جني الثمار من مناظرة لطيفة مع الشيخ الألباني في
تحديد وقت الإفطار
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه
إلى يوم الدين؛ وبعد:
فمن المعلوم أنَّ
تعجيل الإفطار وتأخير السحور من هدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهدي أصحابه
رضوان الله عليهم أجمعين، بل هو من هدي الأنبياء عليهم السلام من قبل، وهو علامة
تدل على أنَّ الخير لا يزال في الناس وأنَّ الدين لا يزال ظاهراً؛ فعن سهل بن سعد
رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا
الفطر)) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((لا يزال الدين ظاهراً:
ما عجل الناس الفطر؛ لأنَّ اليهود والنصارى يؤخِّرون)) رواه أبو داود وابن خزيمة
وابن حبان، وعن أم حكيم رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه
وسلم: ((عجلوا الإفطار وأخروا السحور)) رواه الطبراني وصححه الألباني، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
((ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في
الصلاة)) كذلك رواه الطبراني وصححه الألباني، وعن عمرو بن ميمون
قال: ((كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعجل الناس إفطاراً وأبطأهم سحوراً)) رواه
البيهقي، وعن أبي عطية قال قلت لعائشة: فينا رجلان من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أحدهما: يعجل الإفطار ويؤخر السحور، والآخر يؤخر
الإفطار ويعجل السحور؟ قالت: أيُّهما الذي يعجل الإفطار ويؤخر السحور؟ قلت: عبد
الله بن مسعود؛ قالت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. أخرجه النسائي
وصححه الألباني.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فكان ينبغي على الناس أن يقتدوا بنبيِّهم صلى الله
تعالى عليه وسلم وبأنبياء الله عليهم السلام وبأصحابه الكرام؛ فهم القوم الذين لا
يشقى بهم جليسهم، ولا ينبغي أن يقتدي المرء إلا بهم، لا أن يتشبَّه باليهود والنصارى
الذين كانوا يؤخِّرون الإفطار، ومع هذا فالملاحظ في أحوال كثير من الصائمين أنَّهم
يؤخِّرون الإفطار ويُعجِّلون السحور، وهذا يدل على قلة أهل الخير وضعف الدين.
ومن المعلوم أنَّ الوقت الأول لصلاة المغرب هو حين يغرب قرص الشمس
تماماً كما ورد ذلك في حديث "إمامة جبريل عليه السلام": ((ثم صلَّى
المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم))، وفي حديث بريدة رضي الله عنه: ((ثم أمره
فأقام المغرب حين غابت الشمس))، وعند البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال:
"كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب إذا توارت بالحجاب"، ورواه
مسلم: "كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب".
قال الحافظ رحمه الله تعالى [الفتح 2/ 43]: ((فدلَّ على
أنَّ الاختصار في المتن من شيخ البخاري)).
قلتُ: رواية مسلم مُفسَّرة بخلاف رواية البخاري؛ قال النووي رحمه الله
تعالى [شرح صحيح مسلم 5 /135]: ((اللفظان – يقصد: [غربت الشمس] و[توارت
بالحجاب] - بمعنى، وأحدهما تفسير للآخر)).
وقال الحافظ [الفتح 2 /42]: ((وفيه دليل على:
أنَّ سقوط قرص الشمس يدخل به وقت المغرب؛ ولا يخفى أنَّ محله: ما إذا كان لا يحول
بين رؤيتها غاربة، وبين الرائي حائل، والله أعلم)).
قلتُ: والغاربة كلُّ شيء يواري أو يستر الشمس
ويحول دون رؤيتها؛ من غيم أو غبار أو ظلام، وأما الحائل فما يحول بين الرائي
وبينها؛ من جبال أو عمران أو أشجار.
قلتُ: أما الشرط الأول الذي اشترطه ابن حجر ((إذا
كان لا يحول بين رؤيتها غاربة)) فممكن وقد وقع فعلاً في عصر التنزيل وذلك فيما
أخرجه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: ((أفطرنا على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس))، وأما أن يحول بينها وبين الرائي حائل
فهذا محل نظر.
وللشيخ الألباني رحمه
الله تعالى رأي يُخالِف فيه الحافظ في هذا، وذلك في
مناظرة صوتية كانت بينه وبين رجل يُدعى أبو أحمد في بيت استضاف أهلُه الشيخَ رحمه
الله تعالى، وجرت المناظرة قبيل وقت الإفطار [سلسلة الهدى والنور/ شريط رقم (317)]
وإليك هذه المناظرة بطولِها:
[الشيخ الألباني: بهذه المناسبة؛ أنتم
هنا ترون غروب الشمس، وشروق الشمس، وطلوع الفجر، وإلا لا؟
أبو أحمد:
اليوم غَمام أولاً.
الشيخ:
دعنا والغَمام.
أبو أحمد:
لا نستطيع.
الشيخ:
لِمَ؟
أبو أحمد:
المنطقة الغربية مُدن وليست منطقة مفتوحة؛ حتى نرى الجهة الغربية واضحة، وهنا جبل
يَحجب عنَّا الشمس قبل غروبها، الجبل الغربي هذا، فلا نراها.
الشيخ:
الجبل الغربي يحجب الشمس؟!
أبو أحمد:
قبل أن تغرب؛ فما نستطيع أن نتحقق هل غربت أم لا؟
الشيخ:
هذه مشكلة!!، وما الذي لا يَحجب؟!
أبو أحمد:
الأفق البعيد.
الشيخ:
ما هو الأفق؟!
سكت أبو
أحمد؛ فتكلَّم أحد الجالسين: البنايات هنا تحجب رؤية مغيب
الشمس.
الشيخ:
أنت كلامُك غير كلامه؛ مع أنَّ الجواب واحد، كل ما هناك من فرق أنه: يوجد حاجب
طبيعي إلهي، ويوجد حاجب صناعي.
أبو أحمد ممازحاً:
هذا أطول الحاجبين إنْ شاء الله تعالى.
الشيخ:
كيــف؟
أبو أحمد:
الحاجب الأصلي، يعني: كثير من الناس يعتبرون الإفطار قبل أذان المغرب فتنة وبدعة،
هم يرون هذا ونحن لا نرى هذا إنْ شاء الله تعالى.
مداخلة من أحد الجالسين:
هذا سؤال طيب.
وواصل أبو أحمد كلامه:
لكن من باب سد باب فتنة؛ وخصوصاً الأخوة وما فيهم يكفيهم، نبقى ونفطر مع الأذان،
وإذا واحد لوحده فأنا عن نفسي إذا رأيتُ مغيب الشمس أفطرُ والحمد لله رب العالمين
حتى لو كان قبل المغرب بوقت، أما مع الناس فأنتظر حتى لا نقع في.
قاطعه الشيخ فقال:
لا، ليس هذا هو المقصود!!، المقصود قبل كل شيء معرفة الحكم الشرعي، ثانياً طريقة
الدعوة إلى هذا الحكم الشرعي، فهناك غاية وهناك وسيلة، فيجب أن نفرِّق بين الغاية
وبين الوسيلة. فأنت جوابك – يقصد الشيخ: في أول الكلام – لم يكن من باب الوسيلة
وإنما من باب الغاية، فأنت في عقر دارك تقول: الجبل يحجب!!، فمتى تُفطر أنت؟!
أبو أحمد:
أوَّل ما أسمع الأذان.
الشيخ:
متى يؤذِّن المؤذِّن بارك الله فيكم؟ نحن في الحقيقة في دوامة ضائعة؛ المؤذِّن متى
يؤذِّن؟
أبو أحمد:
بعد غروب الشمس بمدَّة قد تصل إلى خمس دقائق.
الشيخ:
الله يهديك يا أبو أحمد؛ المؤذِّن يؤذِّن على التوقيت الشرعي وإلا التوقيت
الفلكي؟!
أبو أحمد:
على التوقيت الفلكي.
الشيخ:
هل هذا هو الشرع؟
أبو أحمد:
ليس هو الشرع.
الشيخ:
إذن نبقى مع الشرع؛ وسؤالي آنفاً كان شرعياً، متى يؤذِّن المؤذِّن لصلاة المغرب؟
أبو أحمد:
على التوقيت الفلكي.
الشيخ:
هل نيستَ ما قلناه الآن؟!
ثم أعاد الشيخ السؤال بصيغة أكثر
وضوحاً: متى ينبغي أن يؤذِّن المؤذِّن على التوقيت الشرعي؟
أبو أحمد:
عند غروب الشمس مباشرة.
الشيخ:
كيف يتأكَّد أنَّ الشمس قد غربت إذا كان في الغرب جبل؟ متى يتأكَّد أنَّ الشمس
غربت؟
أحد الجالسين ممازحاً:
يذهب إلى البحر.
ضحك الشيخ وقال:
هذا جواب له معنى.
أبو أحمد:
الأصل أن يتأكَّد.
الشيخ:
أرجوك فكّر وتكلَّم؛ لأنَّ سيعود السؤال مستنبطاً من سؤالك؛ كيف يتأكَّد؟!
أبو أحمد:
أنا أعيد عليك – إن شاء الله – الإجابة حتى تعطينا المفيد؛ لأني لا أُريد أن أقول:
إذا لم يَعد يرى الشمس فجاز له أن يفطر، خوفاً من أن يكون الجبل عالياً والشمس لم
تغرب بعد.
الشيخ:
والآن صار الوقت عندكم وإلا لا؟
أحد الجالسين:
بقي أربع دقائق.
وقال
آخر: خمس دقائق.
قال
الحلبي: على الأذان الفلكي!!
الشيخ
الألباني: الظاهر الناس كلُّهم إلا قليلاً منهم
ضائعين، لا يعرفون كيف يثبتون الأوقات الخمسة على التوقيت الشرعي.
ثم
واصل الشيخ في كلامه وقال: رُبَّ
بلدة أفقها ساحل البحر، وبلدة أخرى أفقها سهل الأرض، وبلدة ثالثة أفقها هضبة،
ورابعة أفقها جبل، وإلى آخره. فمتى يُفطر هؤلاء؟ متى يؤذِّنون؟
أجاب
الشيخ بنفسه: إذا غربت الشمس؛
سواء كان الغروب على ساحل البحر أو على الأرض السهلة أو على الهضبة أو على الجبل؛
المهم أنه الشمس غربت، يُقال عربية ومشاهدة: الآن غربت الشمس. أما أن نتوقف لأنَّه
يوجد جبل!!، طيب ماذا تريد أن يكون غير الجبل، أننتظر أن يكون هناك ساحل كما قال
صاحبنا: يذهب إلى البحر!!، هذا تكليف ما لا يُطاق. الحقيقة: أنَّ الدِّين يُسر،
عقَّده الناسُ؛ طائفة منهم بجهلهم، وطائفة أخرى منهم بتعنتهم.
قال
الحلبي: شيخنا وبخاصة غروب الشمس وراء هذا الجبل
في شيء يدل عليها؛ وهو جهة المشرق وهو بدو الليل.
الشيخ
الألباني: قلتُ لك ضايعين الناس عن هذا.
الحلبي: فهذا يدل على هذا.
الشيخ
الألباني: إذا غربت الشمس ها هنا عندكم فقد حلَّ
الإفطار ووجبت صلاة المغرب.
ثم
واصل الشيخ قائلاً: أنا
أرى أنه هناك أبنية؛ فهل تريدون أن تطلعوا إلى فوق لتروا الجبل الذي وراء الأبنية
هذه؟!!
ثم بعد
كلام على الفجر الصادق والكاذب قال الشيخ:
يا إخواننا يجب أن
تعلموا هذا الحديث؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر
النهار من ها هنا، وغربت الشمس: فقد أفطر الصائم))، لذلك فمن الوهم ومن الخطأ
الفاحش أن نتوهم أنه إذا رأينا الشمس غربت من ها هنا قلنا: هنا يوجد جبل، أو نقول
كما قال قائل آخر: في أبنية.
طيب ننظر نحن؛ هل
أقبل الليل من ها هنا أم لا؟! فإذا كان ضوءُ النهارِ الذي فوقنا إذا كان لا يزال
ممتداً إلى المشرق وهو كذلك إلى المغرب ولو غربت الشمس فما أفطر الصائم؛ لكن إذا
أقبل الليل من ها هنا يعني: بدأ الظلام يهجم علينا من الشرق وبدأ ضوء الشمس يغيب
وراء الأفق والشمس أيضاً فعلاً غربت قال عليه السلام: ((فقد أفطر الصائم)).
ولذلك فنحن لا
نستطيع أن نتصور وضعاً تتجمَّع فيه هذه الأوصاف الثلاثة: أقبل الليل من ها هنا،
وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس، ونقول: لا ما صار وقت الإفطار؛ هذا صَدْمٌ
لحديث الرسول عليه السلام، هو يتكلَّم بلسانٍ عربيٍّ مبين؛ هو يقول: ((إذا أقبل
الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم))، ما لكم
تشكُّون في البديهيات؟!
إذا كانت الشمس
نراها بعيننا؛ قرص الشمس ينزل وينزل وينزل حتى صار تَماس بين دائرة الشمس السفلى
من تحت مع الجبل أو مع البُنية، ثم بدأ قرص الشمس يغيب ويغيب ويغيب حتى لم نرَهُ؛
أفلا يجوز أن نقول لغة وشرعاً وعرفاً: غربت الشمس؟!، مالكم تشكُّون في البديهيات؟!
غربــت الشمس.
كل ما يجعلنا نتوقف
مثل أن نقول: ضوء النَّهار شرقاً ووسطاً وغرباً لا يزال كما كان!!، هذا الذي
يجعلنا نشك؛ ولكن الواقع ليس كذلك]. ثم أذَّن المؤذِّن لصلاة المغرب فتوقف الشيخ
عن الحديث.
قلتُ: ولعلَّ حديث
((إذا توارت بالحجاب))، دليل لما ذهب إليه الشيخ الألباني من قول، فالحديث أطلق
"الحجاب" ولم يُحدد إذا كان المراد به حجاب البحر أو الجبل أو العمران
أو سهل الأرض؛ وهذا الحجاب ليس هو ما ورد في رواية: ((حين يغيب
حاجبها)) وأصرح منها: ((ثم أمره
بالمغرب حين وقع حاجبُ الشمس)) كما هو معلوم؛ وحاجب الشمس كما قال العيني [عمدة
القاري 5 /58]: ((طرفها الأعلى من قرصها، وحواجبها نواحيها. وقيل: سُمي بذلك لأنه
أول ما يبدو منها كحاجب الإنسان، فعلى هذا يختص الحاجب: بالحرف الأعلى البادي
أولاً، ولا يُسمى جميع جوانبها: حواجب))، بل المراد بـ "الحجاب" ما يَحجب الشمس؛ وهو ما
يحول بينها وبين الرائي من حواجز.
قال ابن الأثير [النهاية في غريب الحديث
1 /894]: ((الحجاب ههنا: الأفق، يريد حين غابت الشمس بالأفق واستترت به))، وفي قوله
تعالى: ((حتى توارت بالحجاب)) قال العيني [عمدة القاري 16 /13]: ((قوله: "حتى
توارت" يعني: الشمس؛ أي غابت، بـ "الحجاب" وهو جبل دون
القاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه، قيل: معناه حتى استترت الشمس بما يحجبها عن
الأبصار)).
أقول: بل
في رواية مسلم: ((كان يصلي المغرب: إذا غربت
الشمس وتوارت بالحجاب)) دليل على أنَّ الشمس إذا توارت بالحجاب ولم
يُرى منها شيء أُطلِقَ عليها شرعاً أنها غربت؛ فالغروب يتحقق إذا توارت الشمس
بالحجاب ولا يُطلَب أكثر من ذلك.
وما ذكره الشيخ
الألباني لا غرابة فيه، وإنما لبعد الناس عن المصطلحات الشرعية وعدم فهم النصوص
بدقة مما أدَّى لاستغرابهم لما ذهب إليه الشيخ، ويؤكِّد مذهبه:
لو أنَّ رجلاً يسكن
في أسفل الجبل والآخر في أعلى الجبل نفسه، فلا شكَّ أنَّ رؤية الشمس تختلف منهما،
وهذا ينبني عليه اختلاف وقت الإفطار وصلاة المغرب لهما، فكذلك لو أنَّ رجلاً يعيش
في أرض تحيط بها الجبال أو على جهتها الغربية جبل بحيث تستتر الشمس وراءه عند
الغروب، وآخر يسكن في أرض أخرى قريبة من الأولى من جهتها الشرقية جبل وأما جهتها
الغربية فسهل الأرض؛ فلا يُقال للأول: لا تفطر أو لا تصلي المغرب إلا مع الثاني،
لأنك لا ترى غروب الشمس كما يراها الثاني، هذا تكليف بما لم يُكلِّف الشارع به.
وبعد هذا أقول:
فغياب قرص الشمس هو العلامة التي يُعرف بها دخول وقت صلاة المغرب وإفطار الصائم؛ ولا عبرةَ ببقاءِ الاصفرار أو الاحمرار
أو ضياء النَّهار مع غياب القرص بالتمام.
فقد روى البخاري في
باب: "متى يحل فطر الصائم؟" عن أبي سعيد الخدري معلَّقاً بصيغة الجزم
فقال: ((وأفطر أبو سعيد الخدري حين غاب قرص الشمس)).
قال الحافظ [الفتح 4 /196]: ((وصله
سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة من طريق عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال:
دخلنا على أبي سعيد فأفطر ونحن نرى أنَّ الشمس لم تغرب!!. ووجه الدلالة منه: أنَّ
أبا سعيد لما تحقق غروب الشمس لم يطلب مزيداً على ذلك، ولا التـفت إلى موافقة مَنْ
عنده على ذلك)).
وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في سفر في شهر رمضان، فلما غابت الشمس قال: (( يا فلان انزل فاجدح لنا))
قال: يا رسول الله إنَّ عليك نهاراً. قال: ((انزل فاجدح لنا)) قال: فنزل فجدح،
فأتاه به فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال بيده: ((إذا غابت الشمس من هاهنا
وجاء الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم)) رواه الشيخان واللفظ لمسلم. وفي رواية
لهما: ((فلما غابت الشمس قال لرجل: "انزل فاجدح لنا"، فقال: يا
رسول الله لو أمسيت، قال: "انزل فاجدح لنا" قال" إنَّ علينا
نهاراً))، وفي رواية [مصنف عبد الرزاق 4/ 226 ]: ((فقال لرجل من القوم: "انزل فاجدح لي بشيء" وهو
صائم، فقال: الشمس يا رسول الله، قال: "انزل فاجدح لي"، قال: فنزل فجدح
له فشرب وقال: "ولو تراآها أحدٌ على بعيره لرآها" يعني: الشمس)).
قلتُ: الظاهر أنَّ مراجعة الرجل للنبي صلى الله
عليه وسلم كانت ثلاثاً كما جاء ذلك مصرَّحاً في باقي الروايات، فمرة قال: (الشمس)
أي: هذا أثر الشمس لا زال يُرى أو يُمكن رؤيتها من علوٍ، وفي الأخرى: (إنَّ عليك
نهاراً) أي: لا زال ضوء النهار قائماً، وفي الأخيرة: (لو أمسيت) أي: لو تأخرتَ
قليلاً حتى يدخل المساء.
والجدح: ((خلط السويق بالماء وتحريكه حتى
يستوي، والمِجدح بكسر الميم: عود مجنح الرأس ليساط به الأشربة، وقد يكون له ثلاث
شعب)) [شرح صحيح مسلم 7 /209-210].
قال
النووي [شرح صحيح مسلم 7 /210]: ((معنى الحديث: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه كانوا صياماً وكان ذلك في شهر رمضان كما صرح به في رواية يحيى بن يحيى،
فلما غربت الشمس أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالجدح ليفطروا، فرأى المخاطَبُ
آثارَ الضياء والحمرة التي بعد غروب الشمس فظنَّ أنَّ الفطر لا يحل إلا بعد ذهاب
ذلك، واحتمل عنده أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَها فأراد تذكيره وإعلامه
بذلك؛ ويؤيد هذا قوله: "إنَّ عليك نهاراً" لتوهمه أنَّ ذلك الضوء من
النهار الذي يجب صومه، وهو معنى: "لو أمسيت" أي تأخرت حتى يدخل المساء،
وتكريره المراجعة: لغلبة اعتقاده على أنَّ ذلك نهار يحرم فيه الأكل مع تجويزه أنَّ
النبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى ذلك الضوء نظراً تاماً فقصد زيادة الإعلام
ببقاء الضوء)).
وأقول: فهذا الصحابي قد أكَّد قولَه بأنَّ الوقت ليس
وقت إفطار بثلاث قرائن؛ الأولى بقوله: (الشمس) أي: أثر الشمس لا زال يُرى وهو
الاصفرار أو الاحمرار، والثانية بقوله: (إنَّ عليك نهاراً) أي: لا زال ضوء النهار
لم يُدبر كله، والثالثة: (لو أمسيت) أي: لو انتظرت حتى يُقبل الليل فيُغطي ما بين
المشرق والمغرب؛ بل وأقوى تلك القرائن ما ورد في آخر الحديث: (ولو
تراآها أحدٌ على بعيره لرآها) أي:
لو تكلَّف أحد فركب بعيره لرأى ما تبقى من قرص الشمس، فلم يلتفت النبي صلى الله
عليه وسلم لهذه القرائن، وعلَّق الحكمَ على رؤية الشمس بالعين من غير تكلُّف،
وأكَّد أنَّ إقبال الليل من جهة المشرق وإدبار النهار من جهة المغرب ومغيب قرص الشمس
بهذه الأوصاف يدخل وقت الإفطار ولا عبرة بغيرها فقال: ((إذا أقبل
الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس: فقد أفطر الصائم)).
قلتُ: وفي الحديث بيان لِما أُجمِلَ في قوله تعالى:
((ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ)) البقرة/187؛ وأنَّ المراد به:
غياب قرص الشمس؛ لأنَّ أول الليل يبدأ بتلك العلامة كما قال صلى الله تعالى عليه
وسلم: ((إذا غابت الشمس من هاهنا وجاء الليل من هاهنا: فقد أفطر الصائم))، ثم يزداد الليل شدَّة شيئاً فشيئاً.
◄ وأما حديث: ((لا تزال أمتي بخير - أو قال: على
الفطرة - ما لم يؤخِّروا المغرب إلى أن
تشتبك النجوم)) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة وصححه الألباني.
قال
العظيم آبادي [عون المعبود 2/63]: (("إلى أن تشتبك النجوم" قال ابن
الأثير: أي: تظهر جميعاً ويختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها؛ وهو كناية عن
الظلام))، وفي [شرح ابن ماجه 1 /50]: ((وهذا يدل على: أنْ لا كراهة بمجرد الطلوع)).
قلتُ:
ظنَّ البعض أنَّ هذا الحديث يُعارض ما تقدَّم من أحاديث؛ فالأحاديث السابقة تدل
على أنَّ وقت صلاة المغرب يدخل بمجرد غياب قرص الشمس، وهذا الحديث يشير إلى أنَّ
وقتها قبيل اشتباك النجوم الذي هو كناية عن الظلام، وأنه لا كراهة بمجرد طلوع
النجوم حتى تشتبك، واشتباك النجوم قبل غياب الشفق الأحمر بمدَّة؛ قال الإمام ابن
خزيمة في صحيحه [1 /175]: ((في قوله: "لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب
حتى تشتبك النجوم" دلالة على أنَّ قوله في خبر عبد الله بن عمرو بن العاص:
"ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق" إنما أراد وقت العذر والضرورة؛ لا
أن يعتمد تأخير صلاة المغرب إلى أن تقرب غيبوبة الشفق؛ لأنَّ اشتباك النجوم يكون:
قبل غيبوبة الشفق بوقت طويل؛ يمكن أن يصلي بعد اشتباك النجوم قبل غيبوبة الشفق
ركعات كثيرة؛ أكثر من أربع ركعات)).
فأقول:
هذا الحديث في بيان وقت الجواز؛ وأنَّ تأخير الصلاة إلى اشتباك النجوم مذموم
شرعاً، وغيره من أحاديث قد بينت استحباب المبادرة لها في أول الوقت؛ فلا تعارض بين
وقت الاستحباب وبين وقت الجواز، ثم أنَّ الحديث في الحثِّ على المبادرة لصلاة المغرب
كما فهم ذلك علماء السُّنَّة خلافاً للروافض؛ قال العظيم آبادي في [عون المعبود
2 /63]: ((والحديث يدل على استحباب المبادرة بصلاة المغرب وكراهة تأخيرها إلى
اشتباك النجوم؛ وقد عكست الروافض القضية فجعلت تأخير المغرب إلى اشتباك النجوم
مستحباً))، ولو كان هذا الحديث في بيان التأخير لصلاة المغرب إلى قبيل
اشتباك النجوم لأنصرف المسلمون من الصلاة حينئذ في ظلام وهذا خلاف ما ورد عنهم؛
فعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: "كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فينصرف أحدُنا وإنه ليبصر مواقعَ نَّـبْله" رواه الشيخان وغيرهما،
وعن أنس رضي الله عنه قال: "أنهم كانوا يصلون المغرب مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرجعون فيرى أحدُهم مواقِعَ نبلِه" وعن
جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كنَّا نُصلي مع النبي صلى الله عليه
وسلم المغرب، ثم نأتي بني سلمة فنبصر مواقِعَ النبل"، وعن عبد الله بن كعب بن
مالك عن أبيه قال: "كنَّا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم
نأتي بني سلمة، ونحن نبصر مواقع نبلنا في بني سلمة؛ أقصى المدينة"، وعن زيد بن خالد
الجهني قال: "كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم أخرج إلى
السوق فلو أرمي لأبصرت مواقع نبلي" وعن أبي
طريف قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين حاصر الطائف. قال: فكان يصلي
بنا صلاة المغرب ولو أنَّ رجلا رمى لرأى مواقع نبله"
فهذه الآثار بعضها يقوي بعضاً في الدلالة على
المقصود، قال النووي [شرح صحيح مسلم 5 /136]: ((معناه:
أنه يبكر بها في أول وقتها بمجرد غروب الشمس، حتى ننصرف ويرمى أحدنا النَّبْل عن
قوسه ويبصر موقعه؛ لبقاء الضوء)).
وعن سلمة بن الأكوع قال: ((كان النبي صلى الله
عليه وسلم يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس؛ إذا غاب حاجبُها)) أخرجه الشيخان وغيرهما؛
أي: إذا غاب حاجبها الأعلى فلم ير شيئاً منها.
◄ وأخيراً:
فقد قال
الشيخ الألباني رحمه الله تعالى [السلسلة الصحيحة
5 /300]: ((وهذه من السنن المتروكة في بلاد الشام, ومنها عَمَّان, فإنَّ
داري في جبل هملان من جبالها, أرى بعيني طلوع الشمس وغروبها, وأسمعهم يؤذِّنون
للمغرب بعد غروب الشمس بنحو عشر دقائق!, علماً بأنَّ الشمس تغرب عمن كان في وسط
عَمَّان ووديانها قبل أن تغرب عنا!!، وعلى العكس من ذلك فإنهم يؤذِّنون لصلاة
الفجر قبل دخول وقتها بنحو نصف ساعة!!، فإنا لله وإنا إليه راجعون)).
قلتُ: وبهذا نعلم أنَّـه من السنة المبادرة إلى
صلاة المغرب في أوَّل وقتها؛ وهو إذا توارت الشمس بالحجاب وغاب قرصها عن الأنظار، لكن
لا بدَّ أن نعلم كذلك الفرق بين المبادرة والعجلة؛ فالأولى محمودة والثانية
مذمومة؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى [الروح ص258]: ((والفرق بين
المبادرة والعجلة: أنَّ المبادرة انتهاز الفرصة في وقتها ولا يتركها حتى إذا فاتت
طلبها، فهو لا يطلب الأمور في إدبارها ولا قبل وقتها، بل إذا حضر وقتها بادر إليها
ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته، فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال
نضلها وإدراكها. والعجلة: طلب أخذ الشيء قبل وقته؛ فهو
لشدة حرصه عليه، بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوآن إدراكها كلها.
فالمبادرة وسط بين خُلقين مذمومين: أحدهما:
التفريط والإضاعة، والثاني: الاستعجال قبل الوقت، ولهذا كانت العجلة من الشيطان
فإنها خفة وطيش وحِدَّة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم وتوجب له وضع
الأشياء في غير مواضعها وتجلب عليه أنواعاً من الشرور وتمنعه أنواعاً من الخير وهي
قرين الندامة، فقلَّ من استعجل إلا ندم، كما أنَّ الكسل قرين الفوت والإضاعة)).
والله أعلم، وهو الموفِّق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.