الحمد لله والصلاة والسلام على رسول
الله وعلى آله وصحبه ومَنْ سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فقد قال الإمام الألباني رحمه الله
تعالى في [تمام المنة في التعليق على فقه السنة لسيد سابق ص398]: ((ذكر المؤلِّفُ ثلاثةَ مذاهب:
الأول: مذهب الجمهور أنه لا عبرة باختلاف المطالع لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:
"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، متفق عليه وهو مخرج في "إرواء الغليل"
(902) من طرق عن أبي هريرة وغيره.
الثاني: أنَّ لكل بلد رؤيتهم ولا يلزمهم رؤية غيرهم، واحتج لهم بحديث ابن عباس عند
مسلم وغيره.
الثالث: لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سمتها.
واختار المؤلِّفُ هذا المذهبَ الأخير
معلِّقاً عليه بقوله: "هذا هو المشاهد ويتفق مع الواقع"، قلتُ: وهذا كلام
عجيب غريب؛ لأنه إن صح أنه مشاهد موافق للواقع فليس فيه أنه موافق للشرع أولاً، ولأن
الجهات - كالمطالع - أمور نسبية ليس لها حدود مادية يمكن للناس أن يتبينوها ويقفوا
عندها ثانياً.
وأنا - والله - لا أدري ما الذي حمل
المؤلف على اختيار هذا الرأي الشاذ، وأن يعرض عن الأخذ بعموم الحديث الصحيح؛ وبخاصة
أنه مذهب الجمهور كما ذكره هو نفسه، وقد اختاره كثير من العلماء المحققين مثل شيخ الإسلام
ابن تيمية في (الفتاوى المجلد 25) والشوكاني في "نيل الأوطار" وصديق حسن
خان في "الروضة الندية" (1 / 224 - 225)، وغيره فهو الحق الذي لا يصح سواه، ولا
يعارضه حديث ابن عباس لأمور ذكرها الشوكاني رحمه الله.
ولعل الأقوى أن يقال:
إنَّ حديث ابن عباس ورد فيمن صام على
رؤية بلده ثم بلغه في أثناء رمضان أنهم رأوا الهلال في بلد آخر قبله بيوم؛ ففي هذه
الحالة يستمر في الصيام مع أهل بلده حتى يكملوا ثلاثين أو يروا هلالهم، وبذلك يزول
الإشكال ويبقى حديث أبي هريرة وغيره على عمومه يشمل كل من بلغه رؤية الهلال من أي بلد
أو إقليم من غير تحديد مسافة أصلاً كما قال ابن تيمية في "الفتاوى" (25/
157).
وهذا أمر متيسر اليوم للغاية كما هو
معلوم، ولكنه يتطلب شيئاً من اهتمام الدول الإسلامية حتى تجعله حقيقة واقعية إن شاء
الله تبارك وتعالى.
وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على
ذلك؛ فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته، ولا ينقسم على نفسه فيصوم بعضهم معها
وبعضهم مع غيرها ممن تقدمت في صيامها أو تأخرت؛ لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في
الشعب الواحد كما وقع في بعض الدول العربية منذ بضع سنين. والله المستعان)) انتهى كلام
الشيخ الألباني.
قلتُ:
وحديث ابن عباس رضي الله عنه الذي أشار
إليه الألباني في كلامه؛ هو ما أخرجه الإمام مسلم وغيره عن ابْنُ أَبِى حَرْمَلَةَ عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ أُمَّ
الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ قَالَ: فَقَدِمْتُ
الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتُهِلَّ عَلَىَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ،
فَرَأَيْتُ الْهِلاَلَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِى آخِرِ
الشَّهْرِ فَسَأَلَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلاَلَ، فَقَالَ:
مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ:
أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ،
فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ؛ فَلاَ نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ
ثَلاَثِينَ أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَلاَ تَكْتَفِى بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟
فَقَالَ: لاَ، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الإمام الألباني رحمه الله بعد
ذلك:
(("من رأى الهلال وحده":
وتحت هذا العنوان الجانبي قال [يقصد سيد سابق في فقه السنة]: "واتفقت أئمة الفقه
على أنَّ من أبصر هلال الصوم وحده أن يصوم"، فأقول [الألباني]: هذا ليس على إطلاقه!؛
بل فيه تفصيل ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له فقال (25 / 114): "إذا رأى هلال الصوم وحده أو هلال الفطر
وحده؛ فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه أو يفطر برؤية نفسه؟ أم لا يصوم ولا يفطر إلا مع
الناس؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد"، ثم ذكرها.
والذي يهمنا ذكره منها ما وافق الحديث
وهو قوله: "والثالث: يصوم مع الناس ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال لقول النبي
صلى الله عليه وسلم: "صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون"
رواه الترمذي وقال: حسن غريب. قال: وفسَّر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى
هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس". وهذا الحديث مخرج في "الصحيحة"
(224) و"الإرواء" (905) من طرق عن أبي هريرة فمن شاء رجع إليها. ثم قال ابن تيمية (117): "لكن مَنْ كان في
مكان ليس فيه غيره إذا رآه صام، فإنه ليس هناك غيره")) انتهى كلام الألباني.
قلتُ:
قد يقول قائل: ولكنَّ بعض حكَّام المسلمين
مفرِّطون في أمر ثبوت الرؤية لأسباب غير شرعية، وتفريطهم لا يدخل في دائرة الاجتهاد،
فكيف نوافقهم على تفريطهم؛ مع أنه "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"؟
وجواب هذا قد ورد في فتوى مطوَّلة نافعة
في هذا الموضوع لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى [الفتاوى الكبرى 2/ 460]: ((سُئل شيخ
الإسلام رحمه الله: عن أهل مدينة رأى بعضهم هلال ذي الحجة ولم يثبت عند حاكم المدينة:
فهل لهم أن يصوموا اليوم الذي في الظاهر التاسع وإن كان في الباطن العاشر؟
فأجاب: نعم، يصومون التاسع في الظاهر
المعروف عند الجماعة؛ وإنْ كان في نفس الأمر يكون عاشراً، ولو قُدِّر ثبوت تلك الرؤية،
فإنَّ في السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صومكم يوم
تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون" ....ثم قال:
فإنْ قيل: قد يكون الإمام الذي فوّض
إليه إثبات الهلال مقصِّراً لرده شهادة العدول؛ إما لتقصيره في البحث عن عدالتهم وإما
ردَّ شهادتهم لعداوة بينه وبينهم، أو غير ذلك من الأسباب التي ليست بشرعية، أو لاعتماده
على قول المنجِّم الذي زعم أنه لا يُرى؟!
قيل: ما يثبت من الحكم لا يختلف الحال
فيه بين الذي يؤتم به في رؤية الهلال مجتهداً - مصيباً كان أو مخطئاً - أو مفرطاً؛
فإنه إذا لم يظهر الهلال ويشتهر بحيث يتحرى الناس فيه، وقد ثبت في الصحيح أَّن النبي
صلى الله عليه وسلم قال في الأئمة: "يصلون لكم فإنْ أصابوا فلكم ولهم وإنْ أخطأوا
فلكم وعليهم" فخطأه وتفريطه عليه لا على المسلمين الذين لم يفرِّطوا ولم يخطئوا.
ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق
الصحابة: أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال:
"إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
والمعتمِد على الحساب في الهلال كما
أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين؛ فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب، فإنَّ العلماء
بالهيئة يعرفون أنَّ الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي....)) انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه
الله تعالى.
قلتُ: وقول السائل ((أو لاعتماده على
قول المنجِّم الذي زعم أنه لا يُرى))، إنما المقصود بالتنجيم ما قاله الحافظ ابن عبدالبر
رحمه الله في [التمهيد 14/ 350]((وقد كان بعض أجلة التابعين فيما حكاه عنه محمد بن
سيرين يذهب في هذا الباب إلى اعتباره بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب، وذهب بعض
فقهاء البصريين إلى أنَّ معنى قوله عليه السلام: "فاقدروا له" ارتقاب منازل
القمر، وهو علم كانت العرب تعرف منه قريباً من علم العجم)).
ولتوضيح مأخذ المسألة هذه عند شيخ الإسلام
رحمه الله أقول:
قد سُئل [مجموع 25 / 202-204]: عن أهل
مدينة رأى بعضهم هلال ذي الحجة، ولم يثبت عند حاكم المدينة، فهل لهم أن يصوموا اليوم
الذي في الظاهر التاسع وإنْ كان في الباطن العاشر؟
فأجاب: ((نعم يصومون التاسع في الظاهر
المعروف عند الجماعة وإنْ كان في نفس الأمر يكون عاشراً، ولو قُدِّر ثبوت تلك الرؤية،
فإنَّ في السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صومكم يوم
تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون"، أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي
وصححه، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس" رواه الترمذي، وعلى هذا
العمل عند أئمة المسلمين كلهم.
فإنَّ الناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر خطأ
أجزأهم الوقوف بالاتفاق، وكان ذلك اليوم يوم عرفة في حقهم، ولو وقفوا الثامن خطأ ففي
الإجزاء نزاع، والأظهر صحة الوقوف أيضاً، وهو أحد القولين في مذهب مالك ومذهب أحمد
وغيره، قالت عائشة رضي الله عنها: "إنما عرفة اليوم الذي يعرفه الناس". وأصل
ذلك: أنَّ الله سبحانه وتعالى علَّق الحكم بالهلال والشهر، فقال تعالى: "يسألونك
عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج"، والهلال: اسم لما يستهل به: أي يعلن به
ويجهر به، فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلالاً!.
وكذا الــ "شهر" مأخوذ من
الشهرة، فإنْ لم يشهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل!.
وإنما يغلط كثير من الناس في هذه المسألة،
لظنهم أنه إذا طلع في السماء كانت تلك الليلة أول الشهر؛ سواء ظهر ذلك للناس واستهلوا
به أو لا، وليس كذلك!، بل ظهوره للناس واستهلالهم به لا بد منه، ولهذا قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون"،
أي: هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم والفطر والأضحى، فإذا لم تعلموه لم يترتب
عليه حكم.
وصوم اليوم الذي يشك فيه: هل هو تاسع
ذي الحجة؟ أو عاشر ذي الحجة؟ جائز بلا نزاع بين العلماء، لأنَّ الأصل عدم العاشر، كما
أنهم لو شكوا ليلة الثلاثين من رمضان هل طلع الهلال أم لم يطلع؟ فإنهم يصومون ذلك اليوم
المشكوك فيه باتفاق الأئمة، وإنما يوم الشك الذي رويت فيه الكراهة هو الشك في أول رمضان،
لأنَّ الأصل بقاء شعبان)).
ومما يؤكِّد صحة هذا المذهب؛ وهو أنَّ
الصيام مع جماعة الناس، ما قاله العلامة ابن رجب رحمه الله في رسالته [أحكام الاختلاف
في رؤية هلال ذي الحجة ص19-23]: ((قال
عبد الرزاق في كتابه: أخبرنا معمر عن جعفر بن برقان عن الحكم أو غيره عن مسروق أنه
دخل هو ورجل معه على عائشة يوم عرفة فقالت عائشة: يا جارية خوضي لهما سويقاً وحليه،
فلولا أني صائمة لذقته، قالا: أتصومين يا أم المؤمنين ولا تدرين لعله يوم النحر؟! فقالت:
"إنما يوم النحر إذا نحر الإمامُ وعِظَمُ الناسِ، والفطر إذا أفطر الإمامُ وعِظَمُ
الناسِ"، وروي من وجه آخر؛ رواه أبو إسحاق السبيعي عن مسروق قال: دخلتُ على عائشة
أنا وصديق لي يوم عرفة فدعت لنا بشراب، فقالت: "لولا أني صائمة لذقته". فقلنا
لها: أتصومين والناس يزعمون أنَّ اليوم يوم النحر؟! قالت: "الأضحى يوم يضحي الناس،
والفطر يوم يفطر الناس"، رواه الإمام أحمد عن ابن نمير وابن فضيل كلاهما عن الأعمش
عن أبي إسحاق به، خرجه عنه ابنه عبد الله في كتاب المسائل. وخرجه أيضاً عبدالله عن
أبيه عن ابن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي عطية ومسروق قالا: دخلنا على عائشة
في اليوم الذي يشك فيه الأضحى، فقالت: "خوضي لابني سويقاً وحليه، فلولا أني صائمة
لذقته" فقيل لها: يا أم المؤمنين إنَّ الناس يرون أنَّ اليوم يوم الأضحى؟ ، فقالت:
"إنما يوم الأضحى يوم يضحي الإمام وجماعة الناس"، وكذا رواه شعبة عن أبي
إسحاق عن أبي عطية ومسروق عن عائشة بنحوه، ورواه دلهم بن صالح عن أبي إسحاق عن أبي
عطية ومسروق عن عائشة. واختلف عليه في رفع آخر الحديث، وهو: "إنما الأضحى يوم
يضحي الإمام"، فمن أصحابه مَنْ رفعه عنه وجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم،
ومنهم مَنْ وقَّفه على عائشة، وهو الصحيح. ورواه أيضا مجالد عن الشعبي عن مسروق عن
عائشة بنحوه موقوفاً أيضاً.
فهذا الأثر صحيح عن عائشة رضي الله
عنها، إسناده في غاية الصحة، ولا يعرف لعائشة مخالف من الصحابة.
ووجه قولها: إنَّ الأصل في هذا اليوم
أن يكون يوم عرفة، لأنَّ اليوم المشكوك فيه هل هو من ذي الحجة أو من ذي القعدة؟ الأصل
فيه: أنه من ذي القعدة؛ فيعمل بذلك استصحاباً للأصل .
ومأخذ آخر: وهو الذي أشارت إليه عائشة
رضي الله عنها: أنَّ يوم عرفة هو يوم مجتمع الناس مع الإمام على التعريف فيه، ويوم
النحر هو الذي يجتمع الناس مع الإمام على التضحية فيه، وما ليس كذلك فليس بيوم عرفة،
ولا يوم أضحى، وإن كان بالنسبة إلى عدد أيام الشهر هو التاسع أو العاشر، وقد روي ذلك
عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة؛ خرَّجه الترمذي من طريق المقبري عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصوم يوم يصوم الناس،
والفطر يوم يفطرون، والأضحى يوم يضحون"، ...)).
قلتُ:
عند قوله الحافظ ابن رجب: ((ولا يعرف
لعائشة مخالف من الصحابة))، علَّق محقق الكتاب بقوله: ((قال ابن قدامة في المغني 4
/ 421 عند كلامه على مسألة: من رأى هلال شوال
وحده، بعد ذكره لهذا الأثر وأثر عمر رضي الله عنه حين أنكر على الرجل الذي أفطر لما
رأى هلال شوال هو وصاحبه، قال: "ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما؛ فكان إجماعاً"،
وانظر الشرح الكبير لشمس الدين ابن قدامة)).
وقال رحمه الله بعدما أنهى تأصيل مسألة
عدم جواز مخالفة الإمام والجماعة في مسألة رؤية الهلال ص43-46: ((فإنْ قيل: أليس قد
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عند وجود الأئمة الذين يؤخِّرون الصلاة عن وقتها
أن يصلوا الصلاة لوقتها وأن يجعلوا صلاتهم معهم نافلة مع أنَّ في ذلك افتياتاً على
الأئمة واختلافاً عليهم؛ ولهذا كان بنو أمية يشددون في ذلك ويستحلفون الناس عند مجيئهم
للصلاة؛ أنهم ما صلوا قبل ذلك، ومع هذا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة في
الوقت سراً وبالصلاة معهم نافلة لدفع شرهم وكف أذاهم، وهذا يدل على أنه لا يجوز لأحد
ترك ما يعرفه من الحق لموافقة الأئمة وعموم الناس، بل يجب عليه العمل بما يعرفه من
الحق في نفسه؛ وإن كان فيه مخالفة للأئمة وعموم الناس المتبعين لهم، وحينئذ فلا يجوز
أن يؤمر من رأى الهلال، أو من أخبره برؤيته من يثق به أن يتبع الإمام والجماعة معه،
ويترك ما عرفه من الحق؟!
فالجواب: أنَّ ما نحن فيه ليس من هذا
القبيل، وذلك أنَّ الصلاة لها وقت محدود في الشرع معلوم أوله وآخره علماً ظاهراً، فمن
غيره من الأئمة لم تجز متابعته في ذلك، لأنَّ فيه موافقة على تغيير الشريعة، وذلك لا
يجوز.
نظير هذا من مسألتنا: أن يشهد شهود
عدول عند حاكم برؤية هلال ذي الحجة أو رمضان، فيقول: هم عندي عدول ولا أقبل شهادتهم!،
أو نحو ذلك مما يظهر فيه أنه تعمد ترك الواجب بغير عذر، فهنا لا يلتفت إليه ويعمل بمقتضى
الحق؛ وإن كان يظهر له التقية إذا خيف من شره، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة
مع أولئك الأمراء نافلة.
وهذا بخلاف الأمور الاجتهادية التي
تخفى ويسوغ في مثلها الاجتهاد، كقبول الشهود وردهم، فإنَّ هذا مما تخفى أسبابه.
وقد يكون الحاكم معذوراً في نفس الأمر،
ففي مثل هذا لا يجوز الافتيات على الأئمة ونوابهم ولا إظهار مخالفتهم ولو كانوا مفرطين
في نفس الأمر، فإنَّ تفريطهم عليهم لا على مَنْ لم يفرِّط، كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم في الأئمة: "يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم"
خرجه البخاري)).
وعند قول الحافظ ابن رجب رحمه الله:
((فهنا لا يلتفت إليه ويعمل بمقتضى الحق)) أي لا يلتفت في هذه الحالة إلى الإمام، قال
المحقق: ((وقد خالف في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما في مجموع
الفتاوى 25 / 206، 207)) ثم نقل ما ذكرتُه
في أول الموضوع.
قال العلامة السندي رحمه الله في [حاشيته
على سنن ابن ماجه]: ((قَوْله (الْفِطْر يَوْم تُفْطِرُونَ): وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ
"الصَّوْم يَوْم تَصُومُونَ"، وَالظَّاهِر: أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ
الْأُمُور لَيْسَ لِلْآحَادِ فِيهَا دَخْل وَلَيْسَ لَهُمْ التَّفَرُّد فِيهَا؛ بَلْ
الْأَمْر فِيهَا إِلَى الْإِمَام وَالْجَمَاعَة، وَيَجِب عَلَى الْآحَاد اِتِّبَاعهمْ
لِلْإِمَامِ وَالْجَمَاعَة.
وَعَلَى هَذَا؛ فَإِذَا رَأَى أَحَدٌ
الْهِلَالَ وَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَته يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُت فِي حَقّه شَيْء
مِنْ هَذِهِ الْأُمُور، وَيَجِب عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَع الْجَمَاعَة فِي ذَلِكَ، وَقَالَ
الْخَطَّابِيُّ: "مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْخِطَاب مَوْضُوع عَلَى النَّاس فِيمَا
سَبِيله الِاجْتِهَاد فَلَوْ أَنَّ قَوْمًا اِجْتَهَدُوا فَلَمْ يَرَوْا الْهِلَال
إِلَّا بَعْد الثَّلَاثِينَ فَلَمْ يُفْطِرُوا حَتَّى اِسْتَوْفَوْا الْعَدَد ثُمَّ
ثَبَتَ عِنْدهمْ أَنَّ الشَّهْر تِسْع وَعُشْرُونَ فَإِنَّ صَوْمهمْ وَفِطْرهمْ مَاضٍ
وَلَا عَتْب عَلَيْهِمْ وَكَذَا فِي الْحَجّ إِذَا أَخْطَأَ يَوْم عَرَفَة فَإِنَّهُ
لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِعَادَة وَيَجْزِيهِمْ إِضْحَاؤُهُمْ وَهَذَا تَخْفِيف مِنْ اللَّه
وَرِفْق بِعِبَادِهِ"، قُلْت: وَيَلْزَم عَلَى رِوَايَة التِّرْمِذِيّ أَنَّهُمْ
إِذَا أَخْطَئُوا فِي رُؤْيَة هِلَال رَمَضَان أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِمْ قَضَاء؛
وَهَذَا مُشْكِل وَاَللَّه أَعْلَم)).
وأخيراً:
فقد قال مفتي بلاد الحرمين السابق الإمام
ابن باز رحمه الله؛ لما سُئل [مجموع فتاوى ابن باز 15/ 102]: إذا ثبت دخول شهر رمضان
في إحدى الدول الإسلامية كالمملكة العربية السعودية وأُعلن ذلك، ولكنه في الدولة التي
أَقيمُ بها لم يعلن عن دخول شهر رمضان، فما الحكم. هل نصوم بمجرد ثبوته في المملكة.
أم نفطر معهم ونصوم معهم متى ما أعلنوا دخول شهر رمضان. وكذلك بالنسبة لدخول شهر شوال
"أي يوم العيد"؟ ما الحكم إذا اختلف الأمر في الدولتين؟ وجزاكم الله عنا
وعن المسلمين خير الجزاء.
فكان جوابه رحمه الله: ((على المسلم
أن يصوم مع الدولة التي هو فيها ويفطر معها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصوم
يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون" وبالله التوفيق)).
هذا ما أردتُ بيانه، فإنْ أصبتُ فبتوفيق من الله
عز وجل، وإنْ أخطأتُ فمن قصوري وجهلي، والله يغفر لي، وهو أرحم الراحمين.
كتبه
أخوكم أبو معاذ
رائد آل طاهر
صباح يوم الجمعة
30 شعبان 1433هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.