الحمد لله والصلاة والسلام على
رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ وبعد:
بيان معنى الإسفار والغلس من معاجم
اللغة:
الإسفار:
أصله الكشف، وسمي
المُسافر مُسافراً: لكشفه قِناع الكِنِّ عن وجهه، ومنازلَ الحَضَر عن مكانه،
ومنزلَ الخَفْضِ عن نفسه، وبُرُوزِهِ إِلى الأَرض الفَضاء. وسمي السَّفَرُ
سَفَراً: لأَنه يُسْفِرُ عن وجوه المسافرين، وأَخلاقهم؛ فيظهر ما كان خافياً منها.
وسَفَرَِ الصبحُ وأَسْفَرَ: أَضاء، وأَسْفَرَ القومُ: أَصبحوا،
وأسْفَرَ: دَخَلَ في سَفَرِ الصُّبْح، وسَفَرَ وجهُه حُسْناً وأَسْفَرَ: أَشْرَقَ،
وفي التنزيل العزيز: "وُجُوهٌ يومئذ مُسْفِرَةٌ" أَي: مشرقة مضيئة،
وَسَفَرَتِ المرأَة وجهها: إِذا كشفت النِّقابَ عن وجهها، ومَسَافِرُ الوجه: ما
يظهر منه، وسَفَرْتُ بين القوم أَسْفِرُ سَِفَارَةً أَي: كشفت ما في قلب هذا وقلب
هذا لأُصلح بينهم. والإسْفارُ يخْتصُّ باللون نحو والصُّبحِ إذا أسْفَرَ أي
مُشْرِقةٌ مضِيئة.
الغلس:
الغَلَسُ ظُلْمَةُ آخر اللَّيْل
إِذا اخْتَلَطتْ بضَوْءِ الصَّبَاح، ولذا قيل: الغَلَس أَول الصُّبح حتى يَنْتَشِر
في الآفاق، وغَلَّسْنا: سِرنا بِغَلَسٍ وهو التَّغلِيس، والغلس والغَبَش قيل: هما
سواد مختلط ببياض وحُمْرَة مثل الصبح سواء، وقيل: يكون الغَلَسُ في آخِرِ
اللَّيْلِ ويكون الغَبَشُ في أَوَّلِ الليل، وقيل: أنَّ
بقية ظلمة الليل بعد الفجر غبش فأما الغلس فبعيد ذلك. والأَصْلُ
فيه: أَنَّ الغَارَاتِ كانَتْ تَقَعُ غالباً بُكْرَةً بغَلَس.
والخلاصة: أنَّ
الإسفار: هو الانكشاف؛ وهو إضاءةُ الصبحِ وإشراقُه. والغلس: هو بقايا الظلام؛ وهو
آخر ظلمة الليل.
الأحاديث الواردة في ذلك وخلاف العلماء فيها:
1-
فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((كُنَّ نِسَاءُ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الْفَجْرِ
مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ
يَقْضِينَ الصَّلاةَ لا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ)) رواه البخاري ومسلم.
2- فعن أبي برزة الأسلمي قال: ((وكان ينفتل من
صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ بالستين إلى المائة)) رواه البخاري
ومسلم.
3- وقال أبو مسعود الأنصاري وهو يصف صلاته صلى
الله تعالى عليه وسلم في الفجر: ((وصلَّى الصبح مرة بغلس، ثم صلَّى مرة أخرى فأسفر
بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات، ولم يعد إلى أن يسفر)) رواه أبو
داود.
4- قال صلى الله تعالى عليه وسلم: ((أسفروا
بالفجرِ فإنَّه أعظمُ للأجرِ)) رواه أحمد والدارمي وأصحاب السنن الأربعة وصححه
الألباني.
5-
عن عبد الله بن مسعود قال: ((ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
صلَّى صلاة إلا لميقاتها؛ إلا صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع، وصلَّى الفجر
يومئذ قبل ميقاتها)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((قبل
وقتها بغلس)).
6-
عن أبي الربيع قال: كنت مع ابن عمر في جنازة فسمع صوت إنسان يصيح فبعث إليه
فأسكته. فقلت: يا أبا عبد الرحمن لِمَ أسكته؟ قال: إنه يتأذى به الميت حتى يدخل
قبره. فقلت له: إني أصلي معك الصبح ثم ألتفت فلا أرى وجه جليسي ثم أحياناً تسفر؟
قال: كذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وأحببت أن أصليها كما رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصليها. رواه أحمد.
7-
عن أبي صدقة مولى أنس قال: سألت أنساً عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
((كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس، والعصر بين صلاتيكم هاتين، والمغرب إذا غربت
الشمس، والعشاء إذا غاب الشفق، والصبح إذا طلع الفجر إلى أن ينفسح البصر)) رواه
أحمد وصححه الألباني.
8-
عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: ((يا
معاذ إذا كان في الشتاء فغلِّس بالفجر, وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس ولا تملهم,
وإذا كان الصيف فأسفر بالفجر؛ فإن الليل قصير, والناس ينامون، فأمهلهم حتى
يداركوا)) رواه البغوي في شرح السنة، وأبو نُعيم في الحلية.
وبعد
أن ذكر العلامة أبو الحسنات اللكنوي رحمه الله تعالى بعضاً من هذه الأحاديث وسرد
جملة من الآثار في ذلك قال [التعليق الممجَّد على موطأ الإمام محمَّد 1/ 43]:
((وفي
الباب آثار كثيرة، وقد وقع الاختلاف باختلاف الأخبار والآثار؛ فذهب الكوفيون أبو
حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وأكثر العراقيين إلى: أنَّ الإسفار أفضل من
التغليس في الأزمنة كلها. وذهب مالك والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو
ثور وداود بن علي وأبو جعفر الطبري إلى: أنَّ الغلس أفضل؛ كذا ذكره ابن عبد البر
"الاستذكار 1 / 51". وقد استدل كل فرقة بما يوافقها وأجابت عما يخالفها.
فمن
المغلِّسين من قال: تأويل "الإسفار" حصول اليقين بطلوع الصبح؛ وهو تأويل
باطل يرده اللغة، ويرده أيضاً بعض ألفاظ الخبر الدالة صريحاً على التنوير كما
مرَّ، ومنهم من قال: الإسفار منسوخ لأنه صلى الله عليه وسلم أسفر ثم غلَّس إلى أن
مات؛ وهذا أيضاً باطل، لأنَّ النسخ لا يثبت بالاحتمال والاجتهاد ما لم يوجد نص
صريح على ذلك ويتعذر الجمع، ومنهم من قال: لو كان الإسفار أفضل لما داوم النبي صلى
الله عليه وسلم على خلافه؛ وهذا جواب غير شاف بعد ثبوت أحاديث الإسفار. ومنهم من
ناقش في طرق أحاديث الإسفار؛ وهي مناقشة لا طائل تحتها إذ لا شكَّ في ثبوت بعض
طرقها، وضعف بعضها لا يضر، على أنَّ الجمع مقدم على الترجيح؛ على المذهب الراجح.
ومن
المسفِّرين من قال: التغليس كان في الابتداء ثم نسخ؛ وفيه أنه نسخ اجتهادي مع ثبوت
حديث الغلس إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: لو كان الغلس مستحباً لما
اجتمع الصحابة على خلافه؛ وفيه أنَّ الإجماع غير ثابت لمكان الاختلاف فيما بينهم،
ومنهم من ادَّعى انتفاء الغلس عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذاً من حديث ابن
مسعود وغيره؛ وهذا - كقول بعض المغلِّسين: أنَّ الإسفار لم يثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم - باطل؛ فإنَّ كُلاً منهما ثابت وإن كان الغلس أكثر، ومنهم من قال: لما
اختلفت الأحاديث المرفوعة تركناها ورجعنا إلى الآثار في الإسفار؛ وفيه أنَّ الآثار
أيضاً مختلفة، ومنهم من سلك مسلك المناقشة في طرق أحاديث الغلس وهي مناقشة أخزى من
المناقشة الأولى.
ومنهم
من سلك مسلك الجمع: باختيار الابتداء في الغلس والاختتام في الإسفار بتطويل
القراءة؛ وبه يَجتمع أكثرُ الأخبار والآثار؛ وهذا الذي اختاره الطحاوي "شرح
معاني الآثار 1 / 109" وحكم بأنه
المستحب، وأنَّ أحاديث الإسفار محمولة على الاختتام في الإسفار وأحاديث الغلس على
الابتداء فيه، وقال: هذا هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد؛ وهو جمعٌ حسنٌ لولا
ما دلَّ عليه حديثُ عائشة من انصراف النساء بعد الصلاة بمروطهن لا يُعرفن من
الغلس؛ إلا أنْ يقال إنه كان أحياناً. والكلام في هذا المبحث طويل لا يتحمله هذا
التعليق، بل المتكفل له شرحي لشرح الوقاية)).
قلتُ: وهذا تلخيصٌ جيد، يتبيَّنُ فيه مذاهب
العلماء في مسألة الإسفار والتغليس لصلاة الفجر، ومحل الخلاف، وأسبابه، ودليل كلِّ
فرقة لما ذهبت إليه، وجوابها عما استدل به مخالفوها، وذلك كلّه بأوجز عبارة وأجمع
دلالة، فرحم الله العلامة اللكنوي على هذا التلخيص.
ونحن إذا وقفنا عند تلك الأحاديث من
حيث سندها ودلالتها وتأمَّلنا في ذلك تبيَّنَ لنا أمور:
1-
حديث عائشة رضي الله عنها للبخاري روايتان أخر؛
الأولى بلفظ: ((وَلاَ يَعْرِفُ بَعضُهنَّ بَعْضاً))، وأخرى على الشك: ((لا يُعرفن من الغلس أو لا
يَعرفن بعضُهن بعضاً)) وروها أحمد كذلك، وعند
مسلم رواية بلفظ: ((ثم ينقلبن إلى بيوتهن وما يُعرفن من تغليس رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالصلاة)). وفي رواية اسحق في مسنده: ((وما يعرفهن أحدٌ من الغبش - قال
ابن إدريس – والغبش: دون الغلس))، وابن ماجه بلفظ: ((فلا يعرفهن أحد تعني: من
الغلس)).
قلتُ: فتُحمل الروايات المجملة والتي على الشك على الروايات المبينة
للأمر الذي لم يُعرفَن بسببه وهو "الغلَس" وعلى القطع.
قال الحافظ [الفتح 2/ 55]: ((قوله:
"من الغلس" [مِن] ابتدائية أو تعليلية))، فذكر رحمه
الله تعالى الاحتمالين ولم يُرجِّح، لكنَّه قال قبل ذلك [الفتح1/ 482]: ((قوله:
"ما يعرفهن أحدٌ" زاد في المواقيت: "من الغلس" وهو يُعيِّنُ
أحدَ الاحتمالين: هل عدم المعرفة بِهنَّ لبقاء الظلمة؟ أو لمبالغتهن في
التغطية؟))، أي: أنَّ الاحتمال الأول هو المراد.
لكن يُعكِّر ذلك ما رواه أبو يعلى في مسنده عن عائشة
قالت: ((لو رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من النساءِ ما نرى لمنعهنَّ من
المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءَها؛ لقد رأيتنا نصلي مع رسولِ الله صلى الله
عليه وسلم الفجرَ في مروطنا وننصرف وما يعرف بعضُنا وجوهَ بعضٍ)) وصححه الألباني؛
فقولها: ((وما يعرف بعضنا وجوه بعض)) يبعُد أن يكون مرادها منه أنَّ عدم معرفة
بعضهنَّ بعضاً: من الغلس، وإنما المراد: من التغطية؛ لأنها مدحت ذلك ووصفت أنَّ
نساء المؤمنين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كنَّ يمتازنَّ به، فلا يمكن أن
يكون سبب ذلك الغلس كما هو واضح.
والذي
يظهر لي – والله أعلم – أنَّ هذين حديثان مستقلان؛ أحدهما سيق من أجل الحث على
التبكير لصلاة الفجر، والآخر سيق من أجل الحثِّ على المبالغة في التغطية عند قدوم
النساء إلى المساجد؛ ولهذا نرى أنَّ البخاري بوَّب له مرَّة بـ (باب: في كم تصلي المرأة من الثياب؟) وذكر رواية: ((ما يعرفهن
أحد))، وأخرى بـ (باب: وقت الفجر) وذكر رواية: ((لا يعرفهن أحد من الغلس)).
2-
أما حديث أبي برزة فرواية مسلم: ((وكان يقرأ في صلاة
الفجر من المائة إلى الستين، وكان ينصرف حين يعرف بعضنا وجه بعض)) وفي أخرى:
((فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه)).
قال
الحافظ [الفتح 2/ 27] في شرح الحديث: ((قوله: "وكان ينفتل" أي: ينصرف من
الصلاة أو يلتفت إلى المأمومين، قوله: "من صلاة الغداة" أي: الصبح، وفيه
أنه لا كراهة في تسمية الصبح بذلك، قوله: "حين يعرف الرجل جليسه" تقدم
الكلام على اختلاف ألفاظ الرواة فيه.
واستدل
بذلك على التعجيلِ بصلاةِ الصبحِ لأنَّ ابتداء معرفة الإنسان وجه جليسه يكون في
أواخر الغلس، وقد صرح بأنَّ ذلك كان عند فراغ الصلاة؛ ومن المعلوم من عادته صلى
الله عليه وسلم ترتيل القراءة وتعديل الأركان فمقتضى ذلك أنه كان يدخل فيها
مُغلِّساً. وادَّعى الزين بن المنير: أنه مخالف لحديث عائشة الآتي حيث قالت فيه:
"لا يُعرفن من الغلس" وتُعقِّب: بأنَّ الفرقَ بينهما ظاهر؛ وهو أنَّ
حديث أبي برزة متعلق بمعرفة من هو مُسفرٌ جالسٌ إلى جنب المصلي: فهو ممكن، وحديث
عائشة متعلق بمن هو متلففٌ مع أنَّه على بُعد: فهو بعيد)).
قلتُ:
وهذا الجمع فيه نظر وإن تتابع عليه كثير من العلماء في مصنفاتهم؛ فلو كان كذلك؛
لما كان في الاستدلال بحديث عائشة على التبكير فائدة، لأنَّ على ذلك تكون عدم
المعرفة سببها المبالغة في التغطية وبُعد المسافة كما أشار إليه هذا المتعقِّب؛
وقد رجَّح الحافظ أنَّ سببها الغلس فكيف يوافقه على ذلك؟!
وقد
جمع بعض أهل العلم بين حديث عائشة وفيه: ((لا يعرفهن أحدٌ من الغلس)) وحديث أبي
برزة وفيه: ((حين يعرف الرجل جليسه))، أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك تارة
وذلك تارة.
قال
المباركفوري [تحفة الأحوذي 1/ 408-409]: ((فإن قلتَ: يخدش هذا الجمع حديث عائشة
ففيه: أنَّ النساء ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة "لا يعرفهن أحد من
الغلس" رواه الجماعة، والبخاري: "ولا يعرف بعضهن بعضاً"؟ قلتُ:
نعم؛ لكن يمكن أن يقال إنه كان أحياناً؛ ويدل عليه حديث أبي برزة ففيه: "وكان
ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ويقرأ بالستين إلى المائة" رواه
البخاري)).
قلتُ:
وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده فقال: ثنا أبو أحمد الزبيري محمد بن عبد الله ثنا
أبو شعبة الطحان جار الأعمش عن أبي الربيع قال: كنت مع ابن عمر في جنازة فسمع صوت
إنسان يصيح فبعث إليه فأسكته. فقلت: يا أبا عبد الرحمن لِمَ أسكته؟ قال: إنه يتأذى
به الميت حتى يدخل قبره. فقلت له: إني أصلي معك الصبح، ثم ألتـفتُ فلا أرى وجهَ
جليسي ثم أحياناً تسفر؟ قال: ((كذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي،
وأحببت أن أصليها كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها)).
وهذا
يؤكِّد ما سبق لولا أنَّه أثر ضعيف، قال الشيخ الألباني في [الثمر المستطاب 1/ 80]:
((وعلَّته أبو الربيع هذا؛ قال الدارقطني: "مجهول"، على أنه قد عارضه عن ابن عمر ما هو أقوى منه
سنداً فقال نهيك بن يريم: ثنا مغيث بن سمي قال: صليت مع عبد الله بن الزبير الصبح
بغلس، فلما سلَّم أقبلتُ على ابن عمر فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: هذه صلاتنا كانت مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما طعن عمر أسفر بها عثمان. أخرجه ابن ماجه والطحاوي
عنه، وهذا سند صحيح كما في "الزوائد" وفي [المجموع 3/ 53]، قال الترمذي
في "كتاب العلل": قال البخاري:
هذا حديث حسن)).
قلتُ:
وله علة أخرى وهي أشد؛ وهو أنَّ فيه أبا شعبة الطحان جار الأعمش قال
الدارقطني: متروك [تعجيل المنفعة 1/ 493]، و[سؤلات البرقاني للدارقطني 1/ 77]، وقال ابن
حجر في [لسان الميزان 7/ 63]: ((أبو شعبة الطحان كان جار
الأعمش؛ قال الدارقطني: متروك، قلتُ: حدَّث عنه أبو أحمد الزبيري)) وقد قال
في هذا الأخير [تقريب التهذيب 1/ 487]: ((أبو أحمد
الزبيري الكوفي: ثقة ثبت إلا أنه قد يُخطئ في حديث الثوري)).
وأما
حديث ابن عمر الذي عارض به الشيخُ الألباني هذا الحديث؛ فقد قال فيه [إرواء الغليل
1/ 278]: ((وإسنادُه صحيح؛ إلا أنه يُشكل في الظاهر قوله: "أسفر بها
عثمان" ; لأنَّ التغليس قد ورد عن عثمان من طرق؛ فأخرج ابن أبى شيبة فى
[المصنف 1/ 126/ 1] بسند صحيح عن أبى سلمان قال: "خدمتُ الركبَ في زمان عثمان
فكان الناس يُغلِّسون بالفجر"، لكن أبو سلمان هذا واسمه يزيد بن عبد الملك
قال الدارقطنى: "مجهول" وفى التقريب: "مقبول" يعني: عند المتابعة, وقد وجدتها فأخرج ابن أبي
شيبة بسند صحيح أيضاً عن عبد الله بن إياس الحنفى عن أبيه قال: "كنا نصلى مع
عثمان الفجر فننصرف وما يعرف بعضنا وجوه بعض"، وعبد الله هذا وأبوه ترجمهما
ابن أبى حاتم (1/ 1/ 280, 2/ 82 ) ولم يذكر فيهما جرحاً ولا تعديلاً, فهذه الطريق
تقوي الطريق الأولى, وقد أشار الحافظ ابن عبد البر إلى تصحيح هذا الأثر عن عثمان
رضى الله عنه, وهو ما نقله المؤلف رحمه الله عنه أنه قال: "صح عن النبي صلى
الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يُغلِّسون".
فإذا
ثبت ذلك عن عثمان فالجمع بينه و بين إسفاره: أن يحمل الإسفار على أول خلافته, فلما
استقرتُ له الأمور رجع إلى التغليس الذي يعرفه من سنته صلى الله عليه وسلم, والله
أعلم)).
3-
حديث أبي مسعود الأنصاري أخرجه أبو
داود وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي والطبراني، وقال الحاكم: صحيح، ووافقه
الذهبي، وصححه أيضاً الخطابي، وحسنه النووي. قاله الألباني في [الإرواء 1/ 270] وختم
بقوله: "وهو الصواب كما بينته في
[صحيح أبي داود 417]"، ومال
الحافظ في الفتح إلى تقويته، ونقل العظيم آبادي عن المنذري [عون المعبود 2/ 45]:
((قال المنذري: "والحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه
بنحوه؛ ولم يذكروا رؤيته لصلاة رسول الله، وهذه الزيادة في قصة الإسفار رواتها عن
آخرهم ثقات، والزيادة من الثقة مقبولة" انتهى)).
قلتُ:
والحديث يدل على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان تارة يُصلي الفجر بغلس وتارة
يُسفر بها، ثم ترك صلى الله عليه وسلم الإسفار ولم يعد إليه وكانت صلاته بغلس حتى
مات.
لكنَّ
هذا الحديث قد عورِضَ في أوله وآخره:
أما
في أوله: فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن جابر رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى
الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت،
والعشاء أحياناً وأحياناً؛ إذا رآهم اجتمعوا عجَّل وإذا رآهم أبطؤوا أخَّر، والصبح
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس"
قلتُ:
فلو كانت صلاته صلى الله عليه وسلم في الفجر تارة يُصليها بغلس وتارة بإسفار لذكر
ذلك جابر كما ذكر في العشاء أنه كان أحياناً وأحياناً أي: تارة يعجِّل وتارة
يوخِّر.
ويُمكن
الجمع بينهما فنقول:أنَّ الأصل في صلاته صلى الله عليه وسلم في الفجر أنها كانت
بغلس، ولكن صلاها أحياناً بإسفار لبيان آخر وقت الاختيار وتوسعة للأمة.
وقد
وجدتُ ما يؤكِّد ذلك فيما أخرجه أبو بكر الشيباني في [الآحاد والمثاني 4/ 41] عن
أبي مسعود نفسه في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((فصلَّى الصبحَ
بِغلس، ثم صلاها يوماً فأسفر بها، ثم لم يعد إلى الأسفار حتى قبضه الله عز وجل)).
قلتُ:
ولعلَّ هذا اليوم الذي صلَّى فيه بإسفار هو ما ثبت عن سليمان بن
بريدة عن أبيه قال: أتى النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم رجلٌ فسأله عن وقت الصلوات؟
فقال: ((صلِّ معنا)) فلما زالت الشمس صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر،
وصلى العصر والشمس مرتفعة نقية، وصلى المغرب حين غربت الشمس، وصلى العشاء حين غاب
الشفق، وصلى الفجر بغلس. فلما كان من الغد: أمر بلالاً فأذن الظهر فأبرد بها فأنعم
أن يبرد بها، وأمره فأقام العصر والشمس حية أخر فوق الذي كان، وأمره فأقام المغرب
قبل أن يغيب الشفق، وأمره فأقام العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل، وأمره فأقام الفجر
فأسفر بها. ثم قال: ((أين السائل عن وقت الصلاة؟)) قال: أنا يا رسول الله، قال:
((وقت صلاتكم بين ما رأيتم)) رواه مسلم وغيره، وهذه رواية ابن خزيمة.
وأما
في آخره: فقد عورِضَ هذا الحديث بما ورد عن عبد الله بن
مسعود قال: ((ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة إلا لميقاتها؛ إلا
صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع، وصلَّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها)) رواه البخاري
ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((قبل وقتها بغلس))، وهذا
يعني أنَّ عادته كانت في صلاة الفجر أنَّه يُصليها بإسفار، ولم يُغلِّس بها إلا في
مِنى أيام الحج، قال العيني [عمدة القاري 4/ 91] بعد أن ذكر حديث ابن مسعود ليرد
به حديث أبي مسعود: ((وهذا دليل على أنه كان يسفر بالفجر دائماً وقلَّ ما صلاها
بغلس)).
كما عورِضَ
بحديث: ((أسفروا بالفجرِ فإنَّه أعظمُ للأجرِ))؛ فإنَّ
فيه: الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بالإسفار بالفجر؛ فكيف نجمع بين هذين
الحديثين وحديث أبي مسعود وفي آخره: ((ثم كانت صلاته بعد ذلك
التغليس حتى مات، ولم يعد إلى أن يسفر)).
وقد أجاب شيخ الإسلام
رحمه الله تعالى عن ذلك بعد أن فضَّل التغليس على الإسفار فقال [شرح العمدة 4/ 221-224]:
((فإن قيل:
فقد روى رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسفروا بالفجر
فإنه أعظم للأجر" رواه الخمسة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال عبد الله بن
مسعود: "ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا
صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها" رواه
الجماعة وفي رواية لمسلم: "بغلس"، وهذا يقتضي: أنَّ عادته كانت الإسفار
في غير هذا الموضع؛ إذ المراد به: قبل وقتها الذي كانت عادته أن يصليها فيه، فإنه
لم يصلها يومئذ حتى برق الفجر كما في حديث جابر، وهي قبل ذلك لا تجوز إجماعاً؟
قلنا: قال
الإمام أحمد: الإسفار عندي أن يتيقن الفجر، ولم يرَ الأسفار التنوير؛ يقال للمرأة:
أسفرت عن وجهها، وقال أيضاً أسفار الفجر: طلوعه، وهذا لأنه يقال أسفر الفجر أضاء،
وأسفر وجهه حسناً أي: أشرق، وسفرت المرأة كشفت عن وجهها، وسافر الوجه ما يظهر،
ومنه السفر والسفر والسفير فهذه المادة حيث تصرفت فإنما معناها البيان والظهور؛
ومعلوم أنه إذا طلع الفجر فقد حصل البيان والظهور من الخيط الأسود من الفجر، ويقال
أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح.
ومعنى الحديث
على هذا: تأخيرها حتى يتيقن الفجر بحيث لا يكون فيه شك لأحد،
وإن جاز فعلها أول ما يبزغ به بحيث قد يحصل معه شك لبعض الناس لا سيما من يقول أنه
يجوز فعلها إذا غلب على الظنِّ دخول الوقت، وإنما ذكر هذا في الفجر لأن طلوع الفجر
مظنة الاشتباه لا سيما إذا اشتبه ضوءه بضوء القمر في ليالي القمر، وكثيراً ما قد
يصلي الفجر ثم تبين لهم أنَّ الفجر لم يطلع؛ وقد وقع ذلك لعدد من الصحابة وغيرهم،
بخلاف زوال الشمس وغروبها. ولهذا والله اعلم مدَّ الله الأكل بالليل إلى أن يتبين
الفجر وقال: "ثم أتموا الصيام إلى الليل" فجعل وقت الفجر منوطاً بتبينه
وظهوره وهو الإسفار الذي أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم به على هذا التفسير، ولم
يقل: ثم أتموا الصيام حتى يتبين لكم الليل؛ لانَّ دخول الليل لا شبهة فيه، فإذا
أخرت حتى يظهر ضوء الفجر ويتبين كان أبعد عن الشبهة، ولعله بهذا أيضاً أمر أن
يتسحر الناس حتى يتبين لهم الفجر وأن لا يكفوا عن الطعام إذا اشتبه عليهم الحال. وقد
جاء ذلك مأثوراً عن الصحابة في قضايا متعددة فكان المؤذن والمصلي إذا لم يتبين
طلوع الفجر أعاد الناس ذلك.
وقد قيل:
إنَّ أولئك القوم لما أمروا بتعجيل الصلوات احتمل أنهم كانوا يصلونها ما بين الفجر
الأول والثاني طلباً للأجر في تعجيلها ورغبة في الثواب؛ فقيل لهم: صلوها بعد الفجر
الثاني فانه أعظم للأجر؛ وإن كانت لا تجوز قبل الوقت، لكن لما لم يصفوا الفجر
ونوره فإن الله يأجرهم على صلاتهم، لكن الأجر الذي يسقط من الفرض أعظم، وكثيراً ما
يفعل الواجب على المحرم كقوله تعالى: "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة"
الآية، وقوله: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم - إلى قوله - أزكى لهم وأطهر" وقوله: "فردوه إلى
الله والرسول ذلك خير وأحسن تأويلاً" وهذا كثير.
وكذلك حديث ابن
مسعود؛ فإنَّ عادته صلى الله عليه وسلم كانت تأخير الصلاة عن طلوع الفجر
قليلاً بحيث يتمكن الناس من الطهارة والسعي إلى المسجد ونحو ذلك؛ وهذا القدر لا
يخل بالتقديم المستحب عندنا، فإذا كان يوم مزدلفة صلاها حين برق الفجر.
وقد قيل:
"أسفروا بالفجر" أراد به: إطالة القراءة فيها حتى يسفر الفجر؛ فإنَّ
إطالتها أعظم للأجر، فإنه يستحب من إطالة القراءة فيها ما لا يستحب في سائر
الصلوات؛ فيكون الأسفار بفعلها والخروج منها لا بنفس الابتداء فيها كما كان
الخلفاء الراشدون يفعلون.
ويحتمل: أن
يكون ذلك خطاباً لمن يتأخر من المأمومين عندهم؛ كزمان الصيف، كما جاء مفسراً في
حديث معاذ بن جبل)).
قلتُ:
فشيخ الإسلام رحمه الله تعالى أجاب عن حديث ((أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر))
بأربعة أجوبة:
الأول:
أنَّ المقصود من الأمر بالإسفار تحقق طلوع الفجر، وليس المقصود به تأخير الصلاة
حتى يُنَوَّر الفجر.
الثاني:
أنه كان خِطاباً لِمنْ كان يُصلي الصبح بين الفجرين للحصول على أجر التبكير؛
فأمرهم بالإسفار، وهو التأخر عن ذلك الوقت حتى يطلع الفجر، وبيَّن أنه أعظم أجراً.
الثالث:
أنَّ هذا في الانتهاء من الصلاة لا الابتداء بها، وذلك يكون بالدخول في الصلاة
بغلس ثم إطالة القراءة حتى يَخرج منها بإسفار، فكأنَّ الأمر بالإسفار هو أمرٌ
بإطالة القراءة حتى يخرجوا من الصلاة بإسفار.
الرابع:
أنَّ الأمر بذلك إذا كان التغليس فيه مشقة على المأمومين؛ وبخاصَّة في الصيف فإنَّ
الليل قصير والناس ينامون فأمر بالإسفار حتى يدرك الناس الصلاة.
وأما
حديث ابن مسعود فأجاب عنه: بأنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر في مزدلفة بغلس أشد
من الغلس في باقي أيام السنة؛ الذي كان يُصلي فيه الفجر؛ ذلك أنَّ النبي صلى الله
عليه وسلم كان من هديه أن يُصلي الفجر بعد طلوع الفجر ويتأخر قليلاً ليتأهب الناس
للصلاة ويُدركوها، أما في مزدلفة فكان يُصليها في أول الطلوع لعدم الحاجة إلى
التأخير، بل قال شيخ الإسلام في بيان علة هذا التقديم [شرح العمدة 3/ 516]:
((السنة التغليس بالفجر في هذا المكان قبل جميع الأيام: ليتسع وقت الوقوف بالمشعر
الحرام)).
وقد
ثبت عن عبد الله بن مسعود ما يؤكِّد ذلك؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن عبد
الرحمن بن يزيد قال: خرجنا مع عبد الله رضي الله عنه إلى مكة ثم قدمنا جمعاً فصلى
الصلاتين كل صلاة وحدها بأذان وإقامة، والعشاء بينهما، ثم صلَّى الفجر حين طلع
الفجر؛ قائل يقول: طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع الفجر، ثم قال: إنَّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان؛
المغرب والعشاء فلا يقدم الناس جمعاً حتى يعتموا، وصلاة الفجر هذه الساعة)) ثم وقف
حتى أسفر ثم قال: لو أنَّ أمير المؤمنين أفاض الآن أصاب السنة. فما أدري أقوله كان
أسرع أم دفع عثمان رضي الله عنه؟ فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر)).
أقول: ما
ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الجواب عن حديث ابن مسعود لا محيص عنه
لموافقته لسياق هذا الحديث وغيره، قال الإمام ابن خزيمة في صحيحه [باب: الأذان
والإقامة لصلاة الفجر بالمزدلفة] : ((أراد بقوله: "وصلَّى
الفجر قبل وقتها بغلس" أي: قبل وقتها الذي كان يصليها بغير المزدلفة، أي: أنه
غلَّس بالفجر أشد تغليساً مما كان يغلِّس بها في غير ذلك الموضع)). وقال
الشيخ الألباني [الثمر المستطاب 1/ 86]: ((فالمراد إذن أنه صلَّى الفجر قبل
ميقاتها المعتاد؛ أي: إنه غلَّس تغليساً شديداً يُخالف التغليس المعتاد، إلى حد
أنَّ بعضهم كان يشك بطلوع الفجر، ولذلك قال الحافظ في [الفتح 3/ 413]: "ولا
حجة فيه لمن منع التغليس بصلاة الفجر؛ لأنه ثبت عن عائشة وغيرها كما تقدم التغليس
بها، بل المراد هنا: أنه كان إذا أتاه المؤذِّن بطلوع الفجر صلَّى ركعتي الفجر في
بيته ثم خرج فصلى الصبح مع ذلك بغلس، وأما بمزدلفة فكان الناس مجتمعين والفجر نصب
أعينهم فبادروا بالصلاة أول ما بزغ حتى إنَّ بعضهم كان لم يتبين له طلوعه كما في
الرواية الثانية)).
أما ما ذكره شيخ الإسلام في الجواب
عن حديث: ((أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)) فأصح الأجوبة هو الثالث وما سواه
فضعيف؛ فأما الأول والثاني فلأنَّ روايات حديث الإسفار تأبى تأويله بمعنى تحقق
الفجر أو التأخر حتى يطلع الفجر، فقد أخرجه ابن حبان بلفظ: ((أسفروا بصلاة الصبح
فإنه أعظم للأجر))، وفي لفظ له: ((فكلما أصبحتم بالصبح فإنه أعظم لأجوركم)) وفي
لفظ للطبراني: ((وكلما أسفرتم بالفجر فإنه أعظم للأجر))، بل وأكثر من ذلك أنَّه ورد النص في التنوير فقد
أخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من حديث رافع مرفوعاً: ((نوِّروا
بالفجر فإنه أعظم للأجر))، بل وأصرح منه ما أخرجه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه
والطبراني عن رافع بن خديج سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: ((يا
بلال نوِّر بصلاة الصبح حتى يُبصرَ القومُ مواضعَ نبلِهم من الإسفار)).
قال
العيني [عمدة القاري 4/ 92]: ((فإن قلت: قال البيهقي قال الشافعي في حديث رافع له
وجه لا يوافق حديث عائشة ولا يخالفه؛ وذلك: أن رسول الله لما حضَّ الناس على تقديم
الصلاة وأخبر بالفضل فيه احتمل أن يكون من الراغبين من يُـقدِّمها قبل الفجر
الآخر، فقال: "أسفروا بالفجر" حتى يتبين الفجر الآخر معترضاً، فأراد
عليه الصلاة والسلام فيما يرى الخروج من الشك حتى يصلي المصلي بعد تبين الفجر
فأمرهم بالإسفار أي: بالتبيين. قلت: يردُّ هذا التأويل ويبطله ما رواه أبو داود
الطيالسي عن رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: "يا بلال
نوِّر بصلاة الصبح حتى يُبصر القومُ مواضِعَ نبلهم من الإسفار)).
وأما
الاحتمال أو الجواب الرابع فمستنده حديث معاذ؛ وهو الحديث الثامن فيما ذكرناه من
أحاديث في مقدمة هذه المسألة، وقد قال الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة في بيان
حكم هذا الحديث: ((وهذا سند ضعيف جداً، بل موضوع!!. آفته: المنهال بن الجراح, وهو
الجراح بن المنهال انقلب على يوسف بن أسباط, وكذلك قلبه محمد بن إسحاق كما ذكر
الحافظ في "اللسان"، وهو متفق على تضعيفه, وقال البخاري ومسلم:
"منكر الحديث"، وقال النسائي والدارقطني: "متروك", وقال ابن
حبان (1 / 213): "كان يكذب في
الحديث، ويشرب الخمر"، وذكره البرقي في "باب من اتهم بالكذب")).
بل ومما يقوي الجواب الثالث ويدل
على صحته حديث أنس رضي الله عنه، وهو الحديث السابع في المقدمة وفيه: ((والصبح إذا
طلع الفجر إلى أن ينفسح البصر)) أي: أنَّه كان صلى الله عليه وسلم يُصلي الصبح إذا
طلع الفجر وهو وقت الغلس ثم يُطيل القراءة لا يَخرج منها إلى أن ينفسح البصر وهو
وقت الإسفار؛ ولقد أشار إلى هذا الدليل العلامة العيني في [عمدة القاري 4/ 91]
فقال: ((وحديث آخر يُبطل تأويلهم؛ رواه الإمام أبو محمد القاسم بن ثابت السرقسطي
في كتابه "غريب الحديث" حدثنا موسى بن هارون حدثنا محمد بن عبد الأعلى
حدثنا المعتمر سمعت بيانا أخبرنا سعيد قال سمعت أنساً يقول: "كان رسول الله
يصلي الصبح حين يفسح البصر" انتهى؛ يقال: فسح البصر وانفسح إذا رأى الشيء عن
بُعد؛ يعني به: إسفار الصبح))، وكذا قال الزيلعي
في [نصب الراية 1/ 239].
وقال
الشيخ الألباني [إرواء الغليل 1/ 279-281]: ((الذي يبدو للباحث أنَّ الانصراف من
صلاة الفجر في الغلس لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم دائماً، بل كان ينوع؛
فتارة ينصرف في الغلس كما هو صريح حديث عائشة المتقدم، وتارة ينصرف حين تتميز الوجوه
وتتعارف، ويحضرني الآن في ذلك حديثان:
الأول:
حديث أبي برزة الأسلمي .... [وذكر الشيخ الألباني مَنْ خرَّجه].
الثاني:
حديث أنس بن مالك يرويه شعبة عن أبي صدقة مولى أنس - وأثنى عليه شعبة خيراً - قال:
"سالتُ أنساً عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصلى الظهر إذا زالت الشمس، والعصر بين صلاتكم هاتين، والمغرب إذا
غربت الشمس، والعشاء إذا غاب الشفق، والصبح إذا طلع الفجر إلى أن ينفسح
البصر" ... [ثم تكلَّم الشيخ عن تخريج الحديث وصححه] ثم قال:
هذا الحديث
لا سيما على رواية لفظ أحمد دليل صريح لمشروعية الدخول في صلاة الفجر في الغلس
والخروج منها في الإسفار، وهذا هو معنى الحديث الآتي: "أسفروا بالفجر فإنه
أعظم للأجر" كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى)).
قلتُ: قول الشيخ الألباني: ((لا سيما على
رواية لفظ أحمد)) فيه دقة في التحقيق؛ ذلك لأنَّ السراج أخرجه في مسنده بلفظ:
((وكان يصلى الغداة إذا طلع الفجر حين ينفسح البصر)) كما نقل ذلك عنه الألباني في
المصدر السابق، وفرق ظاهر بين الروايتين من حيث المعنى والاستدلال.
وخلاصة البحث:
أنه صلى الله عليه وسلم كان من هديه وهدي
أصحابه من بعده رضوان الله عليهم أجمعين الإطالة في قراءة صلاة الصبح، وفي ذلك
أحاديث وآثار كثيرة لا مجال لسردها هنا؛ ولهذا لما أرسل عمر رضي الله عنه إلى أبي
موسى الأشعري رضي الله عنه كتاباً وهو كتاب مشهور جاء فيه: ((وصلّوا الصبح
بغلس أو بسواد وأطيلوا القراءة)) رواه البيهقي.
وهذا ما يبيِّن لنا بجلاء أنَّ أصح المذاهب في
هذه المسألة هو ما ذكره الإمام الطحاوي وتبعه على ذلك جمع من أئمة الفقه والحديث؛
قال الشيخ الألباني في [الثمر المستطاب 1/ 81] في بيان معنى حديث الإسفار: ((أي:
اخرُجوا منها في وقت الإسفار: وذلك بإطالة القراءة فيها، وهذا التأويل: لا بدَّ
منه ليتفق قوله صلى الله عليه وسلم هذا مع فعله الذي واظب عليه من الدخول فيها في
وقت الغلس كما سبق، وهو الذي رجحه الحافظ ابن القيم في "إعلام
الموقعين"، وسبقه إلى ذلك الإمام الطحاوي من الحنفية، وأطال في تقرير ذلك
"1/ 104-109" وقال: "إنه قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد"، وإن
كان ما نقله عن الأئمة الثلاثة مخالفاً لما هو المشهور عنهم في كتب المذهب من
استحباب الابتداء بالإسفار، وقد مال إلى هذا الجمع أيضاً من متأخري الأحناف
العلامة أبو الحسنات اللكنوي في "التعليق الممجَّد 42-44")). ولكن اللكنوي رحمه الله تعالى قال في هذا المذهب: ((وبه
يَجتمع أكثرُ الأخبار والآثار)) وقد تقدَّم ذلك عنه.
قلتُ:
وحتى تجتمع الأحاديث والآثار كلّها ولا تختلف، نضيف في ذلك ونقول:
أنَّه
صلى الله عليه وسلم كان من هديه في صلاة الفجر التغليس، ولكنه قد أسفر بها للتعليم
والتوسعة، وكان لا يخرج منها إلا بإسفار وهذا هو الغالب، وقد يخرج منها أحياناً
بغلس؛ ولعلَّ ذلك كان بحسب إطالة القراءة وتوسطها، والله تعالى أعلم وهو الموفِّق.
أخوكم ومحبكم
أبو معاذ رائد آل طاهر
الاثنين 24 شوال 1427ﻫ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أرجو عند كتابة تعليقك تذكر ما يأتي:
1. تذكر قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
2. تعليقك سيظهر بعد مراجعته من قبل الإشراف إن شاء الله تعالى.
3. يفضل كتابة التعليق باسم لائق، واستعمال اللغة العربية الفصحى قدر الإمكان.