الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله
وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإنَّ محبة النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
وتعظيم قدره واتباعه والتحاكم إليه من أعظم الواجبات وأهمها، ولا يتم إيمان العبد
إلا بها كما لا يخفى هذا على مسلم قرأ في كتاب الله تعالى.
ومن المعلوم – كذلك – أنَّ من انتقص منه صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم شيئاً وإن قلَّ فإنَّه يكفر به إجماعاً؛ وإذا كان رفع الصوت
والجهر في المناداة كما يجهر بعضنا لبعض يقول الله تعالى فيه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ
وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ))؛ فما بالك بما فوقه من انتقاص بالفعل أو الكلام أو الإشارة!!.
لكن هذا التعظيم والمحبة لا بدَّ وأن يكونا في حدود
المشروع، وإلا أصبحا غلواً واستدراجاً من الشيطان؛ يقع العبد به في هاوية تقديس
البشر وتأليههم، كما حدث للنصارى مع نبي الله عيسى عليه السلام؛ ولهذا كان نبينا
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ينكر على مَنْ يبالغ في الثناء عليه ويقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبده،
فقولوا: عبد الله ورسوله)) رواه البخاري وغيره، ولما جاءه وفد بني عامر
وقالوا له: أنت سيدنا، فقال لهم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ((السيد الله تبارك وتعالى)) فقالوا: وأفضلنا فضلاً
وأعظمنا طولاً، فقال لهم: ((قولوا بقولكم، أو بعض
قولكم؛ ولا يستجرينكم الشيطان)) رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وقال
له أحد الصحابة: ما شاء الله وشئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أجعلتني واللهَ عدلاً؛ بل ما شاء الله وحده))
رواه أحمد وغيره، ولما قَدِمَ معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال
له: ((ما هذا يا معاذ؟!)) قال: أتيت الشام
فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، وفي رواية:
أنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلا تفعلوا؛ فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله
لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى
تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه)) رواه النسائي
وأبو داود وغيرهما.
وهذه النصوص وغيرها تؤكِّد أنَّ تعظيم قدر النبي صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم ومحبته يجب أن يكونا في حدود ما أجازه الشرع؛ فلا يجوز
أن نتعدَّى هذا الحد بحجة أنَّ الله تعالى أمرنا بمحبة النبي صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم وتعظيم قدره ورفع ذكره!!.
فإنَّ حقيقة هذه المحبة والتعظيم يكونان: بتفضيله
وتقديمه على كل أحد من البشر، وتصديقه في كل ما أخبر، والامتثال لكل ما أمر،
والاجتناب عن كل ما نهى عنه وزجر، والتحاكم إليه عند النزاع، والدعوة إلى سيرته
باتباع، وعدم التقدم بقول أو عمل بين يديه، والعمل بسنته وهديه، ومحاربة كل ما
يُخالف ذلك من بدع وأهواء على طريقته ونهجه؛ هذا هو مصداق تلك المحبة والتعظيم،
وهذه هي حقيقة الإجلال والتوقير؛ أما أن يدَّعي أحد محبته وتعظيمه ثم يُخالف أمره
ويحارب سنته: فهذا عمله يُكذِّب قوله؛ والله تعالى يقول: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))، ويقول القائل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمرك في القياس بديع
لو
كان حبك صادقاً لأطعتـه إنَّ
المحب لمن يحب مطيع
ومع وضوح هذا الأصل في كتاب الله تعالى وفي سنة نبينا
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؛ لا يزال الكثير من هذه الأمة – ومع الأسف الشديد
- لا يُفرِّق بين الحب والتعظيم الواجبين،
وبين الغلو والتقديس المحرَّمين.
ومن مظاهر هذا الغلو التي اغترَّ بها الكثير من هذه
الأمة قديماً وحديثاً ظاهرة: ((الاحتفال بذكرى المولد النبوي))؛ هذه
الظاهرة التي اتخذها الناس عبادةً يتقرَّبون بها، وسنَّةً يَذمون تاركها، ويُعادون
مَنْ ينكرها؛ فصدق فيهم قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه – والحديث في حكم
المرفوع - : ((كيف أنتم إذا لبستكم فتنة: يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتخذها
الناس سنة!!، إذا ترك منها شيء قيل: تركت السنة؟!)) قالوا: ومتى ذاك؟ قال:
((إذا ذهبت علماؤكم، وكثرت قُراؤكم، وقَلَّت فقهاؤكم، وكَثُرت أمراؤكم، وقلَّتْ
أمناؤكم، والتُمِسَتِ الدنيا بعمل الآخرة، وتُفُقهَ لغير الدين)) رواه الدارمي
والحاكم وغيرهما.
أوَّل مَنْ أقام هذا المولد:
ولِدَ نبينا صلوات الله وسلامه عليه يوم الإثنين من شهر ربيع الأول من عام الفيل؛ وقد أُختلِف في تاريخ يوم
مولده؛ فقيل: الثاني من ربيع الأول، وقيل: الثامن، وقيل: العاشر، وقيل: الثاني
عشر؛ وقد اصطفاه الله تعالى من خير القبائل ومن خير البيوت ومن خير الأنفس، وكان
بمبعثه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الهدى الذي أخرج الله تعالى به النَّاس من
الظلمات إلى النّور.
ولم يكن صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من هديه أن
يقيم لنفسه احتفالاً بذكرى مولده، ولم يفعله الصحابة الكرام من بعده مع تعظيمهم
ومحبتهم له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، بل ولم يفعله أحد من التابعين ولا من
الأئمة المتبوعين لا أبو حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل ولا غيرهم
من الأئمة والعلماء؛ حتى جاء أوآخر القرن السادس، وجاء الملك المظفَّر
أبو سعيد كوكبوري ملك إربل فأحدث هذا المولد؛ وكان يصنع فيه أصنافاً من الأطعمة
وينفق فيه أموالاً هائلة مع الضرب بالدفوف والطبول والسماع والإنشاد الصوفي؛ كما
ذكره المؤرخون كابن كثير والذهبي وابن خلكان وغيرهم، ثم اعتاد الكثير من الناس – بعد ذلك - في شهر ربيع الأول في اليوم الثاني عشر منه
القيام بإحياء ذكر مولده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وإلى عصرنا هذا.
أصناف الناس في المولد:
تختلف صور الاحتفال تبعاً للفئات المحتفِلة وأفكارها
ومقاصدها؛ ويمكن تصنيف الناس في هذا المقام إلى فئتين:
الأولى: يكون الاحتفال عندهم اجتماع على الغناء الصوفي
والضرب بالدفوف، يصاحبه أنواع من الشرك الأكبر من استغاثة بالنبي صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم وادِّعاء علم الغيب له وغير ذلك، والخروج في تلاوة القرآن والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، كما يصاحبه اختلاط لا مثيل له بين الرجال والنساء مع
رفع أصواتهنَّ وتصفيقهنَّ بل ورقصهنَّ في الشوارع وغيرها، وإضاعة للأموال والأوقات
في الأطعمة والملاهي وإقامة المهرجانات إلى غير ذلك؛ فهذا لا يقول بجوازه أو استحبابه إلا جاهل أو زنديق.
الثانية: يكون الاحتفال عندهم اجتماع في
مكانٍ ما؛ إما في المسجد أو قاعة تُعد للمناسبات أو في البيت؛ يبدؤون فيه بتلاوة
آيات معدودة من كتاب الله تعالى، ثم بعض القصائد في مدح النبي صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم لا تخلو غالباً من الانحراف العقدي والإطراء المنهي عنه، ثم درس في بعض
الحوادث والمواقف من السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم لا تخلو من
كذب في الأحاديث المروية، وأثناء ذلك أو بعده: تخرج فرقة للإنشاد الجماعي مع الإيقاع
الغنائي، وتوزَّع الحلوى وغيرها من المأكولات والمشروبات، يتخلل الحفل رفع الصوت
بالذكر والصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى غير ذلك من أعمال؛
وهذا الاحتفال لو كان خالياً من الانحراف العقدي والإطراء المنهي عنه والأحاديث
المكذوبة على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: فهو اجتماع بدعي غير مشروع؛
فكيف إذا اشتمل على ذلك؟!! وأدلة عدم مشروعية هذا الاحتفال ظاهرة؛ وإليك تفصيلها:
1- أنَّ هذا الاجتماع من البدع المحدثات:
والبدعة – كما هو معلوم –: كل ما يتقرَّب به العبدُ إلى ربِّه ولم يدل عليه
دليل شرعي في أصله أو وصفه؛ أي في وجوده في الشرع أو كيفيته، والاجتماع لهذا
المولد لم يفعله النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولا أحد من الصحابة
والتابعين ولا أحد من العلماء المتقدمين والأئمة المتبوعين؛ ولا يستطيع القائل
بمشروعية هذا الاجتماع أن يأتي بخلاف ما ذكرناه، وإنَّما حدث هذا الاحتفال في
أوآخر القرن السادس بأمر من الملك المظفَّر كما ذكرنا آنفاً؛ ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه: فهو رد)) متفق عليه، وفي
رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا: فهو رد)) فهذا الاجتماع غير مشروع،
وإنما هو مردود في وجه صاحبه، لا يتقبله الله منه، بل يحاسبه على ما ابتدعه في
الدين حتى يتوب من هذه البدعة ويدعها؛ قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ((إنَّ الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)) رواه الطبراني وحسنه
المنذري.
2- أنَّ هذا الاجتماع من التشريع الذي لم يأذن به الله تعالى:
وذلك لأنَّ الله تعالى لم يأمر به لا في كتابه ولا على لسان نبيه صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم؛ وكل ما لم يأذن به الله تعالى فهو من تشريع النفس وهواها؛
والله تعالى يقول: ((أَمْ
لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ))، ويقول: ((أَفَرَأَيْتَ
مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ
بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ))، بل حقيقته استدراك على مقام
الربوبية واتهام لمقام الرسالة.
3- أنَّ هذا من التشبه بالكفَّار:
لأنَّ اليهود
والنصارى يقيمون مثل هذه الاحتفالات بمناسبة ذكرى ميلاد أنبيائهم؛ كما يفعل
النصارى في أعياد رأس السنة الميلادية؛ والتي يحتفلون فيها بعيد ميلاد نبي الله
عيسى عليه السلام؛ وهكذا يتبع المسلمون سنن اليهود والنصارى ويتشبَّهون بهم في
عباداتهم ومناسكهم وعاداتهم؛ والنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: ((من تشبَّه بقوم: فهو منهم)) رواه أبو داود وغيره،
وقال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم؛ شبراً بشبر وذراعاً
بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم)) قال الصحابة: يا رسول الله اليهود
والنصارى؟ قال: ((فَمَنْ؟!)) أي: فمَنْ غيرهم؟! والحديث رواه البخاري
ومسلم.
4- أنَّ هذا من الغلو في الدِّين:
لأنَّ محبة النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وتعظيمه لا يكون إلا في
حدود المشروع من غير إفراط ولا تفريط؛ فمن أراد أن يعبِّر عن محبته للنبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم وإجلاله بغير ما أذِن به الله تعالى من الأعمال فقد وقع في
الغلو في النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؛ وهو صلوات الله وسلامه عليه يقول: ((وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في
الدين)) أخرجه النسائي وابن ماجه، والغلو في الأنبياء والصالحين هو
السبب الذي أوقع الكثير من الأمم والأفراد في الشرك بالله تعالى وتقديس البشر؛
ولقد حذَّر نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمته في مواضع متعددة عامة وخاصة
من أن تغلو فيه؛ ومن هذه المواضع أنَّه قال: ((اللهم
لا تجعل قبري وثناً يعبد؛ اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) رواه مالك وغيره، ومن الأسباب
الموصلة لذلك هو الاجتماع عند قبره؛ ولهذا نهى الأمة عن ذلك فقال: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً؛ ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا
عليَّ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، وصفة العيد:
الاجتماع، فكيف تقيمون عيداً في يوم ميلاده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وهو
ينهى الأمة أن تتخذ قبره عيداً؟! إذن لا بدَّ من التمييز بين التقدير والتقديس؛
وبين المحبة والتعظيم وبين التأليه والإطراء؛ وإلا وقعنا في الغلو والشرك بالله
العظيم ونحن نحسب أننا نحسن صنعاً!!.
5- أنَّ هذا الاجتماع مخالف لما كان عليه القرون المفضَّلة:
قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ((خير
الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم
يمينه ويمينه شهادته)) رواه البخاري ومسلم؛ فمع أنَّهم خير الناس
بشهادة النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لهم؛ إلا أنَّهم لم يُقيموا مثل هذا
الاحتفال؛ فكيف يا عباد الله تخالِفون سبيل خير النَّاس؟ والله تعالى: ((وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ:
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)).
ولما سُئل صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الفرقة الناجية من الثلاث وسبعين
فرقة؟ أجاب بقوله: ((ما أنا عليه وأصحابي))
رواه الترمذي وغيره، ويقول حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: ((كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوها؛
فإنَّ الأول لم يدع للآخر مقالاً))، وقال ابن
مسعود رضي الله عنه: ((اتبعوا
ولا تبتدعوا فقد كفيتم، وعليكم بالأمر العتيق))؛ فمن تقرَّب لله بعبادة لم يتقرَّب بها نبينا صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم، ولم يتعبَّد بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم: فهذه مشاقة للرسول صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم وانحراف عن سبيل الصحابة.
شبهات وردّها:
يظنُّ الكثير من العوام أنَّ كلَّ مَنْ استدلَّ بآية من كتاب الله تعالى أو
بحديث من أحاديث النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فلا بدَّ أن يكون الحقُّ
معه؛ وهذا الكلام على اطلاقه غير صحيح، بل لا بدَّ من التفصيل؛ فمن استدلَّ
بالنَّص – الآية أو الحديث – على المعنى الذي أُريد به فقد أصاب الحق، ومَنْ
استدلَّ به على غير المعنى المراد منه فقد أضلَّ الحق واتبع المتشابه؛ والله تعالى
يقول: ((هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ؛ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ؛ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ،
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ))، وعن عائشة قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات" إلى "وما يذكر إلا
أولو الألباب"، فقال: ((فإذا رأيتم الذين يتبعون ما
تشابه منه: فأولئك الذين سمَّاهم الله فاحذروهم)) رواه الشيخان.
ومثال على المتشابه من النصوص: أنَّ بعض النَّصارى استدلَّ على عقيدة
التثليث بآية من القرآن!!؛ وهي قوله تعالى: ((إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) على أنَّ الضمير المنفصل (نحن) في لغة العرب: يفيد
الجماعة!!، والجماعة من ثلاثة فما فوق!!، وهذا كلام باطل؛ بل نحن تأتي بمعنى الجمع
وتأتي بمعنى التعظيم كقول القائل: نحن فعلنا أو نحن قلنا؛ ويريد بذلك نفسه، و(نحن)
في الآية: بمعنى التعظيم؛ والمستدِل بهذه الآية قد ترك آيات لا تُحصى تدلّ على
وحدانية الله تعالى؛ مثل قوله: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)) وغيرها
كثير.
واليوم جاء مَنْ يستدل على مشروعية الاحتفال بذكرى المولد النبوي بشبهات
أوهى من بيت العنكبوت؛ وإليك بيانها وردها:
الشبهة الأولى: عن أبي قتادة أنَّ أعرابياً قال: يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الاثنين؟
فقال: ((ذاك يوم وِلدتُ فيه، وأُنزِلَ عليَّ فيه))
رواه مسلم؛ فيقولون: أنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم احتفل بيوم ميلاده؛
وعبَّر عن هذا الاحتفال بالصوم؛ وقد سَئل صلى الله عليه وسلم عن صوم عاشوراء لما
قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه؟ فقالوا: هذا يوم أنجى الله فيه موسى وأغرق فيه
فرعون فصامه موسى شكراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصيامه. رواه
ابن ماجه.
والجواب: أنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يتحرى صيام الاثنين
والخميس؛ فسُئل عن الاثنين؟ فأجاب بقوله: ((ذاك يوم
وِلدتُ فيه، وأُنزِلَ عليَّ فيه))، وسُئل عن الاثنين والخميس؟ فأجاب
بقوله: ((الأعمال تعرض كل اثنين وخميس؛ فيغفر لكل
مسلم إلا المتهاجرين فيقول: أخروهما)) رواه أحمد.
فنسألكم فنقول: لماذا أخذتم التعليل الأول وتركتم الثاني؟! ولماذا لا
تحتفلون بيوم إنزال القرآن وقد ورد في نفس الحديث؛ وقد أُنزل في يوم الاثنين من
شهر رمضان؟! وكيف تقيسون الاحتفال على الصيام؟! وكيف تقيسون ما شرعتموه من أعمال
بأهوائكم وتزيين شياطينكم على ما شرعه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من
عبادات بوحي من عند الله تعالى؟! ولماذا لا تحتفلون إلا في يوم واحد من أيام
السنة، بينما كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يصوم كل أثنين؛ لأنه يوم
وِلدَ فيه؟!.
إنَّ هذه الأسئلة تكشف عن تناقض هذا المستدِل في نفسه، ومدى اتباعه
للمتشابه من النصوص، بل تحريفه للنصوص واتباع هوى النفس؛ وإلا ما علاقة تشريع
الصيام بتشريع الاحتفال؟!!.
الشبهة الثانية: أنَّ
الاجتماع للذكر وتلاوة القرآن وتعليم العلم مشروع لقول النبي صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛
يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم: إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة،
وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)) رواه مسلم؛ ونحن في الاحتفال لا
نزيد على هذا؛ فلماذا تنكرون علينا؟!!.
والجواب: ما قاله العلامة ابن رجب البغدادي رحمه
الله تعالى في [جامع العلوم والحِكَم ص60]: ((ليس كل ما كان قربة في موطِن يكون
قربة في كل المواطِن؛ وإنما يتبع في ذلك كله ما وردت به الشريعة في مواضعها؛
وكذلك من تقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها؛ كمن صام يوم العيد أو صلى وقت النهي. وأما
من عمل عملاً أصله مشروع وقربة ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع أو أخلَّ فيه بمشروع:
فهذا أيضاً مخالف للشريعة بقدر إخلاله بما أخلَّ به أو إدخاله ما أدخل فيه)).
ونوضح هذا بمثال فنقول: النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع
وعشرين درجة)) رواه الشيخان؛ ويقول: ((وإنَّ
صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع
الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله)) رواه أبو داود والنسائي؛ هل يجوز
للمسلم أن يصلي السنن القبلية أو البعدية جماعة استناداً لهذين الحديثين؟! لا شكَّ
أنه لا يجوز اتفاقاً؛ لأنَّ الجماعة المقصودة صلاة الفرض؛ مع أنَّ الحديثين
مطلقان، ودليل عدم الجواز هو: أنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يفعل
ذلك، كما أنَّ الصحابة لم يفعلوا ذلك؛ فهذا الفعل بدعة. فكذلك نقول لمن يستدل
بحديث: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله...))
على مشروعية الاجتماع في ذكرى المولد النبوي؛ فالاجتماع المذكور في الحديث لم يخصص
يوم بعينه، ولم يرد في بيان حكم الاجتماع للمولد؛ فكيف تستدلون به على ذلك؟!.
الثالثة: قالوا: إنَّ الاحتفال بالمولد
لا يشتمل إلا على الخير؛ والله تعالى يقول: ((يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) وقال: ((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)).
والجواب: أنَّ
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه
لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها
بلاء، وأمور تنكرونها ...)) رواه مسلم، وقال: ((والذي نفسي بيده؛ ما تركت شيئاً يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا
أمرتكم به، وما تركت شيئاً يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا نهيتكم عنه))، وعن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب؛ فقلنا: يا
رسول الله إنَّ هذه لموعظة مودع؛ فماذا تعهد إلينا؟ قال: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا
هالك، ومَنْ يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً: فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة
الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ)) رواه ابن ماجه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: ((ليس من عمل يقرب من الجنة إلا قد
أمرتكم به، ولا عمل يقرب من النار إلا وقد نهيتكم عنه، فلا يستبطئن أحد منكم رزقه؛
فإنَّ جبريل ألقى في روعي: أنَّ أحداً منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه،
فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه: فلا يطلبه بمعصية
الله؛ فإنَّ الله لا ينال فضله بمعصيته)) رواه الحاكم، وفي رواية: ((فإنَّ الله لا يدرك ما عنده إلا بطاعته)) نعم
والله؛ لا يُدرك ما عند الله من رضوان وأجر إلا بطاعته، لا بمعصيته، فكيف
والبدعة أشدّ من المعصية كما هو معلوم؟!!.
وعن أبي ذر قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علماً. رواه أحمد والطبراني
وزاد: قال: فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما بقي من شيء
يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم)).
وقيل لسلمان الفارسي: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال: أجل؛ لقد
نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من
ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم. رواه مسلم.
فبعد هذه النصوص هل يظن مسلم أنَّ هناك خيراً يقربنا إلى الجنَّة ويباعدنا
عن النار لم يبينه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لنا ولم يأمرنا به؟!
والله مَنْ ظنَّ ذلك؛ فقد طعن بنبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم شعر أو
لم يشعر، واتهمه بأنَّه قد كتم عنَّا بعض الخير، وأنَّه ترك لهذه الأمة أشياء
وأعمال من الخير لم يدلها عليها ولم يبينها لها؛ أو أنَّ مَنْ بعده عَلِمَ خيراً لم
يعلمه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؛ وكفى بهذا إثماً وجرماً!!.
ثم لو كان خيراً هل تظنون أنَّ الصحابة يتركوه أو
يهملوه؛ وأنتم تبادرون إليه؟! لا والله؛ لو كان خيراً لسبقنا إليه الصحابة رضوان
الله عليهم أجمعين؛ قال ابن كثير في تفسيره
[4 /157]: ((وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كلِّ فعلٍ
وقولٍ لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هو بـدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا
إليه؛ لأنَّهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا بادروا إليها))، كيف لا وهم يحبون نبيهم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حباً
لا مثيل له؛ قال أبو سفيان – قبل إسلامه -: ((ما رأيتُ في الناس أحداً يحب أحداً
كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً)) أخرجه الطبري في تاريخه [2/79]، وابن كثير في
البداية والنهاية [4/65]، بل كيف لا وهم يُعظِّمون نبيهم صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم تعظيماً لا مثيل له؛ قال عروة بن مسعود الثقفي لما رجع إلى قريش بعد المفاوضة
على صلح الحديبية: ((والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي؛
والله إنْ رأيتُ ملكاً قط يعظِّمه أصحابُه ما يعظِّم أصحابُ محمدٍ محمداً)) رواه
البخاري؛ ومع هذا الحبِّ وهذا التعظيم لم يقيموا له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
احتفالاً بذكرى مولده؛ وما ذلك إلا لكونه بدعة في الدِّين، وتشريعاً لم يأذن به
ربّ السموات والأرضين؛ ورحم الله الإمام مالك حيث قال: ((لا يصلح آخر هذه الأمة
إلا بما صلح به أولها؛ فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً)).
الرابعـة: يقولون: نعم الاحتفال بدعة لم يفعلها النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
ولا الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ ولكنه بدعة حسنة؛ وقد قال النبي صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم: ((من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن
ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها
من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) ولا شكَّ أنَّ الاجتماع للذكر وتعليم الناس السيرة
النبوية والموعظة والنصح من السنن الحسنة، ثم أنَّ عمر رضي الله تعالى عنه قال في
صلاة التراويح التي أمر بها: ((نعمت
البدعة هذه)) فمن البدع ما هو محمود ومنه ما
هو مذموم؛ وإحياء ذكرى المولد النبوي من البدع المحمودة.
والجواب: أما الحديث الذي استدللتم به على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي فقصة
وروده توضح المراد منه؛ فعن جرير قال:
كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار
أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر؛ بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل، ثم خرج؛ فأمر بلالاً فأذن وأقام،
فصلى، ثم خطب فقال: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي
خلقكم من نفس واحدة)) إلى آخر الآية ((إنَّ الله كان عليكم رقيباً))، والآية التي في الحشر: ((اتقوا الله ولتنظر نفس
ما قدمت لغد)) تصدق رجل من ديناره، من
درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ((ولو بشق تمرة))، قال: فجاء
رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى
رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه
مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله
أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام
سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء))
رواه مسلم.
فالحديث في موضوع (الصدقة)؛ فلما تصدَّق رجل فرآه
الناس، حثهم على الصدقة، فتتابعوا على ذلك، فأحيا بذلك سنة التصدق؛ وهذه السنة
(الصدقة) لم تكن محدثة في الدين، بل قد أمر بها الله تعالى وأمر بها نبيه صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم في نصوص كثيرة، فالرجل الأول الذي تصدق وتتابع الناس من بعده
لم يبتدع أمراً لم يكن من دين الإسلام، وإنما أحيا سنة وجددها، فكان له من الأجر
مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً؛ فكيف تقيسون الاحتفال المبتَدع في
الدين على الصدقة التي هي من الدين؟!، ثم كيف تميِّزون السنة بين الحسنة والسيئة؟
لا شكَّ أنَّ المقياس في ذلك الشرع المبين لا هوى النفس وتزيين الشياطين!!.
أما قول عمر رضي الله تعالى عنه؛ فعن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: خرجت
مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون؛ يصلي الرجل
لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط؛ فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ
واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس
يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر رضي الله عنه: نعم البدعة هذه، والتي تنامون عنها
أفضل من التي تقومون، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله. رواه البخاري.
فأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أمر الناس أن يصلوا صلاة التراويح
في رمضان خلف إمام واحد؛ وهذا أمر قد شرعه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؛ فعن جبير بن
نفير عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صمنا مع رسول الله رمضان، فلم يقم بنا شيئاً من
الشهر، حتى بقي سَبْعٌ فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا،
فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شَطْرُ الليل، فقلت: يا رسول الله لو
نَـفَّـلتنا قيام هذه الليلة، فقال: ((إنَّ الرجل إذا
صلَّى مع الإمام حتى ينصرف حُسِبَ – في رواية: كُتِبَ - له قيام ليلة))،
فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا
حتى خشينا أن يفوتنا الفَلاح. قال – أي جبير - : قلت: ما الفلاح؟ قال – أي أبو ذر-
: السحور، ثم لم يقم بنا بقية الشهر. أخرجه أصحاب السنن وغيرهم.
فإذا علمنا هذا؛ فما
مراد عمر رضي الله تعالى عنه بقوله: ((نعم البدعة هذه))؛ نقول: لا بدَّ أن نعلم
أنَّ البدعة بدعتان؛ بدعة دينية وكلها ضلالة؛ كما قال النبي صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم: ((أما بعد؛ فإنَّ خير الحديث كتاب الله،
وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) رواه
مسلم، وبدعة لغوية: وهي كل ما أُحدِثَ على غير مثالٍ سابقٍ؛ كقوله تعالى: ((بديع السموات والأرض)) أي: منشؤها على غير مثال
سابق، وقوله تعالى على لسان نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ((ما كنتُ بدعاً من الرسل)) أي: لم أكن أول رسولٍ أُرسَل؛ بل
سبقني بذلك كلُّ رسلِ الله عليهم السلام؛ فقول عمر رضي الله تعالى عنه:
((نعم البدعة هذه)) يريد بذلك: البدعة اللغوية؛ ذلك لأنَّ جمع النَّاس في صلاة
التراويح خلف إمام واحد وإن كان معهوداً في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم؛ إلا أنَّ جمعهم على هذه الصورة في شهر كامل لم يُعهَد في زمنه صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم، وسبب ذلك خشية أن تفرض على الأمة، فعن عائشة رضي الله
عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس،
ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج
إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: ((قد
رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم))
وذلك في رمضان. رواه البخاري ومسلم، فلما مات صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
وانقطع الوحي زالت تلك الخشية؛ فأقام عمر ما أراد النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم إقامته لولا خشية الافتراض؛ فكيف تتهمون عمر رضي الله تعالى عنه بأنَّه قد
ابتدع بدعة في الدين؟، ولم تكتفوا بذلك؛ بل تخالفون حديث النبي صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم: ((وكل بدعة: ضلالة)) فتزعمون: أنَّ البدع الدينية منها ما هو
محمود ومنها ما هو مذموم، أو أنَّ هناك بدعة حسنة وبدعة سيئة!!، فانظر إلى الهوى
وتزيين الشاطين كيف يجر الإنسان من الضلالة إلى ما هو أضل؛ كما قال الإمام البربهاري رحمه الله تعالى في شرح السنة: ((واحذر صغار المحدثات؛ فإنَّ
صغار البدع تعود حتى تصير كباراً، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها
صغيراً يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع المخرج منها، فعظمت وصارت
ديناً يدان به)).
وخلاصة الكلام في هذا الموضوع:
أنَّ الاحتفال بهذا اليوم لا يجوز؛ لأنَّ النبي صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه لم يحتفلوا به، ولو كان الاحتفال أمراً مشروعاً
لبينه الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأمته؛ إما بالقول أو بالفعل، ولو وقع
شيء من ذلك لعُرِف وأشتهر ولنقله الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلينا، فقد نقلوا عن
نبيهم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كل شيء تحتاجه الأمة، ولم يُفرِّطوا في شيء
من الدين، بل هم السابقون إلى كل خير؛ فلو كان الاحتفال مشروعاً لكانوا أسبق الناس
إليه، والنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هو أنصح الناس للناس، وقد بلغ الرسالة
غاية البلاغ وأدَّى الأمانة؛ فلو كان تعظيم هذا اليوم والاحتفال به من دين الإسلام
لم يتركه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولم يكتمه، فلما لم يقع شيء من ذلك:
عُلِمَ أنَّ الاحتفال بهذا اليوم وتعظيمه ليس من الإسلام في شيء، والحمد لله رب
العالمين، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم أجمعين وأوَّل الشافعين، وعلى آله
وصحبه وتابعيه إلى يوم الدِّين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك
وكتبه
أبو معاذ رائد آل
طاهر
12- صفر - 1425 هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.