الثلاثاء، 12 فبراير 2013

تبصير كل ذي عينين بحقيقة المنهج المنشود في سلسلة حلقات "بين منهجين"[12]


مع حلقته الثانية عشر: (ضوابط الحكم على السلفي الذي وقع في خطأ عقدي)

ابتدأ الكاتب هذه الحلقة بأنَّ ((كل بني آدم خطَّاء، وكل ساع في نشر دين الله تعالى بلسانه أو بقلمه فلابد وأن يخطئ؛ إذا لا معصوم في مجال تبليغ دين الله إلا من عصمه الله سبحانه بالوحي والتسديد وهم الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم)).
ثم قال: ((ومَنْ لا يُعرف له خطأ من المخلوقين في مجال العلم والعمل والدعوة إلى الله؛ فما ذاك إلا لأنه ليس له عمل لهذا الدين؛ فالخطأ سجية بشرية لا يسلم منها أحد, وليس ثمة أحد معصوم في بعض جوانب الشرع دون غيرها؛ فالخطأ منّا واقع لا محالة سواء في العقيدة أو الفقه أو السلوك أو الدعوة ...إلخ.
ومن ذلك الخطأ في الاعتقاد الذي وقع فيه بعض أكابر علماء الملة, وما كان ذلك سبباً عند غيرهم لرميهم بأوصاف التجريح والطعن؛ فضلاً عن سلخهم عن معتقد أهل السنة والجماعة بالكلية وإلصاقهم بمعتقد أهل البدع والأهواء؛ كما نعاينه في واقعنا المعاصر اليوم, الذي ابتلي أهل السنة المحضة بأناس من بني جلدتهم أعملوا سكاكين تجريحهم في جلود إخوانهم يسلخونهم بها ظلماً وعدواناً عن المنهج السلفي النقي؛ ناسبين إياهم إلى فرق البدعة والضلالة إفكاً وبهتاناً؛ بسبب ما اعتبروه أخطاء عقدية وقعوا فيها؛ ناسبين هذا الصنيع إلى السلف جهلاً وبغياً))
قلتُ: هذه بداية غير موفقة للكاتب وفقه الله تعالى للسداد؛ فليس هناك مقارنة ولا مقاربة بين خطأ من "أحد المخلوقين" وبين خطأ من بعض "أكابر علماء الملة"!!، فأول كلام الكاتب عن عموم المخلوقين، ثم مثَّل بأكابر علماء الملة، وثمة فرق كبير بينهما في هذه المسألة؛ وقد تقدَّم في مسألة شروط الاجتهاد السائغ.
ثم دعوى أنه لو وجد واحد من أهل العلم ليس له خطأ في العقيدة والسلوك والفقه والدعوة فإنه يُذم؛ لأنه ليس له عمل لهذا الدين!، فيها تهوين ومسامحة لمن عمل لهذا الدين في أن يقع في الأخطاء في المجالات التي ذكرها الكاتب!، مع أنَّ الأصل الدعوة إلى الاستقامة والسداد في العلم والعمل والدعوة، وعند الغلط التوبة النصوح والرجوع إلى الحق وبيانه وعدم التمادي في الباطل بل والتحذير منه، لا أن نسوِّغ الوقوع بالأخطاء أو أن نسكت عنها بذريعة أنَّ الرجل يعمل لهذا الدين!!؛ وهذا هو الذي يريده أهل الأهواء.
مع علم الجميع؛ أنَّ الكاتب إنما أدخل موضوع (السلوك والفقه) حتى لا تُنتقد عبارته ولا يُطعن في جزمه، وإنما مقصوده هو الخطأ في العقيدة، ولهذا ذكر الكاتب غفر الله تعالى له نقلاً مطولاً عن شيخ الإسلام ثم عن غيره من أهل العلم يُبين فيه وقوع كبار علماء الأمة ببعض الأخطاء العقدية.
ثم قال: ((فهذه أمثلة على بعض الهنات التي وقعت لأئمة الدعوة السلفية المتقدمين في بعض مسائل الاعتقاد، وقعت لهم, ووقع لمن جاء بعدهم غيرها؛ لكن تعامل أهل العلم معها بأصلي "العلم بالحق, والرحمة للخلق", وذلك من خلال اعتبارهم لجملة من الأصول والضوابط؛ حالت بمجموعها دون الطعن بمن أخطأ منهم؛ فضلاً عن تبديعه وتسقيطه)).
 قلتُ: لاحظ قيد "أئمة الدعوة السلفية"، وهل بينه وبين أوصاف المجروحين اليوم وهم: "دعاة.. مشايخ.. طلبة علم" فرق؟! لاشك أنَّ بينما فرق، وفرق كبير بين الرجل الجليل الذي له مكانته عند أهل السنة وله مساع كبير وأثر ملحوظ في نشر السنة وقمع البدعة، وبين شيخ واعظ أو طالب علم أو خطيب أو داعية؛ فيُغتفر للأول ما لا يُغتفر للثاني.
ثم ذكر الكاتب الضوابط التي تحول دون الطعن بمن وقع في خطأ عقدي أو تبديعه:
الأول: وهو التثبت في نسبة القول له.
الثاني: حمل مجمل كلامه على المبين أو المفصل، فلا بد من جمع أقواله في المسألة قبل الحكم عليه.
قلتُ: هذا الضابطان قد تقدَّم الكلام عنهما.
الثالث: ((وعلى فرض وقوع الخطأ والانحراف؛ فلابد من ضرورة معرفة نوع المسائل التي وقع فيها الخطأ, ومعرفة موقعها بالنسبة لعموم مسائل الشريعة؛ وهل هي من ظاهر المسائل وجليها والاعتقاد أم من دقيقها وخفيها؟ وهل الخلاف فيها لفظي أم حقيقي؟ وهل هي من متضمنات القول أو من لوازمه؟))
الرابع: ((المتعين في هذا الباب وأمثاله مما ظاهره تخطئة بعض "أفاضل المسلمين" هو حسن الظن بهم، وتحميل كلامهم على أحسن محامله؛ وإن ترجح خطؤهم في قولهم فيرد عليه مع التماس الأعذار لهم, لا أن يحكم عليهم مباشرة بالانحراف والخروج عن دائرة أهل السنة والجماعة)).
قلتُ: نهانا الله عزَّ وجل عن إتباع الظن، وكذلك نهانا نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ الله عزَّ وجل لم يجعل كل الظن إثم ولا نهانا عن إتباعه كله، وهذا لأنَّ من الظن ما لا حرج فيه ولا بأس، قال الإمام القرطبي في تفسيره: ((وأكثر العلماء على: أنَّ الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبح!؛ قاله الماوردي))
وقال الشيخ ابن عثيمين في تفسيره [7/ 32-33]: ((وهنا يقول عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن"، الظن: هو أن يكون لدى الإنسان احتمالان يترجح أحدهما على الآخر، وهنا عبر الله تعالى بقوله: "كثيراً من الظن" ولم يقل: اجتنبوا الظن كله، لأنَّ الظن ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ظن خير بالإنسان؛ وهذا مطلوب أن تظن بإخوانك خيراً ماداموا أهلاً لذلك، وهو المسلم الذي ظاهره العدالة، فإنَّ هذا يُظن به خيراً، ويُثنى عليه بما ظهر لنا من إسلامه وأعماله.
القسم الثاني: ظن السوء؛ وهذا يحرم بالنسبة لمسلم ظاهره العدالة، فإنه لا يحل أن يظن به ظن السوء، كما صرح بذلك العلماء، فقالوا رحمهم الله: يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة.
أما ظن السوء بمن قامت القرينة على أنه أهل لذلك؛ فهذا لا حرج على الإنسان أن يظن السوء به، ولهذا من الأمثال المضروبة السائرة: "احترسوا من الناس بسوء الظن"، ولكن هذا ليس على إطلاقه كما هو معلوم، وإنما المراد: احترسوا من الناس الذين هم أهل لظن السوء فلا تثقوا بهم.
والإنسان لابد أن يقع في قلبه شيء من الظن بأحد من الناس لقرائن تحتف بذلك؛ إما لظهور علامة في وجهه، بحيث يظهر من وجهه العبوس والكراهية في مقابلتك وما أشبه ذلك، أو من أحواله التي يعرفها الإنسان منه، أو من أقواله التي تصدر منه فيظن به ظن السوء، فهذه إذا قامت القرينة على وجوده فلا حرج على الإنسان أن يظن به ظن السوء.
فإذا قال قائل: أيهما أكثر الظن المنهي عنه أم الظن المباح؟!
قلنا: الظن المباح أكثر؛ لأنه يشمل نوعاً كاملاً من أنواع الظن، وهو ظن الخير، ويشمل كثيراً من ظن السوء الذي قامت القرينة على وجوده؛ لأنه إذا لم يكن هناك قرينة تدل على هذا الظن السيء، فإنه لا يجوز للإنسان أن يتصف بهذا الظن، ولهذا قال: "كثيراً من الظن" ولم يقل: أكثر الظن، ولا كل الظن، بل قال: "كثيراً من الظن"، ثم قال: "إنَّ بعض الظن إثم" وقد توحي هذه الجملة أنَّ أكثر الظن ليس بإثم، وهو منطبق تماماً على ما بيناه وقسمناه، أنَّ الظن نوعان: ظن خير، وظن سوء، ثم ظن السوء لا يجوز إلا إذا قامت القرينة على وجوده، ولهذا قال: "إنَّ بعض الظن إثم" فما هو الظن الذي ليس بإثم؟ نقول: هو ظن الخير، وظن السوء الذي قامت عليه القرينة؛ هذا ليس بإثم، لأنَّ ظن الخير هو الأصل، وظن السوء الذي قامت عليه القرينة هذا أيضاً أيدته القرينة)).
قلت: ومقولة " احترسوا من الناس بسوء الظن" صحت من قول الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى ولا تصح مرفوعة ولا موقوفة عن عمر؛ كما في السلسلة الضعيفة للألباني.
وهذا موافق لما أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((إنَّ أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّ الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم: فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإنْ قال إنَّ سريرته حسنة))
ولما قيل لابن مسعود رضي الله عنه: هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً؟ فقال: ((إنا نهينا عن التجسس، فإنْ يظهر لنا شيء نأخذه به)).
من هذا يتبين لنا أنَّ الأخذ بالقرائن الظاهرة التي تدل على السوء ليس من الظن السيء، وأنَّ المسلم ينبغي أن يكون فطناً ذا بصيرة وفراسة لا ينخدع بأهل السوء بذريعة حسن الظن، أما أهل الخير والصلاح والاستقامة فهؤلاء يحرم أن نسيء بهم الظن، لكن مَنْ ظهرت منه قرائن تدل على سوئه وانحرافه وزيغه إما من أحواله التي يعرفها الناس الثقات عنه، أو من أقواله الصريحة التي تصدر منه فهذا لا حرج في إساءة الظن به؛ بل هو المتعيَّن. 
الخامس: ((وعلى فرض ثبوت الخطأ, وأنَّ من أخطأ في قول لم يكن محتملاً للصواب مطلقاً؛ فلا بد من ضرورة التفريق بين الخطأ في أصل كلي والخطأ في بعض فروعه؛ فلا يحكم على مَنْ أخطأ في بعض الفروع العقدية مثلاً مع سلامة أصوله فيها بأنه منحرف في أصله)).
وقال في أثناء هذا الضابط: ((مع التنبيه إلى: أنَّ كثرة الأخطاء في الجزئيات الفرعية في باب الحكم على المعينين بدعوى الاجتهاد السائغ قد تؤول أو تدل عل وجود انحراف في أصل هذا الموضوع الذي تكرر الخطأ منه في فروعه)).
قلتُ: ولماذا التخصيص بـ(باب الحكم على المعينين)، مع أنَّ الأمر عام؟!!
وبخاصة أنَّ كلام الشاطبي الذي نقلته عنه عام حيث قال: ((ويجرى مجرى القاعدة الكلية: كثرة الجزئيات؛ فإنَّ المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً)).
السادس: ((وعلى فرض ثبوت وقوع الانحراف الحقيقي في الجانب العقدي؛ فلا بد أن يعلم أنَّ التحريف والانحراف في الجانب العقدي ليس على مرتبة واحدة بل هو على مراتب، فمن الخطأ البين أن يعامل الجميع معاملة واحدة؛ على اختلاف مقالاتهم أو أحوالهم)).
قلتُ: ليس الموضوع ((معاملة المخالف))!، وإنما ((الحكم على المخالف))، ولاشك أنَّ المخالفين للحق مراتب.
السابع: ((وليس كل من وقع في انحراف عقدي قالت به طائفة من فرق الضلال صحت نسبته إليها؛ بل لا ينسب إليها إلا إنْ قال بما امتازت به عن غيرها, وأما إن كان قد قال بما تقوله هي وغيرها فلا يصح أن ينسب لا إليها, ولا إلى غيرها))، أما ((من قال بكل ما امتازت به الطائفة نسب إليها مطلقاً))، ((وأما مَنْ خالف بعض فرق أهل الضلال فيما كان من خصائصهم لم تصح نسبته إليهم بإطلاق, بل يقال: هو منهم فيما وافقهم فيه مما اختص بهم, وليس منهم فيما خالفهم فيه مما امتازت به عن غيرهم)).
قلتُ: الكاتب هداه الله تعالى مرة ينسب المنحرف إذا وقع في مخالفة امتازت بها طائفة معينة عن غيرها من الطوائف إلى تلك الطائفة، ومرة لا ينسبه إلا إذا وافقها بكل ما امتازت بها؛ وبينهما فرق شاسع!!
فالأول حق.
وأما الثاني؛ فكيف لا يُنسب المخالف إلى فرقة من فرق الضلال إلا إذا وافقهم في كل ما امتازت به؟!
على هذا التأصيل لا يُنسب أحد ولو قال بأغلب أصول المعتزلة حتى يوافقهم في جميع أصولهم!!، ولا يُنسب إلى الخوارج حتى يوافقهم في جميع أصولهم!!، ولا إلى المرجئة حتى يوافقهم في جميع أصولهم!!، ولا إلى القطبية حتى يوافقهم في جميع أصولهم!!، ولا إلى واحدة من الفرق والأحزاب حتى يوافقهم في جميع أصولهم!!.
هذا أمر يندر وقوعه!!
والعجيب أنَّ الكاتب نقل عن شيخ الإسلام أنه قال: ((هذه المسألة هي أخص بمذهب الأشعري، يكون الرجل بها مختصاً بكونه أشعرياً))، فبمسألة واحدة -وهي إثبات الكلام النفسي لله عز وجل بلا صوت ولا حرف- من خصائص مذهب الأشعري جعل شيخ الإسلام أبا إسحاق أشعرياً، لكن الكاتب بعد هذا النقل نقضه بقوله: ((فمن قال بكل ما امتازت به الطائفة نسب إليها مطلقاً))، واستدل بكلام للشيخ محمد أمان الجامي، على طريقته في تتبع رخص العلماء والتلفيق بين أقوالهم، مع أنَّ الشيخ الجامي نقل ذلك عن زعماء المعتزلة وليس من قوله!!؛ حيث قال كما نقله الكاتب!!: ((لما تكونت المعتزلة بالطريقة التي ذكرناها، وضعوا لهم أصولاً خمسة امتازوا بها من بين الناس وعرفوا بها، ودعوا إليها بكل جرأة وهي: التوحيد, المنزلة بين المنزلتين, العدل, الوعد والوعيد, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ هذه الأصول الخمسة يتفق عليها جميع طوائف المعتزلة على اختلاف بينهم، بل لا يعتبر معتزلياً مَنْ لم يؤمن بها على تفسيرهم الفلسفي!، ولو ادَّعى أنه منهم؛ يقول الخياط وهو أحد زعمائهم في القرن الثالث: "وليس يستحق أحد اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة، فإذا اكتملت فيه هذه الخصال فهو معتزلي"))، فالكلام في مَنْ يستحق اسم الاعتزال في نظر زعماء المعتزلة، لا في نظر الشيخ الجامي رحمه الله تعالى!!.
ثم أقول للكاتب: إذا لم يوافق الرجل كل خصائص الطائفة ولا في واحدة منها لكنه خالف منهج السلف في أصول المسائل؛ هل يتميز هذا باسم معيَّن؟ أم يبقى على اسم السلفية؟! نريد جواباً صريحاً.
الذي يظهر من كلامه أنه لا يميزه باسم معيَّن، وإنما يقول فيه: هو سلفي لكنه خالف منهج السلف في كذا وكذا وهي من أصول المسائل لا من فروعها أو جزئياتها!!؛ أليس في هذا المنهج الواسع تغرير وتلبيس؟! بل هو خلاف البيان الذي أمرنا الله تعالى به في قوله: ((وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)).
وأما التمثيل بالحافظين النووي وابن حجر رحمهما الله تعالى، ثم توسيع العبارة وتعميم القول على غيرهما كما صنع الكاتب فهو غلط فاحش!؛ فإنهما معروفان بإتباع منهج السلف الصالح ونشره والدعوة إليه، ولكنهما وقعا عن اجتهاد في تأويل بعض الصفات، ولم يُعرف قيام الحجة عليهما وإصرارهما على الباطل والضلال، وبيان ما في كلامهما من ضلال واجب، لكن كيف يُقارن بهما مَنْ لم يبلغ مرتبتهما في العلم ونشره ولم يسلك مسلكهما في تحري الحق وقصده؟ بل كيف يُلحق بهما مَنْ قامت عليه الحجة وأصرَّ على ضلاله؟! 
ثم قال الكاتب في آخر هذا الضابط: ((فلا يخرج من السلفية الخروج المطلق مَنْ وقع بقليل من الأخطاء العقدية المغتفرة إلى جانب كثير حسناته وإصابته لمعتقد السلف؛ بل يخشى أن يكون من أخرجه منها هو الخارج عن السلفية في هذا الباب لمفارقته طريقة السلف في الحكم على الرجال))
قلتُ: أليس من الغريب أن تتقبل خروج الرجل من السلفية بسبب أنه فارق طريقتهم في "الحكم على الرجال" في تبديع بعض الرجال!، ثم لا تخشى من خروج الرجل من السلفية ولو وقع بجملة من الأخطاء العقدية؟!.
والكاتب غفر الله تعالى له قد عرَّض في الضابط الخامس كما تقدَّم وفي هذا الضابط بـ"من يحكم على الرجال"؛ بل صرَّح، وأنه يخشى عليه الخروج من السلفية أو قد يؤول أمره إلى مفارقتهم إذا كثر خطؤه في الحكم على المعينين ولو كان عن اجتهاد سائغ!، بينما نراه يدافع بقوة عن الذين يقعون في جملة من الأخطاء العقدية لمجرد أنهم أصابوا من حيث الأصل معتقد السلف، فهلا دافع عن الأولين بنفس العذر؟!
ولماذا هذا التعريض المتكرر بـ"الذين يحكمون على الرجال" دون مَنْ سواهم؟! هل وراءه شيء مقصود؟
الثامن: ((ضرورة الموازنة بين المصالح والمفاسد في نقد المعين من أعلام السنة, ورموز الدعوة، ومراعاة نوع الخطأ وحجمه ومجاله، وعواقب الأمور ومآلات الأحكام؛ فقد يسكت عن نقد المعين من أهل العلم والفضل مع قيام ما يوجب النقد في حقه)).
قلتُ: الموازنة هذه في نقد "أعلام السنة ورموز الدعوة" مثل الصنعاني والشوكاني وصديق حسن خان كما مثَّل الكاتب!، لا في نقد "شيخ" أو "داعية" أو "طالب علم" أو "خطيب" أو "واعظ"، كما يريد منه أصحاب المنهج الأوسع!!، وإلا لوجبت الموزانة في حق سفر الحوالي وسلمان العودة وعائض القرني ومحمد إبراهيم شقرة ومراد شكري وغيرهم!، ولا يرضى الكاتب نفسه ذلك.
ثم أقول:
مَنْ تأمَّل هذه الضوابط الثمانية التي تمنع الطعن والتبديع للمخالف في مسائل الاعتقاد حتى تتحقق كلها كما زعم الكاتب، يجد أنها أشبه بالمحالات التي تحيل مطلقاً عن إجراء أحكام التبديع والتصنيف على مستحقيها!!.
ثم إنَّ إعذار مَنْ وقع في خطأ عقدي فضلاً عن أخطاء عقدية ليس على إطلاقه كما هو ظاهر كلام الكاتب؛ بل قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى المجموع [42/ 172]: ((وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، نعم مَنْ خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع؛ فعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة في أنَّ محمداً رأى ربه، وقالت: مَنْ زعم أنَّ محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية، وجمهور الأمة على قول ابن عباس؛ مع أنهم لا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين رضي الله عنها)).
وكذلك تعميم القول هذا على كل مَنْ وقع في خطأ اعتقادي بذريعة الاجتهاد غير مقبول قطعاً، بل مَن قصد الحق من أهل العلم وتحرى سبيله وبذل وسعه في طلبه ثم أخطأه فهو معذور، أما مَنْ سواه فلا يُعذر، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 29/ 43-45]: ((وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء مع وجود الاختلاف في قولِ كلٍّ منهما:
أنَّ "العالم" فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله وإنْ لم يكن مطابقاً؛ لكن اعتقاداً ليس بيقيني؛ كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل وإنْ كانا في الباطن قد أخطأ أو كذبا، وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط أو بإتباع الظاهر فيعتقد ما دل عليه ذلك وإنْ لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقاً، فالاعتقاد الذي يغلب على الظن هو المأمور به العباد وإنْ كان قد يكون غير مطابق، ولم يؤمروا في الباطن باعتقاد غير مطابق قط. فإذا اعتقد العالم اعتقادين متضادين في قضية أو قضيتين مع قصده الحق وإتباعه لما أمرنا بإتباعه من الكتاب والحكمة عُذر بما لم يعلمه، وهو الخطأ المرفوع عنا.
بخلاف "أصحاب الأهواء" فإنهم إنْ يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزماً لا يقبل النقيض مع عدم العلم بجزمه؛ فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطناً ولا ظاهراً، ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهاداً لم يؤمروا به، فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه؛ فكانوا ظالمين شبيهاً بالمغضوب عليهم أو جاهلين شبيهاً بالضالين.
والمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق وقد سلك طريقه.
وأما متبع الهوى المحض فهو مَنْ يعلم الحق ويعاند عنه.
وثم قسم آخر؛ وهو غالب الناس!: وهو أن يكون له هوى فيه شبهة فتجتمع الشهوة والشبهة، ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات". فالمجتهد المحض مغفور له ومأجور، وصاحب الهوى المحض مستوجب العذاب، وأما المجتهد الاجتهاد المركب من شبهة وهوى فهو مسيء، وهم في ذلك على درجات بحسب ما يغلب، وبحسب الحسنات الماحية، وأكثر المتأخرين من المنتسبين إلى فقه أو تصوف مبتلون بذلك))
ثم لا بد من ملاحظة التفريق بين من أخطأ وأصرَّ على خطئه بعد بيان الحق له، وبين مَنْ لم يُنبَّه على خطئه أو لم يُعرف هل بان له الحق وأعرض عنه أم لا؟ مع معرفتنا بأنَّ عادة الثاني أنه يتحرى الحق بسبيله ويقصده ويجتهد في تحصيله، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى [المجموع 4/ 195]: ((ويلحق الذم: مَن تبين له الحق فتركه، أو قصَّر في طلبه فلم يتبين له، أو أعرض عن طلبه لهوى أو كسل ونحو ذلك)).
ولهذا من الأخطاء الشائعة اليوم؛ أنَّ البعض يدافع عمَّنْ وقع في انحراف عقدي لا بالدليل العلمي والحجة البينة، كلا، وإنما بكون أنَّ العالم الفلاني قد قال بنفس مقالته أو قد وافقه في موقفه!، ثم يقولون: لماذا لا تحكمون على العالم الفلاني بنفس الحكم على ذلك الشيخ أو الداعية الذي وقع في الانحراف العقدي أم أنكم تكيلون بمكيالين؟!

وهؤلاء هم أصحاب منهج تتبع رخص العلماء، وهم يجهلون أو يتجاهلون الفرق المشار إليه آنفاً.


يتبعه الحلقـــ (13) ــة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.