الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على
نهجه واقتفى أثر سنته إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإنَّ
مما لا يخفى على الجميع أنَّ في أوقات الفتن المضطجع خير من القاعد، والقاعد خير من القائم،
والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، وأنَّ تجنُّب مواطن الفتن خير من
الاستشراف لها، وأنَّ إمساك اللسان من الكلام والأقلام من الجريان فيها مع
الانشغال بإصلاح النفس وتزكيتها بالعلم والعمل مطلب محمود؛ لأنَّ فيه السلامة
والعافية من الفتن، أخرج الإمام ابن حبان في روضة العقلاء عن كعب قال: ((العافية
عشرة أجزاء؛ تسعة منها في السكوت)).
لكن
يظهر أنَّ كثيراً ممن لا يُعرف إلا في أوقات الفتن ولا ينشط إلا في إثارتها
وتأجيجها يأبى إلا الخوض في الفتنة، فنراهم يتصدَّون لها ويتصدَّرون الكلام في أمر
العامة وليس هم ممن يُميز بين الغثِّ والسمين، ولا ممن رسخت قدمه في العلم، بل
وأكثرهم جهول متعالم لا يُحسن إلا ترديد العبارات التي تلقَّنها من غيره، ولا
يُحسن إلا التشويش، والقيل والقال، والظن والخرص، واللغط، والبذاءة، والفحش، وليس هو
ممن له وزن، ولا يُلتفت لتهويشه لولا تمسحه بغيره الذي جعل البعض يغتر به وينظر
إليه.
والبعض
منهم لم يقف عند الخوض في مسائل لا يعرف أصولها فضلاً عن دقائقها؛ وإنما زاد الأمر
سوءاً والفتنة ناراً حتى صار ينقل ما يدور من خلاف ونقاش قد ينتاب أحد المختلفين
فيه ما ينتاب البشر من الخطأ أو الغفلة أو الإغلاق أو العجلة من أرض الواقع إلى
شبكات الإنترنت والمنتديات والمواقع حرفاً بحرف إنْ كان في نقله أميناً!!، أو قد
يزيد ويزيد إنْ كان كذَّاباً مشيناً!!!، حتى وصل الأمر أخيراً إلى إفشاء الأسرار
ونشر المجالس الخاصة؛ بل والأمور الشخصية المحضة التي سارَّه بها صاحبه أو أخوه في
الله، وعلى رؤوس الخلائق بلا ورع ولا تقوى، وقد قال القائل:
إذا مـا المرءُ أخطـأه ثلاثٌ فبعه ولو بكفٍّ مِن رمـادِ
سلامة صدره والصدق منـه
وطبيب ذاك العالم الربانـي
وقد
يكون في إفشاء ذلك نوع من النميمة أو صورة من إشاعة الفتنة أو خطورة أمنية على
المذكورين علناً واسماً ومحلاً!!؛ لكن لا يبالي أولئك لأنَّ شدة الغيظ والحقد
والضغائن وحب الانتقام قد تشرَّبت في سويداء قلوبهم حتى اسودَّت فلا يبصرون ما
يُبصره العقلاء؛ نقل الإمام ابن حبان في روضة العقلاء عن أمير المؤمنين في الحديث شعبة رحمه
الله تعالى قوله: ((مِن الناس مَنْ عقله بفنائه، ومنهم مَنْ عقله معه، ومنهم مَنْ لا
عقل له؛ فأما الذي عقله معه فالذي يبصر ما يخرج منه قبل أن يتكلم، وأما الذي عقله بفنائه
فالذي يبصر ما يخرج بعد أن يتكلم، ومنهم مَنْ لا عقل له)).
فمتى يُبصر مَنْ لا عقل له ويكف عن نشر الأسرار والمجالس التي أؤتمن عليها؟!!
والبعض
من مثيري الفتن نساءٌ متعالِمات تخوض فيما يسكت عنه الرجال الكُمَّل، وتخاصم
وتجادل بلا بينة ولا تبيين، مع فحش اللسان والتعدي البيِّن على الرجال، وليس هذا
من الأدب والحياء في شيء فضلاً أن يكون ردَّاً أو نقداً أو وقفات؛ ولا أدري هل
أذِن لها زوجها أم أذِن لها ورضي لنفسه بالسكوت؟! وهذا غريب، لكن لا غرابة فيما
نرى لأنها السنون الخدَّاعات!!
والبعض يعيب على غيره في أشياء قد وقع هو في
أشدِّ منها أو مثلها، أو قد يعيب في أشياء يظنها عيباً وليست كذلك إلا في نظره
المصاب بالعور أو العمى، وأحسن مَنْ قال:
إذا أنت عبتَ الناسَ عابوا وأكثروا
وقد قال في بعض الأقاويل قائلٌ إذا ما ذكرت الناس فاترك عيوبهم فإنْ عِبت قوماً بالذي ليـس فيهم وإنْ عبت قوماً بالذي فيـك مثله وكيف يعيب الناس مَنْ عيبُ نفسه متى تلتمس للناس عيباً تجد لهـم فسَالمِهُمُ بالكـفِّ عنهـم فإنـهم |
عليك وأبدوا منك ما كان يسترُ
له منطـقٌ فيـه كــلامٌ محبَّـرُ فلا عيـب إلا دون ما منك يُذكرُ فـذلك عند الله والنـاس أكبرُ فكيف يعيب العُوَّرَ مَنْ هو أعورُ أشـدُّ إذا عـدَّ العيوب وأنكرُ عيوباً؛ ولكـنَّ الذي فيك أكثـرُ بعيبك مِن عينيك أهدى وأبصرُ |
وقيل في المثل المشهور: [مَنْ كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجارة]
فيا ..... حَصِّن بيتك، واحذر أن تُرمى بأقوى وأكثر مما
رميت، واحذر أن يُخرج مخالفوك عيوبك وهي أكثر وأعظم!!.
وأخيراً:
أطلب مِن عقلاء الناس أن يتدخلوا في إنهاء فوضى إفشاء
الأسرار التي هي على قدم وساق اليوم، لئلا يصل الأمر إلى ما لا يُحمد عقباه، ثم أن
يُدعى الجميع إلى الكلام بعلم أو السكوت بحلم، وإلا فالمنع من الكتابة هو الحزم
الحزم فدونكم ذلك يا أولي العزم.
ولا أنسى أن أذِّكر إخواني بالحذر من بطانة السوء، ولا
غرابة أن تكون لطالب العلم بطانتان؛ بطانة خير وبطانة سوء، لأنَّ هذا الأمر لم ينج
منه الأنبياء فضلاً عن غيرهم فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعث الله من نبي ولا
استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان؛ بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره
بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالى))، لكـن من المعيب أن
لا يميز طالب العلم بين البطانتين، وأعيب من ذلك أن يصغي إلى بطانة السوء ويُعرض
عن بطانة الخير، فكم من طالب علم يبني أحكامه على تصورات ونقول بطانة السوء بل
ويستشيرهم ويتوجه بأمرهم، بينما نجده لا يلتفت إلى الصادقين الناصحين ويظن بهم
سوءاً ويعاديهم!!
ولا أُريد أن أُطيل في الكلام ولا أن أفصح أكثر فينهض
الناقدون وينزعج الناصحون؛ وأحسن مَنْ قال:
ولن يهلك الإنسانُ إلا إذا أتى
وأقلِلْ إذا ما قلتَ قولاً فإنـه |
مِن الأمر ما لم يرضه نُصحاؤه
إذا قلَّ قولُ المرء قَـلَّ خُطَّاؤه |
لكن
رأيتُ أنَّ الكلام في حينه مطلوب من غير حشو أو إطالة؛ لعلَّ الغافل يستيقظ ويتذكر،
ويتوب ويتبصَّر:
لا خَيرَ في حَشوِ الكَلامِ
وَالصَمتُ أَجمَلُ بِالفَتى |
إِذا اِهتَدَيتَ إِلى عُيونِهِ
مِن مَنطِقٍ في غَيرِ حينِهِ |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.