى أعلم.  
هذا ما أردتُ بيانه في هذا الموضوع؛ لعلَّ الله تعالى وفقني إلى السداد فيه؛ فإن أصبت فمِنَّة من الله تعالى، وإنْ أخطأتُ الحقَّ أو أخطأتُ في توجيه كلام أهل العلم - وخاصة الإجماع المنقول عن الصحابة في كفر تارك الصلاة - فمن نفسي وتزيين الشيطان، والله تعالى بريٌ ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بريٌ من ذلك كلِّه. 

 

أخوكم ومحبكم

أبو معاذ رائد آل طاهر

14/  محرَّم/1425 هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.